اكتشاف كاتب بعد سبع سنوات على رحيله أمر أشبه بـ «الحدث» الأدبي، ولكن كيف إذا كان الكاتب مصرياً يدعى منير حافظ وقد عاش معظم سنيّ حياته «منفياً» في فرنسا ومجهولاً في وطنه – الأم الذي كان مشدوداً اليه ولو بالقلب و المخيلة؟
الفضل في اكتشاف الكاتب المصري الفرنكوفوني منير حافظ يعود أولاً الى دارين صغيرتين عملتا على اصدار كتابين له في فرنسا حديثاً في إشراف زوجته الفرنسية جانين حافظ التي تعد بمثابة المؤتمنة الأخيرة والوحيدة على تراثه ومعظمه لم ينشر وعلى مكتبته وأغراضه الشخصية. فهو لم ينجب أولاداً ولا أشقاء له ولا شقيقات. أما الكتاب الأول فهو «عربات» وقد أصدرته دار «لو كابوسان» التي تعنى بمن تسميهم «الأدباء الذين لم ينالوا حقهم» والثاني هو «بين التراث والفكر المعاصر» وقد صدر عن دار «لي دوزوسيان» (المحيطان)، وهذه دار تهتم بنشر الكتب الفلسفية والروحانية. والكتابان هذان يمثلان مرحلتين أساسيتين في مسار هذا الكاتب المجهول: الأولى هي المرحلة السوريالية التي كان خلالها قريباً من أندريه بروتون والسورياليين المصريين من أمثال جورج حنين ورمسيس يونان وسواهما، والثانية هي المرحلة الصوفية التي كتب خلالها نصوصاً صوفية وروحانية توفّق بين التصوّف الاسلامي والتصوّف الغربي والآسيوي. ولكن يصعب الاكتفاء بهذين الكتابين إذا كانت الغاية مقاربة عالم هذا الكاتب وتجربته الفريدة ورؤيته وهويته... خصوصاً أن أعماله ما برحت طي الأدراج وقد تبعثر بعضها في المجلات الفرنسية.
لم تكتب أي سيرة حقيقية لهذا الكاتب، فما تدرجه الداران حول حياته يفيد بالقليل من هذه السيرة «الصاخبة» والصامتة في آن واحد. فهو بحسب هذه السيرة المجتزأة ولد في 26 أيلول (سبتمبر) عام 1911 في مدينة الاسكندرية لعائلة مسلمة ومحافظة ودرس في فرنسا بدءاً من السابعة من عمره وحاز أولاً الاجازة في الفلسفة في جامعة السوربون ثم درس الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية. ثم أكب على درس القرآن في «الكولاج دو فرانس» ثم حاز شهادة الدكتوراه وكانت اطروحته حول «التصوف الاسلامي».
بدأ في نشر نصوصه في مجلات فرنسية منذ العام 1937 ومن تلك النصوص بحث حول «ابن عربي ومدرسته». ثم عيّن في العام 1955 استاذ كرسي في «السوربون»، فرع «العلوم الدينية»، وألقى محاضرات حول الاسلام والفلسفة الاسلامية والتصوّف العربي والفارسي. وعمل كذلك في الترجمة ناقلاً الكثير من الكتب والنصوص الى الفرنسية. وقد توفي في 1 كانون الثاني (يناير) سنة 1998 في باريس عن سبعة وثمانين عاماً.
هذه السيرة المقتضبة التي وردت في الكتابين الصادرين حديثاً لا تعبّر عن حقيقة شخصه ولا عن سر حياته هو الذي لم يعمد الى نشر أي كتاب منجز طوال عمره المديد ولا سيما أطروحته التي نالت رضا صديقيه المستشرقين الكبيرين لويس ماسينيون وهنري كوربان. وقد يرجع هذا التغاضي عن النشر الى طبعه الشخصي أو طبيعته الفكرية والروحانية، وهذا ما تكشف عنه نصوص كتابه «بين التراث والفكر المعاصر» الذي جمعته زوجته، فالكتابة كما يعيشها هي بحث عن «حقائق أخرى» تختلف عن الحقائق التي اختبرها الانسان وعرفها. ولطالما ردد في هذا الكتاب ان «التفسير» قابل دوماً للتبدل وأن الحياة الفكرية عرضة للتطور، وهكذا يقول مجازياً: «غالباً ما أبدّل طريقي».
أما الناحية الأخرى والمجهولة في سيرته فهو انه كان ينتمي الى الأسرة الملكية الحاكمة، فأمه هي الأميرة ناجية ذو الفقار وابنة خالته فريدة كانت زوجة الملك فاروق، وجده لأمه كان حاكم مصر طوال خمسين سنة وجده لأبيه كان وزيراً للمالية خلال عشرين سنة. وقد أثرت فيه أمه تأثيراً عميقاً، فهي كانت تميل الى الصوفية ودأبت على فتح منزلها للشعراء والكتاب والمتصوفة، وكانت متضلّعة من الصوفية العربية والفارسية والمسيحية تبعاً لثقافتها الواسعة. وكانت تلقن ابنها مبادئ هذه الفلسفات وتناقشه فيها. ويقال انها تخلت عن مظاهر الثراء والحياة المخملية وكانت تنام على فراش على الأرض. ولكن عندما حصلت «ثورة الضباط الأحرار» عام 1952 هاجرت العائلة وانقطعت علاقتها مع الوطن. لكن منير حافظ الذي كان يعيش متنقلاً بين فرنسا ومصر لم ينقطع عن وطنه الأم، فظل يعود اليه ولا سيما مع لويس ماسينيون في رحلات أثرية بحثاً عن معالم المعابد القديمة والقبور وسواها. وقد أمضى منير حافظ فترة في وادي النطرون منقطعاً عن العالم، ومختلياً الى ذاته، متأملاً ومدوناً تأملاته. طبعاً هذه السيرة في جزءيها تحتاج الى مَن يعيد كتابتها من جديد انطلاقاً من الوثائق والمراجع كي تنتظم تاريخياً وحياتياً، وإلا فستظل وقفاً على هذه الخطوط أو «المنحنيات» القليلة.
مصادفة جميلة
عندما وقع الكتابان بالمصادفة بين يديّ وجذباني مثيرين فيّ الكثير من الفضول للتعرف الى هذا الكاتب المجهول في مصر وفرنسا على السواء، اتصلت عمداً بإحدى الدارين سائلاً عنه وكان أن أفادتني المسؤولة بأن زوجته ما برحت على قيد الحياة، وهي المسؤولة عن آثاره وتراثه. وعندما حصلت على رقم هاتفها اتصلت بها وقد فوجئتْ ان شخصاً عربياً يسألها عن زوجها بعد سبع سنوات على رحيله، ورحبت بي كثيراً وحدثتني باختصار عنه وعن حياته وعزلته الشديدة وعن بعض اللمحات من ماضيه، وأرسلت إلي عبر البريد قصائد له ونصوصاً غير منشورة. وقالت ان لديه الكثير من الأعمال والكتب التي لم تبصر النور، ناهيك بما لم يجمع من مقالاته التي نشرت في المجلات الفرنسية. وسألتها إن كان أصدر كتباً بالعربية في مصر فقالت انها لا تعرف. أما اصدقاؤه المصريون فلا تذكر منهم سوى جورج حنين، لكنها قالت لي انه كان على صداقة بأندريه بروتون وجورج باتاي ولويس ماسينيون وهنري ميشو وسواهم. هذه المكالمة الطويلة فتحت أمامي أفقاً للتعرف الى حياة هذا الكاتب الذي سرعان ما أدركت فرادته عندما قرأت الصفحات الأولى من كتابيه المختلفين تمام الاختلاف. وإن كان من غير الممكن الاحاطة بعالم هذا الكاتب من خلال كتابي فقط، فإن تراثه غير المنشور يمثل كنزاً خبيئاً لا بد من العودة اليه بغية اخراجه من العتمة وتوضيبه ونشر ما يجب أن ينشر منه. وما توافر مما كتب عنه بالفرنسية قليل ولا يلقي عليه ضوءاً ساطعاً، ومن المحتم ان هناك مقالات كثيرة تناولته وعرّفت به، وقد خصته احدى المجلات الفرنسية سابقاً بملف خاص ولكن يصعب الحصول عليها إن لم يكن مستحيلاً. أما عربياً فالكاتب مجهول أو شبه مجهول وخصوصاً في وطنه الأول مصر، وقد ذكره الناقد سمير غريب في كتابه «السوريالية في مصر» من غير ان يتوقف عند نتاجه تبعاً لغياب هذا النتاج. أما الكاتب عصام محفوظ فكتب عنه القليل في كتابه «السوريالية وتفاعلاتها العربية» وتحدث عن لقاء له به في باريس، عابر ويتيم. ولعل ما يؤلم هو غيابه عن كتاب مهمّ صدر في باريس بالفرنسية عنوانه «بين النيل والرمل، أدباء مصر بالفرنسية 1920 – 1960» (المركز الوطني للتوثيق التربوي – باريس 1999)، وقد ورد اسمه خمس مرات عرضاً في هذا الكتاب الشامل والفريد، ومرة اختلط اسمه خطأ باسم الشاعر النهضوي حافظ ابراهيم. ويرد في الكتاب أن منير حافظ استطاع ان يحصل على رخصة لمجلة «سبتنتريون» التي سيصدرها جورج حنين (لاحقاً) وكان واجه بعض المشكلات مع الدولة المصرية. أما منير حافظ الكاتب والشاعر الذي كان سوريالياً في تلك المرحلة فلم يتحدث الكتاب عنه البتة ولا ذكر حتى عناوين قصائده ونصوصه. وهذا مما زاد من الغبن الذي لحقه، خلال حياته وبعد رحيله. وفي القاهرة الآن نادرون هم الأشخاص الذين يتذكّرون اسمه وهم طبعاً لا يذكرون عنه أي أمر.
الصورة العائدة
يعيد هذان الكتابان على اختلافهما بعضهما عن بعض، جزءاً من صورة هذا الكاتب الذي جمع على طريقته الفريدة بين السوريالية والصوفية، حياة ونصاً. إلا انه لم يكن سوريالياً ملتزماً ولم يكن أيضاً صوفياً «محافظاً» أو «تقليدياً» إن أمكن القول. وقد كتب حافظ يقول: «سئلت مرة: «أنت متصوف، فما هي طريقتك؟»، أجبت: «السوريالية، أندريه بروتون». سئلت أيضاً: «أهو معلّم صوفي؟»، قلت: «أجل، أجل». مثل هذا الكلام البديع يختصر الطريقة التي جمع فيها حافظ بين مدرستين متشابهتين ومختلفتين تماماً. ففي رأيه ان السوريالية أتت بأمور كثيرة، مثلما الصوفية في نظره هي «القوة الوحيدة في الكون». هكذا كان حافظ مبدعاً حراً أصر طوال حياته على عدم حصر نفسه ضمن نظام فكري واحد ومغلق، فـ «التفسير» يجب أن «يعاد النظر» فيه دوماً.
لم يكن يضير منير حافظ مثلاً ان يكتب عن هنري ميشو الشاعر الذي كان يتعاطى مخدر «المسكالين» ليشرع أمامه باب المخيلة ولا أن يكتب عن الشاعر الفارسي الصوفي فريد الدين العطار، فهو لم يكن يشعر بالتناقض بينه وبين نفسه، بل على العكس، كان في حال من المصالحة بين التيارات والمدارس والمذاهب المختلفة والمتناقضة، وكان يعيش كما يعبّر، الوحدة والتعدد، الأمر ونقيضه، كأن يقول مثلاً: «ما يسمح لي بالحياة هو انني لا أستطيع أن أحيا: إنها هذه الاستحالة، فوات الحياة هذا، هما اللذان يجعلانني أحيا». ويتحدث كذلك عمّا يسمّيه «تجاوراً متناقضاً ولكن مكملاً» بين النسيان والذكرى فيقول: «كأنني أتذكر ما نسيته وأنسى ما أتذكره». وفيما يتناول مقولة «الهاوية» في المفهوم العدمي (سيوران، بودلير...) قائلاً: «نحن أناس الهاوية، أناس ماهيتهم العميقة هي قيد الارتماء في الهاوية»، يتحدث في سياق آخر عن حال «الرسوّ» قائلاً: «لا نستطيع أن نبقى من غير رسوّ في مكان ما». أما الغربة عن النفس فينادي بها على لسان الشعراء والعلماء والمفكرين الذين دعوا الناس الى ان يكونوا «غرباء عن أنفسهم».
لا يبدو منير حافظ على حال من التناقض، فهو أولاً واعٍ تمام الوعي هذه الحال بل يبدو كأنه قصدها ليعبّر عن حال اللاتناقض. وما يجعل التناقض لا متناقضاً هو انطلاق التجربة من «الذات» القادرة على صهر المواقف والأفكار. و»الذات» هنا تعني في ما تعني «الحياة» ولكن في بعدها الداخلي: «يجب الانطلاق من تجربة عشناها بنفسنا خلال حياتنا: أين أنت من حياتك؟» يقول حافظ. لكنه يشترط على الانسان ان يكون «حراً»، فالتجربة الشخصية تعني «الحرية». وهذه الحرية تمكّن الانسان من امتلاك «فردوسه» الخاص و «أصله» الخاص. يقول: «ما هو أصل البشر؟ انه مختلف بحسب كل واحد. ما هو فردوس البشر؟ انه مختلف بحسب كل واحد، ووفق العلاقة التي يقيمها مع وضعه الشخصي». مثل هذا الكلام لا يعني ان المقاربة هنا هي مقاربة إلحادية، فالكاتب كثيراً ما يتحدث عن الله الذي هو «المحبة» وعن «الانسان الداخلي أو انسان الضوء» كما يقول، وعن «وحدة الوجود» و»الشاهد» و»الذِكْر» و»الملاك» وعن «الانسان المذنب البريء» وعن «القلب» الذي يُسمى في الصوفية بـ «السر» وعن «البعد الفطري المتواري تحت ما هو مكتسب». ويصف «النار» بـ «الشعلة المتوقدة للحب» مستعيناً بالصوفية المسيحية. ويقول عن «الضوء» إنه «ضوءٌ لذاته» ما يذكر بمقولة المتصوف الألماني الكبير سيلزيوس الذي قال: «الوردة هي من دون لماذا». ويسترجع «الفراغ» البوذي ليتحدث عما يولد في صميم هذا الفراغ. ولا ينسى الفن، فالفنان في نظره قادر على «كسر» الحقيقة لـ «يظهر لنا شيئاً ما خارج هذه الحقيقة يحيا». وعلى طريقة ابن عربي أو الشاعر رامبو يسأل نفسه ويجيب: «إذاً لمَ نحن هنا؟ إننا لسنا هنا». أما الحداثة في نظره فهي «ليست مرتبطة ضرورة بالأزمنة الحديثة».
ينمّ كتاب «بين التراث والفكر المعاصر» عن الثقافة الواسعة، الفلسفية والأدبية التي كان يملكها منير حافظ. ففي نصوص هذا الكتاب يتقاطع التراث الاسلامي والعربي والتراث الاغريقي والتراث الغربي ناهيك بالفكر الآسيوي القديم والثقافة العالمية المعاصرة. وهكذا يتجاور الحلاج وابن عربي وابن سينا وجاكوب بوهم وهيراقليط وبودا وامبادوقليدس وباسكال ونيتشه وهيغل وجورج باتاي وهيدغر (يقول عنه: «الفيلسوف الكبير الذي غيّر التاريخ») وفرويد وهلدرلن ودريدا وموريس بلانشو وشلينغ ولاكان ولايبنتز وشوبان وموزارت وسفر أيوب والقرآن والانجيل... وبمقدار ما تبدو النصوص ابداعية وتأملية، تبدو أيضاً وكأنها خلاصات ثقافية صاغها الكاتب انطلاقاً من رؤيته الخاصة والذاتية. فاللغة هنا تصهر المعرفة بالحدس، والثقافة بالتجربة، والفكر بالوجدان، والذاكرة بالمخيلة.
أما كتاب «عربات» فهو يختلف كل الاختلاف عن الأول. هذا الكتاب مجموعة نصوص نثرية كتبها حافظ بين الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم ويلوح فيها بعد سوريالي ونزعة فانتازية وتخييلية. إنها نصوص سردية وربما قصصية متحررة من أي شرط أو معيار مسبق. في النص الأول «عربات» تبرز لعبة تنكرية أبطالها أشخاص بلا هوية يعيشون ما يشبه «الطقس» المرِح والعبثي. وفي نص «مهاوٍ» يلتقي أشخاص غريبو الأطوار ومنهم السيدة ذات الأفخاذ الثلاثة ويبدو هؤلاء كأنهم يقدّمون مشهداً مسرحياً شديد الغرابة. وفي نص «متحف القماش» يدخل أشخاص «متحف القماش» بغية السرقة بعد أن يغافلوا الحارس، وعوض أن يسرقوا يتلاعبون بالقماش ويلهون حاملين الأقمشة ومتنقلين بها وكأنهم في حلم... واللافت ان بعض الأشخاص يتنقلون بين النصوص السردية هذه وكأنهم في نص طويل متقطع ومتعدد المشاهد. أما اللعبة التي تتوزع بضعة نصوص فهي أشبه باللعبة العبثية والجهنمية والمبهمة العناصر. نصوص لا تشبه إلا نفسها ولو جاءت في سياق بعض الأعمال الفانتازية والتخييلية ومنها نصوص جورجد باتاي. يقول الناقد الفرنسي مارك بلانش عن هذا الكتاب: «يدخلنا حافظ في لا وعينا الخاص ليزرعه بهواجسه وشياطينه واستيهاماته».
مَن يقرأ الكتابين ينتبه الى المسافة التي تفصل بينهما زمنياً ولغوياً وأدبياً. فالنصوص السردية كتبها حافظ في مطلع حياته فيما كتب النصوص التأملية في مرحلة لاحقة. أما بين المرحلتين فثمة أعمال كثيرة وكتابات يجب البحث عنها، علّ مسار هذا الكاتب الفريد يتواصل وتكتمل ملامح صورته، مفكراً وشاعراً وأديباً. فمن الغبن أن يظل منير حافظ مجهولاً ومظلوماً في مصر وفرنسا البلدين اللذين انتمى إليهما، وأن تظل أعماله راقدة في ظلمة الأدراج.
ترى، هل من الممكن ان تبادر وزارة الثقافة المصرية الى جمع نتاجه وترجمة ما ينبغي ان يترجم منه الى العربية، فيعود منير حافظ الى أرضه الأولى والى اللغة التي كان يحبها ويكتب بعض مفرداتها بالفرنسية؟
Mounir Hafez: Entre Tradition et Pensée Contemporaine - Les deux
2005 Océans, Paris
Mounir Hafez: Carosses - Le Capucin, Paris 2005
شذرات
أشعر بما أشعر به!» كلا! أنت لا تشعر بما تشعر به! أنت لا تذهب حيث تريد أن تذهب. وما تحبّه ليس ما تحبه.
***
ستقول الصوفية: تجب زيارة بلاد الـ «لا أين»، حيث لا يوجد «أين»، بلاد لا يمكن تعيينها.
***
بما أنني أديب، أقول دوماً: الحقيقة تأتي الي وهي تعرج.
***
ما تراها تكون المادة؟ انها ثبات اللاشيء. من اللاشيء كان ثمة شيء. اللاشيء ليس ما نتخيله: انه يحوي افتراضياً كل الظهور. والظهور هو استسلام اللاشيء. يقول اللاشيء: اذا استمررتم في ازعاجي سأصبح شيئاً ما.
***
يعاني الناس هذا المرض الذي لا شفاء منه، انه مرض أن يوجدوا.
***
ما يصنع سحر الحياة هو انها لا تطاق. لعل هذا ما يجعلنا نتعلّق بها، إنه هذا الاسراف. وما هو مأسوي، ان العقل يندفع دوماً نحو ما هو أبعد.
***
لو سئلت: بماذا فكّرت؟ انها حياتي التي تدل على ما فكرت به.
***
ما لا أدركه، هو ما أدركه. جزء من الحقيقة يلمع من دون حضوري. إذاً هل يكون حضوري غير ضروري؟ بلى، انه ضروري لألمس ما هو خارج هذا الحضور.
***
إذا تنزهتم مع شاعر، ترون الاشجار نفسها، الحصى نفسها، الجياد نفسها. الشاعر يحس جمال الاشياء او شعر الاشياء، وأنتم تحسونهما من خلاله. مع شخص آخر لا تحسون شيئاً، وليس في إمكانكم أن تحسّوا الجمال او الشعر، بنفسكم. انكم تختبرون أحوالاً روحية شخصية، لكنكم لا ترتفعون الى ما فوق هذه الاحوال، وهذا ما يقدر ان يقوم به الشاعر، الموسيقي، والفنان من خلال حضورهم فقط.
***
نبوح، أحياناً: «لم تعد الحياة تطاق، لم أعد قادراً على تحمّل الحياة، لأنتحر إذاً». لكنّ الحياة التي نعيشها هي انتحار. هوذا الانتحار، والخروج عنه هو الحياة.
***
اننا في حال مواجهة مع موتنا. وفي وقت ما، يحل فجأة ما يشبه الحزن، حزن أن يكون المرء لا حياً ولا ميتاً، أن يكون بين الحياة والموت، كما لو في نوع من المطهر (...). عندما تكون على اتصال مع الأعمق، لا يعود ثمة قضية حياة أو موت، تصبح الحياة والموت ظاهريين كلياً.
***
من أجل ماذا أنا على حداد؟ هل أنا على حداد على حياتي، على ما فاتني، على عزلتي؟ كلا! لا أعرف!
***
ما هو الضوء؟ أهو من الأدب الديني؟ انها حال قائمة في النسيج نفسه لكل ما هو معيش، لكنها حال لا مرئية، لأن عيشنا يؤثر مباشرة في ذاتنا.
***
هناك شبه حياة سرية، حياة خفية، حياة عميقة، أسمّيها: حقيقية إزاء هذه الحياة الظاهرة. هناك شبه كائن محجوب وكائن حيّ.
***
في الصباح، بين النوم والصحوة، ثمة فسحة غنية جداً لأنها تفيض بالبروق والرؤى. الرؤيا في هذه الأحايين، تخلق عالماً. هي ذي احدى التقدمات الغالية للصوفية، هوذا ما يُسمى عالم الملكوت، عالم الملاك، «الطبقة الثامنة» ولم تبق لها من علاقة بعالمنا الحسّي ولا عالمنا المعقول (...).
عن الحياة
الفضل في اكتشاف الكاتب المصري الفرنكوفوني منير حافظ يعود أولاً الى دارين صغيرتين عملتا على اصدار كتابين له في فرنسا حديثاً في إشراف زوجته الفرنسية جانين حافظ التي تعد بمثابة المؤتمنة الأخيرة والوحيدة على تراثه ومعظمه لم ينشر وعلى مكتبته وأغراضه الشخصية. فهو لم ينجب أولاداً ولا أشقاء له ولا شقيقات. أما الكتاب الأول فهو «عربات» وقد أصدرته دار «لو كابوسان» التي تعنى بمن تسميهم «الأدباء الذين لم ينالوا حقهم» والثاني هو «بين التراث والفكر المعاصر» وقد صدر عن دار «لي دوزوسيان» (المحيطان)، وهذه دار تهتم بنشر الكتب الفلسفية والروحانية. والكتابان هذان يمثلان مرحلتين أساسيتين في مسار هذا الكاتب المجهول: الأولى هي المرحلة السوريالية التي كان خلالها قريباً من أندريه بروتون والسورياليين المصريين من أمثال جورج حنين ورمسيس يونان وسواهما، والثانية هي المرحلة الصوفية التي كتب خلالها نصوصاً صوفية وروحانية توفّق بين التصوّف الاسلامي والتصوّف الغربي والآسيوي. ولكن يصعب الاكتفاء بهذين الكتابين إذا كانت الغاية مقاربة عالم هذا الكاتب وتجربته الفريدة ورؤيته وهويته... خصوصاً أن أعماله ما برحت طي الأدراج وقد تبعثر بعضها في المجلات الفرنسية.
لم تكتب أي سيرة حقيقية لهذا الكاتب، فما تدرجه الداران حول حياته يفيد بالقليل من هذه السيرة «الصاخبة» والصامتة في آن واحد. فهو بحسب هذه السيرة المجتزأة ولد في 26 أيلول (سبتمبر) عام 1911 في مدينة الاسكندرية لعائلة مسلمة ومحافظة ودرس في فرنسا بدءاً من السابعة من عمره وحاز أولاً الاجازة في الفلسفة في جامعة السوربون ثم درس الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية. ثم أكب على درس القرآن في «الكولاج دو فرانس» ثم حاز شهادة الدكتوراه وكانت اطروحته حول «التصوف الاسلامي».
بدأ في نشر نصوصه في مجلات فرنسية منذ العام 1937 ومن تلك النصوص بحث حول «ابن عربي ومدرسته». ثم عيّن في العام 1955 استاذ كرسي في «السوربون»، فرع «العلوم الدينية»، وألقى محاضرات حول الاسلام والفلسفة الاسلامية والتصوّف العربي والفارسي. وعمل كذلك في الترجمة ناقلاً الكثير من الكتب والنصوص الى الفرنسية. وقد توفي في 1 كانون الثاني (يناير) سنة 1998 في باريس عن سبعة وثمانين عاماً.
هذه السيرة المقتضبة التي وردت في الكتابين الصادرين حديثاً لا تعبّر عن حقيقة شخصه ولا عن سر حياته هو الذي لم يعمد الى نشر أي كتاب منجز طوال عمره المديد ولا سيما أطروحته التي نالت رضا صديقيه المستشرقين الكبيرين لويس ماسينيون وهنري كوربان. وقد يرجع هذا التغاضي عن النشر الى طبعه الشخصي أو طبيعته الفكرية والروحانية، وهذا ما تكشف عنه نصوص كتابه «بين التراث والفكر المعاصر» الذي جمعته زوجته، فالكتابة كما يعيشها هي بحث عن «حقائق أخرى» تختلف عن الحقائق التي اختبرها الانسان وعرفها. ولطالما ردد في هذا الكتاب ان «التفسير» قابل دوماً للتبدل وأن الحياة الفكرية عرضة للتطور، وهكذا يقول مجازياً: «غالباً ما أبدّل طريقي».
أما الناحية الأخرى والمجهولة في سيرته فهو انه كان ينتمي الى الأسرة الملكية الحاكمة، فأمه هي الأميرة ناجية ذو الفقار وابنة خالته فريدة كانت زوجة الملك فاروق، وجده لأمه كان حاكم مصر طوال خمسين سنة وجده لأبيه كان وزيراً للمالية خلال عشرين سنة. وقد أثرت فيه أمه تأثيراً عميقاً، فهي كانت تميل الى الصوفية ودأبت على فتح منزلها للشعراء والكتاب والمتصوفة، وكانت متضلّعة من الصوفية العربية والفارسية والمسيحية تبعاً لثقافتها الواسعة. وكانت تلقن ابنها مبادئ هذه الفلسفات وتناقشه فيها. ويقال انها تخلت عن مظاهر الثراء والحياة المخملية وكانت تنام على فراش على الأرض. ولكن عندما حصلت «ثورة الضباط الأحرار» عام 1952 هاجرت العائلة وانقطعت علاقتها مع الوطن. لكن منير حافظ الذي كان يعيش متنقلاً بين فرنسا ومصر لم ينقطع عن وطنه الأم، فظل يعود اليه ولا سيما مع لويس ماسينيون في رحلات أثرية بحثاً عن معالم المعابد القديمة والقبور وسواها. وقد أمضى منير حافظ فترة في وادي النطرون منقطعاً عن العالم، ومختلياً الى ذاته، متأملاً ومدوناً تأملاته. طبعاً هذه السيرة في جزءيها تحتاج الى مَن يعيد كتابتها من جديد انطلاقاً من الوثائق والمراجع كي تنتظم تاريخياً وحياتياً، وإلا فستظل وقفاً على هذه الخطوط أو «المنحنيات» القليلة.
مصادفة جميلة
عندما وقع الكتابان بالمصادفة بين يديّ وجذباني مثيرين فيّ الكثير من الفضول للتعرف الى هذا الكاتب المجهول في مصر وفرنسا على السواء، اتصلت عمداً بإحدى الدارين سائلاً عنه وكان أن أفادتني المسؤولة بأن زوجته ما برحت على قيد الحياة، وهي المسؤولة عن آثاره وتراثه. وعندما حصلت على رقم هاتفها اتصلت بها وقد فوجئتْ ان شخصاً عربياً يسألها عن زوجها بعد سبع سنوات على رحيله، ورحبت بي كثيراً وحدثتني باختصار عنه وعن حياته وعزلته الشديدة وعن بعض اللمحات من ماضيه، وأرسلت إلي عبر البريد قصائد له ونصوصاً غير منشورة. وقالت ان لديه الكثير من الأعمال والكتب التي لم تبصر النور، ناهيك بما لم يجمع من مقالاته التي نشرت في المجلات الفرنسية. وسألتها إن كان أصدر كتباً بالعربية في مصر فقالت انها لا تعرف. أما اصدقاؤه المصريون فلا تذكر منهم سوى جورج حنين، لكنها قالت لي انه كان على صداقة بأندريه بروتون وجورج باتاي ولويس ماسينيون وهنري ميشو وسواهم. هذه المكالمة الطويلة فتحت أمامي أفقاً للتعرف الى حياة هذا الكاتب الذي سرعان ما أدركت فرادته عندما قرأت الصفحات الأولى من كتابيه المختلفين تمام الاختلاف. وإن كان من غير الممكن الاحاطة بعالم هذا الكاتب من خلال كتابي فقط، فإن تراثه غير المنشور يمثل كنزاً خبيئاً لا بد من العودة اليه بغية اخراجه من العتمة وتوضيبه ونشر ما يجب أن ينشر منه. وما توافر مما كتب عنه بالفرنسية قليل ولا يلقي عليه ضوءاً ساطعاً، ومن المحتم ان هناك مقالات كثيرة تناولته وعرّفت به، وقد خصته احدى المجلات الفرنسية سابقاً بملف خاص ولكن يصعب الحصول عليها إن لم يكن مستحيلاً. أما عربياً فالكاتب مجهول أو شبه مجهول وخصوصاً في وطنه الأول مصر، وقد ذكره الناقد سمير غريب في كتابه «السوريالية في مصر» من غير ان يتوقف عند نتاجه تبعاً لغياب هذا النتاج. أما الكاتب عصام محفوظ فكتب عنه القليل في كتابه «السوريالية وتفاعلاتها العربية» وتحدث عن لقاء له به في باريس، عابر ويتيم. ولعل ما يؤلم هو غيابه عن كتاب مهمّ صدر في باريس بالفرنسية عنوانه «بين النيل والرمل، أدباء مصر بالفرنسية 1920 – 1960» (المركز الوطني للتوثيق التربوي – باريس 1999)، وقد ورد اسمه خمس مرات عرضاً في هذا الكتاب الشامل والفريد، ومرة اختلط اسمه خطأ باسم الشاعر النهضوي حافظ ابراهيم. ويرد في الكتاب أن منير حافظ استطاع ان يحصل على رخصة لمجلة «سبتنتريون» التي سيصدرها جورج حنين (لاحقاً) وكان واجه بعض المشكلات مع الدولة المصرية. أما منير حافظ الكاتب والشاعر الذي كان سوريالياً في تلك المرحلة فلم يتحدث الكتاب عنه البتة ولا ذكر حتى عناوين قصائده ونصوصه. وهذا مما زاد من الغبن الذي لحقه، خلال حياته وبعد رحيله. وفي القاهرة الآن نادرون هم الأشخاص الذين يتذكّرون اسمه وهم طبعاً لا يذكرون عنه أي أمر.
الصورة العائدة
يعيد هذان الكتابان على اختلافهما بعضهما عن بعض، جزءاً من صورة هذا الكاتب الذي جمع على طريقته الفريدة بين السوريالية والصوفية، حياة ونصاً. إلا انه لم يكن سوريالياً ملتزماً ولم يكن أيضاً صوفياً «محافظاً» أو «تقليدياً» إن أمكن القول. وقد كتب حافظ يقول: «سئلت مرة: «أنت متصوف، فما هي طريقتك؟»، أجبت: «السوريالية، أندريه بروتون». سئلت أيضاً: «أهو معلّم صوفي؟»، قلت: «أجل، أجل». مثل هذا الكلام البديع يختصر الطريقة التي جمع فيها حافظ بين مدرستين متشابهتين ومختلفتين تماماً. ففي رأيه ان السوريالية أتت بأمور كثيرة، مثلما الصوفية في نظره هي «القوة الوحيدة في الكون». هكذا كان حافظ مبدعاً حراً أصر طوال حياته على عدم حصر نفسه ضمن نظام فكري واحد ومغلق، فـ «التفسير» يجب أن «يعاد النظر» فيه دوماً.
لم يكن يضير منير حافظ مثلاً ان يكتب عن هنري ميشو الشاعر الذي كان يتعاطى مخدر «المسكالين» ليشرع أمامه باب المخيلة ولا أن يكتب عن الشاعر الفارسي الصوفي فريد الدين العطار، فهو لم يكن يشعر بالتناقض بينه وبين نفسه، بل على العكس، كان في حال من المصالحة بين التيارات والمدارس والمذاهب المختلفة والمتناقضة، وكان يعيش كما يعبّر، الوحدة والتعدد، الأمر ونقيضه، كأن يقول مثلاً: «ما يسمح لي بالحياة هو انني لا أستطيع أن أحيا: إنها هذه الاستحالة، فوات الحياة هذا، هما اللذان يجعلانني أحيا». ويتحدث كذلك عمّا يسمّيه «تجاوراً متناقضاً ولكن مكملاً» بين النسيان والذكرى فيقول: «كأنني أتذكر ما نسيته وأنسى ما أتذكره». وفيما يتناول مقولة «الهاوية» في المفهوم العدمي (سيوران، بودلير...) قائلاً: «نحن أناس الهاوية، أناس ماهيتهم العميقة هي قيد الارتماء في الهاوية»، يتحدث في سياق آخر عن حال «الرسوّ» قائلاً: «لا نستطيع أن نبقى من غير رسوّ في مكان ما». أما الغربة عن النفس فينادي بها على لسان الشعراء والعلماء والمفكرين الذين دعوا الناس الى ان يكونوا «غرباء عن أنفسهم».
لا يبدو منير حافظ على حال من التناقض، فهو أولاً واعٍ تمام الوعي هذه الحال بل يبدو كأنه قصدها ليعبّر عن حال اللاتناقض. وما يجعل التناقض لا متناقضاً هو انطلاق التجربة من «الذات» القادرة على صهر المواقف والأفكار. و»الذات» هنا تعني في ما تعني «الحياة» ولكن في بعدها الداخلي: «يجب الانطلاق من تجربة عشناها بنفسنا خلال حياتنا: أين أنت من حياتك؟» يقول حافظ. لكنه يشترط على الانسان ان يكون «حراً»، فالتجربة الشخصية تعني «الحرية». وهذه الحرية تمكّن الانسان من امتلاك «فردوسه» الخاص و «أصله» الخاص. يقول: «ما هو أصل البشر؟ انه مختلف بحسب كل واحد. ما هو فردوس البشر؟ انه مختلف بحسب كل واحد، ووفق العلاقة التي يقيمها مع وضعه الشخصي». مثل هذا الكلام لا يعني ان المقاربة هنا هي مقاربة إلحادية، فالكاتب كثيراً ما يتحدث عن الله الذي هو «المحبة» وعن «الانسان الداخلي أو انسان الضوء» كما يقول، وعن «وحدة الوجود» و»الشاهد» و»الذِكْر» و»الملاك» وعن «الانسان المذنب البريء» وعن «القلب» الذي يُسمى في الصوفية بـ «السر» وعن «البعد الفطري المتواري تحت ما هو مكتسب». ويصف «النار» بـ «الشعلة المتوقدة للحب» مستعيناً بالصوفية المسيحية. ويقول عن «الضوء» إنه «ضوءٌ لذاته» ما يذكر بمقولة المتصوف الألماني الكبير سيلزيوس الذي قال: «الوردة هي من دون لماذا». ويسترجع «الفراغ» البوذي ليتحدث عما يولد في صميم هذا الفراغ. ولا ينسى الفن، فالفنان في نظره قادر على «كسر» الحقيقة لـ «يظهر لنا شيئاً ما خارج هذه الحقيقة يحيا». وعلى طريقة ابن عربي أو الشاعر رامبو يسأل نفسه ويجيب: «إذاً لمَ نحن هنا؟ إننا لسنا هنا». أما الحداثة في نظره فهي «ليست مرتبطة ضرورة بالأزمنة الحديثة».
ينمّ كتاب «بين التراث والفكر المعاصر» عن الثقافة الواسعة، الفلسفية والأدبية التي كان يملكها منير حافظ. ففي نصوص هذا الكتاب يتقاطع التراث الاسلامي والعربي والتراث الاغريقي والتراث الغربي ناهيك بالفكر الآسيوي القديم والثقافة العالمية المعاصرة. وهكذا يتجاور الحلاج وابن عربي وابن سينا وجاكوب بوهم وهيراقليط وبودا وامبادوقليدس وباسكال ونيتشه وهيغل وجورج باتاي وهيدغر (يقول عنه: «الفيلسوف الكبير الذي غيّر التاريخ») وفرويد وهلدرلن ودريدا وموريس بلانشو وشلينغ ولاكان ولايبنتز وشوبان وموزارت وسفر أيوب والقرآن والانجيل... وبمقدار ما تبدو النصوص ابداعية وتأملية، تبدو أيضاً وكأنها خلاصات ثقافية صاغها الكاتب انطلاقاً من رؤيته الخاصة والذاتية. فاللغة هنا تصهر المعرفة بالحدس، والثقافة بالتجربة، والفكر بالوجدان، والذاكرة بالمخيلة.
أما كتاب «عربات» فهو يختلف كل الاختلاف عن الأول. هذا الكتاب مجموعة نصوص نثرية كتبها حافظ بين الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم ويلوح فيها بعد سوريالي ونزعة فانتازية وتخييلية. إنها نصوص سردية وربما قصصية متحررة من أي شرط أو معيار مسبق. في النص الأول «عربات» تبرز لعبة تنكرية أبطالها أشخاص بلا هوية يعيشون ما يشبه «الطقس» المرِح والعبثي. وفي نص «مهاوٍ» يلتقي أشخاص غريبو الأطوار ومنهم السيدة ذات الأفخاذ الثلاثة ويبدو هؤلاء كأنهم يقدّمون مشهداً مسرحياً شديد الغرابة. وفي نص «متحف القماش» يدخل أشخاص «متحف القماش» بغية السرقة بعد أن يغافلوا الحارس، وعوض أن يسرقوا يتلاعبون بالقماش ويلهون حاملين الأقمشة ومتنقلين بها وكأنهم في حلم... واللافت ان بعض الأشخاص يتنقلون بين النصوص السردية هذه وكأنهم في نص طويل متقطع ومتعدد المشاهد. أما اللعبة التي تتوزع بضعة نصوص فهي أشبه باللعبة العبثية والجهنمية والمبهمة العناصر. نصوص لا تشبه إلا نفسها ولو جاءت في سياق بعض الأعمال الفانتازية والتخييلية ومنها نصوص جورجد باتاي. يقول الناقد الفرنسي مارك بلانش عن هذا الكتاب: «يدخلنا حافظ في لا وعينا الخاص ليزرعه بهواجسه وشياطينه واستيهاماته».
مَن يقرأ الكتابين ينتبه الى المسافة التي تفصل بينهما زمنياً ولغوياً وأدبياً. فالنصوص السردية كتبها حافظ في مطلع حياته فيما كتب النصوص التأملية في مرحلة لاحقة. أما بين المرحلتين فثمة أعمال كثيرة وكتابات يجب البحث عنها، علّ مسار هذا الكاتب الفريد يتواصل وتكتمل ملامح صورته، مفكراً وشاعراً وأديباً. فمن الغبن أن يظل منير حافظ مجهولاً ومظلوماً في مصر وفرنسا البلدين اللذين انتمى إليهما، وأن تظل أعماله راقدة في ظلمة الأدراج.
ترى، هل من الممكن ان تبادر وزارة الثقافة المصرية الى جمع نتاجه وترجمة ما ينبغي ان يترجم منه الى العربية، فيعود منير حافظ الى أرضه الأولى والى اللغة التي كان يحبها ويكتب بعض مفرداتها بالفرنسية؟
Mounir Hafez: Entre Tradition et Pensée Contemporaine - Les deux
2005 Océans, Paris
Mounir Hafez: Carosses - Le Capucin, Paris 2005
شذرات
أشعر بما أشعر به!» كلا! أنت لا تشعر بما تشعر به! أنت لا تذهب حيث تريد أن تذهب. وما تحبّه ليس ما تحبه.
***
ستقول الصوفية: تجب زيارة بلاد الـ «لا أين»، حيث لا يوجد «أين»، بلاد لا يمكن تعيينها.
***
بما أنني أديب، أقول دوماً: الحقيقة تأتي الي وهي تعرج.
***
ما تراها تكون المادة؟ انها ثبات اللاشيء. من اللاشيء كان ثمة شيء. اللاشيء ليس ما نتخيله: انه يحوي افتراضياً كل الظهور. والظهور هو استسلام اللاشيء. يقول اللاشيء: اذا استمررتم في ازعاجي سأصبح شيئاً ما.
***
يعاني الناس هذا المرض الذي لا شفاء منه، انه مرض أن يوجدوا.
***
ما يصنع سحر الحياة هو انها لا تطاق. لعل هذا ما يجعلنا نتعلّق بها، إنه هذا الاسراف. وما هو مأسوي، ان العقل يندفع دوماً نحو ما هو أبعد.
***
لو سئلت: بماذا فكّرت؟ انها حياتي التي تدل على ما فكرت به.
***
ما لا أدركه، هو ما أدركه. جزء من الحقيقة يلمع من دون حضوري. إذاً هل يكون حضوري غير ضروري؟ بلى، انه ضروري لألمس ما هو خارج هذا الحضور.
***
إذا تنزهتم مع شاعر، ترون الاشجار نفسها، الحصى نفسها، الجياد نفسها. الشاعر يحس جمال الاشياء او شعر الاشياء، وأنتم تحسونهما من خلاله. مع شخص آخر لا تحسون شيئاً، وليس في إمكانكم أن تحسّوا الجمال او الشعر، بنفسكم. انكم تختبرون أحوالاً روحية شخصية، لكنكم لا ترتفعون الى ما فوق هذه الاحوال، وهذا ما يقدر ان يقوم به الشاعر، الموسيقي، والفنان من خلال حضورهم فقط.
***
نبوح، أحياناً: «لم تعد الحياة تطاق، لم أعد قادراً على تحمّل الحياة، لأنتحر إذاً». لكنّ الحياة التي نعيشها هي انتحار. هوذا الانتحار، والخروج عنه هو الحياة.
***
اننا في حال مواجهة مع موتنا. وفي وقت ما، يحل فجأة ما يشبه الحزن، حزن أن يكون المرء لا حياً ولا ميتاً، أن يكون بين الحياة والموت، كما لو في نوع من المطهر (...). عندما تكون على اتصال مع الأعمق، لا يعود ثمة قضية حياة أو موت، تصبح الحياة والموت ظاهريين كلياً.
***
من أجل ماذا أنا على حداد؟ هل أنا على حداد على حياتي، على ما فاتني، على عزلتي؟ كلا! لا أعرف!
***
ما هو الضوء؟ أهو من الأدب الديني؟ انها حال قائمة في النسيج نفسه لكل ما هو معيش، لكنها حال لا مرئية، لأن عيشنا يؤثر مباشرة في ذاتنا.
***
هناك شبه حياة سرية، حياة خفية، حياة عميقة، أسمّيها: حقيقية إزاء هذه الحياة الظاهرة. هناك شبه كائن محجوب وكائن حيّ.
***
في الصباح، بين النوم والصحوة، ثمة فسحة غنية جداً لأنها تفيض بالبروق والرؤى. الرؤيا في هذه الأحايين، تخلق عالماً. هي ذي احدى التقدمات الغالية للصوفية، هوذا ما يُسمى عالم الملكوت، عالم الملاك، «الطبقة الثامنة» ولم تبق لها من علاقة بعالمنا الحسّي ولا عالمنا المعقول (...).
عن الحياة