محمد فيض خالد

ظَلَّ عمره يُكابر ، لا يَعترف بَفارقِ السِّنِ بينهما ، هو شابٌ يَافعٌ على أعتابِ الجَامعِة، وهي فتاةٌ غَضَّةٌ لم تُوِّدع سنواتها العشر، ابنة عمه ذلَك الرجل الصَّامت الذي قالَ يوما في حَسم ٍعلى مَلأٍ من الأقاربِ:" هي له وهو لها لن يُفرقهما إلا الموت" ، لا يقبل الرجل رأيا ولا يتراجع عن قَرارٍ ،...
تستقر جلستها أغلب الوقت فوق الدكة القديمة إلى يمين الباب الرئيس، وبيدها فرع صفصاف رخو، تهش به كلاب الشارع ودواجن الجيران، يتحاشاها الصغير ويرهبها الكبير، كلمتها كالسيف لاترد مسلطة فوق الرقاب ، ومشورتها واجبة النفاذ في أمور البيت والغيط" حفيظة " امرأة قاسية ركبت في شخصها شخوصا عديدة، أغلقت عليها...
لم أجد شبيها له في سمرته، تشعر حين تراه ، وكأنه خليط بين السمرة والزراق، مزجا في لمعة أضفت على وجهه مسحة من البساطة والوقار، في هدوء ينزل حمل البطيخ في غرارة كبيرة تدلت من فوق ظهر حمار ضخم ، يستقر في وقفته مطمئنا كصاحبه، على رأس الدرب مكانه منذ أعوام ،لا أذكرها تحديدا يذكرني بها المعلم " نصحي"...
تَراهُ حِين يَنتزع خاتمه النّحاسي اللاَمع من جيبِ الصّديري ، يَنفخُ فيِه بقوٍة، ريَثما يغرقه من رغوةِ فمه، يغرسه في وجِه الَختَّامة ،ثم يَدسّه في الورقِة ، يَفركها في نَشوةٍ طَويلة ،يَتلاعب حَاجباه قليلا ، يُصرِّحُ بعدها في جرأٍة وهو يَفركُ كَفّه كَمتسولٍ عتيد :" الحلاوة يا حلاوة "، يَحكّ طَرف...
ظل عمرا يقنع بالقليل ، ويرضى بالتافه ، رغم أنه من أصل كريم ، وسليل عائلة وجيهة ، يمتد نسبها في الثراء ، ورث عن أبيه أرضا وأملاكا ودورا تناثرت في القرية ، يتذكر والده حين كان ينهره في جنون ، مرددا في غلظة :" ٍ المال هو الأصل ، والناس بدونه لا شيء "، يغيم وجهه في ابتسام مأزوم ، يعاود كر مسبحته...
سمعتها لأول وهلة من فم " عوضين " خولي الأنفار، تلهب حماستي كلماته المرصوصة في عناية ، حتى وإن جاءت مغلفة بالتزلف، ألقاه متربعا أمام دكان " عبدالمقصود حلاوة " ، رجل جلف ،غليظ الكبد، شحيح اليد، ما إن اقترب منه إلا ويبتسم ابتسامة غائمة يخرجها في تصنع، تلمع لها نابه المكسوة بتلبيسة الفضة ، في هيئة...
لا يزال لهيب الألم المتمشي في يدي يزعجني، يكاد وخزه يطير له عقلي ،على كل حال إلى الآن أداوم على مهامي اليومية المعهودة دونما مشاكل، لكني آخذ نفسي في أوقات بالتفكير في حلول عاجلة عن نهاية لهذه الأوجاع المتزايدة، التي تنهش مفاصلي بلا رحمة ، لم تفلح الوصفات الشعبية التي جربتها، اضطرتني الحالة تحاشي...
امسك موظف الجوازات بيد غليظة الختم ، دقه بغير اكتراث ، أومأ برأسه محييا في صمت ، انتظمت في مشيتي وسط حشد صاخب من البشر، انفتح أمامي بهو متسع ، انتصبت فيه قبة زجاجية تتلألأ في المنتصف بأضواء زاهية، تحجب خيوط شمسالظهيرة الغاضبة ، حتى شمس النهار تريد أن تهاجر يا أمي ،الوضع لا يطمئن ، فبرودة المكان...
في فناءٍ متسع براح ممتد تحيطه أسوارٌ عالية من اللَّبن ، وتحفّه أشجار الكافور العالية تحجب كُلّ شيء ، ترابط المدرسة الإعدادية في صفرة لافتة تلك وجهتي ، تبعد عن قريتنا مسافة طويلة ، بالجملة أذهلني كل شيء هناك ، ولكن ما شدني أكثر تصرف عامل المدرسة العجوز " أبوالعمدة " فعدم اكتراثه بالمسؤولين مبالغ...
كانت مشاعره العفوية كثيرا ما تُصيب من حوله بالذهولِ، فيكتفون منها بشيء من السُّخريةِ والتَّندرِ، فكلامه عن تَشاكسه مع عِجليّ النُّورج ، وجدالهما المستمر ، وخصامهما المحتدم ، وصراخ أخشاب المحراث حيِنَ يُقبِّل وجهَ الأرض بأسنانهِ الحِداد هي من قَبيلِ الخَبل. وبمرور الوقت أدركوا أنَّ مَشاعره تَصدر...
على بُعدٍ تحومُ عصافير الحقل كالغَمام ، تملأ الجو بأصواتها المُرتعشة ،تحَملُ في أرجلها كسارة القَشِّ ، تستعد لتهيئة أعشاشها الجديدة، بعد دأبٍ مُجهد ستستقبل هذه الأكنان زقزقة الصِّغار ، تُغرق شقوق الجدران، وشواشي الصفصاف ، وبين عراجين البلح. كَانَ المصَرفُ الصَّغير على قَذارتهِ ، الأُنس الذي...
كُلّ ما اتذكره صَوته الجّهوري المُشبع برغوةِ الصَّباحِ الصَّحو ، المُكلَّل بتيجانِ النَّدى فَوقَ الغيطان ، يجَوبُ في قَامةٍ مُنتَصبةٍ كأعوادِ الذرة الصَّيفي ، وجَسَدٍ يئَنُ تحت أثقالِ السنين الطوال ، يتصايح في إيقاعٍ واحد لا يُغيِّره :” عال البرلس ” ، في المُبتدأ تَمنَّع عَليَّ كلامه ، ظَننت...
منذ فترةٍ لم يُسمع صرير بابه، لكنَّ سُعاله اليابس متواصل لا ينقطع، من غبَشِة الفجر وحتى مقدم المساء ،وحدي من يعرف حكايته القديمة مع “روح” أو بالأحرى” الحاجة روح” هكذا يُطلق عليها بعدما أصبحت جدة، لكن من يراها لا يعتقد غير أنَّها أنثى في الثلاثين، فرونق الِهندام، ومَلاجة الوجه، وفتنة الشباب...
لم اتخيل يوما أن اتصادف ومسطول ، لا تزال مشاهد السِّينما عالقةٌ في مخيلتي السَّاذجة ، صَغيرا اقضي سَحابة نهاريّ أمام أفلام الأبيض والأسود، يستفزني منظر السَّكران المُستهتر في تَرنحّه ،تقلقني نظرات عينيه الزائغتين ، وشعره الأسود الغارق في بحورِ "الفازلين "مَسدولا فوقَ جَبهتهِ ،مَبعثرا في فتنٍة...
تذكَّر الآن أنَّ له أختا تكبره بأعوامٍ قَلائل ، سَاقَ القدر إليها رَجلا مُسّنا في عمرِ أبيها، لكنَّه طَيّب القلب، وفوق هذا وذاك موفور الثَّراء ، من صِنفِ الموسرين الذين تَربَّوا في العزِّ منذ نعومةِ أظفارهم ، أكرمها غَاية الإكرام ، وأغَدقَ عَليها من مَالِه ما عوَّضها فَارق السِّن ، وأنبتَ في...

هذا الملف

نصوص
113
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى