محمد فيض خالد - السَّريح.. قصة قصيرة

يُغَازل البيوت بَصيصٌ من الضّوءِ الأحمر الجرئ، يُعانِق جَريد النّخيل ، تُسبِّحُ الطبيعة في خُشوعٍ مألوف ؛ ريثما تتفلّت من رَقدَتها ، تلك صورة ترتسم مطلع كُلّ نهارٍ مُنذ أذِنَ البارئ لهذا المكان أن يعمُرَ بأهلهِ، قرية مطمئنة ياتيها رِزقها رغدا على ضفافِ بحرِ يوسف ، أهلها لا يدرون عن دُنياهم إلّا الكَدّ والنّصَب ، وحَياة لا يفرق فيها بين َالمَرءِ وفأسه، ورغم فقرهم ، فنفوسهم راسخة قانعة؛ بأنّ كُلّ دابةٍ على الله رزقها .

في هدأةِ الصَّباح المُنعِش، وبينما الجو يمتلئ بأصواتِ العَصافيرِ ضاحكة ، تَنفض عن الوجودِ كآبته، يهبطُ الشّيخ " أحمد الكردي " حَامِلا غرَارته فوقَ ظهرهِ، والشّيخ لمن يجهله ، صانعُ البهجة للجنسِ اللّطيف ، يؤمّ القرية السّبت من كُلِّ أسبوع ، يعرض بضاعته تحتَ النَّبقةِ العتيقة ، اساورَ من زجاجٍ ملون ، أقراط العاج ، خلاخيل النّحاس، مراود الكحل ، وغيرها من حاجاتِ النّساء ، في وقارٍ يُداعبُ زبائنه بصوتٍ دافئ:" لبس البوصة تبقى عروسة!" ، يقضي جُلّ نهارهِ يسترضي هذه، ويتودّد لتلك، ويلاطف متردِّدة بخيلة، يعترِف الأهالي بشطارتهِ اللّاذعة، تدفعُ إليهِ " نبوية " بائعة الجَاز ثمَن طرحة، تمدّ يدها إلى صدرها تُخرِج " البُّك" قائلة في حَسدٍ:" دا يبيع التراب لو عايز !"، حلوة لكنته، وشهيّ حديثه المعسول، ينبئ عن أنّه من أبناءِ بحري ، كان قد اتخذَ لنفسهِ مسكنا فيّ عزبة " الصعايدة " مُذ حطّ رِحاله في القريةِ، لم يغب عن عينِ " وزة" اللعوب ، فهي عاكفةٌ على ترصّد خطاه، تحسب عليهِ أنفاسه ، من نافذتها تكمن كما الحِرباء ، يَتوهّج بريق الطّمع يكسو وجهها ، ساعة تهالكه على كيسهِ يعدّ غَلّة يومه، يدقّ قلبها وهي تحدجهُ في تشهي ، يغلف المكان صمتٌ قاتل ، إلّا عن فمها الذي فَاضَ بطرقعتهِ، امتلأ باللّادِن تلوكه في تغنّجٍ سخيف ، تتفشى أخبار خلاعتها تزكم الأنوف ، منذ جاءت برفقةِ زوجها " مصيلحي " سائق "الكراكة"، اكترى بيتا في القريةِ لها وابنتها ، عملَ زمنا في تطَهيرِ المصارف، وبعد أمدٍ قضى نحبهُ إثر مشاجرة مفتعلة مع المقاولِ، لم تعهد القريةِ امرأة في تبجحها ولا حسنها الصّارخ ، علاوة عن بديهتها الحاضرة، ونكتتها السَّاخنة التي تسحر العقول ، مع الأيامِ جَنحَ بها الطيش ؛ فاتخذت شرفها تجارةً لمن يدفع ، تُلقي في مشيتها من فتنةِ جسدها الفائر، سِحرا لا يُردّ، وتَصبُّ في المسامعِ من لهيبِ غرامها عطشا لا يرتوي ، تلاوعُ كُلّ محروم يزحفُ وراء ما يطفئ سورة قلبه ، معبودها القرش ، تستنزف الجيوبَ فتذرها قاعا صَفصفا، تحايلت ما وسعها كي تستذل الرجلَ فنصبت له أُحبولة من عاطفتها السّاقطة المبتذلة فهي تُغريه، بيد أنّه تماسكَ عازما دفع ألاعيبها ، تعترض سبيله دون حاجةٍ، خرجت بزينتها تتلمّظ كحيةٍ رقطاء تجرّه إلى جحرها جرّا ؛ كوب من الشاي لا يضرّ ، والأمر لا يسلم من ابتسامةٍ مُتصابيةٍ وغمزة عين ملتهبة ، حتّى جَفّ قلبه الموجوع فرضَخَ ذليلا لمخططها ، ها هو وقد اندفعَ على عِمَايةٍ عسى أن يجني من ثمارِ حُبه الياَنع قطفا جنيّا، مرّت الأيام ثِقالا عليهِ ، يتكّلف الوقارَ ما وسعه ، لكّن نظراته المحمومة المُثقلة بالغرامِ تفضحه ، حاول اقتلاعَ هذا الشيء من رأسهِ دونما فائدة ، بعدما أمسى مضغة الأفواه ، نصحه " سباعي " القفاص مِرارا ؛ أن يبتعد عن هذه المهانة ، لكنّه كانَ يهزُّ منكبيه مُستهينا ، رويدا دَبّ الاهتمام في روحهِ الخامدة ، فتلألأ رأسه المُشّتَعِل شيبا بأصباغِ الشّباب ، واستبدلَ ثياب الشّيوخ، بأخرى أخرجته عن طورِ وقاره .
استيقظت فيهِ حاسة الافتراس ، يتوسّل سحابة نهاره ضحكة منها ، تلفه الفرحة كطفلٍ غرير، حينَ تذوب خلاعة وميوعة أمامه ، تسيلُ الغِبطة من نظراتهِ كمن يصحو بعدَ غفوةٍ، أخيرا عرفت أقدامه طريقا إلى مخدعها ، أقبلَ على الإثمِ مِستَخِفا بهِ ، قد برحهُ الحُبّ ؛ فجرّه لطريقهِ المظلم ، والمرأة تتناوبُ عليه؛ تسقيه من كؤوسه الحرام .
ذَاتَ صبيحةٍ ، قَصَدَ القرية " سريح" جديد ، شابٌ في رونقِ السَّبابِ، يسوقُ عربة " كارو" مُحَمّلة بالبضائعَ من كُلّ صنفٍ، أمّا " الكردي" فمع الوقت ؛ اسلمه هذا المنحدر لأن يهمل تجارته ، وما تبقى في يده لم يسلم من سطو " وزة" ، التي لم تتوانى في استبدال صيدها الجديد به ، يوما بعد يومٍ يتقلّص ظِلّ حبها عنه ، بدى أسيفا ، تنعقد على وجههِ كآبة مُدلهمة تُعكِر طباعه ، وتُفسِد مزاجه .
كانت خيوط الصَّباح الجديد تنتَشر في أحشاء الأفقِ الرّمادي ، عندما تعالى صياح ابنتها ، يشقّ جسد الفضاء ، بعدما وجدتها قتيلة تسبح في بركةٍ من دمها ، وبينَ عشيةٍ وضُحاها توارى الرّجلان فلم يعد لهما أثر ، مرّت الأيام في جهدٍ والقرية تحاول غسل شرفها المدنّس ، حتى استطاعت بعد لأيٍ ؛ طيّ صفحة " وزة" إلى الأبد ..

محمد فيض خالد / مصر



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى