ألفت الدّروبِ خطوات حماره العالي السّريع ، لا يرى إلا رديفا لابنه الوحيد ، يتفلّت مُسرِعا كالسّهمِ بوجهه العابس الذي داعبت التّجاعيد حمرته ، وشاربه الفضي بحوافهِ المدببة ، وجلبابهِ الأزرق الذي بهت ما بين كتفيهِ العراض ، يُلقي تحايا الصّباح في عجلٍ ، على النّساءِ الجالسات أمام الأعتابِ صباح مساء ، أو بالسلامِ الحار على الرِّجالِ الذين اتخذوا ظهور المصاطب ، ونواصي الشوارع والأزقة مجلسا ، عجبا لهذا الضّرير كاسف البال ، كيف له أن يميّز أصوات النّاس من حولهِ ، بل أنّى له أن يستبين مواضع أعتاب بيوتهم حين مروره ، يهزّ رأسه الكبير المُثقل بعمامتهِ الكبيرة ، التي حزّم فوقها ملاحف صوف منوّعة ، يلوّح بيدهِ يمينا وشمالا : صباح الخير يا أم شحاته ..عوافي يا أم ربيع … فين أبوك يا واد يا مصطفى .
اعتادَ الناس منه هذه المهارة ، حتى أن أحدًا بات لا ينكرها عليه .
يخرج الرجل مع ابنهِ إلى ساحةِ العيش عند كُلّ صباحٍ ، يأتي العزبة قادما من قريةٍ قريبة ، في توقيتٍ لا يُخطئه ، يُلازمه ابنه ” الشّحات ” هكذا سماه ، دائما ما يقول للناسِ: سميته شحات علشان أنا شحته من ربنا شحاته .
لا يزال الناس في العزبةِ يستذكرون أيامًا طويلة مضت ، كان فيها عنوانا للفتوةِ ، شابا ينضح بالصحةِ والعافية ، قبل أن يجني عليهِ الزّمان جنايته ، فيسلب منه نور عينيهِ ، ويوكله ” للشحات” ، شابا تزحزح عن العشرين قليلا ، ورث عن أبيهِ صفاته ، موفور الصحة سليم البنية ، ترى أثر قوته في وجههِ الأحمر الذي يظهر كالجمر ِ، من تحتِ عمامةٍ خضراء كوّرها دون مبالاةٍ فوق رأسهِ، وجلبابه السّميك المتّسخ دائما ، بصنوفِ الأوساخِ والدهون ، عرف عنه حيويته التي جعلته يدبّ عتيا ، لا يبالي تحت أثقل الأحمال من أجولةِ القمح والذرة ، تحوّل إلى أيقونةٍ للتحملِ والصّلابةِ والصّبر ، ناهيك عن بأسهِ الشديد الذي جعل َ منه كائنا من طرازٍ فريد ، لا يعبأ مطلقا لحرٍ أو برد ، تراه طوال العامِ سائرا وياقة جِلبابهِ مفتوحة ، وشعرات صدره العريض ناشبة بلونها الأشّهب الأخاذ ، يجرَ نعله الأسود الثقيل الذي لا يغيّره أبدا ، بل ولا يخلعه عن قدمهِ مهما حصل .
يتابعه والده الضّرير بكلامهِ المُثقل بالوجعِ والألم : يا خسارة يا شحات .. الحلو ميكملش أبدا .. صحة طور.. وعقل عيل.
تتعالى ضحكات ” الشحات ” في عفويةٍ ، حين يهمّ بحملِ جوال الغلة فوق ظهرهِ العريض ، تتطاير ضحكاته الطفولية الصارخة ، ثم يُردد أعانيه تلك التي تعود الحمالون تردادها ، لكن الرجل المكلوم ، يعاود صمته ، وكأنّما يسمع صدى كلامه بين ضلوعهِ ، يغمض عينيه ، ثم تنساب ابتسامة باهتة هزيلة سرعان ما تتكسّر على شفتيهِ ، يلهب قلبه المشتت اللّوع ، وصوت يردد في أعماقهِ: وماذا يفيدك لو اغمضت عينيك أيّها البائس الحزين ، فوجودهما والعدم سواء ، يُحرّك الشيخ عندها عصاه في استسلام ٍ من حولهِ ، ويبدأ في صياحهِ : شحات .. يا شحات .. عملت إيه عايزين نروح قبل العتمة.
يعود إليهِ صاحبنا وفي يدهِ كسرة خبزٍ يابسة يقضمها في حنقٍ ضجرا ، على ما يبدو أنّ صياحه ، حال بينه وبين طعامٍ شهي ، تعطّفت عليهِ إحدى نساء الزّقاق ، فقدّمته إليهِ في سخاءٍ رأفة لحالهِ.
تُساور الرجل الشكوك ، وتتخطّفه الأوهام دائما ، تتمايل على سحنتهِ المنقبضة أشباح الأحزان ، ينبئ كلامه عن انسحاقِ قلبه الذي لا ينفك عن كآبةٍ تُعانقه ، فهذا المسكين ما تبقى له من حُطامِ الدّنيا ، بعد أن ودّعته أمه ، التي اكلتها النيران في حريقٍ التهمها وثروته ، وأخذ منه بصره ، وتركه هملا ليبقى جسدا بلا روح، إنّه بحاجةٍ لمن يحرسه من نفسهِ أولا ، ومن المتربصين بهِ ، كثيرا ما راودته خيالات فاسدة ، تضمحل أمامه بمجئ الصّباح ، جعل ضلوعه له قفصا ومهجته عشا ، لكن أنّى له أن يهنأ بحياةٍ ، وهو لا يبصر ما يدور من حولهِ ، إن ما يخشاه أن يسقط ابنه المسكين في مصيدةِ الغواية ، التي قد تنصبها بعض معدمات الضّمير ، فالفتى صيدا سهلا ، والايقاع بهِ أسهل ما يكون ، خاصة بعد أن تفجّرت منه ينابيع الفتوة والشباب ، كما أن في ضعف عقله وقلة إدراكه فرصة لا تُعوّض ، كأن الرجل يعرف من نساءِ القرية اللّعوب التي تفعل هذا ، فهو لايزال يستحضر تلك المرأة التي اهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه ، ثم خلت بهِ في الأخيرِ ، تركته وحيدا بعد أن احبها رفيقة لحياتهِ، اكتشف خيانتها حين لم يستطع أن يُلامس قلبها بشعلةِ الحب ، فقد كان همها استنزاف شبابه وغلة جيبهِ .
كانت ظنون الرجل في محلّها ، ومخاوفه هي مخاوف امرءٍ مجرب عرك الحياة وعركته، يستبدّ به الألم ، فيسند رأسه إلى الجدارِ يستذكر أيامه المنصرمة ، فتختلط عنده أصوات الصّبايا الحلوة بحفيفِ الأوراق ونقيق الضفادع ، يهبّ من مكانهِ مذعورا ، يتسنّد جداره ، يمشي مزورا متأرجحا كأنّما تدهمه ريح قوية تلفه لفا، وفي فزع ٍ يطلق صيحاته المدوية : يا شحات فينك يا شحات .. شحات.
في هاتهِ الساعة يتعكّر صفاؤه ، ينتزعه الهمّ من بين جنبيهِ انتزاعا ، هي الغصّة التي يشقى بها تحت ذلك الليل الدّامس ، ينخرط عندها في بكائهِ ونحيبهِ، تسيل نفسه لوعا لحالهِ ، كيف انتهى به المطاف حبيسا يجلس فوقَ الأطلالِ الدوارسِ ، يؤوب سريعا إلى رشده ِ ، فيستغفر الله تعالى ، عندها تتزحزح عن نفسهِ بعضا من أحمالِ شقائهِ .
أمّا ” الشحات ” فحاله حال ، أنّه يُشبه الحصان القوي الذي يندفع دون وعيٍ ، محمولا بقوةٍ جسمانيةٍ يحسده عليها كُلّ من يعرفه، لا يحمل رأسه من همومِ دنياه إلا هم بطنه ، تراه واقفا يبكي كالصّغارِ ، يقفز في الهواءِ ، يتطاير نواحه في سذاجةٍ ، لا يهدأ حتى يفترش الأرضَ ُمحتضنا الطّبقَ بين رجليهِ ، يُزمجر مع كُلّ لقمةٍ يرفعها إلى فمهِ ، في عبثٍ زمجرة القط المشاغب ، وقد تلطّخ وجهه بالطعامِ ، وتعلّق فتاته بشعراتِ شاربه الأشهب الكثّ المُتهدّل فوق شفتيهِ.
كثيرا ما تعلّقت بهِ عيون بعينها تعترض طريقه ، دون أن يدري ، تقدر فيه القوة والشباب ، وتعرف في بنيانه ِ القوي وهج الشهوة الكامن كمون النار في الرّمادِ ، تترصده بحرصٍ ، ولا مانع من عرضِ بضاعتها في كُلّ مرةٍ ، عسى أن يفيق الغافل عن غفلتهِ، ويسعى إليها كما يسعى نحو طبقِ الطبيخ المُقدّم إليهِ، طُعما يوشك مع الأيام أن يجذبه كما يجذب طعم الفخاخ صيده.
ومن حظِّ ” الشّحات” أن اوقعه في طريقِ امرأةٍ من نساءِ القريةِ ، تطفح بالأنوثةِ وتسبح في بحارِ الرغبة التي تتلألأ من عيونها الجريئة ، مات عنها زوجها، انفض عنها خطّابها رغم جمالها الصّارخ وحسنها الفتان، قد تكون سمعتها السيئة هي مصدر شقوتها ، رأت في هذا المُهرِ الجامح أمانيها ، فهو الأنسب وصاحب النصيب الذي تبحث عنه ، هو المُستحق الوحيد الذي تبذل له نفسها ، وتنال خطوتها منه ، وتثبت للأيام التي عاندتها ، أنّها تملك وتتصرف كما يحلو لها ، علاوة على أن صاحبها من جملةِ ” المتوكلين” فلا خوف منه ولا قلق ، إذا فسرّها سيظلَ زمامه في يدها ، اصبح ” الشّحات” بالفعل لعبة في يدها ، تحرّك من خلفها حين تلوّح إليهِ بطبق الطبيخ اللذيذ ، يسيل لعابه ويفقد ما تبقى من صوابهِ.
داخلت الرجل وساوس لم تسعها رأسه المُثقل أساسا بأوجاعِ الأيام وجراحها ، أصبحَ مطويا بين نيران أساه، فمن ناحيةٍ لا يمكنه أن يتوقف عن تجارته بين عشيةٍ وضحاها ، فلا يهبط القرى وفيها أغلب زبائنهِ ، وبين ابنهِ الذي لا يعي ما يُحاك له ، كما أنّه غريب في بلدٍ لا يأمن فيه على نفسهِ ومالهِ ووالدهِ.
حاول كثيرا منعه ولكنّه فشل ، في كُلّ مرةٍ يندفع بعدها كالثورِ الهائج ، شعر ” الشّحات” بعد أمدٍ باهتمامِ المرأة الزائد بهِ ، فما أولته من رعايةٍ بعيدا عن أعينِ الرّقباء ، وما كشفته من مفاتن فجّرت في عقلهِ الهامل ، كوامن لا يشعر بها إلا الأصحاء ، فبدأ يحسّ بدبيبِ النًشوة في أوصالهِ ، سكنت نفسه إليها سكون الطائر الغريب إلى عشهِ المهجور ، يبدو أنّه وجد في عطفها المصطنع ، وحنانها المزيّف ، ما حرّك قريحة قلبه ، واشعره ما اضطربت له جوانحه المتلهفة ؛ لأن يغترف من هذا المعين ، تماما كما اغترف من طعامها الشّهي .
استحال المنظر في وجهِ الرّجل وهو يرى ابنه ، يُساق إلى وحشةٍ مخيفةٍ كوحشة القبرِ ، دائما كان سوء ظنه حليفه الذي يدلّه على أفعالِ ابنه، اخذت المرأة من ” الشّحات ” مسالك تفكيره جميعا ، فسكبت في قلبهِ من الدفءِ والهناءِ ما زرع فيه الطيّش، ووجدت فيهِ مع ذلك من الآمالِ التي نسجتها مالا بُدّ معه من استكمالِ خطّتها للنهايةِ .
تجرّعا سويا من كؤوسِ الحب المُحرّم ، مرّت الأيام وبينه كأحسنِ ما يكون ، و” الشّحات” متوزع قلبه ما بين طبيخها وحبها ، لكنّ الغريب في الأمرِ أن المرأة اللّعوب لم يومض في ذهنها أبدا أن ما اقدمت على فعلهِ مع هذا المسكين مشين ، بل نظرت إلى فتاها الفتيّ وكأنّه رسول من وادي الحب الظليل ، أتاها بعد أن فقدت الأمل في خليلٍ يُقدّر للحبِ قدره ، ويعرف كيف يرضي غلة طمرتها تحت تراب الصّبرِ، فها هي رغم ذلك هائمة في معاني الحب وألوانهِ ، احكمت الطّوق من حولهِ ولن ينتزعه أحد من براثنها ، كثيرا ما وقفت أمام مرآتها ، ترشّ عطرها ، أو تتحسّس مفاتن جسدها الفائر البضّ ، كانت نظراتها الموزعة بين المرآة و” الشّحات ” الذي تلهى عنها في طعامهِ ، تشبّ العواطف في قلبها ، الذي اوشك نسيان مثل هذه النظرات ، تُعاود النّظر إلى جسدها من جديدٍ ، وكأنّها تطمّئنه أن سنواته العِجاف ولّت ولن تعود .
تقوم من فورها تُعانقه في لهفةٍ ، وتُلقي بنفسها بين أمواجِ بحرٍ مُتلاطمٍ لا شاطئ له ولا مرسى ، تود لو تقضي فيهِ بقية حياتها ، حتى وإن اضحت فيه غريقة .
أمّا الرجل فبات يلوي حبالَ الصّبر ، احسّ وكأنّ الكمد يطبق على قلبهِ ينتزعه من مكانهِ ، وخيالات الماضي تطوف من حولهِ، وذكرى شبابه الذي اغترف فيهِ من هذه المآثم ما اغترف لا تُفارقه ، تضربه بسياطها الموجعة ، تُخيقه تلك الأشواك المنصوبة عند كُلّ خطوةٍ يخطوها ابنه ، الذي حتما سيكون الخاسر في النّهايةِ.
وبعد مدةٍ تواردت إليهِ الأخبار ، بعد أن فاحت سيرة ابنه في القريةِ ، واضحى حديثا تفشّى بين النّاسِ ، كيف لامرأةٍ دنسة الذّيل أن تصطاد هذا الفتى المسكين ، فتغدر بهِ وتتحايل فتسلب شبابه، لم يجد التّاس من بدٍّ إلا مفاتحتهِ ، ظنّا منهم بأنّ ” الشّحات ” يفعل ما يفعل دون علمهِ ، امتزج الحديث بالخجلِ والغضب والتقريع أحيانا ، فقد عرف الرّجل أن ابنه لم يكن خليلها الوحيد ، خفق فؤاده بشدةٍ واسبلت جفونه خجلا وهو يرى ابنه الوحيد، الذي يتعزّى به عن ألمهِ يضيع منه ، ما اضطره أن يكلف نفسه من المشقةِ، ذهب إليها ذات مساءٍ يطلب منها أن تعدل عن مخططها ، وتترك الفتى وشأنه فهو شاب غير كفؤٍ لها ، فلا يملك العقل الذي يوازيها ، والأفضل أن تجد حياتها مع رفيقٍ غيره ، توسّل إليها بكُلّ ما في الإنسانيةِ من مشاعر أن تفلته من شباكها، لكن المرأة رفضت طلبه بشدةٍ وصلف ، وشرعت تعنّفه وتوبّخه ، وأن قوة في الكونِ مهما كانت ، لن تُفرِّق بينهما ، خاصة بعد أن قررا الزواج ، كانت كلمات المرأة كفيلة لأن توقظ في قلبهِ من أنينِ الذكرى ما ادماه، لم يخطر ببالهِ أن تكون مثل هكذا دناءة ، على الفورِ قرر في نفسه الخلاص منها ، هزّ رأسه ومطّ شفتيهِ ، وبدى تأثير اليأس في نبرتهِ ، مشى وهو يتململ من ضغط أفكارهِ .
كان ” الشّحات” قد اندفعَ في حبهِ للمرأة وتعلقه بها ، مدى لا يمكن معه لقوةٍ أن تمنعه ، بعد أن وجدَ فيها من الرعايةِ والعطفِ الشيء الكثير .
مضى عليهِ الأيام يتقلّب على جمرِ الانتظار ، قبل أن تختمر الفكرة في رأسهِ ، وفي يومٍ طابَ هواؤه ، وصفت سمائه ، قصد دارها لا يثنيه شيء عن الانتقام ،تراكمت عليهِ الأكدار وحوّطته الأشجان التي اعلن خضوعه لها ، عندها امتلأ صدره نشوة ، اسرعت هي لتحضر له الشربات ، كان قد اخرجَ سكينه الحادّ من بينِ طيّاتِ ثيابهِ ، كان وقتئذٍ أبعدَ عن محجةِ الصّوابِ ، وما إن اقتربت ناحيته ، ومدّت إليه الكوب ، حتى قفزَ من مكانهِ كالنّمرِ الغادر ،امسك بتلابيبها ، لينهال عليها طعنا ، لم يتركها إلا جثةً هامدة مقطوعةَ الأنفاس ، علا صراخه بالتشفي ، والدم يقطرُ من يدهِ يلطّخ ثيابه ، اندفع سريعا نحو الشّارعِ لا يلوي على شيءٍ ، وصراخه يرجّ المكان : قتلتها .. قتلتها .. إلا ابني .. إلا الشّحات .
وبهذا انتهت حياة المرأة ، وانتهى معها أمر الرجل ، أمّا ” الشّحات ” فوثق مبهوتا أمام جثتها المسجّاة في ثيابِ الموت ، لم ينطق بحرفٍ واحد ، غير أنّه مال على طبقهِ الذي كانت تضع فيه طعامه ، احتضنه بقوةٍ بينَ ذراعيهِ ، ضمّه إلى صدرهِ ، وغادرَ المكان واختفى عن القريةِ والزّمام كُله ، لم يرجع بعدها أبدا ، ولا يعرف عنه شيء حتى الآن .
sadazakera.wordpress.com
اعتادَ الناس منه هذه المهارة ، حتى أن أحدًا بات لا ينكرها عليه .
يخرج الرجل مع ابنهِ إلى ساحةِ العيش عند كُلّ صباحٍ ، يأتي العزبة قادما من قريةٍ قريبة ، في توقيتٍ لا يُخطئه ، يُلازمه ابنه ” الشّحات ” هكذا سماه ، دائما ما يقول للناسِ: سميته شحات علشان أنا شحته من ربنا شحاته .
لا يزال الناس في العزبةِ يستذكرون أيامًا طويلة مضت ، كان فيها عنوانا للفتوةِ ، شابا ينضح بالصحةِ والعافية ، قبل أن يجني عليهِ الزّمان جنايته ، فيسلب منه نور عينيهِ ، ويوكله ” للشحات” ، شابا تزحزح عن العشرين قليلا ، ورث عن أبيهِ صفاته ، موفور الصحة سليم البنية ، ترى أثر قوته في وجههِ الأحمر الذي يظهر كالجمر ِ، من تحتِ عمامةٍ خضراء كوّرها دون مبالاةٍ فوق رأسهِ، وجلبابه السّميك المتّسخ دائما ، بصنوفِ الأوساخِ والدهون ، عرف عنه حيويته التي جعلته يدبّ عتيا ، لا يبالي تحت أثقل الأحمال من أجولةِ القمح والذرة ، تحوّل إلى أيقونةٍ للتحملِ والصّلابةِ والصّبر ، ناهيك عن بأسهِ الشديد الذي جعل َ منه كائنا من طرازٍ فريد ، لا يعبأ مطلقا لحرٍ أو برد ، تراه طوال العامِ سائرا وياقة جِلبابهِ مفتوحة ، وشعرات صدره العريض ناشبة بلونها الأشّهب الأخاذ ، يجرَ نعله الأسود الثقيل الذي لا يغيّره أبدا ، بل ولا يخلعه عن قدمهِ مهما حصل .
يتابعه والده الضّرير بكلامهِ المُثقل بالوجعِ والألم : يا خسارة يا شحات .. الحلو ميكملش أبدا .. صحة طور.. وعقل عيل.
تتعالى ضحكات ” الشحات ” في عفويةٍ ، حين يهمّ بحملِ جوال الغلة فوق ظهرهِ العريض ، تتطاير ضحكاته الطفولية الصارخة ، ثم يُردد أعانيه تلك التي تعود الحمالون تردادها ، لكن الرجل المكلوم ، يعاود صمته ، وكأنّما يسمع صدى كلامه بين ضلوعهِ ، يغمض عينيه ، ثم تنساب ابتسامة باهتة هزيلة سرعان ما تتكسّر على شفتيهِ ، يلهب قلبه المشتت اللّوع ، وصوت يردد في أعماقهِ: وماذا يفيدك لو اغمضت عينيك أيّها البائس الحزين ، فوجودهما والعدم سواء ، يُحرّك الشيخ عندها عصاه في استسلام ٍ من حولهِ ، ويبدأ في صياحهِ : شحات .. يا شحات .. عملت إيه عايزين نروح قبل العتمة.
يعود إليهِ صاحبنا وفي يدهِ كسرة خبزٍ يابسة يقضمها في حنقٍ ضجرا ، على ما يبدو أنّ صياحه ، حال بينه وبين طعامٍ شهي ، تعطّفت عليهِ إحدى نساء الزّقاق ، فقدّمته إليهِ في سخاءٍ رأفة لحالهِ.
تُساور الرجل الشكوك ، وتتخطّفه الأوهام دائما ، تتمايل على سحنتهِ المنقبضة أشباح الأحزان ، ينبئ كلامه عن انسحاقِ قلبه الذي لا ينفك عن كآبةٍ تُعانقه ، فهذا المسكين ما تبقى له من حُطامِ الدّنيا ، بعد أن ودّعته أمه ، التي اكلتها النيران في حريقٍ التهمها وثروته ، وأخذ منه بصره ، وتركه هملا ليبقى جسدا بلا روح، إنّه بحاجةٍ لمن يحرسه من نفسهِ أولا ، ومن المتربصين بهِ ، كثيرا ما راودته خيالات فاسدة ، تضمحل أمامه بمجئ الصّباح ، جعل ضلوعه له قفصا ومهجته عشا ، لكن أنّى له أن يهنأ بحياةٍ ، وهو لا يبصر ما يدور من حولهِ ، إن ما يخشاه أن يسقط ابنه المسكين في مصيدةِ الغواية ، التي قد تنصبها بعض معدمات الضّمير ، فالفتى صيدا سهلا ، والايقاع بهِ أسهل ما يكون ، خاصة بعد أن تفجّرت منه ينابيع الفتوة والشباب ، كما أن في ضعف عقله وقلة إدراكه فرصة لا تُعوّض ، كأن الرجل يعرف من نساءِ القرية اللّعوب التي تفعل هذا ، فهو لايزال يستحضر تلك المرأة التي اهرق على قدميها عرق جبينه ودم قلبه ، ثم خلت بهِ في الأخيرِ ، تركته وحيدا بعد أن احبها رفيقة لحياتهِ، اكتشف خيانتها حين لم يستطع أن يُلامس قلبها بشعلةِ الحب ، فقد كان همها استنزاف شبابه وغلة جيبهِ .
كانت ظنون الرجل في محلّها ، ومخاوفه هي مخاوف امرءٍ مجرب عرك الحياة وعركته، يستبدّ به الألم ، فيسند رأسه إلى الجدارِ يستذكر أيامه المنصرمة ، فتختلط عنده أصوات الصّبايا الحلوة بحفيفِ الأوراق ونقيق الضفادع ، يهبّ من مكانهِ مذعورا ، يتسنّد جداره ، يمشي مزورا متأرجحا كأنّما تدهمه ريح قوية تلفه لفا، وفي فزع ٍ يطلق صيحاته المدوية : يا شحات فينك يا شحات .. شحات.
في هاتهِ الساعة يتعكّر صفاؤه ، ينتزعه الهمّ من بين جنبيهِ انتزاعا ، هي الغصّة التي يشقى بها تحت ذلك الليل الدّامس ، ينخرط عندها في بكائهِ ونحيبهِ، تسيل نفسه لوعا لحالهِ ، كيف انتهى به المطاف حبيسا يجلس فوقَ الأطلالِ الدوارسِ ، يؤوب سريعا إلى رشده ِ ، فيستغفر الله تعالى ، عندها تتزحزح عن نفسهِ بعضا من أحمالِ شقائهِ .
أمّا ” الشحات ” فحاله حال ، أنّه يُشبه الحصان القوي الذي يندفع دون وعيٍ ، محمولا بقوةٍ جسمانيةٍ يحسده عليها كُلّ من يعرفه، لا يحمل رأسه من همومِ دنياه إلا هم بطنه ، تراه واقفا يبكي كالصّغارِ ، يقفز في الهواءِ ، يتطاير نواحه في سذاجةٍ ، لا يهدأ حتى يفترش الأرضَ ُمحتضنا الطّبقَ بين رجليهِ ، يُزمجر مع كُلّ لقمةٍ يرفعها إلى فمهِ ، في عبثٍ زمجرة القط المشاغب ، وقد تلطّخ وجهه بالطعامِ ، وتعلّق فتاته بشعراتِ شاربه الأشهب الكثّ المُتهدّل فوق شفتيهِ.
كثيرا ما تعلّقت بهِ عيون بعينها تعترض طريقه ، دون أن يدري ، تقدر فيه القوة والشباب ، وتعرف في بنيانه ِ القوي وهج الشهوة الكامن كمون النار في الرّمادِ ، تترصده بحرصٍ ، ولا مانع من عرضِ بضاعتها في كُلّ مرةٍ ، عسى أن يفيق الغافل عن غفلتهِ، ويسعى إليها كما يسعى نحو طبقِ الطبيخ المُقدّم إليهِ، طُعما يوشك مع الأيام أن يجذبه كما يجذب طعم الفخاخ صيده.
ومن حظِّ ” الشّحات” أن اوقعه في طريقِ امرأةٍ من نساءِ القريةِ ، تطفح بالأنوثةِ وتسبح في بحارِ الرغبة التي تتلألأ من عيونها الجريئة ، مات عنها زوجها، انفض عنها خطّابها رغم جمالها الصّارخ وحسنها الفتان، قد تكون سمعتها السيئة هي مصدر شقوتها ، رأت في هذا المُهرِ الجامح أمانيها ، فهو الأنسب وصاحب النصيب الذي تبحث عنه ، هو المُستحق الوحيد الذي تبذل له نفسها ، وتنال خطوتها منه ، وتثبت للأيام التي عاندتها ، أنّها تملك وتتصرف كما يحلو لها ، علاوة على أن صاحبها من جملةِ ” المتوكلين” فلا خوف منه ولا قلق ، إذا فسرّها سيظلَ زمامه في يدها ، اصبح ” الشّحات” بالفعل لعبة في يدها ، تحرّك من خلفها حين تلوّح إليهِ بطبق الطبيخ اللذيذ ، يسيل لعابه ويفقد ما تبقى من صوابهِ.
داخلت الرجل وساوس لم تسعها رأسه المُثقل أساسا بأوجاعِ الأيام وجراحها ، أصبحَ مطويا بين نيران أساه، فمن ناحيةٍ لا يمكنه أن يتوقف عن تجارته بين عشيةٍ وضحاها ، فلا يهبط القرى وفيها أغلب زبائنهِ ، وبين ابنهِ الذي لا يعي ما يُحاك له ، كما أنّه غريب في بلدٍ لا يأمن فيه على نفسهِ ومالهِ ووالدهِ.
حاول كثيرا منعه ولكنّه فشل ، في كُلّ مرةٍ يندفع بعدها كالثورِ الهائج ، شعر ” الشّحات” بعد أمدٍ باهتمامِ المرأة الزائد بهِ ، فما أولته من رعايةٍ بعيدا عن أعينِ الرّقباء ، وما كشفته من مفاتن فجّرت في عقلهِ الهامل ، كوامن لا يشعر بها إلا الأصحاء ، فبدأ يحسّ بدبيبِ النًشوة في أوصالهِ ، سكنت نفسه إليها سكون الطائر الغريب إلى عشهِ المهجور ، يبدو أنّه وجد في عطفها المصطنع ، وحنانها المزيّف ، ما حرّك قريحة قلبه ، واشعره ما اضطربت له جوانحه المتلهفة ؛ لأن يغترف من هذا المعين ، تماما كما اغترف من طعامها الشّهي .
استحال المنظر في وجهِ الرّجل وهو يرى ابنه ، يُساق إلى وحشةٍ مخيفةٍ كوحشة القبرِ ، دائما كان سوء ظنه حليفه الذي يدلّه على أفعالِ ابنه، اخذت المرأة من ” الشّحات ” مسالك تفكيره جميعا ، فسكبت في قلبهِ من الدفءِ والهناءِ ما زرع فيه الطيّش، ووجدت فيهِ مع ذلك من الآمالِ التي نسجتها مالا بُدّ معه من استكمالِ خطّتها للنهايةِ .
تجرّعا سويا من كؤوسِ الحب المُحرّم ، مرّت الأيام وبينه كأحسنِ ما يكون ، و” الشّحات” متوزع قلبه ما بين طبيخها وحبها ، لكنّ الغريب في الأمرِ أن المرأة اللّعوب لم يومض في ذهنها أبدا أن ما اقدمت على فعلهِ مع هذا المسكين مشين ، بل نظرت إلى فتاها الفتيّ وكأنّه رسول من وادي الحب الظليل ، أتاها بعد أن فقدت الأمل في خليلٍ يُقدّر للحبِ قدره ، ويعرف كيف يرضي غلة طمرتها تحت تراب الصّبرِ، فها هي رغم ذلك هائمة في معاني الحب وألوانهِ ، احكمت الطّوق من حولهِ ولن ينتزعه أحد من براثنها ، كثيرا ما وقفت أمام مرآتها ، ترشّ عطرها ، أو تتحسّس مفاتن جسدها الفائر البضّ ، كانت نظراتها الموزعة بين المرآة و” الشّحات ” الذي تلهى عنها في طعامهِ ، تشبّ العواطف في قلبها ، الذي اوشك نسيان مثل هذه النظرات ، تُعاود النّظر إلى جسدها من جديدٍ ، وكأنّها تطمّئنه أن سنواته العِجاف ولّت ولن تعود .
تقوم من فورها تُعانقه في لهفةٍ ، وتُلقي بنفسها بين أمواجِ بحرٍ مُتلاطمٍ لا شاطئ له ولا مرسى ، تود لو تقضي فيهِ بقية حياتها ، حتى وإن اضحت فيه غريقة .
أمّا الرجل فبات يلوي حبالَ الصّبر ، احسّ وكأنّ الكمد يطبق على قلبهِ ينتزعه من مكانهِ ، وخيالات الماضي تطوف من حولهِ، وذكرى شبابه الذي اغترف فيهِ من هذه المآثم ما اغترف لا تُفارقه ، تضربه بسياطها الموجعة ، تُخيقه تلك الأشواك المنصوبة عند كُلّ خطوةٍ يخطوها ابنه ، الذي حتما سيكون الخاسر في النّهايةِ.
وبعد مدةٍ تواردت إليهِ الأخبار ، بعد أن فاحت سيرة ابنه في القريةِ ، واضحى حديثا تفشّى بين النّاسِ ، كيف لامرأةٍ دنسة الذّيل أن تصطاد هذا الفتى المسكين ، فتغدر بهِ وتتحايل فتسلب شبابه، لم يجد التّاس من بدٍّ إلا مفاتحتهِ ، ظنّا منهم بأنّ ” الشّحات ” يفعل ما يفعل دون علمهِ ، امتزج الحديث بالخجلِ والغضب والتقريع أحيانا ، فقد عرف الرّجل أن ابنه لم يكن خليلها الوحيد ، خفق فؤاده بشدةٍ واسبلت جفونه خجلا وهو يرى ابنه الوحيد، الذي يتعزّى به عن ألمهِ يضيع منه ، ما اضطره أن يكلف نفسه من المشقةِ، ذهب إليها ذات مساءٍ يطلب منها أن تعدل عن مخططها ، وتترك الفتى وشأنه فهو شاب غير كفؤٍ لها ، فلا يملك العقل الذي يوازيها ، والأفضل أن تجد حياتها مع رفيقٍ غيره ، توسّل إليها بكُلّ ما في الإنسانيةِ من مشاعر أن تفلته من شباكها، لكن المرأة رفضت طلبه بشدةٍ وصلف ، وشرعت تعنّفه وتوبّخه ، وأن قوة في الكونِ مهما كانت ، لن تُفرِّق بينهما ، خاصة بعد أن قررا الزواج ، كانت كلمات المرأة كفيلة لأن توقظ في قلبهِ من أنينِ الذكرى ما ادماه، لم يخطر ببالهِ أن تكون مثل هكذا دناءة ، على الفورِ قرر في نفسه الخلاص منها ، هزّ رأسه ومطّ شفتيهِ ، وبدى تأثير اليأس في نبرتهِ ، مشى وهو يتململ من ضغط أفكارهِ .
كان ” الشّحات” قد اندفعَ في حبهِ للمرأة وتعلقه بها ، مدى لا يمكن معه لقوةٍ أن تمنعه ، بعد أن وجدَ فيها من الرعايةِ والعطفِ الشيء الكثير .
مضى عليهِ الأيام يتقلّب على جمرِ الانتظار ، قبل أن تختمر الفكرة في رأسهِ ، وفي يومٍ طابَ هواؤه ، وصفت سمائه ، قصد دارها لا يثنيه شيء عن الانتقام ،تراكمت عليهِ الأكدار وحوّطته الأشجان التي اعلن خضوعه لها ، عندها امتلأ صدره نشوة ، اسرعت هي لتحضر له الشربات ، كان قد اخرجَ سكينه الحادّ من بينِ طيّاتِ ثيابهِ ، كان وقتئذٍ أبعدَ عن محجةِ الصّوابِ ، وما إن اقتربت ناحيته ، ومدّت إليه الكوب ، حتى قفزَ من مكانهِ كالنّمرِ الغادر ،امسك بتلابيبها ، لينهال عليها طعنا ، لم يتركها إلا جثةً هامدة مقطوعةَ الأنفاس ، علا صراخه بالتشفي ، والدم يقطرُ من يدهِ يلطّخ ثيابه ، اندفع سريعا نحو الشّارعِ لا يلوي على شيءٍ ، وصراخه يرجّ المكان : قتلتها .. قتلتها .. إلا ابني .. إلا الشّحات .
وبهذا انتهت حياة المرأة ، وانتهى معها أمر الرجل ، أمّا ” الشّحات ” فوثق مبهوتا أمام جثتها المسجّاة في ثيابِ الموت ، لم ينطق بحرفٍ واحد ، غير أنّه مال على طبقهِ الذي كانت تضع فيه طعامه ، احتضنه بقوةٍ بينَ ذراعيهِ ، ضمّه إلى صدرهِ ، وغادرَ المكان واختفى عن القريةِ والزّمام كُله ، لم يرجع بعدها أبدا ، ولا يعرف عنه شيء حتى الآن .
الشّحات….قصة : محمد فيض خالد
ألفت الدّروبِ خطوات حماره العالي السّريع ، لا يرى إلا رديفا لابنه الوحيد ، يتفلّت مُسرِعا كالسّهمِ بوجهه العابس الذي داعبت التّجاعيد حمرته ، وشاربه الفضي بحوافهِ المدببة ، وجلبابهِ الأزرق الذي بهت …