أيقظه صفير القطار بينما كان يحلم بمدينة تطل على البحر .. واندهش، لأنها المرة الأولى التي يستيقظ فيها من حلم قبل أن يرى مشهد دفنه . كانت تلك أيضاً المرة الأولى التي يوقظه فيها باعث واقعي ، فطوال سنوات مديدة فشلت كل الأصوات ، و المحاولات اليائسة لزوجته ، في إخراجه من مناماته.
أول شيء فكر فيه هو هذا القطار نفسه ، القطار الوحيد في المدينة ، و الذي يكرهه تماماً ، فهو صغير ، يعود لبدايات قرن مضى ، و يذكره ــ كلما رآه من نافذته ــ بنعش أصفر . كل سائقي هذا القطار كانوا أصدقائه بشكل ما . كلهم ينتحرون بعد فترة قصيرة من العمل ، و يتركون الآلة المعدنية البدائية تترنح وحدها للحظات ، قبل أن تتوقف عجلاتها فجأة .. قبالة شباك غرفة نومه ، و حيث يكون دائماً قد استيقظ قبلها بدقائق.
فكر انه بحاجة لسيجارة ، فتحسس جيب جلبابه ، حيث ترك علبة سجائره آخر مرة قبل سنوات ، منذ نام آخر مرة . بعدها ثبت طاقم أسنانه ، فقد كان يطمئن فور استيقاظه عليه ، و يثبته بسرعة بينما تعود له الحياة أخيراً، كأنه كان نائماً بدون فمه . لا يستطيع التدخين بدونه ، رغم أنه لم يكن يحتاجه لمثل هذه المهمة.
كان قد بدأ يغيب في اليقظة ، عندم استدار فجأة ، مرعوبا ، على كف أليفة و هشة ، و احتاج وقتاً ــ كما يحدث في كل مرة ــ كي يتعرف على وجه المرأة التي شاركته حياته . لمح في عينيها الدموع المتفق عليها التي كانت تواجهه بها بعد كل مرة يعود فيها سالماً من نومه . بعدها تركته و استدارت لشئون البيت ، عائدة للا مبالاتها التي تعود عليها .
زوجته لم تكن تعبأ بوجوده ، ليس لأنها تكرهه ، بل لأنها أكثر شيخوخة منه .. لكنها على العكس منه تماماً ، كانت بلا أحلام على الإطلاق . لم تر طيلة حياتها صورة واحدة في منام ، و لم يؤرقها ذلك أبداً.
عندما اخترق القطار منامه ، كان غارقاً . انتشلته الأيادي بالكاد من قاع البحر و بدأت الهمهمات تدور حول طريقة دفنه.. و استيقظ الرجل و هو لا يعرف أين مقبرته في تلك المدينة الساحلية .
ظل متحيراً ، يفكر في أنها المرة الأولى التي يوقظه فيها صفير هذا القطار . يفكر في جثمانه الذي في تلك المدينة الساحلية البعيدة ، لا يعرف كيف دفن و لا أين.
وصله صوتها المتساءل من الصالة بحياديته الأليفة : كيف مت هذه المرة ؟
كانت تسأله كلما استيقظ عن طريقة موتة ، غير عابئة بطريقة حياته .
لم يجبها ، و زاد شعوره بالغيظ و الخجل . و لكنه ارتاح قليلاً عندما مرت دقائق دون أن تكرر السؤال ، رغم أنها ــ منذ تزوجها ــ لم تكرر عليه سؤالاً أو ملحوظة .
لم تكن زوجته مجبرة أن تصدق أنه كان يحلم بمدن كثيرة ، كانت تتعامل مع الأمر كقدر لا يحتاج للتفكير به أصلاً .هو أيضاً لم يكن مضطراً ليصدق ، ذلك أنه لم يكن يحتاج للتصديق.. فكلما حلم بمدينة كان يستيقظ ليكتشف أنه يعيش فيها . يستيقظ في سريره نفسه ، في غرفته ذاتها ، لكن في مدينة أخرى . يعرف ذلك عندما يمد رأسه خارج الشبابيك ، و يكتشف أنه يطل على جغرافيا لم يتنسم هواءها من قبل . فيخرج مغادراً الشقة الشبحية و ظل زوجته إلى مدينة جديدة .. يواجه هواءها كأنه يولد .
يتجول في المدن التي يحلم بها ، يبحث عن مهن صغيرة ليأكل ، رغم شيخوخته ، ثم يموت . يستغرق ذلك أوقاتاً متراوحة ، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات .. بينما جسده ــ في نفس اللحظة ــ مسجى في سريره . كانت زوجته تضطر لإطعامه و هو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه .. و تضع له السجائر في فمه ، تشعلها له و تراقبه و هو يلتهمها بنهم ، كأن الدخان يشحذ صور مناماته . لم يكن طعامه هنا يعني شيئا لجوعه هناك ..مثلما لم تكن حياته هنا تتعارض و موته هناك . لكنه أدرك منذ سنوات طويلة ، أن واقعه الفعلي صار في كل الأماكن خارج هذا البيت .. و أنه لو كان ثمة حلم في حياته ، فهو مدينته و بيته و زوجته ، و قطار البضائع .
مات في كل المدن التي عاش فيها ، و دفن . واجه ميتات مختلفة ، في حوادث طرق ، مطعوناً ، في مشاجرات ، حانات ، بسكتات قلبية و دماغية ، في مساجد و كنائس .. و مات أيضاً الميتات العادية التي يموتها الناس على أسرتهم ، له في كل مدينة شاهد قبر ، و تلاوات تطلب الرحمة لروحه و لو بطريق الخطأ . صار تراباً منثوراً في أنحاء الدنيا ، ذكرى في كل الأرجاء ، رغم أنه لا يزال حياً ، هنا ، في تلك المدينة بالذات . داخل بيت ما .. بيت واحد ، بغرف محددة لا تتغير ، له امرأة بعينها . رجل مثل أي رجل ، يحيا في مكان واحد ، حتى لوتفرعت من هذا المكان أماكن أخرى : بيت ، غرف ، مقاهي ، و شوارع غير منتهية . رجل كأي رجل يحيا في مدينة ، لا يشترط أن تكون مثل أي مدينة ، غير أنها تبقى مدينة واحدة ، ولها ميزة لا يمكن أن يشاركها فيها مكان آخر ، أنها مدينته. رغم ذلك ، هو رجل يحلم في كل مرة بمدينة ، يؤسس فيها بيتاً في منامه ، و تكون له فيها مقبرة عندما يستيقظ .. غير أنه هنا لم يمت أبداً . ظل رجلاً عجوزاً بحياة مضاعفة ، تؤكدها ميتاته التي صار يعرفها كلها .
ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة ، لم يعد يخشاه ، بل تمناه في وطنه ، لأنه شعر بالخجل من أن يموت في كل البقاع ماعدا سريره . لقد ظل الموت دائماً بعيداً عنه ، و كان الرجل ـ على العكس من جميع البشر ـ ينتظرمجيئه ، ليس بخوف أو رهبة.. لكن بتصالحٍ عذب ، و بأمنية أكيدة أن يتذكره قبل أن يتحول لكومة عظام حقيقية داخل جلبابه .
إنه عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت و ماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً .الذكريات التي كالبشر . الذكريات التي تموت بالضرورة ، حتى قبل موت أصحابها . تموت في حوادث عارضة ، في الطفولة و الشباب و الكهولة ، تقتل أحياناً و تنز منها دماء لا نراها . بعضها يدفن و بعضها يترك في الطرق . فقط عندما تكتب الذكريات تعيش ، بالضبط كما يحدث للبشر . ذكريات هذا الرجل لم تكتب أولا بأول ، و عندما تكتب ــ إن حدث ذلك ــ ستحرف ، و لن تعود أبداً على علاقة بذلك الذي حدث بالفعل .عليه ألا يقنط ، و علينا جميعاً . لا ذكرى تشبه الواقعة . كان يقنع نفسه كلما فشل في تذكر شيء بأن الذكرى خيال شاحب لواقع لم يحدث .
ربما لذلك ، كان يتذكر أشياء قليلة ، تؤكد له ــ فقط ، و بيقين مضاعف ــ أنه لم يعد يملك ما يتذكره.. و تخبره في كل مرة أنه شخص نسي كل شيء تقريباً ، فيما عدا ميتاته .. من هذه الذكريات مدينة حوائط لا نهائية ، مات فيها مبكراً جداً ، غير أنه ظل غير قادر علر محو ذكراها . مدينة لا تعرفها الخرائط التي كان يعود إليها بعد كل يقظة ليعرف على وجه الدقة أين عاش و مات آخر مرة .
حدث عنها زوجته كثيراً .. كانت ــ كما كان يقول مأخوذاً ــ أقرب لغرفة ، شاسعة .أينما سار الشخص فيها يصطدم بالحوائط ، الحوائط التي يمكن للواحد أن يجدها في أي بيت و ليس في مدينة . عليها صور السكان في براويزها ، صور الشهداء و الموتى المتربة بشرائط الحداد السوداء المائلة ، آيات قرآنية ، و صور قديسين ، و لوحات زيتية ، بألوان الطلاء الكثيرة ، بل و مفاتيح كهرباء محفورة . ليس سوى ملايين الحوائط التي يمتلكها الجميع بالتساوي . بالمقابل ، تخلو البيوت من أي ذكرى معلقة . بل إن حوائطها ليست سوى جدران جرداء ، و عملية ، من تلك التي تألفها في المدن . يمكن لأي عابر أن يفتح باب أي بيت ، و يعطي ظهره لأفراد الأسرة ، و يدفق بوله الساخن أسفل الجدار . داخل البيوت توضع الملصقات الإعلانية ، و الأوراق الانتخابية ، و تحضر الكتابات المرتجلة للعابرين ، و أفيشات الأفلام . إذا أردت أن تعرف أخبار المدينة فادخل البيوت .. و إن أردت بيوتها ، فليس عليك سوى أن تتجول .. لترى العاديين على الحوائط .في كل بيت فيها غرفة تستخدم كمقبرة ،و قد دفن في واحدة من تلك الغرف ، محصناً بالجدران ، ثم محصناً بالحوائط في الخارج ، و هي الميتة التي كانت الأكثر مثالية له حتى الآن .
مدينته تتغير . هكذا فكر الآن و هو يتأمل صفوف بيوت نبتت مكان أعواد البوص خلف شريط اقطار ، و بامتداد البصر ، في أفق الغيطان الخضراء التي كانت تطوق المدينة . كان يقول ذلك لنفسه كل مرة يطل فيها من شباكه . في الماضي كان الأطفال يدحرجون كرات زجاجية ملونة متناهية الصغر على التراب ، ثم جاءت ترابيزة خضراء بمضارب و كرة بيضاء يديرها شاب بالقرب من شباكه. كثيراً ما كانت الكرة الفللينية ذات الرائحة النفاذة تتسلل من شباكه و يتحسسها بوجل في نومه كأنها بيضة سحرية ، و يظل قابضاً عليها إلى أن يستيقظ ، و لا تعرف زوجته ماذا تقول لأصحابها ، فتضطر لتوبيخهم ، قبل أن تمنحهم ثمنها . الآن تستقر ترابيزة أخرى ، خضراء أيضاً ، بعصي طويلة و كرات لا تحصى . يرى تلك الـأشياء في لحظات يقظته النادرة، و التي كانت تتحقق على فترات متباعدة جداً ، حتى أن أغلب أبنائه ماتوا دون أن يعرف .
أبناءه الثمانية ، أنجب خمسة منهم و هو نائم ، بإصرار من زوجته التي كانت تمارس الحب بجسده النائم . نفس الخمسة ماتوا و هو نائم ، ولا يذكر أنه ذرف دمعة على واحد منهم .. فقد تعامل معهم دائما كما لو كانوا أخطاء تسببت فيها مضاجعات محرمة . الثلاثة الآخرون ماتوا و هو مستيقظ .. و بكى عليهم كثيراً ، فقط لأنه لم يرهم سوى مرات معدودة في حيواتهم الممتدة .
كان يستيقظ كل مرة ليكتشف أنه فقد وظيفةً جديدةً في جسده .. دون اندهاش ، لكن بأمنيةٍ أكيدة أن تكون تلك علامة من الموت الذي أدار ظهره له بكل قسوة ، و ضن عليه بيديه القاسيتين اللتين لا تتوقفان عن العمل .. و بنظرةٍ واحدة على بيوت المدينة ، و السيدات المتشحات بالسواد من الذاهبات إلى المقابر و العائدات منها ، كان يدرك ـ بحسد ـ أن الموت لا يزال يمارس مهماته بنفس الخفة و النشاط اللذين عهدهما فيه .. و كان ـ و هذا هو الأسوأ ـ يستشعر نظرات حسد مضادة من الأمهات الحزينات على أبناء رحلوا في ريعان الشباب .. و زوجات حديثات ترمَّلن بعد أوقات لذة قصيرة .. يتساءلن عن طول عمره الذي يكفي عدة أشخاص كي يعيشوا و يموتوا في أعمارهم الطبيعية .
أوشك على تصديق الواقعة التي حكتها له أمه في طفولته . لقد كانت أشهر ندَّابة في المدينة الصغيرة و لم يكن الأهالي يعرفون منها سوى الصراخ على من يغادرون الحياة .. و عندما رُزقت به بعد سنوات زواج طويلة بلا نسل ، كانت واقعة غريبة .. و أحس الناس أن صراخها ـ بينما تلد الطفل ـ هو صراخ شخص يودع راحلاً إلى مقبرته و ليس صراخ امرأة تمنح الحياة لطفل .. و أيقنت البلدة أن الطفل لن يعيش طويلاً لأنه كان هزيلاً و شاحباً .. و فضلاً عن ذلك ورثت عيناه عن أمه نظرة الحزن المرعبة التي لم تفارق قسماتها يوماً .أخبرته أمه أنه مات بالفعل ذات يوم ، بعد مولده مباشرة . توقفت أنفاسه و سكن جسده و تيبس قلبه .. ثم برد جثمانه و ازرق لونه كأي ميت . أغلقوا عينيه الجاحظتين و لفوه جيداً تمهيداً لتوديعه .. ووجدت أمه نفسها ـ و هي التي أدمنت الصراخ على الغرباء ـ تعجز عن التعبير عن ألمها الحقيقي و لو بصرخة ، انحبس صوتها و غابت الدموع ـ التي طالما ذرفت جبالاً منها بالمجان ـ عن عينيها المتألمتين . و بينما يستعدون لإخراجه من البيت .. عادت الدماء إليه فجأة .. و فوجئوا به يطلق ضحكة شيطانية ماجنة .. شاهد الأهلُ فيها أشباحاً كثيرة تنطلق هاربةً من الغرفة . يومها قال حكيمٌ لأمه : ” الأطفال وحدهم يستطيعون ملاعبة الموت و خداعه .. و لكن عقابهم أنهم حين يشيخون يخاصمهم الموت .. يتركهم مُعذبين يتمنون التفاتة واحدةً منه دون أن يعبأ بهم … بل إنه إمعاناً في إغاظتهم ، يحصد أرواح الشباب و الأطفال أمام عيونهم الميتة ” . اندهش العجوز عندما سمع الحكاية من أمه لأول مرة ، و سألها لماذا عليه أن يُعاقَب إذا كان حينها لم يكن يعِ شيئاً .. و لا يذكر أنه فعل ذلك عن قصد ، و لكن أمه قالت له بحسم : ” لا يهم كل ذلك .. المهم أنك أهنته و قللت من هيبته و شأنه في أرجاء البلدة .. حتى أنه بعد ذلك لم يعد الناس يصدقون إذا رحل شخص أنه مات فعلاً .. و صار كل ميت جديد ينتظر أياماً إلى أن يدفن .. لأن الأهالي كانوا ينتظرون عودته للحياة ضاحكاً كما فعلت أنت .. لقد صار الناس من يومها لا يُصدقون الموت و ذلك هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث لذلك الرجل المهيب الذي لا يقول كلمته مرتين ” .
في طفولته و شبابه استمتع بالحكاية ، بيقين أن الخلود هو حلم أي إنسان . كان سعيداً لأنه جرب حظه مع الموت مبكراً و انتهى الأمر .. معتبراً ما حدث معه معجزة ستصب في صالحه .. غير أنه ـ ومع تقدمه المفرط في العمر ، و بعد أن مات أحفاد أحفاده في أعمارهم الطبيعية ـ أدرك أن الخلودَ وهمٌ قاسٍ .. لأن لاشيء أكثر إيلاماً من أن تحط ذبابة بين عينيك دون أن تكون قادراً على هشها … و أدرك الرجل أن الموتَ جادٌ في انتقامه منه ، و أن الحل الوحيد هو أن يُقتَل ..و لكنه عاد ليكتشف بحسرة أنه لم يعد يقو على الإتيان بشيء : لا أن يقتل نفسه ، و لا أن يفتعل مشاجرة أوحتى يستأجر شخصاً ليقتله. فقط في أحلامه كان يغيب تماماً .. و لكنه كان دائماً يستيقظ مهما طالت رحلته المؤقتة في الأبدية .
بمجرد استيقاظه ، كان يسأل زوجته عن أسماء من ماتوا أثناء غيابه ، ليقدم فيهم واجب العزاء .. رغم أن بعضهم يكون مر على موته سنوات و نسي حتى أقاربه حقيقة موته . كان يقضي اليوم بطوله في مواساة ناس لم تعد تعوزهم هذه المشاعر ، و يشرب مئات الفناجين من القهوة المرة . و بمجرد أن يعود كان يتقيأ ــ بلا انقطاع ، ولساعات ــ السائل الداكن الذي ما يزال محتفظاً برائحته . كان يعبر البيوت في أيام عزاءاته الغريبة غير مصدق أن هناك من يموت في هذه المدينة . و يتذكر ذكرى وفاته في مدينة ما .. أو أكثر من ذكرى متزامنة .كانت له ست ميتات وقعت في اليوم نفسه .. و أحياناً كان يغيب في عمليات إحصائية عقيمة و هو يصنف ميتاته حسب السنوات التي وقعت فيها أولا ، ثم الشهور ،فالتواريخ ، و أسماء الأيام ، و مواقيت الوفاة ، و أسبابها . و رغم أنه فقد ذاكرته تقريبا ، إلا أنه لم ينس قط يوماً مات فيه . كان يشعر في تيقظاته المتعبة أنه تراب متيبس داخل جلباب ، و يحسد التوابيت المتجهة لمقابر تخص أبناء ذلك التراب ، من ولدوا فيه و ماتوا عليه ، متحسراً على ميتاته اللقيطة .
لم يطلب من زوجته اليوم أي أسماء لموتى ، و ظلت الورقة التي كتبت فيها أسماء الراحلين في منامه الأخير مدسوسة في صدرها ، كما تعودت أن تفعل ، رغم ما يتركه لها ذلك من خوف مجهول ، كأنها تتجول بصحبة الموتى .
توقف صفير القطار ، و بدأ يتحرك ذاتياً مغادراً الشريطين النحيلين، فأدرك الرجل أن سائقاً جديداً قد انتحر . في هذه اللحظة نادى على زوجته ، و قد أكدت له العلامة الغامضة أنه سيموت أخيراً ، و لكنها لم ترد . تحرك بصعوبة حتى وجدها في الصالة، نائمة على ظهرها بجسد أزرق.. و يدها متيبسة على ورقة ، مرفوعة باتجاه عينيها ، كأنها كانت تقرأ شيئاً . لم يشعر بأي شيء غير عادي . ظل يتأملها كأن تلك هيئتها الوحيدة الأليفة لديه.. و بدأ يستوعب بهدوء أن الشيء الوحيد الذي يربطه بهذه المدينة غاب للأبد . بهدوء فكر في أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته النهائية ، الحقيقية .. و في هذه الليلة فقط ، و للمرة الأولى منذ ولد ، حلم بمدينته .
أول شيء فكر فيه هو هذا القطار نفسه ، القطار الوحيد في المدينة ، و الذي يكرهه تماماً ، فهو صغير ، يعود لبدايات قرن مضى ، و يذكره ــ كلما رآه من نافذته ــ بنعش أصفر . كل سائقي هذا القطار كانوا أصدقائه بشكل ما . كلهم ينتحرون بعد فترة قصيرة من العمل ، و يتركون الآلة المعدنية البدائية تترنح وحدها للحظات ، قبل أن تتوقف عجلاتها فجأة .. قبالة شباك غرفة نومه ، و حيث يكون دائماً قد استيقظ قبلها بدقائق.
فكر انه بحاجة لسيجارة ، فتحسس جيب جلبابه ، حيث ترك علبة سجائره آخر مرة قبل سنوات ، منذ نام آخر مرة . بعدها ثبت طاقم أسنانه ، فقد كان يطمئن فور استيقاظه عليه ، و يثبته بسرعة بينما تعود له الحياة أخيراً، كأنه كان نائماً بدون فمه . لا يستطيع التدخين بدونه ، رغم أنه لم يكن يحتاجه لمثل هذه المهمة.
كان قد بدأ يغيب في اليقظة ، عندم استدار فجأة ، مرعوبا ، على كف أليفة و هشة ، و احتاج وقتاً ــ كما يحدث في كل مرة ــ كي يتعرف على وجه المرأة التي شاركته حياته . لمح في عينيها الدموع المتفق عليها التي كانت تواجهه بها بعد كل مرة يعود فيها سالماً من نومه . بعدها تركته و استدارت لشئون البيت ، عائدة للا مبالاتها التي تعود عليها .
زوجته لم تكن تعبأ بوجوده ، ليس لأنها تكرهه ، بل لأنها أكثر شيخوخة منه .. لكنها على العكس منه تماماً ، كانت بلا أحلام على الإطلاق . لم تر طيلة حياتها صورة واحدة في منام ، و لم يؤرقها ذلك أبداً.
عندما اخترق القطار منامه ، كان غارقاً . انتشلته الأيادي بالكاد من قاع البحر و بدأت الهمهمات تدور حول طريقة دفنه.. و استيقظ الرجل و هو لا يعرف أين مقبرته في تلك المدينة الساحلية .
ظل متحيراً ، يفكر في أنها المرة الأولى التي يوقظه فيها صفير هذا القطار . يفكر في جثمانه الذي في تلك المدينة الساحلية البعيدة ، لا يعرف كيف دفن و لا أين.
وصله صوتها المتساءل من الصالة بحياديته الأليفة : كيف مت هذه المرة ؟
كانت تسأله كلما استيقظ عن طريقة موتة ، غير عابئة بطريقة حياته .
لم يجبها ، و زاد شعوره بالغيظ و الخجل . و لكنه ارتاح قليلاً عندما مرت دقائق دون أن تكرر السؤال ، رغم أنها ــ منذ تزوجها ــ لم تكرر عليه سؤالاً أو ملحوظة .
لم تكن زوجته مجبرة أن تصدق أنه كان يحلم بمدن كثيرة ، كانت تتعامل مع الأمر كقدر لا يحتاج للتفكير به أصلاً .هو أيضاً لم يكن مضطراً ليصدق ، ذلك أنه لم يكن يحتاج للتصديق.. فكلما حلم بمدينة كان يستيقظ ليكتشف أنه يعيش فيها . يستيقظ في سريره نفسه ، في غرفته ذاتها ، لكن في مدينة أخرى . يعرف ذلك عندما يمد رأسه خارج الشبابيك ، و يكتشف أنه يطل على جغرافيا لم يتنسم هواءها من قبل . فيخرج مغادراً الشقة الشبحية و ظل زوجته إلى مدينة جديدة .. يواجه هواءها كأنه يولد .
يتجول في المدن التي يحلم بها ، يبحث عن مهن صغيرة ليأكل ، رغم شيخوخته ، ثم يموت . يستغرق ذلك أوقاتاً متراوحة ، قد تكون أياماً أو شهوراً أو سنوات .. بينما جسده ــ في نفس اللحظة ــ مسجى في سريره . كانت زوجته تضطر لإطعامه و هو نائم كي لا يموت في سنوات أحلامه .. و تضع له السجائر في فمه ، تشعلها له و تراقبه و هو يلتهمها بنهم ، كأن الدخان يشحذ صور مناماته . لم يكن طعامه هنا يعني شيئا لجوعه هناك ..مثلما لم تكن حياته هنا تتعارض و موته هناك . لكنه أدرك منذ سنوات طويلة ، أن واقعه الفعلي صار في كل الأماكن خارج هذا البيت .. و أنه لو كان ثمة حلم في حياته ، فهو مدينته و بيته و زوجته ، و قطار البضائع .
مات في كل المدن التي عاش فيها ، و دفن . واجه ميتات مختلفة ، في حوادث طرق ، مطعوناً ، في مشاجرات ، حانات ، بسكتات قلبية و دماغية ، في مساجد و كنائس .. و مات أيضاً الميتات العادية التي يموتها الناس على أسرتهم ، له في كل مدينة شاهد قبر ، و تلاوات تطلب الرحمة لروحه و لو بطريق الخطأ . صار تراباً منثوراً في أنحاء الدنيا ، ذكرى في كل الأرجاء ، رغم أنه لا يزال حياً ، هنا ، في تلك المدينة بالذات . داخل بيت ما .. بيت واحد ، بغرف محددة لا تتغير ، له امرأة بعينها . رجل مثل أي رجل ، يحيا في مكان واحد ، حتى لوتفرعت من هذا المكان أماكن أخرى : بيت ، غرف ، مقاهي ، و شوارع غير منتهية . رجل كأي رجل يحيا في مدينة ، لا يشترط أن تكون مثل أي مدينة ، غير أنها تبقى مدينة واحدة ، ولها ميزة لا يمكن أن يشاركها فيها مكان آخر ، أنها مدينته. رغم ذلك ، هو رجل يحلم في كل مرة بمدينة ، يؤسس فيها بيتاً في منامه ، و تكون له فيها مقبرة عندما يستيقظ .. غير أنه هنا لم يمت أبداً . ظل رجلاً عجوزاً بحياة مضاعفة ، تؤكدها ميتاته التي صار يعرفها كلها .
ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة ، لم يعد يخشاه ، بل تمناه في وطنه ، لأنه شعر بالخجل من أن يموت في كل البقاع ماعدا سريره . لقد ظل الموت دائماً بعيداً عنه ، و كان الرجل ـ على العكس من جميع البشر ـ ينتظرمجيئه ، ليس بخوف أو رهبة.. لكن بتصالحٍ عذب ، و بأمنية أكيدة أن يتذكره قبل أن يتحول لكومة عظام حقيقية داخل جلبابه .
إنه عجوز لدرجة أن ذكرياته نفسها شاخت و ماتت في العمر الذي تموت فيه أشد الذكريات قدماً .الذكريات التي كالبشر . الذكريات التي تموت بالضرورة ، حتى قبل موت أصحابها . تموت في حوادث عارضة ، في الطفولة و الشباب و الكهولة ، تقتل أحياناً و تنز منها دماء لا نراها . بعضها يدفن و بعضها يترك في الطرق . فقط عندما تكتب الذكريات تعيش ، بالضبط كما يحدث للبشر . ذكريات هذا الرجل لم تكتب أولا بأول ، و عندما تكتب ــ إن حدث ذلك ــ ستحرف ، و لن تعود أبداً على علاقة بذلك الذي حدث بالفعل .عليه ألا يقنط ، و علينا جميعاً . لا ذكرى تشبه الواقعة . كان يقنع نفسه كلما فشل في تذكر شيء بأن الذكرى خيال شاحب لواقع لم يحدث .
ربما لذلك ، كان يتذكر أشياء قليلة ، تؤكد له ــ فقط ، و بيقين مضاعف ــ أنه لم يعد يملك ما يتذكره.. و تخبره في كل مرة أنه شخص نسي كل شيء تقريباً ، فيما عدا ميتاته .. من هذه الذكريات مدينة حوائط لا نهائية ، مات فيها مبكراً جداً ، غير أنه ظل غير قادر علر محو ذكراها . مدينة لا تعرفها الخرائط التي كان يعود إليها بعد كل يقظة ليعرف على وجه الدقة أين عاش و مات آخر مرة .
حدث عنها زوجته كثيراً .. كانت ــ كما كان يقول مأخوذاً ــ أقرب لغرفة ، شاسعة .أينما سار الشخص فيها يصطدم بالحوائط ، الحوائط التي يمكن للواحد أن يجدها في أي بيت و ليس في مدينة . عليها صور السكان في براويزها ، صور الشهداء و الموتى المتربة بشرائط الحداد السوداء المائلة ، آيات قرآنية ، و صور قديسين ، و لوحات زيتية ، بألوان الطلاء الكثيرة ، بل و مفاتيح كهرباء محفورة . ليس سوى ملايين الحوائط التي يمتلكها الجميع بالتساوي . بالمقابل ، تخلو البيوت من أي ذكرى معلقة . بل إن حوائطها ليست سوى جدران جرداء ، و عملية ، من تلك التي تألفها في المدن . يمكن لأي عابر أن يفتح باب أي بيت ، و يعطي ظهره لأفراد الأسرة ، و يدفق بوله الساخن أسفل الجدار . داخل البيوت توضع الملصقات الإعلانية ، و الأوراق الانتخابية ، و تحضر الكتابات المرتجلة للعابرين ، و أفيشات الأفلام . إذا أردت أن تعرف أخبار المدينة فادخل البيوت .. و إن أردت بيوتها ، فليس عليك سوى أن تتجول .. لترى العاديين على الحوائط .في كل بيت فيها غرفة تستخدم كمقبرة ،و قد دفن في واحدة من تلك الغرف ، محصناً بالجدران ، ثم محصناً بالحوائط في الخارج ، و هي الميتة التي كانت الأكثر مثالية له حتى الآن .
مدينته تتغير . هكذا فكر الآن و هو يتأمل صفوف بيوت نبتت مكان أعواد البوص خلف شريط اقطار ، و بامتداد البصر ، في أفق الغيطان الخضراء التي كانت تطوق المدينة . كان يقول ذلك لنفسه كل مرة يطل فيها من شباكه . في الماضي كان الأطفال يدحرجون كرات زجاجية ملونة متناهية الصغر على التراب ، ثم جاءت ترابيزة خضراء بمضارب و كرة بيضاء يديرها شاب بالقرب من شباكه. كثيراً ما كانت الكرة الفللينية ذات الرائحة النفاذة تتسلل من شباكه و يتحسسها بوجل في نومه كأنها بيضة سحرية ، و يظل قابضاً عليها إلى أن يستيقظ ، و لا تعرف زوجته ماذا تقول لأصحابها ، فتضطر لتوبيخهم ، قبل أن تمنحهم ثمنها . الآن تستقر ترابيزة أخرى ، خضراء أيضاً ، بعصي طويلة و كرات لا تحصى . يرى تلك الـأشياء في لحظات يقظته النادرة، و التي كانت تتحقق على فترات متباعدة جداً ، حتى أن أغلب أبنائه ماتوا دون أن يعرف .
أبناءه الثمانية ، أنجب خمسة منهم و هو نائم ، بإصرار من زوجته التي كانت تمارس الحب بجسده النائم . نفس الخمسة ماتوا و هو نائم ، ولا يذكر أنه ذرف دمعة على واحد منهم .. فقد تعامل معهم دائما كما لو كانوا أخطاء تسببت فيها مضاجعات محرمة . الثلاثة الآخرون ماتوا و هو مستيقظ .. و بكى عليهم كثيراً ، فقط لأنه لم يرهم سوى مرات معدودة في حيواتهم الممتدة .
كان يستيقظ كل مرة ليكتشف أنه فقد وظيفةً جديدةً في جسده .. دون اندهاش ، لكن بأمنيةٍ أكيدة أن تكون تلك علامة من الموت الذي أدار ظهره له بكل قسوة ، و ضن عليه بيديه القاسيتين اللتين لا تتوقفان عن العمل .. و بنظرةٍ واحدة على بيوت المدينة ، و السيدات المتشحات بالسواد من الذاهبات إلى المقابر و العائدات منها ، كان يدرك ـ بحسد ـ أن الموت لا يزال يمارس مهماته بنفس الخفة و النشاط اللذين عهدهما فيه .. و كان ـ و هذا هو الأسوأ ـ يستشعر نظرات حسد مضادة من الأمهات الحزينات على أبناء رحلوا في ريعان الشباب .. و زوجات حديثات ترمَّلن بعد أوقات لذة قصيرة .. يتساءلن عن طول عمره الذي يكفي عدة أشخاص كي يعيشوا و يموتوا في أعمارهم الطبيعية .
أوشك على تصديق الواقعة التي حكتها له أمه في طفولته . لقد كانت أشهر ندَّابة في المدينة الصغيرة و لم يكن الأهالي يعرفون منها سوى الصراخ على من يغادرون الحياة .. و عندما رُزقت به بعد سنوات زواج طويلة بلا نسل ، كانت واقعة غريبة .. و أحس الناس أن صراخها ـ بينما تلد الطفل ـ هو صراخ شخص يودع راحلاً إلى مقبرته و ليس صراخ امرأة تمنح الحياة لطفل .. و أيقنت البلدة أن الطفل لن يعيش طويلاً لأنه كان هزيلاً و شاحباً .. و فضلاً عن ذلك ورثت عيناه عن أمه نظرة الحزن المرعبة التي لم تفارق قسماتها يوماً .أخبرته أمه أنه مات بالفعل ذات يوم ، بعد مولده مباشرة . توقفت أنفاسه و سكن جسده و تيبس قلبه .. ثم برد جثمانه و ازرق لونه كأي ميت . أغلقوا عينيه الجاحظتين و لفوه جيداً تمهيداً لتوديعه .. ووجدت أمه نفسها ـ و هي التي أدمنت الصراخ على الغرباء ـ تعجز عن التعبير عن ألمها الحقيقي و لو بصرخة ، انحبس صوتها و غابت الدموع ـ التي طالما ذرفت جبالاً منها بالمجان ـ عن عينيها المتألمتين . و بينما يستعدون لإخراجه من البيت .. عادت الدماء إليه فجأة .. و فوجئوا به يطلق ضحكة شيطانية ماجنة .. شاهد الأهلُ فيها أشباحاً كثيرة تنطلق هاربةً من الغرفة . يومها قال حكيمٌ لأمه : ” الأطفال وحدهم يستطيعون ملاعبة الموت و خداعه .. و لكن عقابهم أنهم حين يشيخون يخاصمهم الموت .. يتركهم مُعذبين يتمنون التفاتة واحدةً منه دون أن يعبأ بهم … بل إنه إمعاناً في إغاظتهم ، يحصد أرواح الشباب و الأطفال أمام عيونهم الميتة ” . اندهش العجوز عندما سمع الحكاية من أمه لأول مرة ، و سألها لماذا عليه أن يُعاقَب إذا كان حينها لم يكن يعِ شيئاً .. و لا يذكر أنه فعل ذلك عن قصد ، و لكن أمه قالت له بحسم : ” لا يهم كل ذلك .. المهم أنك أهنته و قللت من هيبته و شأنه في أرجاء البلدة .. حتى أنه بعد ذلك لم يعد الناس يصدقون إذا رحل شخص أنه مات فعلاً .. و صار كل ميت جديد ينتظر أياماً إلى أن يدفن .. لأن الأهالي كانوا ينتظرون عودته للحياة ضاحكاً كما فعلت أنت .. لقد صار الناس من يومها لا يُصدقون الموت و ذلك هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث لذلك الرجل المهيب الذي لا يقول كلمته مرتين ” .
في طفولته و شبابه استمتع بالحكاية ، بيقين أن الخلود هو حلم أي إنسان . كان سعيداً لأنه جرب حظه مع الموت مبكراً و انتهى الأمر .. معتبراً ما حدث معه معجزة ستصب في صالحه .. غير أنه ـ ومع تقدمه المفرط في العمر ، و بعد أن مات أحفاد أحفاده في أعمارهم الطبيعية ـ أدرك أن الخلودَ وهمٌ قاسٍ .. لأن لاشيء أكثر إيلاماً من أن تحط ذبابة بين عينيك دون أن تكون قادراً على هشها … و أدرك الرجل أن الموتَ جادٌ في انتقامه منه ، و أن الحل الوحيد هو أن يُقتَل ..و لكنه عاد ليكتشف بحسرة أنه لم يعد يقو على الإتيان بشيء : لا أن يقتل نفسه ، و لا أن يفتعل مشاجرة أوحتى يستأجر شخصاً ليقتله. فقط في أحلامه كان يغيب تماماً .. و لكنه كان دائماً يستيقظ مهما طالت رحلته المؤقتة في الأبدية .
بمجرد استيقاظه ، كان يسأل زوجته عن أسماء من ماتوا أثناء غيابه ، ليقدم فيهم واجب العزاء .. رغم أن بعضهم يكون مر على موته سنوات و نسي حتى أقاربه حقيقة موته . كان يقضي اليوم بطوله في مواساة ناس لم تعد تعوزهم هذه المشاعر ، و يشرب مئات الفناجين من القهوة المرة . و بمجرد أن يعود كان يتقيأ ــ بلا انقطاع ، ولساعات ــ السائل الداكن الذي ما يزال محتفظاً برائحته . كان يعبر البيوت في أيام عزاءاته الغريبة غير مصدق أن هناك من يموت في هذه المدينة . و يتذكر ذكرى وفاته في مدينة ما .. أو أكثر من ذكرى متزامنة .كانت له ست ميتات وقعت في اليوم نفسه .. و أحياناً كان يغيب في عمليات إحصائية عقيمة و هو يصنف ميتاته حسب السنوات التي وقعت فيها أولا ، ثم الشهور ،فالتواريخ ، و أسماء الأيام ، و مواقيت الوفاة ، و أسبابها . و رغم أنه فقد ذاكرته تقريبا ، إلا أنه لم ينس قط يوماً مات فيه . كان يشعر في تيقظاته المتعبة أنه تراب متيبس داخل جلباب ، و يحسد التوابيت المتجهة لمقابر تخص أبناء ذلك التراب ، من ولدوا فيه و ماتوا عليه ، متحسراً على ميتاته اللقيطة .
لم يطلب من زوجته اليوم أي أسماء لموتى ، و ظلت الورقة التي كتبت فيها أسماء الراحلين في منامه الأخير مدسوسة في صدرها ، كما تعودت أن تفعل ، رغم ما يتركه لها ذلك من خوف مجهول ، كأنها تتجول بصحبة الموتى .
توقف صفير القطار ، و بدأ يتحرك ذاتياً مغادراً الشريطين النحيلين، فأدرك الرجل أن سائقاً جديداً قد انتحر . في هذه اللحظة نادى على زوجته ، و قد أكدت له العلامة الغامضة أنه سيموت أخيراً ، و لكنها لم ترد . تحرك بصعوبة حتى وجدها في الصالة، نائمة على ظهرها بجسد أزرق.. و يدها متيبسة على ورقة ، مرفوعة باتجاه عينيها ، كأنها كانت تقرأ شيئاً . لم يشعر بأي شيء غير عادي . ظل يتأملها كأن تلك هيئتها الوحيدة الأليفة لديه.. و بدأ يستوعب بهدوء أن الشيء الوحيد الذي يربطه بهذه المدينة غاب للأبد . بهدوء فكر في أن مدينة حلمه القادم يجب أن تشهد ميتته النهائية ، الحقيقية .. و في هذه الليلة فقط ، و للمرة الأولى منذ ولد ، حلم بمدينته .
حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة.. مات فيها.. قصة: طارق إمام
أيقظه صفير القطار بينما كان يحلم بمدينة تطل على البحر .. واندهش، لأنها المرة الأولى التي يستيقظ فيها من حلم قبل أن يرى مشهد دفنه . كانت تلك أيضاً المرة الأولى التي يوقظه فيها باعث واقعي ، فطوال سنو…
sadazakera.wordpress.com