محمد فيض خالد - يا جريد النخل العالي

لا يَزالُ لوقعِ رَحيلهِ لوعَة يأسف عليها أهل القرية جميعا ، تتجدّد شُجونها غمّا، كلّما تناثرت "كيزان"طلع ذكور النّخيل ، يملأ غبارها الغيطان ، في مثل هذه الأثناء ، وبينما الوجودُ يُراقِبُ في كمدٍ ظِلال المَغيب ، ماسِحا بكفهِ رؤوس النَّخيل ، اقبلَ " بركات السِّكي" يُنوحُ نواح الثّكلى، ويندبُ حظّه مَفجوعا فوقَ حمارهِ، ما إن بَلغَ مَشارِف البيوت إلّا وهتَفَ مُتَوجِّعا:" لقد سقطَ قاعود من فوقِ نخلة السيد "، كَان لحديثهِ صداه المُروّع، امتلأت الجسور بأهلها يُجفِّف الحزن القلوب ، لبست الدُّنيا قناع الكآبة فوق وجهها المغبر ، لم تخلع " زبيدة " لباس حدادها مُنذ طارَ لبّها ، لحظة رأت ابنها مُجندلا في ثيابِ الموت، لم تلوث شفتاها الابتسامة ولو سرقة ، تُطالِعُ في ذهولٍ النخلة التي سقط من فوقها ، تغيبُ للحَظَاتٍ عن أفكارها ؛ إيذانا باطلاقِ سلسالِ الصّراخ المُلتَهب ، لحظات وتنقضّ عليها تكيل اللّكمات لجذعها وهي لاهثة ، تُردِّدُ مأخوذة :" سوف اجتثّ أصلك أيّتها الملعونة ، والأيام بيننا " ، وبينما تهدد وتنذر تطلق صوتها في تباكي :
يا جريد النخل الغالي
طاطي وارمي السلام
واعمل ايدي مخده
واسبل عيني وأنام
وإن عشت يا بوابة
لأعملك ديدابان
يثير شدوها لواعج النِّساء العائدات من الحقولِ ، حتّى بدت بعد هنيةٍ عليهِنْ نذير شؤومٍ ، جاهدن طويلا في تحاشيها ، تقول " مستورة " وابتسامة ترتعش خجلة على شفتيها :" هَمّ يضحك وهمّ يبكي " ، أما " سكينة " خطيبة القتيل ، فقد وجدت نصيبها مع رجلٍ غيره، حتّى وإن بقي لصاحبها أثرة من محبةٍ تُخَامِر قلبها، تَذكرهُ بها في خَبيئةِ نفسها ، تنتَفضُ كَقطٍّ شرس ساعة رؤيتها ، قائلة في وجدٍ مَشبوب : " منها للهِ هي من قوّت قلبه صغيرا على طلوعِ النخيل حتّى أردته قتيلا !"،تعلّقَ صبيا بالنخلةِ، يضم شفتيهِ عن ابتسامةٍ صِبيانية يُطالِعُ جريدها المتهدِّل ، تمنّى ألفَ مرة أن تجري بهِ الأيام ؛ ليكبر ويصبحَ في زُمرةِ الرِّجال ، يُصارح أمه في تلهفٍ ساذج :" أريدُ أن اكبر مثل خالي عنتر ، اتخذ بيتا في شواشي النّخيل"، تضمه في حنوٍ للحظات قبل أن تطلقهُ ، مُستغرِقا في لَوامع أفكارهِ ، ينَتفض من بينِ أيديها كعصفورٍ صغير ، يضربُ بجناحيه، يُجاهدُ في استماتةٍ وقد احتضنَ بذراعيهِ "الكرناف"، يرمي ببصرهِ مليا ، يجد في نفسه شيئا من اللومِ ، تنزلق قدمه تحتَ تأثير الرغبة العارضة مُتَعثِّرا ، يَعودُ سريعا يحملُ نفسهُ على سجيتهِ يُكرِّر المحاولة ، لا ينتزعهُ من خضمِ أحلامه غيرَ صوت والدته يَأتيه مُهدهدا، يحثه العودة للدارِ، مشت بهِ الأيام ، ومشى معه حِلمه يصحبهُ كثوبهِ، يتَخطَّفهُ في تَشوّقٍ؛ أن يُحلِّق كطيرٍ قوي لا يحجبهُ عن قُبةِ السَّماء حِجاب، اسلمَ قياده لهذه الأماني ، أصبح بعد هنيةٍ لا يُرى إلّا مُتربّعا فوقَ الجريدِ ، قد هيّأ لنفسهِ مُستقرّا يُلازمه ، يقول " حسين الحُصري ":" عجيبٌ أمر هذا الغلام ، إنّه كغراب ٍ عجوز لا يحطُّ إلّا قمم النّخيل ، تُرى ماذا يُخبَّئ القدر لهذا المُغامِر الجَرئ؟!"، لا تستعص أمامه نخلة ، تراه يجري فوقَ جسدها الخشن جَريا ، حتّى يلُامس قلبها ، ثم يشرع في عملهِ، لا ينشغل بأجرهِ قدر ما تستهويه النخلة نفسها ، حَذّره خاله من التَّهاون في استخدامِ " المطلع " اللّيف ، يضحك ملئ شدقيهِ ، وقد أضاءت السُّخرية وجهه:" مطلع إيه عيب ، المطلع دا للعيال ؟!"، وفي يومهِ الموعود ، وبينما الدِّجنة تغزو حواشي الأفق الصَّافي ، وطيور الجو تعزف نشيد الوداع ، امتلأ الفضاء بصراخٍ كئيب ، قادمٌ من جهةِ الشّرق، ليحمل النّاعي هلاكه ، بكتهُ القرية كما لم تبك ميتّا من قبلِ، بدت الحقول قاتمة يلفها الحزن ، يذكر "رمضان الحلاق "ذاكَ المساء جيدا ، يقول في مرارةٍ:" لقد ذبل جريد النخيل ، وكفّت نخلة السَّيد عن طرحها حتى ماتت، وفقد البلح حلاه "، شاخت " زبيدة" ولعب بها الكبر، حطّت رحالها قعيدة دارها ، لكن ذكراه لم تشيخ، حرمت نفسها أكل البلح ، لا تمسّ يدها شيئا من أثر النخيل ، اللهم إلا " الجمار" ، تلوكه بين أسنانها المهترئة في غرابةٍ، يتدفق البِشر من قسماتها ، تدندن كلمات لحنها القديم ، سألتها ذات مساء :" لماذا كُلّ هذا التَّلذذ من الجمار ، وكراهيه سواه ؟!" رمتني بعينٍ حَمئة ولم تجِب، غابت في قضم يُشبه التّشفّي ، تُطالِعُ الفضاء الهامد أمامها ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى