محمد فيض خالد - الدُّكان

ظلّ لسَنواتٍ احسبه؛ مغارة " علي بابا" ممتلئة بما يُسيل اللّعاب ، لم تكن كنوزه ذهبا ، بل شيء من مُغرٍياتِ الطُّفولةِ البريئة ، حبات الكرملة وقِطع الطّوفي وأقمَاع الجَلاّب ودقيق السُّكر المطحون ، سألت بإلحاحٍ عجائز دَربنا :" متى بُني هذا المعبد الرّصين؟" لم اظفر بإجابةٍ شافية ، تُعَاجِلني " رسمية الدّاية" بصوتها الأبحّ :" وأنت عايز إيه منها؟!"، تلوي بوزها في امتعاضٍ ، ترمي ببصرها الجدران ، وكَأنّ سؤالي يستفزها ، تعوّدت أمرّر يدي فوقَ " الطِّلاسة" اتحَسّس بقايا الجير ، أجدني وقد انجذبت إليها ؛ أمدّ طرف أنفي اتلقى تيار هواء بارد ، قادمٌ مِن فتحةٍ صغيرة في جسدِ بابهِ الخشبي ، وقتئذٍ يُجَنّ جنوني ، امتصّ بلا هوادةٍ روائحها المُنعشة بردا وسلاما ، تَتراقص في مخيلتي صور شتى ، أغوصُ في أحلامِ يقظةٍ هانئة ، تترقرق الفرحة في عينيّ مُتلهيا ، اخال المعجزة وقد تحقّقت، انفَلَقَ الخشب إيذانا بتدفقِ ما حَوته الأرفف من طيباتٍ ، تتمشّى على شفتيّ ابتسامة مهزومة اتلمظ كقطٍّ جائع ، يمتلئ صدري بأريجٍ روائح ٍمُسلية من الفانيليا الشّهية ، تربكني مُشاكَسات أبناء الدّرب ومضارباتهم ، انتزع نفسي في تشظٍّ من هذا البراح السِّحري اعضّ أصابع النّدم ، يظل " الدكان " كامنا في عجرفتهِ عَصيّا على الزّمنِ ، يجذب القلوبَ كالصَّنمِ الذي لا يشَبعُ من القرابينِ ، تكسو بابه ونوافذه المشرعة مهابةً ووقار ، تلحظه في بواقي طلاءٍ بني محروق ينبئك عن عزٍّ غابر ، ترميه خيوط الشّمس حِين تحبو من فُرجةِ المشرق ، فتكسوه ثوبا قشيبا ، لم تكن المشاعر حِكرا عليّ ، بل كانت وردا يُردّدهُ أبناء الدّرب من المحرومين الذين تهافتوا كالفراشِ ، يُسَبِّحونَ بحمدهِ بُكرةً وأصيلا ، ارتموا كطائرٍ نُتِف ريشه بجوارِ العَتَبة ، يَسكبوا من قلوبهم الأماني ، يتهامسون بنجوى ؛عسى أن تُصيبهم نفحة من نفحاتهِ ، علاقتنا توثّقت مع أولى حُروفِ الهِجاء ، وبقطعِ الطباشيرِ اخطّ كلماتي المُهتَزة فَوقَ جِدارهِ ، سريعا وجدت من الجُرأة لاعلن عن نفسي في جملٍ قصيرة ركيكة المعنى ، يكتمل المشهد إغراءً وتحتكم الشّجاعة ، فانزع إلى رَسمِ شَخصيةٍ هزلية لصاحب الدُّكان ، رأسٌ دقيق ، وأنفٌ كبير ، وعصاة معكوفة، وضحكات تخرجُ من فمهِ :" ها ها " الغضب يكسو نبرانه ، شَرِه النَّظرات يُحملِّقُ كالذِّئبِ الجَريح مُنفعِلا :" دي قلة أدب مقصودة "، كان من الغفلةِ ليعتقد بأنّ سميره الوفي وجليسه المُخلص هو الفاعل ، لم يكن على وئامٍ مع دُكانهِ ، يهجره أسابيعَ طِوال لا أحد يدري وجهته ، إلّا "زكريا" الحصري ، يقول في ثقةٍ وهو يبرم ورقة البَفرة :" إنّه يعمل في مصنع السُّكر في قوص ملاحظ عنبر التوريدات " يعودُ بعدَ غيبةٍ ، يحمل " فتحي الكلاف " فوقَ حمارهِ ، أجولة وكراتين ، بابتسامةٍ غريرة ؛ يُمرّر يَدهُ فوق الحِملِ :" لقد عَادَ ليملأ الدّكان بخيراتِ الله ، ربنا يجعلنا من محاسيبه" ، لا يعترف أبدا بالهزيمة ولا يقرّها في قاموسهِ ، استطاعَ جذبَ عقولنا بخيطٍ رَقيقٍ مِن حَرير ، فعلى الرُّغم من خلوِ الأرففِ ،ظللنا نتسمّع من ثقبِ الباب ضحكات عِلب الحلوى ، ورنين حبات السوداني واللّب ، وزَمجرة قطع البسكويت ، يَرجعُ مع خيوطِ المساء يفتح الباب ، يُطالِعُ قرص الشَّمس حينَ يخنقهُ الأُفق ، يعتصر آخر قطرة من حياتهِ ، وعلى مَقربةٍ من " الكلوب" يُرسل فحيحه المأزوم ، يشعَ نوره الأبيض النَّاصع ، يُعلِّن عوده صاحبه ، ذَاتَ مساءٍ عَادَ بعدَ غيبةٍ طويلة ، استنفدنا معها كُلّ ألوان الصّبر ، كرهنا الدُّكان ومللنا روائحه ، التي بدت كئيبة ممقوتة ، فلم تعد تحمل غير السّأم والزّهق ، مشى بخطواتٍ متثاقلة وشّحته الشيخوخة بثيابها الخَانقة ، وما إن تحرّكت شّمس النّهار البرتقالية جهة الغروب ، حتّى اغلَقَ الدُّكان ، خَرَجَ مُتأفّفا يلعن تصاريف الزّمن ، يَضربُ كفا بكفّ ، أكَلَ السّوس الأرفف ، والتهمَ النّمل ما تبقى من البضاعة ، فترك المكان قاعا صفصفا، قالَ في ابتسامةٍ واهنة :" لقد انتهى كُلّ شيء أيها الملاعين "، اجتمعنا من حولهِ كدودِ الأرض ، تجللّت جبهته الفرحة كطفلٍ أهوج، جَعل يضحك في نهنهةٍ تُشبه البكاء ، يشاهدُ مُتَسليا الوجوه وقد لطخها دقيق السُّكر المطحون .
مَرّت الأيام عَصية ، وفي سَاعةٍ مُبكِّرةٍ ، اطمئنَ قلبي بعد معاناةٍ ، جعلت اُفتّش في شغفٍ عن كتاباتي القديمة ، في زاويةٍ على الجدارِ، وجدتها وقد خلت ملامحها، تبحثُ مُتأرجحة عن الحياةِ ، نظرت من حولي ومن نفس الفتحة مددت أنفي ، لكنّي لم أجد أثرا مما كان ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى