محمد فيض خالد - الولهانة..

منذ فترةٍ لم يُسمع صرير بابه، لكنَّ سُعاله اليابس متواصل لا ينقطع، من غبَشِة الفجر وحتى مقدم المساء ،وحدي من يعرف حكايته القديمة مع “روح” أو بالأحرى” الحاجة روح” هكذا يُطلق عليها بعدما أصبحت جدة، لكن من يراها لا يعتقد غير أنَّها أنثى في الثلاثين، فرونق الِهندام، ومَلاجة الوجه، وفتنة الشباب وليونة الجسد تُلازم المرأة، تضحك فتملأ ضحكاتها صِّبيانية الرَّنين قلوب الرِّجال، حتى طلعتها الوضاءة تترك العيون تنهشها ، وتحوم من حولها الأفكار السُّود ككلابٍ مسعورة ، تُومِض وميض النار في عقولٍ أسكرها خمر الحب واتلفها الانتظار ،لكن عزوة المرأة تلجمهم في الأخير.

وحَده من له الحقّ أن يستوقفها في الطَّريقِ، حَتّى وإن أزَعَج حديثهما البَاسم الهَامس في أغلبهِ الحُسّاد، يُخرجه عن طورهِ صوت حليم يتأتَّى من الراديو :” سافر من غير وداع ..وساب لقلبي جراحه..تهت في ليل السهر والعيون مارتاحو”، تتَبدّى من أعماقهِ أحاسيس فاضحة، يَشعر بشغافِ قلبه تَتهتَّك، وأنَّ الهوى يذيبه، يُجاهد مضطرا كي يخفي في قلبِه ما الحب مُبديه، لكنه لا يجد من وسَيلةٍ غير أن يَسكب نظراته في كُؤوسِ عينيها عَلَّه يَتلهى.

كانَ صَاحبنا في مَاضيهِ موظفا له مكانةٍ ومنصب ،ومائة من الجنيهات راتبا يسيل له اللُّعاب، وحُظوةٍ من أهلِ القريةِ الذين تَمنَّوه صهرا لبناتهم، لكنَّه اكتفى من حياتِه بعشق ” روح” حتى ألجأه لأن يبالغ في خنقه ، خَوفا عليه من تقاليدٍ عائلية سخيفة ، ترفض أن ينفلت ابنها ، فيربط مستقبله بابنة ” فوزي الجزماتي”، فنأى بجانبهِ بعيدا تاركا القرية، قابضا على حُبّهِ المطبوع في ذاكرتِه لا يمحيه كَرَّ الأيام، أُكرهت من بعدهِ فتاته فَتزَّوجت من ” عنتر ” الحلاق، الذي غلبه طيش المفاجأة ، فلم يفكر في ماضيها، ، ليبالغ في إكرامها ،أفرغ جيبه في يديّ الحسناء ،التي قنعت بعد لأيٍ ؛ أن تدفن زهرة شبابها معه بين زوايا بيته الضَّيق ومع عِدَّته اللَّعينة، أخلصت له أيَّما إخلاص ، فصانت عرضه وحفظ كرامته، حتى أغمضت القرية عيونها عن صاحبها ، فطوته في جوفِ الماضي فلم يعد له من باقية.

تُذكِّره أيامهما في تعنُّجٍ فاضح يعتصر فؤاده ، فلا يملك إلاَّ أن يُقلِّب كفيه في استعباٍر وأسى ، يدك الأرص بعصاه الأبانوس ، قائلا في وقار:” كانت أيام وانتهت يا بت الحلال”، لكنَّها تُعاود ضحكتها المجلجلة ، فهي تُوقن أنّه يقتات على ماضي حبه حتى وإن كابر ، يُمّرر يده فوق جبهته، كأنَّه يشاهد دخان نفسه تحترق ببطء ، لم تكن “روح” لتعبأ بأحدٍ غيره، تقول بصوتها الهاجع مستسلمة :” كفاية عليا إني ابقى في قلبه”، كان الربيع قد أفرغ على الحقول جمالها السندسي وأرق غلائلها البهية، وسجع الحمام فوق نخلات بيته ، ساعة توقفت سيارة الأجرة أمامه، تناوب إخوته حمل حقائبه ، تسامعت به فجاءته تسعى ،وقد نزعت عنها وقارها ، جاهدت دمعة رقراقة انحدرت فوق خديها ،اخرج منديله الحريري مرره فوق وجنتيها ، مست يده بشفتيها ، تقول منتحبة في شجن :” مع السلامة يا سيدي”، دوى صوت المحرك، ليبتلع الأفق شبح السيارة ، وتعود مجددا تحسب أوان رجوعه.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى