محمد فيض خالد - شيخوخة

تذكَّر الآن أنَّ له أختا تكبره بأعوامٍ قَلائل ، سَاقَ القدر إليها رَجلا مُسّنا في عمرِ أبيها، لكنَّه طَيّب القلب، وفوق هذا وذاك موفور الثَّراء ، من صِنفِ الموسرين الذين تَربَّوا في العزِّ منذ نعومةِ أظفارهم ، أكرمها غَاية الإكرام ، وأغَدقَ عَليها من مَالِه ما عوَّضها فَارق السِّن ، وأنبتَ في قلبها شجرة الحُبّ ، لكنَّه تَركها ورَحَل ، رُزِقت منه ابنا ، هَجَر الوطن في غُربةٍ طويلة لبلادٍ بعيدة ، تتعجب لكلامِ الناس :" قالوا لقد ذهب ليحضر الشهادة الكبيرة ، أوليسَ في مصر شهادات تكفي ؟!"، بمرورِ الوقت اعتادت ذلك الهجر ، ووجدت في متع الحياة تسلية ، أمّا هو فمنذ أن التحق بهذه الوظيفة ، وزياراته لها لا تعدى سويعات يقضيها ، ريثما يعود أدراجه ، يقول في حَسمٍ :" لا استطيع الغياب فالميري لا يرحم "، احيل للتقاعد تنامى شعور قديم بالتقصير ، أخيرا وجد الفرصة ليعوض ما فات ، يستيقظ قُبيلِ الفجر ؛ ليؤدي صلاته ، ثم ينصرف مَشيا بين الحُقولِ ، المسافة غير مُجهِدةٍ فهو يهوى المشي مُذ كَانَ شابا ، يقول في نفسهِ :" عندما تعتاد الطريق سيصبح كُلَ شيءٍ تمام "، تبزغ الشمس ، تتفض عنها وسن الليل ، تَشقّ خُيوطها فُتورَ الصَّباح الوليد ، يطرق بابها ، ليجدها وقد أعدّت طعام الفطور، يُزيح عن نفسه ذاكَ الهاجس القديم يُذكِّره ماضيه ، يندمج في أحاديثِ الطُّفولة الساذجة ، يقضي فيها سَحابةَ يومِه ، كَانَ اللقاء أسبوعيا ، بعد مدة ألِفَ الطريق ، فجعله كل يومين لعجوز مثله ، أمّا رفاقه فلا جدوى منهم ، اعتادتهم قارعة الطريق يلوكون أعراض المارة .
انشغلت أمر أخيها ، تفرغت له تقضي وقتها تهيء المكان ، فهو وسواس يحب النظافة لدرجة ، وصاحب ذائقة تعشق الأكل الطيب ، اجتهدت في ارضائه ، كان يغرقها بنكاتهِ ، ومزاجه اللاذع عادا صغارا ، كانت والدتهما تقول منزعجة حال تضاربهما :" ‏انتو زي الديوك تاكلوا في بعض "، يذكرها بعصبيتها ، وتذكره بمكائده ، أشارت عليه أن يظلا سويّا ، فلم يعد لهما أحد ، تقول له وهي تقلب ألبوم الصور ": أنت كل ما تبقّى لي من رائحة الأحبَّة" ، لكنه كان يصرّ على الرحيل ، لم يتعود مفارقة داره ، ارتضت منه هذه الجرعة من العطف ، دعت ربنا أن تدوم .
تأخَّر يوما عن المَجئ ، أرسلت تتقصى أحواله ، جاءَ الرسول يغالِب مدامعه ، بعد هنيهة انفجَرَ باكيا ، لقد ماتَ الاستاذ " عبدالستار " أمس ، تحجّرت عيونها ، انسلت في هدوءٍ لتدخل غرفتها ، وضعت صورته إلى جوارِ من مضوا ، تطالع في استسلامٍ البقية ، مرَّت الأيام كئيبة كأتعسِ ما تكون ، وفي صَبيحةِ يَومٍ شتويّ ، دوّت صرخات " نبوية" الخادمة ، تَلهّت في تَوجّع :" دخلت عليها فوجدتها مُمدّة لا تنطق "، لم تعرف الدار بعد رحيلهما أحد ، اضطر العمدة أن يغلقها لحين عودةِ الغائب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى