محمد فيض خالد - غَالية

في مَكَانٍ ما حيث وضَعت الطَّبيعةُ مولودهَا البِكر ، يَحبو نَحو النُّور ، بقعة ريّانة ما بينَ الماءِ ورِمالِ الصَّحراء الذّهبية، يتجلى الجمالُ كيومِ خَلَقَ الله الأرضَ وأرسى فِجَاجَها، لا يشوب الأجواء كدر من قُبحِ الحياة ، شَاء القديرُ أن تنمو تَحتَ لحافِ السّماء الفضيّ ، قصة حبٍّ خَالدة خُلود النّعيم ، في هاتهِ الواحة المعزولة عن ضَجيجِ الدُّنيا ؛ أهدت ربّة الحُسن والجمال أهلَ بيتٍ فقير ؛ جوهرة طافحة بالحُسنِ والخِفة " غالية " هذا اسمها ، نقية السَّريرة وادعة الطّبع، يتفجّرُ من عينيها العسليتين الكحيلتين روعة الوجود ، يتولّد من فتنتها نورُ القمر وضياؤه ، تسري ضحكتها ملفوفة بثوبِ الدلال ؛ مروجَا خُضر ، تزهو ساطعة بالطُّهرِ والعَفافِ ، تُسَبِّحُ خالقها الذي سَكَبَ اللّطافة في قالبٍ إنسيّ.
مُبكِّرا اجتمعَ شمل " غالية " و" سرحان " فتى تترقرق في قَسماتِ وجهه براءة ساذجة ، رقيق الحال ، لكنّ بريقا من التّحدي يلَتمعُ في جوهرهِ ، تجيشُ نفسه بالأماني ، يحملهُ حبه لأن يقاوم المستحيل ، يدور كُلّ هذا تحت سمع وبصر جدة " غالية" التي باركت حبهما، ورعت نبتته، لكن يالسخَف الحياة ، كعادتها تُعكِّر صفو البراءة ، فها هي ذا تَضنّ عليها ساعات هناءتها ، تستكثرُ ما تَختَلسهُ من ومضاتِ في رياض الحُبّ الطّاهر، لم تكن " غالية " لتهنأ ويستقرّ بالها ، ومن خَلفها أب همّه من الحياةِ إشباع غواية رأسه ، لا يبرح سكره ولا يفيق عن عربدتهِ حتى يعود فيها ، تومض عيناه بشررٍ خسيس ، كأنّه ذئبٌ مسعور ، غَلَبَ علَيهِ طبعه فاكتست ملامحه سمة الإثم، تخايله ملذاته ، يبيع لأجلها نفسه لو استطاع سبيلا .
عَادَ " محروس " الغندور من ليبيا مُحمّلا بثروةٍ عظيمة ، امضى ربيع عمره لأجلها ، لم تكن " غالية " بعيدة عن أمانيه ، يتراءى شبحها فيسكب في أحشائهِ لظى من العشقِ ، سريعا ارتمى والدها بينَ أحضانِ نعمته مسلوبَ الإرادة ، ولِمَا لا؟! طَالما سيوفِرَ له النّقع الذي يتجرّعه ، يقولُ الرّجلُ مُتَبَجِحَا بكلامٍ سَخيف :" ما المانعَ أن يصبح "الغندور" حبيبا وصاحب البستان ، يقطف من ثَمرهِ أنّى شاء طالما دفعَ الثّمن"، تتسربل عيونه بخيوطِ الخَطيئة فلا يقيم للنخوةِ وزن ، لم يجد الحبيبان من بُدِّ إلّا الهرب .
ارتبكت الشّمس وقد طوّحت بخيوطها ناحيةِ الغَربِ في تكاسلٍ ؛ كأنَّما تنتظرُ حَدثا جللا ، كانَ الصَّندل يشقّ عباب الماء جهة الشَّرقِ، لحظتئذٍ انهَمَرَ الرّصاص مطرا ، اندفعَ " سرحان " ليبَتلعهُ البحر في جوفهِ، ويسدل عليهِ الظَّلام سِترا من سواده ، أذاعَ والدها في الواحةِ ؛ أنّه غَسلَ عاره بيده ، وأنّ الآثم نَالَ جزاءا موفورا ، كانت البيوت قد افرغت ما لديها من كلامٍ ، أمّا " غالية " فمصابها في حبيبها لا تسليه الأيام ، مع الوقتِ اختلطَ عقلها لمّا تأكّد هلاكهِ ، وفي ابتسامتها الذّابلة ، وضحكاتها المجنونة ما ينبئك بمصابها ، بلا جدوى جَعَلَ " الغندور " يُعالِج طِباع صاحبته ، بعدما طُمِس بريقها ، وأضحت غيداء الواحة هَملا لايُذكَر ، لازمت المعدية من مَشرقِ الشّمس حتّى المغيبِ ، تَهمسُ للماءِ مخبولة بكلامٍ غامض ، اشفق الناس عليها ، عدا والدها الذي بدت عليهِ صُفرة الموت ؛ يَلعنُ صاحبها الهَالِك ، ويبكي آماله المبددة ، في الغربة قبعَ " سرحان " بعدما نجا من موتٍ محتم ، معتصما بذكرى ماضيه، تتأرجح قلقة على أمواجِ الزمن ، يرقبُ في مرارةٍ ساعةَ رجوعهِ الواحة ، ودّ لو افتدى حبه بمالهِ وما بقي من حياته ، عَادَ ويا خيبة آماله ، أذهله حال " غالية " بعدما سَلَبت الحياة عنها نعيمها، ومن قَبلهِ عقلها ، حتى استلمها شَبَحا غارقا في لُججِ الضّياع ، جَاهدَ ما وسعهُ كي يعيدها سِيرتها الأولى لَكنّه فشل، لم يجد إلّا العودة من حيثُ أتى ، لازمت" غالية " أمام المَعدّيةِ ، حتى انقضى أجلها ،
لتَظلّ سيرة حبها؛ وسما يتردّد في رُبوعِ الواحة حتّى يومنا هذا ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى