أمل الكردفاني- موقع زواج- قصة قصيرة

"لقد استهلكت حصتك اليومية"
ينقبض قلبه كلما تلقى تلك الرسالة، الكهل الذي تجاوز الخمسين، ولا زال يبحث عن الزواج عبر الإنترنت، لقد أنفق قرابة مائة وعشرين دولاراً للتسجيل بموقع يوفر خدمة التعارف بغرض الزواج، وأنفق ستين دولاراً أخرى ليحصل على الباقة الذهبية، مزيد من الميزات، الحوارات، واللقاءات، الفيديوهات، والصوت الأنثوي الرقيق الذي ظل محروماً منه، منذ طلاقه قبل سنوات لم يعد يتذكر عددها.
يبتسم وهو يمسد شاربه القصير "بنات حلوات".. هذه بيضاء ولكنها قصيرة، سمراء ولكن شفتها غليظة قليلاً، "مش بطال..." يلوي شفتيه، نحيلة أكثر مما ينبغي، آه.. سمينة جداً.. جيدة ولكن..ولكن تبدو مزرقة كالجثة.. "لقد استهلكت حصتك اليومية".. يخبط التربيزة بأصابعه المكتنزة كالهوت دوغ. يغلق حاسبه ويرتمي داخل سريره، محاولاً النوم. يضع ذراعيه خلف رأسه، فتتداخل صور الفتيات.. "جميلة ولكن لديها طفل..ماذا سأفعل بالطفل، أنا لا اتحمل الأطفال"..، ينكفئ على جنبه الأيمن ويوسد رأسه على كفه، "ملامحها جميلة، لكن يبدو أنها خبيثة، تنطق عيناها بالخبث، ولقد اكتفيت من خباثة مهدية بما يكفيني لسنوات هي وخالتها الحقودة". يتذكر مهدية، فينقبض قلبه، يكفهر وجهه، يبصق على خيال وجهها، "تفووو يا ملعونة".. لقد اذاقته الويل، ولو كان من صناديد الكفر لما ألقى به الله في عذاب مثل عذاب مهدية الملعونة. تطوف في فضاء غرفته قصصها القديمة، كشياطين أطلق سراحها لتنغص عليه سلامه النفسي. يتخيل نفسه وهو يضربها، فيجد رجله تنتفض إلى أعلى، "خذي هذا الشلوت..خذيه انتِ وخالتك الحقودة".. لكنه في الواقع لم يضربها أبداً...، لم يكن يجروء على ضربها لأن لديها إخوة كُثر، إخوة أشرار أكثر منها ومن خالتها. يخرج رشاش من جيبه ويفرغ فيهم رصاصه، دددددددددددد، "إلى الجحيم"..مهدية الضالة المضلة، الملعونة..، ينهض من سريره ويذهب إلى الحمام، يخرج سيجارته ويتغوط فتهدأ روحه، بعد أكثر من ساعة، يضع جسده تحت الدش، ويتحمم، وحينما يعود إلى فراشه يتعمد أن لا يتذكر مهدية أبداً. فيغمض عينيه، يتخيل إحدى فتيات الموقع في أحضانه، هي فتاة يخترعها من جميع من يراهن، يأخذ من تلك شعرها، ومن أخرى صدرها ومن ثالثة قوامها ومن رابعة شفتيها ومن خامسة....وتظلم عيناه.
في عمله، يجلس أمام مكتبه بعينين منتفختي الأجفان، يتثاءب، ويشرب فنجان القهوة، ثم يدخن سجارة، وأثناء ذلك يدون بعض الكلمات في ورقة بيضاء ثم يطفئ سجارته ويتحرك إلى مديره المباشر، ويخرج من مبنى العمل بعد أن قُبلت استقالته.
"ماذا سأفعل الآن؟".. يراقب الشوارع عن كثب، والمحلات التجارية، عله يكتشف مشروعاً صغيراً يمكنه أن يبدأ منه حياة جديدة مستقلة. "مطعم؟.. لا لا..، سوبر ماركت صغير، آه... بالتأكيد لا...". وحين يصل لشقته الصغيرة التي يستأجرها منذ ما قبل طلاقه من مهدية..مهدية...يكفهر وجه.. وينقبض صدره.."تفووو أنت وخالتك يا ملعونة".. يجلس أمام حاسبه، ويخرج بطاقته المصرفية لتغذية رصيده في موقع الزواج، "مبروك..لقد نجحت في إستعادة حسابك بالباقة الذهبية يمكنك الآن.." يهمل باقي الرسالة، ويبدأ في تصفح صور الفتيات، هذه جيدة، مع ذلك، الصورة غير طبيعية، فوتوشوب؟ يكبر الصورة فتتداخل نقاط الألوان "نعم..عرفت ذلك يا خبيثة".."النساء كذوبات بشكل لا يطاق..لا يطاق..حقاً لا يطاق"..يهمس لنفسه ثم يخرج سجارة ويشعلها بغضب، بعدها يتصفح الصورة التالية، "عزباء في السادسة والعشرين من العمر.. كذابة.. كذابة.. هذه تجاوزت الخامسة والثلاثين..كلهن كاذبات..تافهات كاذبات".. بغضب يفتح صورة أخرى فتسقط السجارة من فمه ويهمس بدهشة: "مهدية؟!!..." يدخل إلى البروفايل ويقرأ "مطلقة في الثالثة والثلاثين.. لا يهم إن كان مدخناً" تتسع عيناه: "لا يهم إن كان مدخناً يا مهدية؟!!!..مهدية يا كذابة...أليست خالتك حرضتك على تسميم بدني بالحديث عن رائحة السجائر في فمي؟" يرمش بعينيه وهو غير مصدق "أحتاج لرجل حنون طيب القلب هادئ ويخاف الله".. يتراجع إلى الخلف ويسند ظهره على مقعده: "حنون..حنون يا مهدية.. حنون وهادئ.. ألم تقل لك خالتك بأنني خروف لا أهش ولا أنش وهدوئي هذا لأنني مصاب بمرض نفسي؟".. ينظر لصورها الأخرى "صورك في كل مكان كأي عاهرة يا مهدية..، هل هناك إمرأة محترمة تضع صورها في كل مكان هكذا وكأنها ممثلة بورنو..أكتاف عارية يا مهدية؟!! وما هذا؟!! الفستان الذي اشتريته لك قبل سبع سنوات...يا للبؤس.. الفستان الذي رفضتِ أن ترتديه لأن خالتك قالت أنه قبيح ولا يشتريه إلا من كان ذوقه منحط.. ذوقي أنا منحط يا مهدية؟!! أين ذهب ذوقي المنحط يا مهدية؟!! لقد عشتُ ثلاثة أيام في فزع بسبب هذا الفستان.. ثلاثة أيام تعرضت فيها للشتائم منك ومن خالتك...وتناقل كل الشعب قصة ذوقي المنحط وبخلي الذي جعلني أشتري لك هذا الفستان الرخيص؟!!!.. ثلاثة ايام غادرتِ بعدها المنزل وبقيت في منزل خالتك تنشران القصص الكاذبة والإشاعات عني..عن بخلي..وعن قبح كرشي..وعن عفونتي..وإصابتي باضطرابات نفسية...وسبي لك وإهانتي لخالتك...ووووو... ملعونة.. تافهة..تفووو... تلاحقينني هنا أيضاً.. ألا يكفيك ما حدث.. حتى هنا تريدين نشر فضائحك..يا للعنة..يا للعنة...".. يغلق الحاسب، وينهار على سريره، "تافهة.. تفوو.." .. وحين يشعر بالحمى تعصف بأذنيه، ينهض ويذهب إلى الحمام، يجلس على المرحاض دون أن يتغوط، يدخن سجارة ثم يستحم ويرتدي ملابسه ويخرج. "لابد أن أغادر هذا البلد..تركت عملي..وسأبيع كل ما أملك وأهاجر..هذا أحسن حل".. يجري إتصالاً بصديق لم يتحدث إليه منذ فترة طويلة لم يعد يتذكرها، غير أن صديقه لا يرد، وحين يهم بإعادة هاتفه يتلقى إتصالا، "ألو..." يأتيه صوت أنثوي "إزيك؟!!" .. يصمت محاولاً معرفة الصوت..يهمس "مهدية؟!!" .. ترد عليه المرأة "مهدية من؟!".. يقول بحنق "من أنتِ؟".. يأتيه صوتها مرتبكاً "راسلتني قبل أيام.. ألا تذكر؟ .. أنا آسفة... يبدو أنني أخطأت..".. تغلق الخط...فيتوقف عن السير وينظر لرقم الهاتف وكأنما يحاول قراءة إسمها من خلاله. وحين يرن الهاتف يرد بسرعة "لم أتذكرك؟"..يأتيه صوت صديقه" هل تتحدث معي؟!!".. يرتبك ويغمغم "لا لا.. حسبتك شخصاً آخر"..يتسامر مع صديقه وهو شارد الذهن..ثم يتوقف ويقول: "أريد بيع كل أثاث منزلي.. سأهاجر.. أرجو أن تساعدني في ذلك"..بعدها يخرج سجارة ويدخن وصوت المرأة يرن داخل جمجمته، "متى راسلتُ امرأة" يوقف سيارة أجرة ويعود إلى المنزل، ينسى أن يعطي السائق أجرته فينادي عليه السائق مذكراً.
كانت الشقة خانقة جداً، ففتح النوافذ كلها، وأدار مراوح السقف، ثم جرع كوب ماء بارد وجلس إلى حاسبه، ليبحث عن مراسلة تمت بينه وبين تلك المرأة حتى وجدها "آه.. أرملة لديها طفل..." يهمس "سأرى صورتها" يفتح إحدى الصور ويتأمل وجهها..تبدو متوسطة الجمال، عيناها بريئتان..ولكن متى كانت عيون المرأة تكشف حقيقة خبثها؟.. بحث عن صورة أخرى فلم يجد..، في السادسة والثلاثين، لديها طفل، تبحث عن رجل مقتدر، يضع سبابته على شفتيه "م..ق...ت..د..ر.. مقتدر..ماذا تقصد بذلك..هل تقصد غني؟.." يواصل القراءة؛ هادئة الطباع،.. "ه..ا...د...ئ...ة هادئة الطباع" هل هناك شخص سيصف نفسه بالشراسة وهو يعرض نفسه للزواج؟..".. يرسل لها رسالة نصية.."سيدتي.. آسف لأنني لم أتذكرك حينما اتصلتِ بي..كنت مشغولاً ومرتبكاً قليلاً..أرجو معاودة الإتصال حينما يسمح وقتك بذلك" ضغط على زر الإرسال، وفوراً سمع رنين هاتفه "اللعنة..متى قرأت الرسالة؟!!".. جاء صوتها خجولاً ومرتبكاً.. وكان هو أيضاً مرتبكاً.. لم يتحدث إلى امرأة منذ سنوات...، لكنها كانت مرنة جداً وصبورة، لقد انتهى حديثهما بموعد للقاء...
وحين أغلق الخط، عاد وتأمل صورتها على الحاسب.. "لا بأس بها.. أنا أيضاً لست وسيماً.. لا بد من تقديم تنازلات متبادلة لكي تستمر الحياة"..
كانت الساعة تقترب من العاشرة، لذلك تعجل إرتداء ملابسه، ثم نزل السلالم على عجل، وحين رن جرس هاتفه جاءه صوت مهدية "لا زلتَ حياً؟!" .. توقف وصاح "مهدية؟!!".. ردت بحدة "نعم مهدية.. لماذا تصرخ وكأنما لسعتك عقرب؟".. إبتلع ريقه وصاح "تضعين صورك على الإنترنت بتلك الملابس الفاضحة يا مهدية؟ ألا تكفيك الفضائح التي تسببتِ لي فيها.." صاحت"وماذا يهمك في ذلك..ألسنا مطلقين".. صاح بغضب "مطلقين لا يعني أن تمارسي الدعارة على الإنترنت..فأنتِ محسوبة على إسمي" تهدج صوتها "وماذا أفعل.. إنك لم تفكر حتى في الإعتذار لي .. أنا بشر..وأحتاج لرجل.." أحس بأنها ترغب في عودة الأمور إلى مجاريها، فسألها مباشرة "أفهم من ذلك أنك تريديننا أن نعود لبعض؟".. قالت "فقط من أجل الولد..".. يسألها بجزع "اي ولد؟!!".. تقول وهي تبكي "أنا حامل؟" يتوقف عن السير "ماذا تقصدين؟".. تتحدث من بين بكائها "انا حامل..ألا تفهم"...يسألها "من رجل آخر؟!!" تصمت لبرهة..."أرجوك.. أسترني يا عبد الغني أرجوك..".. يحدق في الأرض بعينين جزعتين وهو لا يصدق ما سمعه، ثم يغلق الهاتف ويبقى صامتاً... يلمح الأرملة تشير إليه من بعيد، فيشعر بالإرتياح ويتجه إليها بخطوات بطيئة.
"أنت رجل رزين يا عبد الغني".. يدرك أنها تظنه رزيناً لأن ما حدث جعله أقل شغفاً للحديث..يحاول نفض ذاكرته ليركز معها، فيدقق النظر في وجهها، وجهها جميل، بشرتها تميل إلى السمرة قليلاً، وتحت شفتها شامة بنية صغيرة، جسدها رشيق من أعلى وإن كانت مكتنزة الأرداف قليلاً..."حدثني عن نفسك قليلاً".. يجلسان في الحديقة العامة، فينظر إلى الأفق ويقول: "ليس لدي الكثير لأقوله..كنت موظفاً عادياً..تزوجت وطلقت ولم أنجب..هذا كل مافي الأمر". قالت "لأنها لم تنجب؟" .. هز رأسه وقال "لا.. لم نحصل على وقت كافٍ للإنجاب..لقد تبين لنا أننا لن نستطيع الإستمرار.. فانفصلنا".. نظرت إليه وتأملته عن كثب ثم سألته "لم تكن سيئة؟".. أجابها بغير إكتراث "لا لم تكن سيئة..." ثم بدا عليه القلق فأضاف"أشعر ببعض التعب..أستمحيك عذراً.." .. "حسنٌ"..غادر ببطء وأخذ يقطع المسافة مشياً، تلفت حوله ورأى الشوارع خالية، إنها الإجازة الأسبوعية، أجرى إتصالا بجواله "مهدية.. هل أنتِ بالمنزل؟.."
اجابته بصوت كسول "نعم" صمت قليلاً ثم قال "حسنٌ..سآتي إليك".

(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...