المسرح: بلاط فرعوني، مُذهَّب، يجلس الفرعون بعرض الكرسي الملكي، يتدلى رأسه من المسند الخشبي الأيمن، وتتدلى ساقاه من المسند الخشبي الأيسر..(يجلس بخمول)..الفرعون في منتصف الأربعين من العمر.
الفرعون: يا ولد...أنت يا ولد..
(يدخل رجل عجوز وينحني بأدب هو خادمه إحم)
إحم: إحم إحم...
الفرعون: (ينظر للخادم مدققا في وجهه)..إحم إحم...
إحم: (يظل منحنياً) إحم..إحم...
الفرعون: (بغضب) إحم إحم..
إحم: (بخوف وضعف) إحم إحم..
الفرعون: حسنٌ...ما دمت مصراً...(يلقي نظرة متفحصة على خادمه) لماذا أنت منحنٍ هكذاً...
إحم: (ينصب قامته هاماً بالحديث)..
الفرعون: (بغضب) من أمرك بالوقوف...(يعود إحم للإنحناء بسرعة فيحدجه الفرعون بنظرة فاحصة حانقة) يمكنك أن تنصب قامتك الآن...
إحم: (ينصب قامته) إحم إحم..
الفرعون: (ينظر للحائط الأيسر بفزع) إحم إحم..(يلتفت إلى إحم ببطء) سأموت يا إحم.. سأموت يا خادمي المخلص..(يظل إحم صامتاً) هل تصدق يا إحم..ربما بعد بضعة آلاف عام..سيجد بعض اللصوص الفرنسيين موميائي في جبانتها ويسرقون ذهبي..(يلتوي فمه لأسفل كمن يهم بالبكاء) سأصبح مضحكة للعالم حين يجدون عظامي هزيلة بائسة..جمجمتي..جمجمتي يا إحم..صلعاء تنغرز عليها خصيلات قليلة بنية اللون وشاحبة..فمي (يمسك فكه وعيناه خائفتان) فمي ستبرز أسنانه..سيعرفون أن ضرس العقل لم ينبت لي رغم أنني في هذه السن المتقدمة..
إحم: عمر الزهور..
الفرعون: الزهور؟.. كم عمر الزهور يا إحم؟
إحم: (يرتبك).. لا أعرف بشكل دقيق يا مولاي..ولكن أعمارها قصيرة..
الفرعون: (يصيح بغضب) ما هذا الفأل السيئ .. عليك لعنة آمون رع..
إحم: (يفزع) لم أقصد هذا يا مولاي اقسم بعظمتكم..لقد..لقد استخدمت كلمات خاطئة...
الفرعون: كان عليك أن تقول أعمارها صغيرة..وليس قصيرة..هناك فرق كبير يا إحم..
إحم: حقاً يا مولاي.. وهل أنا إلا مجرد خادم أبله...
الفرعون: (يحدق فيه شذراً) إحم إحم..
إحم: إحم إحم...
الفرعون: أبنائي لا زالوا صغاراً..أغلبهم مات من داء الصدر.. تبقى ولدان فقط..ولدان فقط يا إحم...ولا زال الولدان صغيرا السن..فماذا لو مت فجأة.. سيهتك الكهنة والإنتهازيون سلامهما..سيسلبونهما العرش وربما يقومون بشنقهما أو قطع رأسيهما..ماذا أفعل يا إحم..انصحني..
إحم: إجعل زوجتك وصية عليهم..
الفرعون: النساء ضعيفات يا إحم..
إحم: إجعلني وصياً عليهم...
الفرعون: (ينظر إلى إحم بدهشة) أنت...؟!!
إحم: عفوك مولاي ولكنني لا أثق إلا في نفسي..
الفرعون: (ينظر للحائط الأيسر) سأكتب وصيتي...هاتِ لي بردية ودواة...(يهرع إحم ويحمل بردية ودواة عليها ريشة نسر من فوق طاولة ملكية على الجانب الأيمن) أكتب يا إحم...(يبدأ إحم في الكتابة)..في السنة الزراعية الرابعة في الشهر الثالث عشر ..أنا الفرعون المبجل ابن الإله المعظم..أكتب وصيتي..(يحدج إحم بنظرة متسائلة) هل تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجاباً) هل أملي عليك بسرعة؟ (يهز إحم رأسه نفياً..يعود الفرعون للنظر إلى الحائط) في هذا اليوم أشعر بأن نهايتي قد اقتربت..لا أعرف لماذا؟ ولكني إستيقظت وأنا أشم رائحة الموت تحت أنفي..لذلك قررت كتابة وصيتي..تعرفون أنَّ الكهنة قد كتبوا لي كتابَ رحلتي بعد الموت والخطوات التي عليَّ اتباعها حتى أتجنب السقوط في الجحيم وتنهشني الوحوش..مع ذلك فإنني لا زلت خائفاً من الموت.. ربما أنا قليل الإيمان رغم أنني ظِلُّ آمون في الأرض..غير أن هذا يبدو كله بالنسبة لي وهماً...هل أنا ملحد.. غفر لي آمون إن كنت ملحداً.. لكن روحي تأبى الموت..رغم أنني سأموت حتماً هذا اليوم.. أشعر بذلك.. وأعرف أن وهن الموت يسري الآن في نخاع عظامي..لمن سأترك أولادي؟ (ينظر لإحم بغضب) هل لا زلت تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجابا..فيعود هو للنظر إلى الحائط) أخشى على أولادي من الكهنة.. إنهم دواعش..مجرمون.. سيقطعون رؤوس أبنائي وسيسرقون ذهبي..وينصبون حاكماً تابعاً لهم..حاكماً بلا إرادة ولا شخصية.. أعرف ذلك لأنهم يشيعون أمام الشعب المصري أنني مجنون..مصاب بالشيزوفرينيا..وبالوسواس القهري..وبالإكتآب..وأنني -تبعاً لذلك- غير أهل للحكم... لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذا الحقد؟ لسبب بسيط...
إحم: (بصوت خفيض) هل أنت متأكد يا مولاي من أن هذه وصية؟
الفرعون: (ينتبه) هة؟!.. أتظن أنني تجاوزت حدود الوصية..
إحم: تبدو لي كسيرة ذاتية أكثر من كونها وصية يا مولاي..
الفرعون: أحسن..هذا أفضل..إنني أشعر بأنني قد ارتحت قليلاً عندما فضفضت عما يعتمل داخلي من مخاوف وآلام...ما رأيك أنت؟
إحم: رأيي أنك حتى لو كتبت وصية فلن تنفذ...
الفرعون: هل أحتاج لمحامٍ؟
إحم: هل تثق في المحامين؟
الفرعون: لا..
إحم: طيب..
الفرعون: فلتكن إذاً لوناً جديداً من الوصايا.. كما يقول زيفتان تودروف نص لا يمكن تصنيفه.. أسيرة ذاتية هو أم وصية أم كلاهما... أعتقد أن هذا أفضل..فلنواصل..أين كنا؟
إحم: كل هذا لسبب بسيط..
الفرعون: ماهو؟
إحم: لا أعرف يا مولاي..
الفرعون: ولماذا قلت ذلك إذاً؟
إحم: لأنك سألتني أين كنا فأجبتك كنا في جملة كل هذا لسبب بسيط..
الفرعون: لا لم تجبني كنا في جملة كل هذا لسبب بسيط..لو قلت كنا لعرفت انك تجيب على سؤالي..كلمة واحدة يا إحم..كلمة واحدة قد تغير كل المعنى..وربما تغير العالم بأسره...
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: فلنواصل إذاً.. وذلك لسبب بسيط.. لقد..لقد نسيت ما كنت أتحدث عنه...
إحم: كنت تتحدث عن كره الكهنة لك وأن حقدهم ذلك لسبب بسيط..
الفرعون: آه.. حسنٌ..دعك منهم...لقد وردت إلى خاطري أفكار أهم.. نعم.. طريقة دفني عندما أموت...يجب ان يكون دفناً مريحاً..(ينظر إلى إحم) هل تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجاباً) حسنٌ.. يجب أن تكون طريقة الدفن مريحة لجثتي..عليهم أن يهتموا براحة جثتي إهتماماً بالغاً.. لا يجب أن تُسجى على ظهرها...
إحم: من هي؟
الفرعون: جثتي بالطبع..
إحم: آه حسناً..
الفرعون: لقد أصبحتَ عجوزاً يا إحم..أصبحت تنسى كثيراً...
إحم: قانون الحياة...
الفرعون: (ينظر إلى الأفق بفزع) لا تحدثني عن قانون الحياة يا إحم.. يبدو لي قانوناً عبثياً.. فوضوياً ومجنوناً...
إحم: ءأنت مكتئبٌ قليلاً يا سيدي؟
الفرعون: يبدو ذلك يا إحم..
إحم: هل آتيك بقرص بروزاك؟
الفرعون: إنه لا يجدي يا إحم..لا يجدي... إنه صناعة صينية تافهة..يبدو أنهم لا يتبعون الكمية القانونية للمادة الفعالة لذلك يصدرونه لنا بثمن التراب..لماذا لا تشعر أنت بالإكتآب يا إحم؟ (يظل إحم صامتاً.. ينظر إليه الفرعون).. هة؟!.. أجبني.. لماذا لا تصاب مثلي بالإكتآب يا إحم؟!!
إحم: لأنني لست ملكاً يا سيدي..
الفرعون: ماذا تعني؟
إحم: أعني.. أعني أنني لا أحمل أعباءً ومسؤوليات كثيرة في الحياة.. إنني مجرد خادمكم المطيع يا سيدي..
الفرعون: إجابة ذكية يا إحم..كيف أصبحت ذكياً هكذا فجأة؟!!
إحم: لست ذكياً ولكنني صادق فقط يا مولاي..
الفرعون: عجيب!!!..الناس يعتقدون أنهم يصبحون أذكياء حينما يكذبون..فهل تريد أن تقول لي أن اعتقادهم هذا غير صحيح؟
إحم: لا أعرف يا مولاي..
الفرعون: هل تعرف ما هي أكبر كذبة في هذا العالم؟
إحم: لا يا مولاي..
الفرعون: (ينظر إلى الحائط بفزع) إنها الحياة يا إحم.. الحياة أكبر كذبة..(يصمت إحم) أكتب.. واصل الكتابة..حسنٌ..لقد تعبت من هذه الرقدة .. لا تكتب ذلك..(ينهض من كرسيه..ويعكس رقدته فقط بحيث رأسه يتدلى من اليمين وقدماه تتدليان من اليسار) آه.. هكذا أفضل..أكتب الآن... أين كنا؟
إحم: لا تكتب ذلك..
الفرعون: أكتب ماذا؟
إحم: عفوك مولاي..أقصد أن آخر ما أمليته عليَّ هو جملة لا تكتب هذا..
الفرعون: (يحملق في وجه إحم بجزع) إحم...
إحم: نعم سيدي..
الفرعون: لقد خرفت يا إحم.. أقسم بآمون أنك خرفت..
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: ولكنك تكتب دون أن تفهم ما تكتب؟!!..
إحم: هذا صحيح يا مولاي..
الفرعون: ولماذا لا تفهم ما تكتب؟
إحم: لأنني..لأنني احاول التركيز في الكتابة..
الفرعون: حسنٌ... أكتب الآن.. (يضع ذراعيه خلف رأسه ويتحدث متأملاً) جثتي يجب ألا تُسجى على ظهرها.. بل على جنبها الأيمن...
إحم: ألن يتألم كتفك يا مولاي؟
الفرعون: هل سيتألم؟
إحم: الرقدة ستكون طويلة يا مولاي وبالتالي فمن المحتمل أن تتألم كتفك..
الفرعون: ولكنني أفضل النوم على جنبي الأيمن يا إحم؟!!
إحم: هذا هنا.. وأنت حي.. لكن هناك الأمر مختلف...
الفرعون: (يشرد ذهنه) آه.. حسنٌ.. ربما عندك حق..إذاً... فليسجى جسدي على ظهره..ثم.. يجب عدم حشو فتحات جسدي بأي شيء..ولا يلفوا جسدي بأي شيء...
إحم: ولكن كيف سيتم تحنيطك يا مولاي؟
الفرعون: لا أريد تحنيطاً.. يجب أن يدفنونني عارياً.. لا .. ليس عارياً فقط.. بل يجب ألا يدفنونني أبداً..
إحم: وماذا سيفعلون بجثتك يا مولاي؟
الفرعون: عليهم إلقاؤها في الصحراء..نعم في الصحراء.. بعيداً عن البشر... عارية وملقاة في الصحراء.. في قلب الصحراء..
إحم: ولكن يا سيدي.. ألن.. ألن تلتهمها الذئاب؟
الفرعون: أفضل أن تلتهمها الذئاب عن أن تُسجن في قبر تحت الأرض..قبر مظلم وموحش...
إحم: ولكنك لن ترى تلك الظلمة يا مولاي
الفرعون: ليس بالضرورة أن أراها..يكفي أن تكون هناك ظلمة ووحشة بالفعل.. يكفي أن أتخيلها وأنا حي لأرفضها وأنا ميت..فلتنهش لحمي الذئاب على أن أعيش فيها...
إحم: حسنٌ..
الفرعون: (يرمق إحم) ألا تخشى دفنك في قبر؟
إحم: وأنا حي أم ميت؟
الفرعون: بالتأكيد وأنت ميت..
إحم: لا يا مولاي..
الفرعون: ولكن لماذا؟
إحم: لأنني سأكون ميتاً حين ذاك..
الفرعون: ولماذا أنا اخشى ذلك؟
إحم: لأنك ملك يا مولاي..
الفرعون: ماذا تقصد؟
إحم: أقصد أنك إبن إله.. ولذلك ستحيا بعد الموت..أما أنا فلا...أنا مجرد خادم ضعيف يا مولاي..
الفرعون: ربما..ولكن.. حتى البشر الآخرون يحيون بعد الموت..
إحم: هل سنحيا كملوك ام كخدم؟
الفرعون: (يصاب بالحيرة) آآآ.. إنه سؤال صعب..ولكن بالتأكيد لن تتساوا معنا نحن الملوك.. والأرجح انكم ستحيون كخدم أيضاً...
إحم: ألن نجد فرصاً هناك أكثر من هنا..
الفرعون: تقصد فرصاً للإنتقال من طبقة البروليتاريا للبرجوازية؟
إحم: نعم مولاي..
الفرعون: (ينظر إلى إحم بجزع) إنك تفزعني يا إحم..
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: لديك أفكار ماركسية هدامة..
إحم: إنني بريء من الإنتماء لهذه الحفنة الملحدة..
الفرعون: هل تقسم بآمون؟
إحم: اقسم بآمون وبعظمة جلالتك يا مولاي..
الفرعون: يجب أن لا تراودك مثل هذه الأفكار مرة أخرى يا إحم..
إحم: لن يحدث يا مولاي.. كانت غلطة فقط..
الفرعون: (يحدق تجاه الحائط) بعد خلع ملابسي ورمي جثتي في العراء..يجب نسياني تماماً...يجب أن لا يبحثوا عني مرة أخرى...فليتركوني لأمت في سلام...نعم...إن روحي ستصعد إلى السماء..ستحلق بين النجوم..ستتحرر من هذا الجسد السخيف..
إحم: ومن سيرث العرش يا مولاي؟
الفرعون: ها... لقد نسيت هذه النقطة.. نعم.. من سيرث العرش...(يفكر طويلاً..ثم ينهض جالساً) إحم..
إحم: مولاي..
الفرعون: إحم؟
إحم: أمر مولاي...
الفرعون: أريدك أن تجمع أكبر قدر من الذهب يا إحم.. أكبر قدر..هل فهمت.. أكبر قدر... ثم تحمل أولادي وزوجتي على أول طائرة إلى سويسرا... ستشتري هناك قصراً وبالتالي سيحصلون على الإقامة.. ثم تقفل راجعاً إلى هنا بسرعة..
إحم: حسنٌ مولاي..
الفرعون: سأمنحك حكم مصر يا إحم..
إحم: ماذا؟
الفرعون: نعم.. لقد قررت ترك الحكم والهجرة إلى العالم الأول يا إحم.. مصر لم تعد كما كانت زمان.. لم تعد آمنة بالنسبة لي ولأولادي..ضيعها الكهنة والسياسيون الإنتهازيون.. سأغادر يا إحم بعد أن أسلمك السلطة..والآن يا إحم.. إفعل ما أمرتك به..فوراً...
(يرمي إحم الورقة والقلم ويخرج مهرولاً)
الفرعون: بدلاً عن الموت في الصحراء..سأموت في أرض خضراء..إن الموت الذي جعلني ألفظ المُلك والسلطان..هو نفسه الموت الذي جعل إحم يفرح بالملك والسلطان..أليس هذا مدهشاً...(يدخل إحم) هل فعلت ما امرتك به يا إحم؟
إحم: نعم يا مولاي...
الفرعون: إذن.. أعلنك الآن ملكاً على مصر يا إحم... أما أنا فسأغادر..(ينهض من كرسيه فيسرع إحم ويجلس عليه)..
إحم: (يصيح) أيها الحراس...(يدخل حارسان يحملان حراباً) إقبضوا على هذا الرجل (يقبض الحارسان على الفرعون)..
الفرعون: (بدهشة) ماذا تفعل يا إحم...
إحم: إقطعوا رأسه..(يدفع الحارسان الفرعون وهو يقاوم بدون جدوى.. فيقهقه إحم) هل كنت تعتقد بأنني كنت لأتركك تهدد مُلكي...إن البداية الجديدة.. يجب أن تكون نظيفة.. نظيفة تماما.. إقطعوا رأسه ورأس زوجته وطفليه وادفنوا جثثهم في قعر بئر سحيق ثم أهيلوا عليهم التراب.. هل فهمتم..التراب... (يقهقه ويظل يقهقه حتى إسدال الستار)..
(ستار)..
الفرعون: يا ولد...أنت يا ولد..
(يدخل رجل عجوز وينحني بأدب هو خادمه إحم)
إحم: إحم إحم...
الفرعون: (ينظر للخادم مدققا في وجهه)..إحم إحم...
إحم: (يظل منحنياً) إحم..إحم...
الفرعون: (بغضب) إحم إحم..
إحم: (بخوف وضعف) إحم إحم..
الفرعون: حسنٌ...ما دمت مصراً...(يلقي نظرة متفحصة على خادمه) لماذا أنت منحنٍ هكذاً...
إحم: (ينصب قامته هاماً بالحديث)..
الفرعون: (بغضب) من أمرك بالوقوف...(يعود إحم للإنحناء بسرعة فيحدجه الفرعون بنظرة فاحصة حانقة) يمكنك أن تنصب قامتك الآن...
إحم: (ينصب قامته) إحم إحم..
الفرعون: (ينظر للحائط الأيسر بفزع) إحم إحم..(يلتفت إلى إحم ببطء) سأموت يا إحم.. سأموت يا خادمي المخلص..(يظل إحم صامتاً) هل تصدق يا إحم..ربما بعد بضعة آلاف عام..سيجد بعض اللصوص الفرنسيين موميائي في جبانتها ويسرقون ذهبي..(يلتوي فمه لأسفل كمن يهم بالبكاء) سأصبح مضحكة للعالم حين يجدون عظامي هزيلة بائسة..جمجمتي..جمجمتي يا إحم..صلعاء تنغرز عليها خصيلات قليلة بنية اللون وشاحبة..فمي (يمسك فكه وعيناه خائفتان) فمي ستبرز أسنانه..سيعرفون أن ضرس العقل لم ينبت لي رغم أنني في هذه السن المتقدمة..
إحم: عمر الزهور..
الفرعون: الزهور؟.. كم عمر الزهور يا إحم؟
إحم: (يرتبك).. لا أعرف بشكل دقيق يا مولاي..ولكن أعمارها قصيرة..
الفرعون: (يصيح بغضب) ما هذا الفأل السيئ .. عليك لعنة آمون رع..
إحم: (يفزع) لم أقصد هذا يا مولاي اقسم بعظمتكم..لقد..لقد استخدمت كلمات خاطئة...
الفرعون: كان عليك أن تقول أعمارها صغيرة..وليس قصيرة..هناك فرق كبير يا إحم..
إحم: حقاً يا مولاي.. وهل أنا إلا مجرد خادم أبله...
الفرعون: (يحدق فيه شذراً) إحم إحم..
إحم: إحم إحم...
الفرعون: أبنائي لا زالوا صغاراً..أغلبهم مات من داء الصدر.. تبقى ولدان فقط..ولدان فقط يا إحم...ولا زال الولدان صغيرا السن..فماذا لو مت فجأة.. سيهتك الكهنة والإنتهازيون سلامهما..سيسلبونهما العرش وربما يقومون بشنقهما أو قطع رأسيهما..ماذا أفعل يا إحم..انصحني..
إحم: إجعل زوجتك وصية عليهم..
الفرعون: النساء ضعيفات يا إحم..
إحم: إجعلني وصياً عليهم...
الفرعون: (ينظر إلى إحم بدهشة) أنت...؟!!
إحم: عفوك مولاي ولكنني لا أثق إلا في نفسي..
الفرعون: (ينظر للحائط الأيسر) سأكتب وصيتي...هاتِ لي بردية ودواة...(يهرع إحم ويحمل بردية ودواة عليها ريشة نسر من فوق طاولة ملكية على الجانب الأيمن) أكتب يا إحم...(يبدأ إحم في الكتابة)..في السنة الزراعية الرابعة في الشهر الثالث عشر ..أنا الفرعون المبجل ابن الإله المعظم..أكتب وصيتي..(يحدج إحم بنظرة متسائلة) هل تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجاباً) هل أملي عليك بسرعة؟ (يهز إحم رأسه نفياً..يعود الفرعون للنظر إلى الحائط) في هذا اليوم أشعر بأن نهايتي قد اقتربت..لا أعرف لماذا؟ ولكني إستيقظت وأنا أشم رائحة الموت تحت أنفي..لذلك قررت كتابة وصيتي..تعرفون أنَّ الكهنة قد كتبوا لي كتابَ رحلتي بعد الموت والخطوات التي عليَّ اتباعها حتى أتجنب السقوط في الجحيم وتنهشني الوحوش..مع ذلك فإنني لا زلت خائفاً من الموت.. ربما أنا قليل الإيمان رغم أنني ظِلُّ آمون في الأرض..غير أن هذا يبدو كله بالنسبة لي وهماً...هل أنا ملحد.. غفر لي آمون إن كنت ملحداً.. لكن روحي تأبى الموت..رغم أنني سأموت حتماً هذا اليوم.. أشعر بذلك.. وأعرف أن وهن الموت يسري الآن في نخاع عظامي..لمن سأترك أولادي؟ (ينظر لإحم بغضب) هل لا زلت تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجابا..فيعود هو للنظر إلى الحائط) أخشى على أولادي من الكهنة.. إنهم دواعش..مجرمون.. سيقطعون رؤوس أبنائي وسيسرقون ذهبي..وينصبون حاكماً تابعاً لهم..حاكماً بلا إرادة ولا شخصية.. أعرف ذلك لأنهم يشيعون أمام الشعب المصري أنني مجنون..مصاب بالشيزوفرينيا..وبالوسواس القهري..وبالإكتآب..وأنني -تبعاً لذلك- غير أهل للحكم... لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذا الحقد؟ لسبب بسيط...
إحم: (بصوت خفيض) هل أنت متأكد يا مولاي من أن هذه وصية؟
الفرعون: (ينتبه) هة؟!.. أتظن أنني تجاوزت حدود الوصية..
إحم: تبدو لي كسيرة ذاتية أكثر من كونها وصية يا مولاي..
الفرعون: أحسن..هذا أفضل..إنني أشعر بأنني قد ارتحت قليلاً عندما فضفضت عما يعتمل داخلي من مخاوف وآلام...ما رأيك أنت؟
إحم: رأيي أنك حتى لو كتبت وصية فلن تنفذ...
الفرعون: هل أحتاج لمحامٍ؟
إحم: هل تثق في المحامين؟
الفرعون: لا..
إحم: طيب..
الفرعون: فلتكن إذاً لوناً جديداً من الوصايا.. كما يقول زيفتان تودروف نص لا يمكن تصنيفه.. أسيرة ذاتية هو أم وصية أم كلاهما... أعتقد أن هذا أفضل..فلنواصل..أين كنا؟
إحم: كل هذا لسبب بسيط..
الفرعون: ماهو؟
إحم: لا أعرف يا مولاي..
الفرعون: ولماذا قلت ذلك إذاً؟
إحم: لأنك سألتني أين كنا فأجبتك كنا في جملة كل هذا لسبب بسيط..
الفرعون: لا لم تجبني كنا في جملة كل هذا لسبب بسيط..لو قلت كنا لعرفت انك تجيب على سؤالي..كلمة واحدة يا إحم..كلمة واحدة قد تغير كل المعنى..وربما تغير العالم بأسره...
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: فلنواصل إذاً.. وذلك لسبب بسيط.. لقد..لقد نسيت ما كنت أتحدث عنه...
إحم: كنت تتحدث عن كره الكهنة لك وأن حقدهم ذلك لسبب بسيط..
الفرعون: آه.. حسنٌ..دعك منهم...لقد وردت إلى خاطري أفكار أهم.. نعم.. طريقة دفني عندما أموت...يجب ان يكون دفناً مريحاً..(ينظر إلى إحم) هل تكتب؟ (يهز إحم رأسه إيجاباً) حسنٌ.. يجب أن تكون طريقة الدفن مريحة لجثتي..عليهم أن يهتموا براحة جثتي إهتماماً بالغاً.. لا يجب أن تُسجى على ظهرها...
إحم: من هي؟
الفرعون: جثتي بالطبع..
إحم: آه حسناً..
الفرعون: لقد أصبحتَ عجوزاً يا إحم..أصبحت تنسى كثيراً...
إحم: قانون الحياة...
الفرعون: (ينظر إلى الأفق بفزع) لا تحدثني عن قانون الحياة يا إحم.. يبدو لي قانوناً عبثياً.. فوضوياً ومجنوناً...
إحم: ءأنت مكتئبٌ قليلاً يا سيدي؟
الفرعون: يبدو ذلك يا إحم..
إحم: هل آتيك بقرص بروزاك؟
الفرعون: إنه لا يجدي يا إحم..لا يجدي... إنه صناعة صينية تافهة..يبدو أنهم لا يتبعون الكمية القانونية للمادة الفعالة لذلك يصدرونه لنا بثمن التراب..لماذا لا تشعر أنت بالإكتآب يا إحم؟ (يظل إحم صامتاً.. ينظر إليه الفرعون).. هة؟!.. أجبني.. لماذا لا تصاب مثلي بالإكتآب يا إحم؟!!
إحم: لأنني لست ملكاً يا سيدي..
الفرعون: ماذا تعني؟
إحم: أعني.. أعني أنني لا أحمل أعباءً ومسؤوليات كثيرة في الحياة.. إنني مجرد خادمكم المطيع يا سيدي..
الفرعون: إجابة ذكية يا إحم..كيف أصبحت ذكياً هكذا فجأة؟!!
إحم: لست ذكياً ولكنني صادق فقط يا مولاي..
الفرعون: عجيب!!!..الناس يعتقدون أنهم يصبحون أذكياء حينما يكذبون..فهل تريد أن تقول لي أن اعتقادهم هذا غير صحيح؟
إحم: لا أعرف يا مولاي..
الفرعون: هل تعرف ما هي أكبر كذبة في هذا العالم؟
إحم: لا يا مولاي..
الفرعون: (ينظر إلى الحائط بفزع) إنها الحياة يا إحم.. الحياة أكبر كذبة..(يصمت إحم) أكتب.. واصل الكتابة..حسنٌ..لقد تعبت من هذه الرقدة .. لا تكتب ذلك..(ينهض من كرسيه..ويعكس رقدته فقط بحيث رأسه يتدلى من اليمين وقدماه تتدليان من اليسار) آه.. هكذا أفضل..أكتب الآن... أين كنا؟
إحم: لا تكتب ذلك..
الفرعون: أكتب ماذا؟
إحم: عفوك مولاي..أقصد أن آخر ما أمليته عليَّ هو جملة لا تكتب هذا..
الفرعون: (يحملق في وجه إحم بجزع) إحم...
إحم: نعم سيدي..
الفرعون: لقد خرفت يا إحم.. أقسم بآمون أنك خرفت..
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: ولكنك تكتب دون أن تفهم ما تكتب؟!!..
إحم: هذا صحيح يا مولاي..
الفرعون: ولماذا لا تفهم ما تكتب؟
إحم: لأنني..لأنني احاول التركيز في الكتابة..
الفرعون: حسنٌ... أكتب الآن.. (يضع ذراعيه خلف رأسه ويتحدث متأملاً) جثتي يجب ألا تُسجى على ظهرها.. بل على جنبها الأيمن...
إحم: ألن يتألم كتفك يا مولاي؟
الفرعون: هل سيتألم؟
إحم: الرقدة ستكون طويلة يا مولاي وبالتالي فمن المحتمل أن تتألم كتفك..
الفرعون: ولكنني أفضل النوم على جنبي الأيمن يا إحم؟!!
إحم: هذا هنا.. وأنت حي.. لكن هناك الأمر مختلف...
الفرعون: (يشرد ذهنه) آه.. حسنٌ.. ربما عندك حق..إذاً... فليسجى جسدي على ظهره..ثم.. يجب عدم حشو فتحات جسدي بأي شيء..ولا يلفوا جسدي بأي شيء...
إحم: ولكن كيف سيتم تحنيطك يا مولاي؟
الفرعون: لا أريد تحنيطاً.. يجب أن يدفنونني عارياً.. لا .. ليس عارياً فقط.. بل يجب ألا يدفنونني أبداً..
إحم: وماذا سيفعلون بجثتك يا مولاي؟
الفرعون: عليهم إلقاؤها في الصحراء..نعم في الصحراء.. بعيداً عن البشر... عارية وملقاة في الصحراء.. في قلب الصحراء..
إحم: ولكن يا سيدي.. ألن.. ألن تلتهمها الذئاب؟
الفرعون: أفضل أن تلتهمها الذئاب عن أن تُسجن في قبر تحت الأرض..قبر مظلم وموحش...
إحم: ولكنك لن ترى تلك الظلمة يا مولاي
الفرعون: ليس بالضرورة أن أراها..يكفي أن تكون هناك ظلمة ووحشة بالفعل.. يكفي أن أتخيلها وأنا حي لأرفضها وأنا ميت..فلتنهش لحمي الذئاب على أن أعيش فيها...
إحم: حسنٌ..
الفرعون: (يرمق إحم) ألا تخشى دفنك في قبر؟
إحم: وأنا حي أم ميت؟
الفرعون: بالتأكيد وأنت ميت..
إحم: لا يا مولاي..
الفرعون: ولكن لماذا؟
إحم: لأنني سأكون ميتاً حين ذاك..
الفرعون: ولماذا أنا اخشى ذلك؟
إحم: لأنك ملك يا مولاي..
الفرعون: ماذا تقصد؟
إحم: أقصد أنك إبن إله.. ولذلك ستحيا بعد الموت..أما أنا فلا...أنا مجرد خادم ضعيف يا مولاي..
الفرعون: ربما..ولكن.. حتى البشر الآخرون يحيون بعد الموت..
إحم: هل سنحيا كملوك ام كخدم؟
الفرعون: (يصاب بالحيرة) آآآ.. إنه سؤال صعب..ولكن بالتأكيد لن تتساوا معنا نحن الملوك.. والأرجح انكم ستحيون كخدم أيضاً...
إحم: ألن نجد فرصاً هناك أكثر من هنا..
الفرعون: تقصد فرصاً للإنتقال من طبقة البروليتاريا للبرجوازية؟
إحم: نعم مولاي..
الفرعون: (ينظر إلى إحم بجزع) إنك تفزعني يا إحم..
إحم: عفوك مولاي..
الفرعون: لديك أفكار ماركسية هدامة..
إحم: إنني بريء من الإنتماء لهذه الحفنة الملحدة..
الفرعون: هل تقسم بآمون؟
إحم: اقسم بآمون وبعظمة جلالتك يا مولاي..
الفرعون: يجب أن لا تراودك مثل هذه الأفكار مرة أخرى يا إحم..
إحم: لن يحدث يا مولاي.. كانت غلطة فقط..
الفرعون: (يحدق تجاه الحائط) بعد خلع ملابسي ورمي جثتي في العراء..يجب نسياني تماماً...يجب أن لا يبحثوا عني مرة أخرى...فليتركوني لأمت في سلام...نعم...إن روحي ستصعد إلى السماء..ستحلق بين النجوم..ستتحرر من هذا الجسد السخيف..
إحم: ومن سيرث العرش يا مولاي؟
الفرعون: ها... لقد نسيت هذه النقطة.. نعم.. من سيرث العرش...(يفكر طويلاً..ثم ينهض جالساً) إحم..
إحم: مولاي..
الفرعون: إحم؟
إحم: أمر مولاي...
الفرعون: أريدك أن تجمع أكبر قدر من الذهب يا إحم.. أكبر قدر..هل فهمت.. أكبر قدر... ثم تحمل أولادي وزوجتي على أول طائرة إلى سويسرا... ستشتري هناك قصراً وبالتالي سيحصلون على الإقامة.. ثم تقفل راجعاً إلى هنا بسرعة..
إحم: حسنٌ مولاي..
الفرعون: سأمنحك حكم مصر يا إحم..
إحم: ماذا؟
الفرعون: نعم.. لقد قررت ترك الحكم والهجرة إلى العالم الأول يا إحم.. مصر لم تعد كما كانت زمان.. لم تعد آمنة بالنسبة لي ولأولادي..ضيعها الكهنة والسياسيون الإنتهازيون.. سأغادر يا إحم بعد أن أسلمك السلطة..والآن يا إحم.. إفعل ما أمرتك به..فوراً...
(يرمي إحم الورقة والقلم ويخرج مهرولاً)
الفرعون: بدلاً عن الموت في الصحراء..سأموت في أرض خضراء..إن الموت الذي جعلني ألفظ المُلك والسلطان..هو نفسه الموت الذي جعل إحم يفرح بالملك والسلطان..أليس هذا مدهشاً...(يدخل إحم) هل فعلت ما امرتك به يا إحم؟
إحم: نعم يا مولاي...
الفرعون: إذن.. أعلنك الآن ملكاً على مصر يا إحم... أما أنا فسأغادر..(ينهض من كرسيه فيسرع إحم ويجلس عليه)..
إحم: (يصيح) أيها الحراس...(يدخل حارسان يحملان حراباً) إقبضوا على هذا الرجل (يقبض الحارسان على الفرعون)..
الفرعون: (بدهشة) ماذا تفعل يا إحم...
إحم: إقطعوا رأسه..(يدفع الحارسان الفرعون وهو يقاوم بدون جدوى.. فيقهقه إحم) هل كنت تعتقد بأنني كنت لأتركك تهدد مُلكي...إن البداية الجديدة.. يجب أن تكون نظيفة.. نظيفة تماما.. إقطعوا رأسه ورأس زوجته وطفليه وادفنوا جثثهم في قعر بئر سحيق ثم أهيلوا عليهم التراب.. هل فهمتم..التراب... (يقهقه ويظل يقهقه حتى إسدال الستار)..
(ستار)..