يتعاظم حشد المتفرجين على أكبر آلة طائرة في العالم، وفوق حجمها الضخم، فإنها لا تعمل بالوقود، بل بالتنائي الفوتوني، بما يتيح لها السفر عبر الفضاء الأرضي دون توقف. لقد باعت الشركة المصنعة تذاكر الألف وخمسمائة مقعد خلال ست ساعات فقط من طرحها أمام الجماهير. السيد جُبارة باع قطعة أرضه لكي يكون أول إفريقي من دولة فقيرة يشارك في ذلك اليوم المجيد. لقد ورث قطعة ارضه الوحيدة من عمه الذي مات كلالة، لكنه تخلى عنها من أجل ذلك اليوم المشهود. والحوت الطائر سيطير بهم لمدة أسبوع كامل، مع توفير كل الخدمات اللازمة. ولكن المفاجأة ليست هنا، بل في المواد التي صنعت منها المركبة الطائرة، أذ أنها شفافة تماماً، هيكل الطائرة والمقاعد والماكينات والمراوح وحتى الدوائر الكهربائية، بحيث يستطيع الراكب مشاهدة كل شيء من أسفله وأعلاه، السحب والأرض والأشجار والبدوي الذي يهرول فوق جمله في الصحراء، كما سيرى الركاب لأول مرة الغلاف الجوي. تنقسم الطائرة لثلاثة أقسام بحسب الدرجة، فهناك الدرجة الرخيصة في الخلف، ثم الإقتصادية في الوسط ثم السياحية في المقدمة، وبالتأكيد لم يتمكن جبارة من شراء تذكرة سياحية، فاكتفى بالدرجة الإقتصادية، وخير الأمور أوسطها.
هكذا جلس جبارة في مقعد مبطن ببطانة طرية لينة ذات لون كريمي فغاص فيها وهو يبتسم بسعادة. بقى الركاب في حالة انتظار لنصف ساعة، قبل أن تهبط من السقف قضبان بألياف معدنية، وتحاصر كل راكب داخل كرسيه، ويسمعون بعدها صوت امرأة من مكبر الصوت "مرحباً بكم في الحوت الطائر، إنها تجربة عظيمة لتكونوا من أوائل من يسجلون إسماءهم في تاريخ صناعة الملاحة الجوية، شركتنا، تحقق لكم أعلى مستوى أمان وراحة، ولتحقيق ذلك يجب أن تتبعوا تعليمات السلامة كما سيظهر على المجسد الهلوغرامي، بعد ذلك، سيتم تحديد إمكانية أن تتحركوا بحرية داخل الحوت الطائر، ولكن داخل القسم الخاص بكم فقط، ماعدا القسم السياحي الذي يجوز لأي راكب فيه أن يتنقل كما يشاء. كما أن هناك ميزات إضافية سنعلنكم بها في حينه. شركتنا تتمنى لكم رحلة سعيدة". وبعد توقف الصوت، إنطفأت الأنوار وعم الظلام، ليسمع الركاب صوت موسيقى ملحمية، ثم تساقطت أضواء الليزر الملونة ذات الأشكال المتنوعة، وأخذت تتراقص، فتبسم الركاب بسعادة، بعدها ارتعشت المركبة فأدرك الركاب أنها على وشك الإقلاع. وكمصعد حديث، أحس الركاب بالحوت الطائر وهو يرتفع أفقياً نحو السماء، وخلال عشر دقائق وصل لنقطة الثبات المطلوبة، ليندفع إلى الأمام بقوة. حينها تم ضخ الأوكسجين ومواد عطرية في الهواء، فانتشى الركاب. أما جُبارة، الذي لم يرَ مشهداً كهذا من قبل فقد بدا مذعوراً وضاحكاً في نفس الوقت. بعد قليل، إنبثقت من أرضية المركبة طاولة إلكترونية ذات أرفف، كان على الرف الأول، مقبلات وعلى الثاني جاتوه، وعلى الثالث فواكه وعلى الرابع لحوم متنوعة وعلى الخامس مشروبات غازية وعلى السادس مشروبات روحية، وعلى السابع كتب رقمية مقدسة، وعلى الثامن حاجيات متنوعة كمناديل الورق والعطور ومخللات الأسنان، والصابون، وخلافه. وفوق الطاولة شاشة مستديرة تغطي الطاولة ولها أزرار تعمل باللمس. في الواقع؛ كان الركاب جميعهم يخشون لمسها وتجربتها. ثم سمعوا صوت المايكروفون "بعد قليل سنعلنكم بوقت تحريركم من مقاعدكم، أما الآن فستشاهدون مجسم الهلوغرام لشرح تعليمات السلامة، وبعدها سيتم شرح وظائف الأزرار على الشاشة، وإلى ذلك الحين يمكنكم تناول الوجبات اللذيذة المعدة لكم في أرفف الطاولة، وهي وجبات من أرقى المطابخ العالمية، كما توجد وجبات صحية للنباتيين ومن يتبعون حمية غذائية..نتمنى لكم رحلة سعيدة"..
ألقى جبارة نظرات جانبية خاطفة على باقي الركاب، وأنتظرهم حتى شرعوا في إلتهام اللحوم، ففعل مثلهم..ثم عاد ونظر إليهم فرأى بعضهم يحتسي أنواع الشراب المختلفة، وقد لفتت نظره زجاجة ذات عنق طويل، كان جاره يصب منها قليلاً على كوبه، فقرر تقليد جاره، وبعد ثلاثة أكواب، دارت راسه، وشرع في التقيوء. تقزز الركاب منه، وهرعت المضيفة القصيرة إليه، فوكأته حتى الحمام، كان كلما نظر إلى الأرض وشاهد السحب وبين فجواتها الأرض الزرقاء إزداد دوران رأسه، ثم داهمه رعب مفاجئ وتشنجت مفاصله، قبل أن يدخل في هستيريا عضلية أفزعت الركاب، مما أضطر المضيفة للإستعانة بطاقم الأطباء المسعفين، الذين حملوه إلى غرفة جانبية، وبدأوا في حقنه بالمهدءات. وهكذا ضاع عليه يوم من الأيام السبعة.
حين عاد في صباح اليوم التالي إلى مقعده كان خجلاً، خاصة عندما حدقت فيه إمرأة في الخمسين من عمرها بإشمئزاز.
كان الركاب يراقبون إصطدام السحب بجسد الطائرة في مشهد مهيب، إذ تتبعثر السحب كالقطن، وتعبر من اعلى المركبة ومن أسفلها. أما جبارة ففضل أن يغمض عينيه حتى لا يصاب بالهلع مرة أخرى. كان الركاب قد بدأوا في إستخدام الأزرار التي على الطاولة، أما جبارة فلم يشهد لحظة شرح طريقة استخدامها. ففقد ميزة أخرى. لقد نغص عليه ما حدث شعوره باللذة، لكنه قرر أن يبدأ من جديد، فقد أنفق كل ثمن الأرض كي يسجل إسمه في التاريخ. أغمض عينيه، وراح في غفوة خفيفة، رأى فيها قريته البعيدة، كانت تبدو مظلمة كمقبرة أثرية. رأى كنتين عمه المعبق برائحة زيت الفول والصابون، ولكن الأرفف كلها امتلأت بتلك الزجاجة الملعونة. ورأى نفسه مربوطاً إلى جزع نخلة في منتصف الكنتين، وأهل القرية يصبون عليه من تلك الزجاجات وأفواههم مفتوحة تبرز منها أنياب حادة، وهو يحاول الصراخ دون جدوى، ثم رأى نسراً يرتطم بوجهه فصرخ، واستيقظ ليرى الركاب ينظرون إليه شذراً. لكنهم صرخوا جميعاً حين ارتجت المركبة بعنف...ثم توالت الإرتجاجات قبل أن يشعر الركاب بالمركبة وهي تتهاوى بسرعة، فأطلقوا صرحات الرعب، ثم اتسعت عيونهم جزعاً حين عاودت المركبة الإرتفاع لأعلى، تقيأ الجميع ما عدا جبارة، وصرخوا جميعاً ما عدا جبارة. الذي كان منتشياً بصراخهم وعويلهم وقيئهم..جاء صوت المضيفة عبر المايكروفون "مطبات هوائية بسيطة، إن الحوت الطائر مجهز بمجسات خاصة تمتص تلك المطبات، ولولا ذلك لسقطت المركبة، أنتم في أمان فاطمئنوا".. لكن المضيفة لم تكمل حديثها حتى إرتجت المركبة مرة أخرى وبدأت في الإرتفاع، دون توقف، حتى رأى الركاب قوس الغلاف الجوي، والظلمة من خلفه، فامتلأت المقاعد بالبول والإسهال والقيء.كان جبارة ينظر للقوس المضيئ بانبهار، فغمغم "يا للروعة..يا للروعة..".. وفي لحظة ما حلقت الأطباق والملاعق ومناديل الورق في الهواء، فحملق جبارة فيها بذهول "يا إلهي.. هل كان بإمكاني مشاهدة ذلك من قبل؟!!!".. أحس بأن ما أنفقه من نقود لم يذهب سدىً. فخلع حزام الأمان ورأى جسد يرتفع، ويحلق فوق المقاعد، دار بجسده كمن يسبح على ظهره، ثم على بطنه، ثم غاص برأسه، غير أن المركبة هبطت فجأة فطار جبارة واصطدم وجهه بأحد المقاعد فهشم فكه. لكن كل شيء يهون أمام ما شاهده. وحين استقرت المركبة جاء صوت قائدة المركبة "السادة الركاب الأعزاء، نأسف لما حدث لكم، وبالفعل يعد ما حدث غريباً فالمركبة مجهزة لتحمُّل كل أنواع المخاطر، ولكنها ووجهت بمخاطر مجهولة المصدر.. يؤسفنا أن نخبركم بأن المهندسين المختصين لم يجدوا أي عطل محدد في الحوت الطائر، وهذا يرجح لدينا سبباً غريباً قد لا تصدقوه.." صمت الركاب ما عدا جبارة الذي كان يتأوه بألم وهو يسند فكه بيده.."نعم.. أخبرنا المهندسون بأن ما يحدث للطائرة هو أمر خارج نطاق الفهم العلمي..أي أنه غضب إلهي.. نعم.. هناك شخص آثم في هذه المركبة، وإن لم يتم التخلص منه فسيتسبب وجوده في هلاكنا جميعاً..لذلك قررت إدارة المركبة بالإتفاق مع الملاحة الجوية على الأرض أن يتم إجراء قرعة بإسماء جميع الركاب وطاقم الطائرة، ومن تقع عليه القرعة، سيتم إلقاؤه من المركبة"..صاح بعض الركاب معترضين "ما هذا الهراء..هل لا زال البشر يؤمنون بمثل هذه الخزعبلات؟!!!" فرد عليهم آخرون "اصمتوا أيها الكفار الملعونون"..ومنعاً للإحتكاك بين الفريقين، وقف طاقم المركبة سريعاً في صف يفصل بينهما، رغم أن كل فريق أخذ يقذف الفريق الآخر بالإطباق والأكواب والشوك والمعالق وسكاكين البلاستيك..، ثم بدأوا في قذف الطعام، الجاتوهات واللحوم والخضار والفواكه، والكاتشب والمايونيز ثم المشروبات الغازية والروحية والعصائر الطبيعية، ثم مناديل الورق والمناديل الورقية المعطرة والسكر والفلفل. استحم طاقم المركبة بكل تلك المقذوفات لكنهم صمدوا بصبر. وحين ارتجت المركبة هذه المرة، صمت الجميع، وبات أنهم إتفقوا على تنفيذ رأي قائدة الحوت الطائر، فقطعوا قصاصات من مناديل الورق وكتبوا أسماءهم عليها، ما عدا جبارة، الذي طوى ورقته وهي خالية من أي كتابة. جمع طاقم المركبة جميع القصاصات المطوية، ثم تحدثت قائدة الحوت الأزرق قائلة "مرحباً، أنا قائدة الحوت الطائر، وسوف تجري القرعة امام الشاشات التي أمامكم، حتى تتأكدوا من نزاهة القرعة، شكراً لكم"، وهكذا أضاءت الشاشات، وتقدمت تلك المضيفة القصيرة، فوضعت كل القصاصات في كرة بلورية، وبدأت في خلطها بيدها، ثم أخرجت إحدى القصاصة. وببطء فردتها ونظرت برعب إلى الشاشة وقالت "جبارة". لم يكن جبارة منتبهاً، حتى قالت المضيفة "جبارة.. من هو جبارة". حينها اتسعت عينا جبارة بذعر. وبسرعة أخرج أوراقه الثبوتية ومزقها. قالت المضيفة "حسنٌ يبدو أنه لا يوجد أحد بهذا الإسم.. سنعيد الكرة مرة ثانية..". وبالفعل جمعوا القصاصات للمرة الثانية وللمرة الثانية لم يكتب جبارة إسمه بل طوى الورقة وهي خالية. وبدأت المضيفة القصيرة في تدوير القصاصات بيدها داخل الكرة البلورية، قبل أن تُخرج قصاصة وتفردها ببطء ثم تقرؤها والعرق يتصبب من جبينها "السيد جبارة"..، انخلع قلب جبارة وأحس بأن هناك مكيدة تحاك ضده فصمت. قالت المضيفة "أين جبارة؟ لا بد أنه أحدكم..لقد تم التأكد من أنه هو من اختارته السماء.. سنعيد القرعة للمرة الثالثة والأخيرة وستكون المرة الحاسمة"، وللمرة الثالث يتم إختيار الورقة ويكون عليها إسم جبارة. وبدأت عملية محمومة للبحث عن جبارة، وهكذا بدأت مراجعة أوراق جميع الركاب، ولم يبقَ إلا جبارة.. فالتفت الجميع نحوه، حينها نظر إليهم برعب وأخذ يصرخ "هذه مؤامرة.. مؤامرة عنصرية لأنني أفريقي ومن دولة فقيرة.." غير أن صراخه -الذي لم يتوقف- لم يشفع له وهم يحملونه ويضعونه فوق منطقة معينة إنزلقت أرضيتها بسرعة ليجد جبارة نفسه يتهاوى في السماء المظلمة. كان جسده يتقلب في الهواء والأرض تحته تضيئ بومضات نور صغيرة متبعثرة كالنجوم، ففتح فمه مذهولاً "يا للروعة.. يا للجمال..." كان يتهاوى بسرعة جنونية والهواء يصخب في أذنيه وياقة قميصه تصفق صفقات سريعة راتبة، رأى تحته البحر وقد انعكست عليه صورة نجوم السماء، البحر واسع جداً، والهواء بارد، مما زاد نشوة جبارة فصرخ "رباه.. رباه.. ما كل هذا الجمال".. دخل الهواء في عينيه، لكنه لم يغمضهما حتى لا يفقد رؤيته لذلك المشهد العجيب، رأى اليابسة ورؤوس الأشجار السوداء في الأدغال، وفي الجانب القصي من الأرض شاهد تعرجات الجبال، ونهراً يتلوى بينها، ومنازل كعلب الكبريت، كانت الصورة تكبر، وجبارة يصور كل المشاهد بعينيه، رأى طرقاً معبدة وسيارات صغيرة بحجم النملة تسير فوقها، فعدل جبارة جسده وانتصب بزاوية قائمة، ثم شبك ذراعيه وهو يتأمل الأرض تحت قدميه. شعر بأنه كائن عظيم جداً. لقد انتفخت أوداجه من فرط فخره بتلك اللحظة الفارقة في حياته. كانت المسافة تتضاءل، وتلمع من تحت قدميه رؤوس ناطحات السحاب، وحين مر بها، رأى فتيات وفتيان يرقصون في إحدى المراقص أعلى برج شاهق، وفي الطابق أسفل المرقص رأى حانة وقليلاً من الرجال، وفي الطابق التالي رأى رجلا كهلاً يقبل شابة حسناء، كان واضحاً أنه مليونير. فالجناح الذي كان يقطنه كان فاخر الأثاث. بعدها رأى جبارة خمسة رجال يقيدون رجلاً ويوسعونه ضرباً، كان الرجال يرتدون بدلات ورابطات عنق بما فيهم الرجل الذي يضربونه. إنهم عصابة، رأى بعدها كازينو للقمار، وهو معبق بالدخان، فتيات شبه عاريات يقفن قرب رجال جالسين أمام طاولة اللعب، بعدها رأى حفل زفاف، كان العريس يرقص مع امرأة عجوز قد تكون أمه أما العروس فكانت في الشرفة خارج الصالة تمارس الجنس مع رجل آخر وعيناها تراقبان الداخل بحذر.. أما الرجل فكان يبدو مرهقاً ومتعرق الجسد. ثم رأى بعدها معرض سيارات مضيئاً إضاءة خافتة، يبدو أنه مغلق. نظر تحت قدميه ورأى السيارات تسير بسرعة جنونية. تذكر حينها قريته المظلمة كالقبر. فغمغم "هي ليست مظلمة كالقبر.. بل هي قبر بالفعل.. قبر .. بالفعل".
(تمت)
هكذا جلس جبارة في مقعد مبطن ببطانة طرية لينة ذات لون كريمي فغاص فيها وهو يبتسم بسعادة. بقى الركاب في حالة انتظار لنصف ساعة، قبل أن تهبط من السقف قضبان بألياف معدنية، وتحاصر كل راكب داخل كرسيه، ويسمعون بعدها صوت امرأة من مكبر الصوت "مرحباً بكم في الحوت الطائر، إنها تجربة عظيمة لتكونوا من أوائل من يسجلون إسماءهم في تاريخ صناعة الملاحة الجوية، شركتنا، تحقق لكم أعلى مستوى أمان وراحة، ولتحقيق ذلك يجب أن تتبعوا تعليمات السلامة كما سيظهر على المجسد الهلوغرامي، بعد ذلك، سيتم تحديد إمكانية أن تتحركوا بحرية داخل الحوت الطائر، ولكن داخل القسم الخاص بكم فقط، ماعدا القسم السياحي الذي يجوز لأي راكب فيه أن يتنقل كما يشاء. كما أن هناك ميزات إضافية سنعلنكم بها في حينه. شركتنا تتمنى لكم رحلة سعيدة". وبعد توقف الصوت، إنطفأت الأنوار وعم الظلام، ليسمع الركاب صوت موسيقى ملحمية، ثم تساقطت أضواء الليزر الملونة ذات الأشكال المتنوعة، وأخذت تتراقص، فتبسم الركاب بسعادة، بعدها ارتعشت المركبة فأدرك الركاب أنها على وشك الإقلاع. وكمصعد حديث، أحس الركاب بالحوت الطائر وهو يرتفع أفقياً نحو السماء، وخلال عشر دقائق وصل لنقطة الثبات المطلوبة، ليندفع إلى الأمام بقوة. حينها تم ضخ الأوكسجين ومواد عطرية في الهواء، فانتشى الركاب. أما جُبارة، الذي لم يرَ مشهداً كهذا من قبل فقد بدا مذعوراً وضاحكاً في نفس الوقت. بعد قليل، إنبثقت من أرضية المركبة طاولة إلكترونية ذات أرفف، كان على الرف الأول، مقبلات وعلى الثاني جاتوه، وعلى الثالث فواكه وعلى الرابع لحوم متنوعة وعلى الخامس مشروبات غازية وعلى السادس مشروبات روحية، وعلى السابع كتب رقمية مقدسة، وعلى الثامن حاجيات متنوعة كمناديل الورق والعطور ومخللات الأسنان، والصابون، وخلافه. وفوق الطاولة شاشة مستديرة تغطي الطاولة ولها أزرار تعمل باللمس. في الواقع؛ كان الركاب جميعهم يخشون لمسها وتجربتها. ثم سمعوا صوت المايكروفون "بعد قليل سنعلنكم بوقت تحريركم من مقاعدكم، أما الآن فستشاهدون مجسم الهلوغرام لشرح تعليمات السلامة، وبعدها سيتم شرح وظائف الأزرار على الشاشة، وإلى ذلك الحين يمكنكم تناول الوجبات اللذيذة المعدة لكم في أرفف الطاولة، وهي وجبات من أرقى المطابخ العالمية، كما توجد وجبات صحية للنباتيين ومن يتبعون حمية غذائية..نتمنى لكم رحلة سعيدة"..
ألقى جبارة نظرات جانبية خاطفة على باقي الركاب، وأنتظرهم حتى شرعوا في إلتهام اللحوم، ففعل مثلهم..ثم عاد ونظر إليهم فرأى بعضهم يحتسي أنواع الشراب المختلفة، وقد لفتت نظره زجاجة ذات عنق طويل، كان جاره يصب منها قليلاً على كوبه، فقرر تقليد جاره، وبعد ثلاثة أكواب، دارت راسه، وشرع في التقيوء. تقزز الركاب منه، وهرعت المضيفة القصيرة إليه، فوكأته حتى الحمام، كان كلما نظر إلى الأرض وشاهد السحب وبين فجواتها الأرض الزرقاء إزداد دوران رأسه، ثم داهمه رعب مفاجئ وتشنجت مفاصله، قبل أن يدخل في هستيريا عضلية أفزعت الركاب، مما أضطر المضيفة للإستعانة بطاقم الأطباء المسعفين، الذين حملوه إلى غرفة جانبية، وبدأوا في حقنه بالمهدءات. وهكذا ضاع عليه يوم من الأيام السبعة.
حين عاد في صباح اليوم التالي إلى مقعده كان خجلاً، خاصة عندما حدقت فيه إمرأة في الخمسين من عمرها بإشمئزاز.
كان الركاب يراقبون إصطدام السحب بجسد الطائرة في مشهد مهيب، إذ تتبعثر السحب كالقطن، وتعبر من اعلى المركبة ومن أسفلها. أما جبارة ففضل أن يغمض عينيه حتى لا يصاب بالهلع مرة أخرى. كان الركاب قد بدأوا في إستخدام الأزرار التي على الطاولة، أما جبارة فلم يشهد لحظة شرح طريقة استخدامها. ففقد ميزة أخرى. لقد نغص عليه ما حدث شعوره باللذة، لكنه قرر أن يبدأ من جديد، فقد أنفق كل ثمن الأرض كي يسجل إسمه في التاريخ. أغمض عينيه، وراح في غفوة خفيفة، رأى فيها قريته البعيدة، كانت تبدو مظلمة كمقبرة أثرية. رأى كنتين عمه المعبق برائحة زيت الفول والصابون، ولكن الأرفف كلها امتلأت بتلك الزجاجة الملعونة. ورأى نفسه مربوطاً إلى جزع نخلة في منتصف الكنتين، وأهل القرية يصبون عليه من تلك الزجاجات وأفواههم مفتوحة تبرز منها أنياب حادة، وهو يحاول الصراخ دون جدوى، ثم رأى نسراً يرتطم بوجهه فصرخ، واستيقظ ليرى الركاب ينظرون إليه شذراً. لكنهم صرخوا جميعاً حين ارتجت المركبة بعنف...ثم توالت الإرتجاجات قبل أن يشعر الركاب بالمركبة وهي تتهاوى بسرعة، فأطلقوا صرحات الرعب، ثم اتسعت عيونهم جزعاً حين عاودت المركبة الإرتفاع لأعلى، تقيأ الجميع ما عدا جبارة، وصرخوا جميعاً ما عدا جبارة. الذي كان منتشياً بصراخهم وعويلهم وقيئهم..جاء صوت المضيفة عبر المايكروفون "مطبات هوائية بسيطة، إن الحوت الطائر مجهز بمجسات خاصة تمتص تلك المطبات، ولولا ذلك لسقطت المركبة، أنتم في أمان فاطمئنوا".. لكن المضيفة لم تكمل حديثها حتى إرتجت المركبة مرة أخرى وبدأت في الإرتفاع، دون توقف، حتى رأى الركاب قوس الغلاف الجوي، والظلمة من خلفه، فامتلأت المقاعد بالبول والإسهال والقيء.كان جبارة ينظر للقوس المضيئ بانبهار، فغمغم "يا للروعة..يا للروعة..".. وفي لحظة ما حلقت الأطباق والملاعق ومناديل الورق في الهواء، فحملق جبارة فيها بذهول "يا إلهي.. هل كان بإمكاني مشاهدة ذلك من قبل؟!!!".. أحس بأن ما أنفقه من نقود لم يذهب سدىً. فخلع حزام الأمان ورأى جسد يرتفع، ويحلق فوق المقاعد، دار بجسده كمن يسبح على ظهره، ثم على بطنه، ثم غاص برأسه، غير أن المركبة هبطت فجأة فطار جبارة واصطدم وجهه بأحد المقاعد فهشم فكه. لكن كل شيء يهون أمام ما شاهده. وحين استقرت المركبة جاء صوت قائدة المركبة "السادة الركاب الأعزاء، نأسف لما حدث لكم، وبالفعل يعد ما حدث غريباً فالمركبة مجهزة لتحمُّل كل أنواع المخاطر، ولكنها ووجهت بمخاطر مجهولة المصدر.. يؤسفنا أن نخبركم بأن المهندسين المختصين لم يجدوا أي عطل محدد في الحوت الطائر، وهذا يرجح لدينا سبباً غريباً قد لا تصدقوه.." صمت الركاب ما عدا جبارة الذي كان يتأوه بألم وهو يسند فكه بيده.."نعم.. أخبرنا المهندسون بأن ما يحدث للطائرة هو أمر خارج نطاق الفهم العلمي..أي أنه غضب إلهي.. نعم.. هناك شخص آثم في هذه المركبة، وإن لم يتم التخلص منه فسيتسبب وجوده في هلاكنا جميعاً..لذلك قررت إدارة المركبة بالإتفاق مع الملاحة الجوية على الأرض أن يتم إجراء قرعة بإسماء جميع الركاب وطاقم الطائرة، ومن تقع عليه القرعة، سيتم إلقاؤه من المركبة"..صاح بعض الركاب معترضين "ما هذا الهراء..هل لا زال البشر يؤمنون بمثل هذه الخزعبلات؟!!!" فرد عليهم آخرون "اصمتوا أيها الكفار الملعونون"..ومنعاً للإحتكاك بين الفريقين، وقف طاقم المركبة سريعاً في صف يفصل بينهما، رغم أن كل فريق أخذ يقذف الفريق الآخر بالإطباق والأكواب والشوك والمعالق وسكاكين البلاستيك..، ثم بدأوا في قذف الطعام، الجاتوهات واللحوم والخضار والفواكه، والكاتشب والمايونيز ثم المشروبات الغازية والروحية والعصائر الطبيعية، ثم مناديل الورق والمناديل الورقية المعطرة والسكر والفلفل. استحم طاقم المركبة بكل تلك المقذوفات لكنهم صمدوا بصبر. وحين ارتجت المركبة هذه المرة، صمت الجميع، وبات أنهم إتفقوا على تنفيذ رأي قائدة الحوت الطائر، فقطعوا قصاصات من مناديل الورق وكتبوا أسماءهم عليها، ما عدا جبارة، الذي طوى ورقته وهي خالية من أي كتابة. جمع طاقم المركبة جميع القصاصات المطوية، ثم تحدثت قائدة الحوت الأزرق قائلة "مرحباً، أنا قائدة الحوت الطائر، وسوف تجري القرعة امام الشاشات التي أمامكم، حتى تتأكدوا من نزاهة القرعة، شكراً لكم"، وهكذا أضاءت الشاشات، وتقدمت تلك المضيفة القصيرة، فوضعت كل القصاصات في كرة بلورية، وبدأت في خلطها بيدها، ثم أخرجت إحدى القصاصة. وببطء فردتها ونظرت برعب إلى الشاشة وقالت "جبارة". لم يكن جبارة منتبهاً، حتى قالت المضيفة "جبارة.. من هو جبارة". حينها اتسعت عينا جبارة بذعر. وبسرعة أخرج أوراقه الثبوتية ومزقها. قالت المضيفة "حسنٌ يبدو أنه لا يوجد أحد بهذا الإسم.. سنعيد الكرة مرة ثانية..". وبالفعل جمعوا القصاصات للمرة الثانية وللمرة الثانية لم يكتب جبارة إسمه بل طوى الورقة وهي خالية. وبدأت المضيفة القصيرة في تدوير القصاصات بيدها داخل الكرة البلورية، قبل أن تُخرج قصاصة وتفردها ببطء ثم تقرؤها والعرق يتصبب من جبينها "السيد جبارة"..، انخلع قلب جبارة وأحس بأن هناك مكيدة تحاك ضده فصمت. قالت المضيفة "أين جبارة؟ لا بد أنه أحدكم..لقد تم التأكد من أنه هو من اختارته السماء.. سنعيد القرعة للمرة الثالثة والأخيرة وستكون المرة الحاسمة"، وللمرة الثالث يتم إختيار الورقة ويكون عليها إسم جبارة. وبدأت عملية محمومة للبحث عن جبارة، وهكذا بدأت مراجعة أوراق جميع الركاب، ولم يبقَ إلا جبارة.. فالتفت الجميع نحوه، حينها نظر إليهم برعب وأخذ يصرخ "هذه مؤامرة.. مؤامرة عنصرية لأنني أفريقي ومن دولة فقيرة.." غير أن صراخه -الذي لم يتوقف- لم يشفع له وهم يحملونه ويضعونه فوق منطقة معينة إنزلقت أرضيتها بسرعة ليجد جبارة نفسه يتهاوى في السماء المظلمة. كان جسده يتقلب في الهواء والأرض تحته تضيئ بومضات نور صغيرة متبعثرة كالنجوم، ففتح فمه مذهولاً "يا للروعة.. يا للجمال..." كان يتهاوى بسرعة جنونية والهواء يصخب في أذنيه وياقة قميصه تصفق صفقات سريعة راتبة، رأى تحته البحر وقد انعكست عليه صورة نجوم السماء، البحر واسع جداً، والهواء بارد، مما زاد نشوة جبارة فصرخ "رباه.. رباه.. ما كل هذا الجمال".. دخل الهواء في عينيه، لكنه لم يغمضهما حتى لا يفقد رؤيته لذلك المشهد العجيب، رأى اليابسة ورؤوس الأشجار السوداء في الأدغال، وفي الجانب القصي من الأرض شاهد تعرجات الجبال، ونهراً يتلوى بينها، ومنازل كعلب الكبريت، كانت الصورة تكبر، وجبارة يصور كل المشاهد بعينيه، رأى طرقاً معبدة وسيارات صغيرة بحجم النملة تسير فوقها، فعدل جبارة جسده وانتصب بزاوية قائمة، ثم شبك ذراعيه وهو يتأمل الأرض تحت قدميه. شعر بأنه كائن عظيم جداً. لقد انتفخت أوداجه من فرط فخره بتلك اللحظة الفارقة في حياته. كانت المسافة تتضاءل، وتلمع من تحت قدميه رؤوس ناطحات السحاب، وحين مر بها، رأى فتيات وفتيان يرقصون في إحدى المراقص أعلى برج شاهق، وفي الطابق أسفل المرقص رأى حانة وقليلاً من الرجال، وفي الطابق التالي رأى رجلا كهلاً يقبل شابة حسناء، كان واضحاً أنه مليونير. فالجناح الذي كان يقطنه كان فاخر الأثاث. بعدها رأى جبارة خمسة رجال يقيدون رجلاً ويوسعونه ضرباً، كان الرجال يرتدون بدلات ورابطات عنق بما فيهم الرجل الذي يضربونه. إنهم عصابة، رأى بعدها كازينو للقمار، وهو معبق بالدخان، فتيات شبه عاريات يقفن قرب رجال جالسين أمام طاولة اللعب، بعدها رأى حفل زفاف، كان العريس يرقص مع امرأة عجوز قد تكون أمه أما العروس فكانت في الشرفة خارج الصالة تمارس الجنس مع رجل آخر وعيناها تراقبان الداخل بحذر.. أما الرجل فكان يبدو مرهقاً ومتعرق الجسد. ثم رأى بعدها معرض سيارات مضيئاً إضاءة خافتة، يبدو أنه مغلق. نظر تحت قدميه ورأى السيارات تسير بسرعة جنونية. تذكر حينها قريته المظلمة كالقبر. فغمغم "هي ليست مظلمة كالقبر.. بل هي قبر بالفعل.. قبر .. بالفعل".
(تمت)