محمد فيض خالد - شكرا لساعي البريد

سمعتها لأول وهلة من فم " عوضين " خولي الأنفار، تلهب حماستي كلماته المرصوصة في عناية ، حتى وإن جاءت مغلفة بالتزلف، ألقاه متربعا أمام دكان " عبدالمقصود حلاوة " ، رجل جلف ،غليظ الكبد، شحيح اليد، ما إن اقترب منه إلا ويبتسم ابتسامة غائمة يخرجها في تصنع، تلمع لها نابه المكسوة بتلبيسة الفضة ، في هيئة ضبع عجوز ،يدنيني من مجلسه وهو يقول :" والبخاري الشريف عليه خط أحسن من حنين أفندي " ، مسلوب الإرادة امسك بدفتره الكبير المهترئ ، منكفئا في تدوين أسماء أنفاره ، يمليها علي في تأن ، يغيم في عالم بعيد ، يهرش رأسه الأصلع مرة ، ويحك ذقنه الثلجية أخرى، وكأنه يستدعي أسراره من جب سحيق، وقبل أن انتهي من مهمتي ، تسارع كفه المملوءة باللب الأبيض ،فتغرق جيبي الصغير ، في امتنان أحييه صامتا ،اقسم ألف مرة أثناء سيري ،بأني لن أعود لهذا المخلوق ثانية ، لكني افشل عند كل محاولة.
عرف الناس طريقهم إلي وأنا ابن العاشرة ، لازلت أتذكر الشيخ " عرفات الجندي" في هيبته ووقاره، يفترش الأرض إلى جوار مصطبتنا ،قد عبث الزمان بوجهه المغضن ، واستغفاره المتواصل ، يقول متأثرا وهو يملي علي :" قل له الصحة عال والأمور على خير ما يرام "،لازمها في كل رسائله التي كتبها لابنه " مشهور "لكن القدر لم يمهله ، مات الشيخ المسكين قبيل عودة الغائب من الأردن بأسبوع ،لم يهنأ بكده وخيره ،بعد أن ظل أعواما يمني نفسه باليوم الموعود ، الذي يرجع فيه ويفك رهن أرضه ، التي مات كمدا عليها.
كانت " سميحة العايقة "زوجة "حسن مسعود "، أشدهم غرابة ومكرا ، فبغض النظر عن ميوعتها المفتعلة كمراهقة صغيرة ، ورائحة عطرها الفواح ، والكحل المغري يغرق أهدابها ، انتهاء بأناقة جلبابها الضيق، البادي من فوق جسد بض رجراج ، تتعمد استفزازه في نشوة عارمة، اجبرتني على مواصلة التفكير فيها ،حتى قبل أن يأتيني ما يأت الرجال ، تقتحم البيت في تلصص ، تخبئ المظروف بين طيات ثيابها ، تلقي بتحيتها في تنمر مريب ، تتوسل عند كل مرة في استعطاف أن يظل الأمر بيننا سرا ، فالعين فلقت الحجر ،وأهل زوجها يكرهون لها النعمة ولأولادها، لعل ترضيتها بقبضة الشاي الخشن التي تلفها بإحكام في قرطاس ، اجرا يشجعني على تحمل طلباتها ، تظل تعيد وتزيد عن مكائد أمه وتعنت أخوته ، ريثما تكشف عن أمنيتها أن يكن لها بيتا على مشارف القرية كابنة خالتها " اعتدال" ،سريعا تنتهي من طلباتها ، لتختم خطابها بوصلة حب فاحش ، تسند ذقنها المدبب فوق الطبلية وهي تملي ، في شكاية صريحة لوعتها التي فاقت الاحتمال ، تذكره بأيام أنسهما الدافئ ،تغمض عينيها ثوان ، ثم تطلب منزعجة قراءة ما كتبت ، ادفع إليها بالخطاب ، فتمرر شفتيها فوق حافة المظروف تغلقه ،تقبله قبلات حارة متكررة ، تنقر بإصبعها منبهة :" اكتب شكرا لساعي البريد " ، بالأمس رأيتها بعد تلك السنوات البعيدة تسير يتكسر جسدها في عنفوان كابنة العشرين ، قالت لي متبجحة كعادتها :" هل لازلت تكتب رسائل أم تراك قد هرمت؟! " ، تفلتت ضحكاتها مجلجلة ، قبل أن تغيب كشيطان بين البيوت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى