محمد فيض خالد - على غيرِ موعد

لا يتأخّر دقيقةً عن المَوعدِ الذي يضربه لنفسهِ مُتَنفس كُلّ صباح، فما إن تَنثر الشّمس خيطها تمشي مشيتها الوئيدة في أخَاديدِ الأرض ، حتّى ينَساب صَوتهُ يَسيلُ في الدّروبِ كما يسيلُ رضاب النَّدى من فوقِ أطرافِ الأشجار :" الكرات العريض النعناع البلدي "، " عبدالشافي " هذا اسمه وكفى ، أمّا بلده فلا يهمك أن تعرفَ ، طالما كفاكَ صاحبنا مؤونة السُّؤال:" بلدنا بحري لا تصلها إلّا الرَّكائب"، ألِفنا نبرَته يُخَالطها هُزال السّنين ، يُغَلَفها قهر الغلابة أمثالنا ، ما إن تَلمحهُ النِّساء ؛ حتّى ينفضوا إليهِ مع تلألأ ضحكة يجلجل جرسها ، يُمرِّر يدهُ في استسلامٍ يخطف القلوب ، تنهب الأيدي بضاعته ، يطبعُ مع كُلِّ قرشٍ وشم الرِّضا برزقِ الله وقسمتهِ ، قُبلة حارة ثم يدسهُ في جيبهِ خَافقَ القلب ، لم احظّ بإجابةٍ مقنعةٍ ، اُردّد مستغربا :" ما الذي وضعَ القبولَ في بضاعتهِ دونَ سواه" ، تقولُ " فكيهة " :" أرزاق ربنا تجعل من المشِّ شربات"، دائما اقلِّب المشهد في رأسي ، استمرئ الأحاديث السَّاذجة في ارتياحٍ ، لَكم خَطرَ ببالي :" متى قَدِمَ عبدالشافي قريتنا؟!" ، يضحك" محروس " الحُصري ، يحبس البلغم الرّطب أنفاسه ، يزيح غابة "الجوزة" عن فمهِ في اهتياجٍ ، يُفرِغ فمهُ المَلئ بالنّخامةِ على أقربِ جِدارٍ ، يُمرّر طرف ملفحتهِ الكَالِحةَ فوقَ عينيهِ المُشبَعة بالدُّخانِ :" عبدالشافي دا يا سيدي بعد صلاتك ع النبي جا هنا بعد ما اطخّ المرحوم نعمان بسبوع "، كُلّ ما فيهِ يُنبئك عن شَخصٍ غامض ؛ سُمرته الزَّائدة عن الحَدِّ، أسنانه المنضّدة بلمعتها الثَّلجية ، عوده الرّقيق في صَلابةِ جُذورِ النّخيل، شعره الأبيض في وَهجٍ مُريح كلوزاتِ القطن يبرزُ من تحِت الطّاقية ، يُبالغ النّسوةُ في إِلحَاحٍ ، يَسألون العَجوز عن سِرِّ نَضارة خُضرته، يقول " فوزي العتال" زاعما :" الرّجل يَسقيها من بئرٍ جوفية، ويغرقها بزبلِ الحمام "، لم نعهد في عينيهِ حَيرة الغريب ، تُضئ نفسه مردّدا من فوقِ حمارهِ وقد بَلغَ بهِ التّأثر:" بالهنا والشفا إللي معاه وإللي معهوش ياكل "، استقرَّ في خاطري بأنّ خلفه خبيئةٍ ما ، لم يكن من صِنفِ أولئكَ الذين عرفناهم ، لا يهبط قريتنا كُلّ اثنين، يسوق حماره بينَ تلافيف الأفقِ المُشَعّشع بنورِ الصُّبح يذهب للسوقِ في قريةٍ مجاورة، يرمينا بابتسامةٍ شاحبة ، يؤشِّر بيده:" صباح الخير "، لايفوّت المرور علينا في طريقِ العودة ، نعتقد بأنّ حماره يَعرف أحوال قريتنا، تُبطن نظراته الودّ، يدبّ حوافره بحنوٍ ، يعجب " مرزوق " الحمّار ضخامة جُرمه ، يلتفت نحو " عبدالشافي " طلق المُحيّا ، في ابتسامةٍ نُزعت عنه وسامته :" دا جحش مش عادي دا أبوه بغل "، من خلفِ شباك بيتنا اختلس النظرات ، يستقبل صاحبنا حرارة النّهار الوليد ، يتماوج فوقَ سحنتهِ بصيصٌ من الرزانةِ، يُخرج من جيبهِ مفكرة صغيرة يُدوِّن شيء ما، لا اعرف إلى الآن ماذا دوّن، ذاتَ ظهيرةٍ اخرجَ من الخُرجِ كيسه ، شَرعَ في توَزيعِ الحلوى على المارة، قَالَ في انشراحٍ:" حلاوة النجاح عبالكم "، سَارَ مع الأيامِ تُلقي عليهِ من إشراقها ، لكنّ فعلها المشؤوم تغلّب عليهِ، طغى التّأثر على نبراتِ صوته، كاشف يوما " فتحي المهداوي " عن أوجاعِ علةٍ قديمة ، جعلت تزوره آونتهِ الأخيرة ، ذَاتَ صبيحةٍ بدأ نفسه يتصاعدُ في صعوبةٍ، وكأنّه خيط دخان، نضا عنهُ جلبابه ، ترنّح كالسّكران ثم انكفأ تحت الجدارِ ، وفي غمرةِ يأسٍ توقّفَ قلبه ، كانت شمس الظّهيرة تجثم على صدرِ البيوت حين أُذيع فاجعة وفاته، وعلى حينِ بغتةٍ شَقّ الفضاء بوق سيارة ، افسحَ شيخ الخفر الطريقَ أمامها وهي تتخذ طريقها في مهابةٍ، لحظات وكان " عبدالشافي " محمولا بداخلها ليغادِر المكان ، لكن هذه المرة بلا عودة ، مرّر شيخ البلد يدهُ فوق كرشهِ ، وقال :" لقد جاءَ أولاده ، أفندية ملء العين ، كيف لبائع كراث أن تكونَ لهُ مثل هذه العزوة ؟!"هَبَطَ قريتنا كثيرون بعدهِ،تلاحقت عبارات :" الكرات العريض "، لكنّهم لم تكونوا مثل "عبدالشافي".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى