محمد فيض خالد

اعتقدت أنَّ كُؤوس الحُبّ سَتصفو، وموائد الغرام ستظل قائمة لا تنفض، وأنَّ عهود العِشق والوفاء سَتبقى على حَالها لا تُمس، تَعاهدت هي و”حسن” صغار على الإخلاصِ حَتَّى نهايةِ العُمر ، لم يكتف منها بجَمالها الفتَّان ، ولا ذكاؤها المُتوقِّد ، وحِرصها على أن تُعمِّر بيته بخيراتٍ الدُّنيا تُعَاونه على...
ظَلَّ عمره يَتشوّق ابنا ، يَحمِلُ اسمه ويبقي ذِكره بعد فَناء، هَكذا حَال أبناء الطِّين ؛ لابُدَّ وأن يرَوا أثرهم بعد الرَّحيل عَلامةً عَلى الفَلاحَةِ ، فالجدران وأشَجار الكَافور والنَّخلاتِ المُعمِّرات أطلال تُكابِّر ، تُذكِّر الحَيّ بالميتِ ، الشيخ ” محمد الأبيض ” انتظر حَتّى احرقه لهيب...
حَتَّى وإن حُرمت وضاءة الوجه ، وحُمرة الخَدَّين ، وتلِك مَقاييس الجَمال الرِّيفي الباهت ، لكنَّها أُوتيت نَصيبا مُوفورا من جَاذبية ، في جَسدٍ سَمهريٍّ طويل ، وتفاصيل أنثى مُكتملة الإغراء ، ردف صقيل ، وصدر ناهد نافر ، وخصر ضامر صلب ، وشعر فاحم طويل في تَموِّج لافت ، وفتنة مُشتعلة بينَ سوادِ...
لا يَعرف أحَدٌ سِرّ خُروجها فّي هَاتِه السَّاعة من الغُروبِ ، تتَرامى عشرات الأسئلة المُحيّرة في طريقها حِين الذِّهاب وحِين العَودة ، ما جَدوى وقتها الذي تَقضيه مُنفرِدة شَاخِصة نحو الأُفقِ المُخضَّب بلحظاتِ الوَداع عند السّنطةِ، من فَوقِ ظُهوِر دَوابّهم يرمونها بنظراتهم المُفترسة، تَدور...
لمَحتهُ لأوَّلِ مَرّةٍ أصيل يَومٍ صَائف، يُمرّر كُمّ جلبابٍ صَعيديٍّ واسع، يَزيحُ في عَصبيةٍ عن وجههِ المُغضّن خُيوطا رفيعة من العَرقِ ، يَضربُ كَفا بكف فيما يُشبه الهَوس ، مُحوقِلا يتَعالى صراخه من فَينةٍ لأخرى ، في زَعيقٍ مُخيف يُنبىء عَنْ أنّ صَاحبه فّي ورطةٍ مُؤكّدة ، يَتحرّك مُهتَز العُود...
مُنذ خَطّت قَدمي فاغبرّت بهذه البلاد ، وأنا أرى عَجَبا عُجَابَا ، في البِدءِ شَقَّ الأمرُ ريثما اعتاده ، استدعى إيقاظي في سَاعاتٍ اللّيلِ وبواكير نهاري ، قديما عوّدت نفسي ألَّا انتَزعها من الفراشِ قبل أن آخذ قِسطَا من الرَّاحةِ كَافيا ، وإني والله لفي عَجب ؛ إذ كَيفَ الانصياع لهذه الأمور...
أطالِعُ بعينٍ تتَحاشى أن تَصطدِم بجهامةٍ غَلَّفت تقَاسيم وجهه الأسمر الفاحِم ، يَشرخُ في عُنفوانٍ مُفتَعل الفَراغ ، مُتأبِّطَا دفاتره ، مُمسِّكَا بيدهِ حقيبةً جِلدية متوسطة القيمة ، تَدلُ هَيئته في هِندامٍ مُتكلِف ، أنّهُ من أربَابِ المِهن المرموقة ، عَلِمتُ لاحِقَا اسمه "عبده " من أبناءِ...
في ممرٍّ ضيق ترَاصّت موائد الطّّبخ ، تهدِرُ فوقها آنيةٍ مُختلفة الأحجام ، بشعة المنظر ، تَهبّ منها روائح نافذة حريفة ، نكهات باردة وحارة ، دسمة وقليلة الدَّسم ، بين آنٍ وآخر تَقتحمُ هدأت المكان " طشّة" عنيفة ، تعبق ما حولها ، ينُبئك أزيزها المكتوم ، أنّ صاحبها من أمهرِ الطُّهاة ، فهذه الجَرأة...
لم تكن الرصاصة التي اُطلِقت من مجهولٍ على زوجها ؛ فأردتهُ قتيلا بينَ حَشايا الحقولِ ، غيرَ البدايةِ التي خطّت لعائلتها الصّغيرة هذا المصير البائس ، واستباحت طمأنينتها وهي الآمنة ، ما ادّخرَ " عبدالشهيد " من حطامِ الدُّنيا ، إلّا بندقيته الهندي ، التي حرّزتها النيابة بعدَ الواقعةِ، ورواسبَ من...
في وقتٍ لم أكُن فيهِ غَيرَ قِطعةٍ من اللَّحمِ، لُفت في أقماطِها ، تتقاذفها الأيدي في تأففٍ، وتتبعها العيون في اشمئزازٍ، قالت "كريمة"الدَّاية ، مع أولى صرخاتي :" تتربّى في عِز أبوها "، قذفتني مُكرَهة لجدتي ، التي غَامت الدُّنيا في وجهها ، لتَضعتني فِي غَصّةٍ بجِوارِ أمي التي كانت في سكرةِ ،...
ما أقسى تَصاريف الأيّام ، ها أنا ذا انصرِف عن طريقي الذي سَلكتهُ خمسة أعوامٍ ، تَتردّد في صدري مشاعرَ الكُره، اجدني بمفازةٍ من العذابِ في وجهةٍ اطويها ، اُطالِع مطلع كُلّ صباحٍ طريقي ؛ من عينينِ تجولُ بهما أطياف الدَّمع ، لا يَعرِفُ ما أُكَابِدُ غيرَ حقيبة كتبي ، التي اُتخِمت بحملِ بعيرٍ، كتب...
مرّت الأيّام يقطر في إثرها عمره ، يتألق في عينيهِ بريق الأمل ، يُطالِع شبحهُ حينَ يتراءى فوقَ ماءِ التّرعة ، يغرفُ غرفة بيدهِ يلَطمُ بها وجهه النّاحل عابثا، تمتزج قطراتها بدموعهِ المنسابة ، يُساورهُ شعور الكَمد ، لا يجد دون نيران صدره مَصرِفا ، حين يشخص بصره قبالة ذراري من حولهِ من أبناءِ عمومته...
لا يَزالُ لوقعِ رَحيلهِ لوعَة يأسف عليها أهل القرية جميعا ، تتجدّد شُجونها غمّا، كلّما تناثرت "كيزان"طلع ذكور النّخيل ، يملأ غبارها الغيطان ، في مثل هذه الأثناء ، وبينما الوجودُ يُراقِبُ في كمدٍ ظِلال المَغيب ، ماسِحا بكفهِ رؤوس النَّخيل ، اقبلَ " بركات السِّكي" يُنوحُ نواح الثّكلى، ويندبُ حظّه...
راحَ يطوي خطواته المُثقلة تحت قطراتِ الطّلِّ ، تعوّدَ الخروج في هاتهِ السّاعة المتأخرة من اللّيلِ ، يقضي ساعات طوال بجوارِ " الغفر" في الخُصِّ ، هناك على مشارفِ القريةِ ،حيثُ نوبات حراستهم، لا يعود من مكمنهِ ، إلا مع غَبشِ الفجرِ ، لا يَملّ من النّظرِ إلى البنادقِ المُعلّقة في جذعِ الصفصافةِ...
ارتعشت الابتسامةُ خَجلة على شَفتيهِ السُّمر، اَمسكَ " المدراة" في يدهِ يُقلِّبها في خُيلاءٍ ، بَدت كَالعَروسِ المَجلوة ساعة زفافها، في زفرةٍ موجعة نَفَثَ الدُّخان كثيفا، حَكّ أنفه في عنفٍ، كمن ينتشل نفسه من أحضانِ الذِّكرى ، ألقى ببصره يمرح قليلا في سكونِ الفضاء الملتهب بحرقةِ الشّمس، هزّ رأسه...

هذا الملف

نصوص
113
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى