محمد فيض خالد - العقد الفريد.. قصة قصيرة

بَاتَ اخشى ما أخشاه؛ وطأة أصَابعها القَاسية، تَغرزها في جِلدي، تُمرِّرها بغلظةٍ حَول رقبتي المُلتهبة، اشعر بانسحابِ روحي لحظتئذ،تَهرس اللَّوزتين هَرسا مُؤلِما تَحتَ شَلالِ الزّيت الغامق ، تُغرِقُ في هَوجٍ كُلّ شيءٍ حتّى ملابسي، يَتسرَّبُ فوقَ جلدي خيط بارد ، يَتَشبّعُ بهِ جسدي الذي انتَفضَ تَحتَ نيّر الحُمى يَصطلي لهيبها، لم تُفلِح تَوسلاتي ولم تشفع أنّاتي، تُمرّر "الجدّة" يدها في سكونٍ ولذة ، وكأنّها تَعزِفُ لحنا موسيقيّا ، ومن حَولها تَراصّ الصّغارُ في فُرجةٍ مُفزِعة، مع الوقتِ تَتصاعد رائحة الزَّيت العَطنة، تملأ أنفي تسدّ عليّ مجرور الهواء الذي يوشك أن ينقطع ، أخيرا انهت مهمتها، صَرَخت بنبرةٍ قلقة:" ناوليني عقد الفره يا بت"، نزلت هذه الجملة بردا وسلاما على صدري لتنزع عنها شكوكها، لحظات قليلة سيطرتُ فيها على لهاثي المكروب ، أُلقي بطَرفِ عيني عليه محمولا بين الأيادي كوليدٍ مُدلّل، تتأرجحُ حبات ( الزلط) الملوّن في زَهوٍ، يُحدّثُ نَغما مُريحَا ، يُخيّمُ مزيج الألوان المُتآلِف ليَنفضَ عَنّي بقَايا الذَّاكرة السَّيئة، يقولُ الشَّيخ " فاعود " :" عقد الفره تركة يتوارثها آل الشيخ ، هي أحجارٌ كريمة ، هبطت من السّماءِ"، يتناقل أهل القرية مُؤمّنين، رؤيا الخالة " زكية " حين زارتها الشَّيخة " أم الخير " ابنة الشِّيخ " عطا القليوبي" في المنامِ فوصفت لها العقد ، بعدما عَجَزت جميع الوصفات أن تشفي رقبتها ، جَلّ خطره، واكتسب آل الشيخ مكانة فوقَ مكانتهم، يَطرقهم المريضُ في توسلٍ إطراقَ الذّاهل، وقد تفتّحَ لقلبهِ اليائسُ فُرجَة مِن أمل ، أقسَمَ " سيد الحرامي " بتربةِ أمّه؛ إنّ العقد فيهِ سرّ عظيم ، قَالَ في صَوتٍ مِلؤه الجَدّ:" حَاولت سرقته وبيعه لمشترٍ في البنّدرِ، وعند القنطرةِ حَرَنت الحمارة ، فرمتني فاقد الوعي "، تَحت شمس الضُّحى الوليدة ، استجمَعَ بقايا عافيتي ، اتلمّس حَبّاته الغلاظ مُنتشيا، تنبسطُ الارض أمامي كمن آوى إلى رُكنٍ شديد ، تتزاحم الكلمات في حزمٍ تُوصيني بالعقدِ، تمتلئ العيونُ تلقاني في شهوةٍ غريبة ، وهمسات النّسوة تتغنّى بالعقد وفعله، حَاولت مرارا أن اصنَع شبيها ، التَقط حَبّات ( الزلط ) بألوانها الفتّانة ، اجاهِد في إحداثِ فجوة فيها بمسمارٍ محمي ، باءت محاولاتي بالفشلِ، نصحني الأهل أن اعدِلَ عن هذا السّلوك، فهذه الأحجار ليست من صخورِ الأرض ، بعد أسبوعٍ بالتمام جاءنا من يطلبُ العقد ، اقتربت عجوز مني ، نَزعت عن رقبتي المنديل ، وفي خشوعٍ أزالت " العقد " ، بابتسامةٍ نحيلة يملأها الزّهو ، برَقت بعينين، قائلة:" أحسن الوقت ؟!"، استجمعت شجاعتي المُوزّعة ، هَززتُ رأسي مُجيبا:" الحمد لله ".

ها أنا ذا اقضي جُلّ نهاري في عِيادةِ الطّبيب انتظر لابني موعدا ، بعد مُعاناةٍ ؛ أوصى بحتميةِ استئصال اللَّوزتين ، تتسلّل شمس ما قبلَ حلولِ المساء فاترة على غيرِ وهجها المعتاد ، تقف مُودّعةٌ، اجدني انتزع نفسي من براثنِ الذِّكرى، اتحسّس رقبتي ، مُتمنّيا للجميعِ السّلامة ..



محد فيض خالد / مصر
-

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى