محمد فيض خالد - ع النَّاصية

لمَحتهُ لأوَّلِ مَرّةٍ أصيل يَومٍ صَائف، يُمرّر كُمّ جلبابٍ صَعيديٍّ واسع، يَزيحُ في عَصبيةٍ عن وجههِ المُغضّن خُيوطا رفيعة من العَرقِ ، يَضربُ كَفا بكف فيما يُشبه الهَوس ، مُحوقِلا يتَعالى صراخه من فَينةٍ لأخرى ، في زَعيقٍ مُخيف يُنبىء عَنْ أنّ صَاحبه فّي ورطةٍ مُؤكّدة ، يَتحرّك مُهتَز العُود يَحترقُ غَضبا بِضع خطوات ٍ، قد امسكَ بَطرفِ جِلبابه تَرتعش يده التي تيبّست عليهِ ، رَيثما يَعودُ سيرته الأولى مُستَظلا تحتَ شٍجرةٍ هزيلة الظّل ، يَرمي ببصرٍ حَاد بينَ طَبقاتِ الفضاء المُلتَهِب ، يَقرضُ أنياب الغيظ ، وكَأنّما يُطالِعُ شَبحا تَراءى يُخايله في اجتراءٍ ، بيد أنّه في غربته تلك لم يسلم من فضولِ بعض المارة الذين اغرقوه بتعليقاتهم السَّخيفة ، وتلك عادتهم ، حين تهافتوا عليه كالذباب ، جذبتهم نبرة صوته وحركات تمثيلية اندمجَ فيها في عَفويةٍ، وأيمانٍ مُغلَظةٍ تتطايرُ يَمنةً ويَسرة ، وهيئته التي جَعلت منه صَيدا ثَمينا لعَدساتِ هواتفهم المحمولة ، وكَأنَّ مَخلوقا هَبطَ من كَوكبٍ آخر .

لم يجد مِن بُدٍّ إلّا أن يَندفع في عِمايةٍ ، ليشرع فيّ وصلةِ سِبابٍ فاحش ، بعد إد يَئس فيّ رَدِّ مهاتراتهم ، وتْلك طَبيعة الجَنوبّي حين يشعر بالامتهانِ عندها ينتصر لكرامتهِ مَهما كاَنت الكُلفة ، انصرفَ القومُ عنه بعد لأيٍّ ؛ ليعود صاحبنا أدراجه حيث كان مُكفَهرّ الوجه يُكمل مكالمته وكأنَّ شيئا لم يحدث ، من الوَهلةِ الأولى لم نكَن على وِفاقٍ ، فتحياتي التي ألُقيها حَارّة عليه معَ كُلِّ مَرةٍ ، لم تصنع منه ذلك الشَّخص الودود الذيّ يَردُّ سَلاما بسلام ، جَاهدتُ طويلا في تنويعِ نغمات صوتي ومخارج حروفي ، لكنّي فشلت ، حتّى اللحظة لا اعرف سِرّ تصميمه المُخيف وترفعه ، كيف لا يَرد السَّلام يا له من جِلفٍ سخيف ، حاولت مرارا الاقتراب منه ، صدقني لا اعرف مُؤتى تلك المغامرة فلم احسب لها حساب ، لكَنّي تَوقّفتُ حينما اعتبرتها نوعٌ من المُخَاطرةِ ، خاصة والرجل في هَيكلهِ يبدو كوَحشٍ ضاري ، يتراقص شاربه الفِضيّ الطَّويل كقرونِ الجَاموس فوقَ شِفاهٍ سَمراء ، نظره الَحادّ المُخيف ، ووجهه العبوس الذي لم تبلّ جلده الابتسامة يوما ، ناهيك عن جبَهتهِ العَريضة اللاَّمعة في تَوتّرٍ ، خشونة الجنوبي ولكنته الجافة ، عدم اكتراثه بالمحيطين مهما كانوا ، كُلّ هذا الزمني الحَدّ .

زادَ هذا فيّ إصراري ، اقسمت بيني وبين نفسي أن أَجِد يوما مكانا إلى جوارهِ مهما تكلفت ، لماذا هذا كله لا اعرف ، لا اعرف لماذا تركت أشغالي وجعلت من هذا الجنوبي شغلتي ؟!

في الآونةِ الأخير بدى واهِنا على غيرِ العادة ، حتى صورته المرتسمة بقوة مزعومة ، وصوته الجَهوريّ يخفي اضطرابا صريحا ، نظراته المحتضرة لفتت انتباهي ، حِدّته الزَّائدة عن المعقول زادت من ضعفهِ ، تباطأت في سيري ذاتَ عشيةٍ ، الملم بعض ما تناثر من حديثه ، يعرك جبهته بيده مأخوذا في حديثهِ ، ثم يغيبُ في نوبةِ صمتٍ طويل ، يَطرقُ دقيقة وكأنّ قشعريرة تتمشّى في بَدنهِ ، تضطرب يده في ضعفٍ وخوار ، يُجيب مُحدِّثه بكلمةٍ واحدة تنتزع روحه معها :” يعني خلاص ، انتهى الموضوع يا مرحبا به “، مررت يوما لم يكن صاحبنا مكانه ، تريثت قليلا ، تلهيت في ضَجرٍ اقلِّبُ هاتفي ، إلى أن اقبلَ متثاقلا في مشيته ، يجرُّ قدميه جَرّا ، تجاهل حبات العرق التي تجمّعت فامتلأت بها نتوءات رقبته ، تَقدّمت منه مُحيّيا ، هالني ما سمعت ، فقد رَدّ تحيّتي في شبهِ ابتهاجٍ ، انصرفتُ عنه فيّ عُجالةٍ ، تلهيتُ لأيامٍ لا احصيها ، مررت ذات ظهيرةٍ ، فلم أَجِده ، تَكرّر انتظاري صَاحبّي ، لكنَّه لم يأت ، لم تعد لهُ من باقيةٍ ، لاحِقا شَاعَ النَّبأ ، كانَ ” صالحين ” طَريدا ثأر يَطلبه منذ سنين طويلة ، قَضاها في غُربتهِ ؛ إِثر مُناوشة بين جيرانِه في الحقلِ، سَوّلت له نفسه فيّ النهايةِ قتلَ جاره ” عوض” فأرداهُ قتيلا ، انتظرت زوجة القتيل إلى أن يكبر ” سويلم ” أكبر أنجالها ، فأرسلته يتعقّب قاتل أبيه ويَعودُ بخيرهِ وقد كان ، تزاحمت سيارات النَّجدة قد تَراّص رِجال الإسعاف ، وامتلأت النوافذ بسكانُ البنايات للفُرجَةِ ، وشَابٌ فّي عُمرِ الزُّهورِ شَامخٌ بأنفهِ ، مُتباهِيا فّي أصفادهِ ..

بعد أسبوع مررت في ذَاتِ المَكان ، لأجدَ ضَيفا جَديدا قد حلّ ، لكنّي لا اعرف ما وراءه ..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى