محمد فيض خالد - المقروطة

راحَ يطوي خطواته المُثقلة تحت قطراتِ الطّلِّ ، تعوّدَ الخروج في هاتهِ السّاعة المتأخرة من اللّيلِ ، يقضي ساعات طوال بجوارِ " الغفر" في الخُصِّ ، هناك على مشارفِ القريةِ ،حيثُ نوبات حراستهم، لا يعود من مكمنهِ ، إلا مع غَبشِ الفجرِ ، لا يَملّ من النّظرِ إلى البنادقِ المُعلّقة في جذعِ الصفصافةِ.
أحيانا لا تكفيه نظرات جائعة يختلسها ، بل يُجازِف ، فيمدّ يده متهورا ، يَتحسّس في نشوةٍ كعبها الخشبي ، صارَ غرامه بها في جحيمٍ وفِي نعيم ، لم يعد يطيقُ صبرا ، ولولا بقية رهبة لامسكَ بها ، ولوّح طربا في الهواءِ، هذا حلم حياته ، وهوىً يذيبه منذ كان صبّيا .
في مراتٍ يستبدّ بهِ وجده ، ويحتال عليهِ شيطانه ، فيخال نفسه وقد تأبّطَ حزامها الميري العريض ، يتهتّك لحظتئذٍ شغاف قلبه ، ويده ممدودة نحو الزِّنادِ ، وقد شرّعَ فوهتها عاليا في السّماءِ ، وأخذَ في إطلاقِ وابلٍ الرّصاص من فوهتها ، يركن رأسه الصّغير على جدارِ الخُصِّ، يمتصّ الفضلة الباقية في كوبِ الشّاي في تلهي ، تغشاه بعدها نوبة يصطرع فيها هزة وهيام ، سريعا يستعيد وعيه ، يجاهد كي يضبط ما اهتاجَ من أعصابهِ وتلف ، يترك المكان وقد اجهدته نوازع نفسه الجياشة ، وأمنيات تنسلُّ من سويدائهِ ، تُنيرَ عقله في تلك السّاعة الواغلة في جَسدِ الليلِ .
هكذا استسلمَ لصرخاتِ الرّغبة التي وقعت من نفسهِ أجلّ موقع ، يدفع نفسه على عمايتها ، والأفكار السُّود تنهش رأسه المُثقل ، ولا همّ له إلا " المقروطة" هكذا يُطلق في الرّيفِ على السِّلاح الناري ، يُمنّي نفسه امتلاكها ، ففيها الوجاهة والعزّ، تخلو الطّريق بهِ، فيعمد إلى فرعِ صفصافٍ طويل ، يضعه فوقَ كتفهِ ، ثم يبدأ عرضه ، خطوات يخطوها راتبة كخطواتِ الجنود ، وصيحاته تتعالى تشقّ حجاب الصّمت المُطبق من حولِ الحقولِ ، وفِي نفسٍ واحدٍ يُردّد : هب هب .. واحد اتنين .. تلاته ، لا يسأم نرداد عباراته الحماسية تلك ، وقد خَلَعَ عنه كُلّ رزانةٍ، وبعدَ لحظات يشعر بغصةٍ في حلقةِ ، وأنفاسه تتلاحق مبهورة ، إذا فعليه العودة للدارِ .
ما إن يطرق الباب ؛ حتى تستقبلهُ والدته العجوز ، بعباراتِ اللّوم والتقريعِ ، لقد ألِف حياة البطالة والتنّبلة ، وهَجَرَ أسباب معاشهِ بين فتيان القريةِ ، تسكُب بين يديهِ العَبرات الحِرار ، تُذكره بؤسه وفقره ، تعتريه عندها الآلام ، بعد إذ تحطّمت آماله وصارت ركاما ، تهدأ بعد قليلٍ ثائرته ، وتخمد جذوة غضبه ، ليأخذَ في استعطافِ الوالدة الباكية ، التي جاهدت كي تنال منه وعدا ؛ ولكن بلا فائدة تبخّر الرجاء ، تعاوده وساوس شياطينه ، ليندفع في حماسٍ يرمي بكلامهِ المعسول إليها ، فغدا ولا ريب ، ينتظر هذه الدار المستقبل الزّاهر ، غدا سيصبح من مشاهيرِ القرية والزِّمام ، فتجارة " المقروطة" هي سبيله الأكيد .
هكذا سارت حياته ، وهكذا استسلم لسكرةِ أحلامه ، يترع منها راضيا ، ينتظر ابتسامة الحظّ ، تُنير سبيل أشباح غده الموعود .
وفي يومٍ من الأيامِ ، صحت القرية على فاجعتهِ، امتلأت الدّروبِ برجال الحكومة وعسكرها ، بعد أن عقد صاحبنا صفقته الأولى ، فباعَ " المقروطة" لتاجرٍ من البندرِ ، اتضح في الأخيرِ ، أنّه من رجالِ المباحث .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى