محمد فيض خالد

يتَوجّب عليّ تَجديد جواز سفري ، اعترف مُرغما بأنّ علاقتي بمكاتبِ إنهاء المعاملات الحكومية ليست على ما يُرَام، رُبّما لتَغيّبي عن الوطنِ في غُربةٍ بلا نهاية ، ما إن وقعت عينيّ على تاريخِ الانتهاء ، حتى عاجلت ذاكرتي مَخاوفَ لا حَصر لها ، ليلتئذٍ جفاني النوم إلى أن انبثقَ الصُّبحُ ، تمام السّابعة...
حَتّى إِذا ما توقّدت الشّمس والتَهبت خيوطها المُتَدفقة من بطنِ السّماء ، تُزيح عن وجهِ الرَّصيف بقايا نسيم الصُّبح البارد، يَتَهاطل الزُّوارُ من كُلِّ حَدَبٍ، يرمون بعيونهم المُرتَعِشة مبنى مستشفى الصَّدر ، افترشَت " حسنية " مكانا صَوب البوابةِ ؛ تُطالِع حركتها ، تلتمع حدقتاها في وجهٍ نُحاسيّ...
لا يتأخّر دقيقةً عن المَوعدِ الذي يضربه لنفسهِ مُتَنفس كُلّ صباح، فما إن تَنثر الشّمس خيطها تمشي مشيتها الوئيدة في أخَاديدِ الأرض ، حتّى ينَساب صَوتهُ يَسيلُ في الدّروبِ كما يسيلُ رضاب النَّدى من فوقِ أطرافِ الأشجار :" الكرات العريض النعناع البلدي "، " عبدالشافي " هذا اسمه وكفى ، أمّا بلده فلا...
ظلّ لسَنواتٍ احسبه؛ مغارة " علي بابا" ممتلئة بما يُسيل اللّعاب ، لم تكن كنوزه ذهبا ، بل شيء من مُغرٍياتِ الطُّفولةِ البريئة ، حبات الكرملة وقِطع الطّوفي وأقمَاع الجَلاّب ودقيق السُّكر المطحون ، سألت بإلحاحٍ عجائز دَربنا :" متى بُني هذا المعبد الرّصين؟" لم اظفر بإجابةٍ شافية ، تُعَاجِلني " رسمية...
قالوا إنّ فأسَه لا يَحملها إلّا ذُو بَأسٍ شديد ، منْ ارتَوى مِن حَليبِ أُمهِ، هكذا أذاعَ النّاس مُذّ تفتّحَ شباب " إبراهيم" وبَزَعَ نجمه ، يَتنَاقل عن فتوتهِ قصصا تُلهِب المشاعرَ ، وتُثير حَمية كُلّ غِطريفٍ عظيم، لا يفتأ والده يُذيع على الملأِ، وبين رواقِ السّامر حكاية فأسه العجيبة ، التي...
في تبجّحٍ أُنثوي مُستَفِزّ،تقَشعرّ مِنهُ جُلود الذين يخشون العيّبَ ، تَفجّ" أم مرسي" حشود الرِّجال المُتَراصّة فوقَ الدِّكك ، تباغِت أسماعهم بصوتٍ يُجلّجل، تُلوِّحُ بخرقةٍ اصطبغت بوهجِ الدّم القاني، تُبعثِّر النَّظرات باشّة ،تقولُ بعَفويةِ الخَبير:" وشوبش يا حبايب "، تستثير حُمرَة القماشة...
لم يكن أهل القرية يعرفون في دُنيَاهم من أُبّهةِ السُّلطِة ، وصَولجان الحكومة ؛ إلّا هذا الصُّندوق السِّحري ، له جبروتٌ ترَبّع كَصنمٍ معبود في فؤادهم ، قوةٌ تُسكَبُ كُلَّ يومٍ من فتحةٍ مُظلمةٍ داخل جدارِ بيتِ شيخ البلد ، تعبثُ فيهِ يد " سمير " البوسطجي مَطلعَ كُلّ نَهارٍ، يشبع الحَبّارة ، ثم...
في مَكَانٍ ما حيث وضَعت الطَّبيعةُ مولودهَا البِكر ، يَحبو نَحو النُّور ، بقعة ريّانة ما بينَ الماءِ ورِمالِ الصَّحراء الذّهبية، يتجلى الجمالُ كيومِ خَلَقَ الله الأرضَ وأرسى فِجَاجَها، لا يشوب الأجواء كدر من قُبحِ الحياة ، شَاء القديرُ أن تنمو تَحتَ لحافِ السّماء الفضيّ ، قصة حبٍّ خَالدة خُلود...
كَغيرهَا من قُرى وعِزب الرِّيف تسمّت باسمِ وجيه من الوجَهاءِ ، " عزبة حسني " هي الأقربُ عن جميعِ الأسماءِ ، بعفويةٍ سألت ذاتَ أصيلٍ عمي عميد العائلة ، شيخ طاعن في السّنِّ ، ارتسمت فوقَ ملامحهِ الجَادة سيما الوقار والدِّيانة :" تُرى لمّا تسمّت بلدنا بهذا الاسم؟!"، نَظَرَ طوَيلا في الفَراغِ...
ما إن تخط الشّمس بصمتها فوقَ أديمِ الأرض الرّمادي ، فتلوّنه بصُفرتها ، تتلألأ أشجار الكافور بحلةٍ ذهبيةٍ زاهيةٍ ، حتّى تدبّ الحَركة بينَ جَنباتِ الغيطان ، تختلط وقتئذٍ أصوات عائلة " أبو العجول " شيبا وشبانا كُلّ في فلكٍ يسبحون ، يعقل وليدهم فنون الحياة مُبكِّرا ، فلا يجد أوان ذاكَ إلا البساط...
هَتَفَ قلبه وتراقص برؤيا الأعلام وتعانقها ، ومع دق الطُّبول ازدادَ طَربا ، امتلأت الدّروب برجالٍ في وجوههم سحر يستشف منه الظُّرف ، سُرعان ما ظهرت حولهم مراقص الفرح ، زاحمت البيوت مع رَائحةِ ( التَّقلية) أحاديث ليلة النبي ، اسَتشاطَ الجَمعُ حَماسا في عفويةٍ تَقافَزَ مع الرِّفاقِ ، اكتملَ المشهد...
هذا يومي الأول في المدرسةِ ، تراءى أمامي للوهلةِ الأولى ، داخلتني منه رهبة وإكبار وشكوك لا حدّ لها، يتطاير صوته الجهوري المُزعج ، لا يملّ من اعطاءِ التعليمات بصرامةٍ وغطرسةٍ : قف في الصّفِ .. من يُشاكس اطرده فورا ولا كتب له. تُقرّر هيئته في نفسي المخاوفَ بل وتنميها طوال الوقت ، حتى ابتسامته...
يُِحكى أنّ في مدينةٍ هادئةٍ في قَلبِ الصَّعيدِ النَّائي ، جَلَسَ " الخواجة ماركو" أمام دكانهِ الكبير ، يتأمّل الشُّعاع الباقي لهُ من شمس حياته ، حينَ لم يتبق له من متع دُنياه ؛ إلّا هذه الجلسة ، وابنته الفاتنة " ماريّا " قَدِمَ صاحبنا المدينة شابا مثريا واسع الثراء ، أقدمَ على تجارتهِ بنهمٍ ،...
لازال صدى صوت الأفندي يتردد في أذنيّ ، وقد تربّع فوق كرسيهِ الخيزران القديم ، يهرش كعب قدمهِ فرِحا نشوانا ، وهو يحكي لي حكايته المُعادة لعشراتِ المرّاتِ ، والتي استجلى منها حكمتهِ المشحونة بالتوريةِ : ماتَ العليل وماء اللّفت له دواء ، يغيب الأفندي في ضحكتهِ التي تناثرت نهنهتها فيما يُشبه البكاء...
قالوا إنّ أسلافه من أصولٍ أرمينية ، ودليلهم السّاذج حُمرة وجهه القاني التي تُشبه لونَ الطّربوش ، ولغده المُتدلى بنتوءات عريضة ، يفترش فوقَ رقبته الغليظة كضرع بقرة سمينة ، ناهيك عن خده الأثيل الأمرد، وزُرقة في عينيه تُشبه في نقاءها ماء التّرعة ساعة يبعثر الفجر رايته البيضاء ، ما إن يُذكَر اسم ”...

هذا الملف

نصوص
106
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى