أذهب أحيانا إلى لشبونة، في رحلات عمل. إن لم يكن ذلك كل شهر، فعلى الأقل كل ستة أسابيع أستقل الطائرة إلى لشبونة. أفهم اللغة بما يكفي كي لا أحتاج إلى مترجم، لأنني قضيت جزءا هاما من طفولتي ومراهقتي في البرازيل، حيث عاش أبواي بضع سنوات، ولأسباب مهنية أيضا.
أعرف المدينة بشكل مقبول: إن الأماكن التي نسافر إليها تصبح في لحظة ما مألوفة لدينا، سطحيا على الأقل، حتى وإن ظل كل شيء فيها في العمق، يشعرنا بأننا غرباء.
لذلك، من الطبيعي أن أشياء غريبة في لشبونة لا تثير دهشتي، كما لو أنها، بشكل من الأشكال، تجدني مستعدا. لذا فإن انزعاجي (أو ما بدا لي منه) لم يكن مفرطا عندما انتبهت إلى أن الفندق الذي نزلت فيه (وهو من خمسة نجوم) كان يعاني من إفراط في الحجز وأن الغرفة التي خصصت لي، وأديتُ ثمنها عن طريق وكالة الأسفار، قد شغلها شخص آخر، وصل قبلي.
بالإضافة إلى هذا، فقد أطال المدير في تقديم الأعذار عن الأمر الذي اعتبره خارجا عن حدود مسؤوليته، وكان بارعا في إيجاد حل للمشكل، حين وضع رهن تصرفي، ودون أي زيادة في الثمن، جناحا خاصا، أظن أنه قد سماه "رئاسيا"، يشغل الطابق الأخير من الفندق.
ابتسمت مع نفسي عندما لاحظت أين أوصلني هذا الخطأ في التنظيم، الذي اعتبره المدير من فعل القدر أو الصدفة: إنني الآن الساكن الوحيد في فضاء فاخر يتسع لوفد بكامله، وحيث يستطيع بالتأكيد أن ينزل رؤساء عدة دول وأشخاص آخرون يُعتبرون من الشخصيات المهمة نظرا لقيمة حساباتهم البنكية. بالنسبة لكل هؤلاء المنحدرين من عوالم مختلفة (كرة القدم أو السينما، أو الأبناك، أو السياسة أو هرم المقاولات)، كما هو الشأن بالنسبة لي في تلك اللحظة، كان كل شيء بالداخل يفوح بذخا، ذوقا رفيعا وراحة، والشرفات تطل على منظر خلاب للمدينة.
لا بأس، فكرتُ، وأنا أطوي هذا الموضوع (الذي انطوى لنفسه بشكل جيد) وأبدأ التفكير في شيء آخر. كالعادة، مرت إقامة يومين بسرعة البرق، بين اجتماعات عمل متتالية، وحفلات عشاء جعلتني أعود متأخرا أكثر مما كنتُ أرغب. لم أجد وقتا تقريبا للانتباه إلى الشقة، حيث لم أقض في نهاية المطاف إلا وقتا محدودا.
فقط في آخر صباح سنحت لي الفرصة لأستمتع بعض الشيء بالمكان الباذخ حيث أقيم. أخذت حماما على مهل، في حوض يمكن أن نسميه مسبحا، حيث سلمت نفسي ليدلكني نظام "جاكوزي" متطور، وحلقت ذقني أمام حيطان من المرايا، ثم أمرت بتقديم وجبة الفطور في الشرفة. ارتديت ملابسي بعد ذلك بتؤدة، لأن الساعة ما تزال تشير إلى التاسعة وخمس دقائق، وموعد تسجيل الأمتعة كان محددا في العاشرة وعشرين، وأعرف أن سيارة الأجرة لا تحتاج عادة إلا لخمس عشرة دقيقة من الفندق إلى المطار.
انتبهت في لحظة ما إلى أنني لم أكن الشخص الوحيد المتواجد في المكان. كانت هنالك امرأتان، خادمتان سوداوان، كما تأكدت من ذلك وأنا أنظر من خلال الباب الموارب، تنظفان الصالة الكبيرة المجاورة لغرفة النوم. ربما دخلتا إلى الشقة من الجهة الأخرى، حيث يوجد باب آخر، وربما نظفتا من قبل غرفا أخرى، وحمامات، وغرف ملابس، وصالتين أو ثلاثا، قبل أن تصلا إلى المكان الذي تتواجدان فيه. لم تنتبها إلى حضوري، وهما منشغلتان بمكنستين كهربائيتين وقطع ثوب للتنظيف، تدفعان عربات مليئة بمواد التنظيف، وفوطات مكوية، وبدوري لم أرهما، ولم أسمعهما تدخلان.
فكرت لثانية أن أطلب منهما أن تخرجا، وأن تعودا بعد أن أغادر. لكني، في الثانية الموالية، عدلتُ عن الأمر. سوف أخرج بعد دقيقة أو دقيقتين، فكرتُ. كنتُ أود كذلك أن أتمشى بعض الشيء في الشارع، تحت أشجار الجكرندا، قبل أن أعود إلى الفندق لآخذ الحقيبة وأستقل سيارة الأجرة. أدرت لهما ظهري، باتجاه الدولاب، الذي أخذت أخرج منه الملابس التي جلبتها معي.
حينئذ، انتبهت إلى أنهما تتحدثان. واحدة منهما، على الخصوص، هي التي كانت تتحدث، بينما تكتفي الأخرى بطرح أسئلة، أو إطلاق أصوات، من حين لآخر. كانا صوتين مختلفين، يتجليان بشكل متباين.
المطر، سمعت إحداهما تقول. لقد كان ذلك بسبب المطر.
وضعتُ في الحقيبة سترة، وبزة وملابس داخلية ثم بدأت أطوي القميص. كان صوت المرأة يصل إلي بوضوح.
لقد كان ذلك بسبب المطر، قالت مرة أخرى.
لم تمطر منذ مدة فأخذ كل شيء يموت. حتى الأشجار والطيور. بدأ الناس يتعثرون بالطيور الميتة.
طويت القميص الثاني ووضعتهما معا في الحقيبة. أغلقتها، وألغيت رقم السر، ثم ركّبْتُ رقما جديدا.
جف كل شيء، وانشقت الأرض، سمعتُ المرأة تقول مرة أخرى. تشققت من قلة الماء. كأن بالأرض جروحا فوق الجلد. تموت الحيوانات. يموت الناس. يموت الأطفال. جف جدول الماء. جفت السماء. كانت الأوراق تتلوى فوق الأشجار، ثم تجف الأشجار بعد ذلك.
نظرتُ من بين مصراعي الباب. المرأة التي كانت تتحدث توقفت عن التنظيف. توقفت المرأة الثانية بدورها، وأخذت تنظر بإمعان إلى الأولى. لم يكن للثوب، ومواد التنظيف، والعربة في تلك اللحظة وجود بالنسبة لأي واحدة منهما.
حينئذ بدأ الناس يتحدثون في القرية، تابعت من كانت تتحدث، بنبرة أعلى. أو ما بدا لي أنها نبرة أعلى، لأنني استدرت نحوها.
لقد حل الجفاف بسبب أحد ما. ثم بدأ الناس يتحدثون، ويقولون إن السبب هو تلك المرأة.
آخرون يقولون لا. لا أحد يعلم الحقيقة. لكن الجفاف لم ينته، وظل كل شيء يموت. إلى أن استدعوا الساحر. أوقدوا النار وظل يهمهم طوال الليل بكلمات لا يفهمها أحد. في الصباح جاء كبار القرية فأخبرهم بأن السبب هو تلك المرأة. هذا ما قاله فسمعوه جميعا: تلك المرأة حبست المطر.
عندئذ فهم كبار القرية ما سيقع فنظروا إلى الأرض، لأنهم أشفقوا على تلك المرأة التي كانت تعيش لوحدها، بعيدا عن القرية. وقتا طويلا قبل ذلك، هجرها الزوج ومات ابنها فبكت كثيرا حتى جف جسمها، وجفت عيناها، وأصبحت جذعا يابسا، منحنيا نحو الأرض. فصارت متوحشة مثل حيوان، لا يسمع كلامها أحد، فقط تئن، وتصيح أحيانا بالليل.
إنها تلك المرأة، قال الساحر ثانية وهو ينظر إلى الأرض. أشعل غليونه ونفث الدخان على مهل: هي التي حبست المطر.
لكن لا أحد كان يريد أن يقتلها. وقال الساحر بدوره إن تلك لم تكن إرادته.
ظلوا متوقفين، كأنهم ينتظرون. كل أهل القرية، جالسين تحت شجرة. توقف الزمن أيضا، ولم يعد ينقضي.
توقفت المرأة التي كانت تحكي للحظة، كأنها تنتظر بدورها. لم تسألها المرأة الأخرى، وظلت صامتة، تترقب نهاية كل شيء.
حينئذ تقدم أحد الشبان. سأقوم بذلك، قال. كأن الأمر سيان: أن يقتل المرأة أو يموت.
من جديد، توقفت المرأة التي كانت تتكلم. لقد كانتا معا، في مكان ما، حيث أخذتهما الحكاية. فتحتُ الباب أكثر بعض الشيء ونظرت إليهما بفضول. كنتُ واثقا أنهما لن تنتبها الآن لحضوري.
كانت التي تحكي امرأة بدينة، ذات وجه عريض، وتضع نظارتين على عينيها. لها صوت قوي، دون نبرة خاصة، وتقوم بحركات من يديها وجسمها. أحيانا تغير تعابير وجهها أو نبرة صوتها، كأنها تتقمص الشخصيات. أما المرأة الأخرى، فكانت تضع منديلا مشدودا إلى رأسها، وكانت أكثر نحافة وشبابا، وتبدو أقل ثقة بالنفس من الأولى.
التقى بها في الكوخ وقضى الليل معها. نام إلى جانبها وضاجعها. وضع يده على فرجها، وعلى نهديها، وشعرها، ولمسها بحنان ثم ضمها بين ذراعيه، كما لو أنه يريد أن يضاجعها من جديد، ثم ضغط أكثر فأكثر على عنقها إلى أن خنقها. خرج، بعد ذلك، من الكوخ، والمرأة جثة هامدة بين ذراعيه، ووضعها على الأرض ثم مشى الجميع يطوف من حولها.
سكتت لحظة ومسحت جبهتها بذراعها.
حينئذ بدأت تمطر، قالت المرأة. حينئذ بدأت تمطر.
نظرت كل واحدة منهما إلى الأخرى في صمت. بعد ذلك، هزتا رأسيهما، وتنهدتا كما لو كانتا جد متعبتين، واستأنفتا التنظيف.
نظرتُ إلى الساعة، لأنني فجأة لم أعد أعرف كم مر من الوقت. لم تكن إلا بضع دقائق، كما تأكدت من ذلك. سبع دقائق بالضبط. لن أكون بحاجة إليها. مازال أمامي كثير من الوقت. لكني، شعرت، فجأة، بالانزعاج.
أخذت الحقيبة، فتحت الباب على مصراعيه، وأنا أُحْدثُ بكل ما بوسعي من ضجيج، ومررت، فجأة، أمام المرأتين، اللتين نظرتا إلي بدهشة وأطلقتا صيحة "آه" من الذعر، كما لو أنهما لمحتا شبحا.
بسرعة، قلت لهما "صباح الخير" وتابعت سيري بخطى حثيثة نحو المصعد.
تسجيل الأمتعة على الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، فكرتُ، وأنا أضغط على الزر وأبدأ النزول عبر عدة طوابق. شيء ما في كل تلك الحكاية، أغضبني قليلا، في كل ذلك الحوار العجيب بين امرأتين. بقيتُ، لسبب غير منطقي، أستمع إليهما كالأبله، أنا الذي لا أستمع أبدا لأي حوار، فبالأحرى لحوار بين امرأتين. نظرت من جديد إلى الساعة وقدّرتُ الوقت الذي يفصلني عن المدينة التي أسكن فيها، في مكان آخر من أوروبا.
فقط، بعد أن أقلعت الطائرة، بدت لي الأحداث بشكل آخر. قضيتُ يومين في لشبونة، ومقابل ثمن غرفة عادية شغلت جناحا يستحيل تخيله، قلتُ لنفسي: من الممكن أن يشمل خمسة عشر جزءا، بالإضافة إلى شرفات واسعة وحوض- مسبح. وفجأة، عندما فتحت قليلا أحد الأبواب، كانت توجد قطعة من إفريقيا في الصالة المجاورة، كاملة، مثل قطعة من غابة بكر. لمدة سبع دقائق، لمدة سبع دقائق بالضبط، بقيتُ تائها وسط الغابة.
ضحكت في أعماقي، وأنا أتصور أنني أحكي ذلك لشخص آخر، للمسافر الذي بجانبي مثلا، أو إلى المضيفة التي قدمت لي للتو كأسَ ويسكي. سيظن كل الناس أنني سكران، أو مجنون. لكني لم أكن سكران ولا مجنونا، فكرتُ مبتسما وأنا أسترخي جيدا على الكرسي. لم يكن بي أي شيء غيرُ سويِّ. ربما لشبونة هي التي لم تكن مكانا عاديا.
أعرف المدينة بشكل مقبول: إن الأماكن التي نسافر إليها تصبح في لحظة ما مألوفة لدينا، سطحيا على الأقل، حتى وإن ظل كل شيء فيها في العمق، يشعرنا بأننا غرباء.
لذلك، من الطبيعي أن أشياء غريبة في لشبونة لا تثير دهشتي، كما لو أنها، بشكل من الأشكال، تجدني مستعدا. لذا فإن انزعاجي (أو ما بدا لي منه) لم يكن مفرطا عندما انتبهت إلى أن الفندق الذي نزلت فيه (وهو من خمسة نجوم) كان يعاني من إفراط في الحجز وأن الغرفة التي خصصت لي، وأديتُ ثمنها عن طريق وكالة الأسفار، قد شغلها شخص آخر، وصل قبلي.
بالإضافة إلى هذا، فقد أطال المدير في تقديم الأعذار عن الأمر الذي اعتبره خارجا عن حدود مسؤوليته، وكان بارعا في إيجاد حل للمشكل، حين وضع رهن تصرفي، ودون أي زيادة في الثمن، جناحا خاصا، أظن أنه قد سماه "رئاسيا"، يشغل الطابق الأخير من الفندق.
ابتسمت مع نفسي عندما لاحظت أين أوصلني هذا الخطأ في التنظيم، الذي اعتبره المدير من فعل القدر أو الصدفة: إنني الآن الساكن الوحيد في فضاء فاخر يتسع لوفد بكامله، وحيث يستطيع بالتأكيد أن ينزل رؤساء عدة دول وأشخاص آخرون يُعتبرون من الشخصيات المهمة نظرا لقيمة حساباتهم البنكية. بالنسبة لكل هؤلاء المنحدرين من عوالم مختلفة (كرة القدم أو السينما، أو الأبناك، أو السياسة أو هرم المقاولات)، كما هو الشأن بالنسبة لي في تلك اللحظة، كان كل شيء بالداخل يفوح بذخا، ذوقا رفيعا وراحة، والشرفات تطل على منظر خلاب للمدينة.
لا بأس، فكرتُ، وأنا أطوي هذا الموضوع (الذي انطوى لنفسه بشكل جيد) وأبدأ التفكير في شيء آخر. كالعادة، مرت إقامة يومين بسرعة البرق، بين اجتماعات عمل متتالية، وحفلات عشاء جعلتني أعود متأخرا أكثر مما كنتُ أرغب. لم أجد وقتا تقريبا للانتباه إلى الشقة، حيث لم أقض في نهاية المطاف إلا وقتا محدودا.
فقط في آخر صباح سنحت لي الفرصة لأستمتع بعض الشيء بالمكان الباذخ حيث أقيم. أخذت حماما على مهل، في حوض يمكن أن نسميه مسبحا، حيث سلمت نفسي ليدلكني نظام "جاكوزي" متطور، وحلقت ذقني أمام حيطان من المرايا، ثم أمرت بتقديم وجبة الفطور في الشرفة. ارتديت ملابسي بعد ذلك بتؤدة، لأن الساعة ما تزال تشير إلى التاسعة وخمس دقائق، وموعد تسجيل الأمتعة كان محددا في العاشرة وعشرين، وأعرف أن سيارة الأجرة لا تحتاج عادة إلا لخمس عشرة دقيقة من الفندق إلى المطار.
انتبهت في لحظة ما إلى أنني لم أكن الشخص الوحيد المتواجد في المكان. كانت هنالك امرأتان، خادمتان سوداوان، كما تأكدت من ذلك وأنا أنظر من خلال الباب الموارب، تنظفان الصالة الكبيرة المجاورة لغرفة النوم. ربما دخلتا إلى الشقة من الجهة الأخرى، حيث يوجد باب آخر، وربما نظفتا من قبل غرفا أخرى، وحمامات، وغرف ملابس، وصالتين أو ثلاثا، قبل أن تصلا إلى المكان الذي تتواجدان فيه. لم تنتبها إلى حضوري، وهما منشغلتان بمكنستين كهربائيتين وقطع ثوب للتنظيف، تدفعان عربات مليئة بمواد التنظيف، وفوطات مكوية، وبدوري لم أرهما، ولم أسمعهما تدخلان.
فكرت لثانية أن أطلب منهما أن تخرجا، وأن تعودا بعد أن أغادر. لكني، في الثانية الموالية، عدلتُ عن الأمر. سوف أخرج بعد دقيقة أو دقيقتين، فكرتُ. كنتُ أود كذلك أن أتمشى بعض الشيء في الشارع، تحت أشجار الجكرندا، قبل أن أعود إلى الفندق لآخذ الحقيبة وأستقل سيارة الأجرة. أدرت لهما ظهري، باتجاه الدولاب، الذي أخذت أخرج منه الملابس التي جلبتها معي.
حينئذ، انتبهت إلى أنهما تتحدثان. واحدة منهما، على الخصوص، هي التي كانت تتحدث، بينما تكتفي الأخرى بطرح أسئلة، أو إطلاق أصوات، من حين لآخر. كانا صوتين مختلفين، يتجليان بشكل متباين.
المطر، سمعت إحداهما تقول. لقد كان ذلك بسبب المطر.
وضعتُ في الحقيبة سترة، وبزة وملابس داخلية ثم بدأت أطوي القميص. كان صوت المرأة يصل إلي بوضوح.
لقد كان ذلك بسبب المطر، قالت مرة أخرى.
لم تمطر منذ مدة فأخذ كل شيء يموت. حتى الأشجار والطيور. بدأ الناس يتعثرون بالطيور الميتة.
طويت القميص الثاني ووضعتهما معا في الحقيبة. أغلقتها، وألغيت رقم السر، ثم ركّبْتُ رقما جديدا.
جف كل شيء، وانشقت الأرض، سمعتُ المرأة تقول مرة أخرى. تشققت من قلة الماء. كأن بالأرض جروحا فوق الجلد. تموت الحيوانات. يموت الناس. يموت الأطفال. جف جدول الماء. جفت السماء. كانت الأوراق تتلوى فوق الأشجار، ثم تجف الأشجار بعد ذلك.
نظرتُ من بين مصراعي الباب. المرأة التي كانت تتحدث توقفت عن التنظيف. توقفت المرأة الثانية بدورها، وأخذت تنظر بإمعان إلى الأولى. لم يكن للثوب، ومواد التنظيف، والعربة في تلك اللحظة وجود بالنسبة لأي واحدة منهما.
حينئذ بدأ الناس يتحدثون في القرية، تابعت من كانت تتحدث، بنبرة أعلى. أو ما بدا لي أنها نبرة أعلى، لأنني استدرت نحوها.
لقد حل الجفاف بسبب أحد ما. ثم بدأ الناس يتحدثون، ويقولون إن السبب هو تلك المرأة.
آخرون يقولون لا. لا أحد يعلم الحقيقة. لكن الجفاف لم ينته، وظل كل شيء يموت. إلى أن استدعوا الساحر. أوقدوا النار وظل يهمهم طوال الليل بكلمات لا يفهمها أحد. في الصباح جاء كبار القرية فأخبرهم بأن السبب هو تلك المرأة. هذا ما قاله فسمعوه جميعا: تلك المرأة حبست المطر.
عندئذ فهم كبار القرية ما سيقع فنظروا إلى الأرض، لأنهم أشفقوا على تلك المرأة التي كانت تعيش لوحدها، بعيدا عن القرية. وقتا طويلا قبل ذلك، هجرها الزوج ومات ابنها فبكت كثيرا حتى جف جسمها، وجفت عيناها، وأصبحت جذعا يابسا، منحنيا نحو الأرض. فصارت متوحشة مثل حيوان، لا يسمع كلامها أحد، فقط تئن، وتصيح أحيانا بالليل.
إنها تلك المرأة، قال الساحر ثانية وهو ينظر إلى الأرض. أشعل غليونه ونفث الدخان على مهل: هي التي حبست المطر.
لكن لا أحد كان يريد أن يقتلها. وقال الساحر بدوره إن تلك لم تكن إرادته.
ظلوا متوقفين، كأنهم ينتظرون. كل أهل القرية، جالسين تحت شجرة. توقف الزمن أيضا، ولم يعد ينقضي.
توقفت المرأة التي كانت تحكي للحظة، كأنها تنتظر بدورها. لم تسألها المرأة الأخرى، وظلت صامتة، تترقب نهاية كل شيء.
حينئذ تقدم أحد الشبان. سأقوم بذلك، قال. كأن الأمر سيان: أن يقتل المرأة أو يموت.
من جديد، توقفت المرأة التي كانت تتكلم. لقد كانتا معا، في مكان ما، حيث أخذتهما الحكاية. فتحتُ الباب أكثر بعض الشيء ونظرت إليهما بفضول. كنتُ واثقا أنهما لن تنتبها الآن لحضوري.
كانت التي تحكي امرأة بدينة، ذات وجه عريض، وتضع نظارتين على عينيها. لها صوت قوي، دون نبرة خاصة، وتقوم بحركات من يديها وجسمها. أحيانا تغير تعابير وجهها أو نبرة صوتها، كأنها تتقمص الشخصيات. أما المرأة الأخرى، فكانت تضع منديلا مشدودا إلى رأسها، وكانت أكثر نحافة وشبابا، وتبدو أقل ثقة بالنفس من الأولى.
التقى بها في الكوخ وقضى الليل معها. نام إلى جانبها وضاجعها. وضع يده على فرجها، وعلى نهديها، وشعرها، ولمسها بحنان ثم ضمها بين ذراعيه، كما لو أنه يريد أن يضاجعها من جديد، ثم ضغط أكثر فأكثر على عنقها إلى أن خنقها. خرج، بعد ذلك، من الكوخ، والمرأة جثة هامدة بين ذراعيه، ووضعها على الأرض ثم مشى الجميع يطوف من حولها.
سكتت لحظة ومسحت جبهتها بذراعها.
حينئذ بدأت تمطر، قالت المرأة. حينئذ بدأت تمطر.
نظرت كل واحدة منهما إلى الأخرى في صمت. بعد ذلك، هزتا رأسيهما، وتنهدتا كما لو كانتا جد متعبتين، واستأنفتا التنظيف.
نظرتُ إلى الساعة، لأنني فجأة لم أعد أعرف كم مر من الوقت. لم تكن إلا بضع دقائق، كما تأكدت من ذلك. سبع دقائق بالضبط. لن أكون بحاجة إليها. مازال أمامي كثير من الوقت. لكني، شعرت، فجأة، بالانزعاج.
أخذت الحقيبة، فتحت الباب على مصراعيه، وأنا أُحْدثُ بكل ما بوسعي من ضجيج، ومررت، فجأة، أمام المرأتين، اللتين نظرتا إلي بدهشة وأطلقتا صيحة "آه" من الذعر، كما لو أنهما لمحتا شبحا.
بسرعة، قلت لهما "صباح الخير" وتابعت سيري بخطى حثيثة نحو المصعد.
تسجيل الأمتعة على الساعة العاشرة وعشرين دقيقة، فكرتُ، وأنا أضغط على الزر وأبدأ النزول عبر عدة طوابق. شيء ما في كل تلك الحكاية، أغضبني قليلا، في كل ذلك الحوار العجيب بين امرأتين. بقيتُ، لسبب غير منطقي، أستمع إليهما كالأبله، أنا الذي لا أستمع أبدا لأي حوار، فبالأحرى لحوار بين امرأتين. نظرت من جديد إلى الساعة وقدّرتُ الوقت الذي يفصلني عن المدينة التي أسكن فيها، في مكان آخر من أوروبا.
فقط، بعد أن أقلعت الطائرة، بدت لي الأحداث بشكل آخر. قضيتُ يومين في لشبونة، ومقابل ثمن غرفة عادية شغلت جناحا يستحيل تخيله، قلتُ لنفسي: من الممكن أن يشمل خمسة عشر جزءا، بالإضافة إلى شرفات واسعة وحوض- مسبح. وفجأة، عندما فتحت قليلا أحد الأبواب، كانت توجد قطعة من إفريقيا في الصالة المجاورة، كاملة، مثل قطعة من غابة بكر. لمدة سبع دقائق، لمدة سبع دقائق بالضبط، بقيتُ تائها وسط الغابة.
ضحكت في أعماقي، وأنا أتصور أنني أحكي ذلك لشخص آخر، للمسافر الذي بجانبي مثلا، أو إلى المضيفة التي قدمت لي للتو كأسَ ويسكي. سيظن كل الناس أنني سكران، أو مجنون. لكني لم أكن سكران ولا مجنونا، فكرتُ مبتسما وأنا أسترخي جيدا على الكرسي. لم يكن بي أي شيء غيرُ سويِّ. ربما لشبونة هي التي لم تكن مكانا عاديا.