حين يسهو العالم، يسترجع "خليل" الماضي، ورغم القصص القليلة التي إختبرها، لكنها كانت تتضخم في خياله، يزحمها بتفاصيل غابت عنها، يتبلها بالنكهات، ويبتسم لبطولات متوهمة. وكلما داهمه القنوط، في الليالي الكالحة، وضع ذراعيه خلف رأسه ونظر للسماء. وبما أن الزمن فقد قيمته، إذ لا تبدو حياته سوى تكرار لروتين تجاوز روتين موظف الإرشيف في المصالح الحكومية؛ فهو لا يفكر في شيء ذا جدوى.
الحوش معتم؛ ترابي وواسع، وهيكل الزير على الجهة الغربية يتكئ على جزع نخلة نمت في عهد جده، تقطر من قعر الزير قطرات صغيرة فترطب الأرض تحته. وهناك باب لم يطرقه أحد منذ وفاة جميع سكان هذي الدار، وارثين أو غير وارثين. تغيب الذاكرة في الماضي السحيق، يتذكر أشياء غريبة، مثل فيلم بروس لي، كان قد شاهد عرضه الأول في السينما، يتذكر كيف كسر العملاق ظهر أحد المقاتلين، ولكن المشهد الأكثر وضوحاً في ذاكرته، عندما دخل بروس لي إلى غرفة المرايا، التي أخذت تعكس صورته وصورة عدوه الآخر. لا زال المشهد عالقاً في ذاكرته، ربما لأن تكرار الصورة المنعكسة عشرات المرات، قد مثل له في ذلك الوقت، نبوءة عن مستقبله. لم تكن نبوءة، بل مخاوف تحققت. يخرج كيس نشوقه، ويضع على شفته السفلى قطعة كورها بعناية، ثم ينفض كفيه ويعيدهما وراء جمجمته. بروس لي.. هذه الشخصية عظيمة...لا يعرف لماذا على وجه التحديد..لكنه رجل عظيم..يختفي بروسلي.
يتذكر حبيبة قديمة، أنجبت ثلاثة رجال وبنت، وبنتها أنجبت بدورها طفلين. شاهدها قبل سنوات، كانت لا تزال جميلة. تأملها من بعيد ثم توارى عن انظارها وقد غمره يأس مفاجئ، ليس لفقدها، ولكن لأنه أحس بوطأة الزمن عليها وعليه. الزمن قاسٍ جداً. نهض من سريره وجلس على طرفه بصمت، كان يريد فعل شيء ما، ولكن ما هو؟ لا يعرف. فافتعل مهمة من العدم، إذ حمل كرسي الحديد الصدئ وخرج ليجلس عليه أمام باب منزله. ظل يراقب الشارع الترابي الخالي والمظلم. إنها مدينة التراب، كم هو وافر التراب في هذا البلد، وكم هو وافر فيها الظلام. تمتد أمامه مساحة خالية شاسعة، خمسة أطفال يلعبون، تحت ضوء القمر. يركلون شيئا ما، لكنه ليس كرة بأي حال. يتصارعون كالجراء، فيعود بذاكرته إلى زمانهم. وكالصور القديمة غير الملونة يتذكر طفولة شاحبة وأبويه الذين عبرا إلى العدم.
وهو حين يعود إلى الوراء يقفز على ذكريات يتجنب حضورها السخيف، ولكنها تغزوا دماغه كالوسواس القهري، ويقاومها كمريض عاجز. لا شيء في حياته يستحق الذكر، لقد عاش إنساناً أقل من عادي، أقل بكثير من إنسان عادي، على ملامحه يرتسم بله وبرود. يبصق نشوقه، ثم يتلوا ذلك ببصقات أكبر، يمجمج فيها لعابه بلسانه ثم يتفله لزجاً عفناً.
القمر واسع هذه الليلة..وأبيض جداً، أبيض كإبط قوقازية. ورغم ذلك فهو حزين. إن القمر حين يحزن يزداد بُيضة. تمضي من تحته سحابات قليلة بطيئة الحركة، وأعلاه وعلى جوانبه تتوهج نجمات بعيدة. هناك ثلاث نجمات في خط مستقيم واحد، ظل يراهن منذ أن وعى دنياه. ثلاث نجمات كصديقات يعبرن زقاقاً بأحد الأسواق ويتأملن الفترينات دون أن يشترين. يبدو هو كبائع ينتظر دخولهن لدكانه مراراً. ولكن..ما الذي سيبيعه لهن. إن دكانه خالٍ، ربما يمكنه أن يبيعهن الحكمة كتلك القصة العربية القديمة لإمرأة تبيع الحكمة للعابرين. مرت خمسة عقود والصديقات يتفرجن فقط..وهو يبحث عن حكمة غائبة ليبيعها لهن.
ينهض من كرسيه الصدئ، ويسير إلى الأمام قليلاً ثم يدور ليواجه منزله، بجدرانه الطينية المخلوطة بالزبل، وغرفه المظلمة المسقوفة بجذوع النخل. لجذع النخل رائحة مميزة، رائحة الأضرحة القديمة، وشكله كمقابر حضارة بائدة، يدقق النظر إلى المنزل الذي ورثه من جده ومن باقي الورثة الذين تجاوروا في العدم. تضيق عيناه. في هذا المنزل كانت تتعالى أصوات الضحكات، وأصوات الشجارات، وأصوات النميمة، وأصوات النحيب والعويل، ثم خمدت كل الأصوات، وتسيد الصمت زواياه المظلمة. عاد ونظر إلى هيكل كرسيه الصدئ، كانت أطراف الحديد الأسطواني تلمع تحت ضوء القمر. في هذا الكرسي جلس جده، ثم جلس بعده آخرون، ثم جلس هو. أدخل يديه داخل جيوب جلبابه القصير. ووقف بأسى. دار على عقبيه وسار مبتعداً عن منزله. سار بخطوات بطيئة. كان يتبع ظله الساقط أمامه في منتصف دائرة ضوء القمر، فشعر بأنه يسير دون أن يتحرك من مكانه، لكنه رفض أن يلتفت خلفه، عليه أن يسير فقط...تداهمه الرغبة في الإلتفات ليرى هل إبتعد، لكنه يقاومها، فهذه هي اللحظة التي يكتشف فيها المرء أنه لا يحتاج لمعرفة شيء. فالمعرفة تضحى وهماً.
يرفع رأسه، ويرى الصديقات الثلاث، ويرى السحابات البطيئة تعود من جديد. فكل شيء يكرر نفسه. حتى الارض المظلمة التي تتمدد أمامه، ويتوتد في أفقها جبل صغير مغسول بالعتمة. فيتقدم نحوه ليرى نجمة ساقطة في حجره. فيلفاها شعلة نار. وهناك المرأة التي تبيع الحكمة. يقف ويتأمل وجهها، فترمقه بعين فأر، وتتشمم الهواء، ثم تضحك بفم مظلم، فيسألها:
- ماذا تشمين في الهواء؟
تمدد جسدها العاري على الأرض وتضع ذراعيها خلف رأسها، ثم تقول:
- ألديك نشوق؟
يدخل يده في جيبه ويخرج علبته ثم يلقيها فتلتقطها هي بأصابع جافة.
- هل تريد شراء حكمة؟
تكور قطعة من النشوق ثم تلقي بها إلى حلقها.
- بل أنا من سأبيعك الحكمة.
قالت ضاحكة:
- لا أملك مالاً.
- إذاً.. سأواصل مسيري..
تأملته ثم غمغمت:
- يبدو انك تملك حكمة حقيقية.
هم بمواصلة سيره فصاحت:
- إنتظر...
نهضت واختفت في الظلام، ثم عادت وهي تحمل لفافة، فضتها، وهي تقول:
- هذا ما أملك...
قال دون أن ينظر إلى اللفافة:
- لا أريدها...
- وماذا تريد؟
- أن اخبرك بالحكمة وتخبرينني بأنني مخطئ.
طوت اللفافة وأدخلتها بين فخذيها الهزيلتين:
- هذا سهل..فما هي الحكمة؟
قال:
- لا توجد حكمة...
نظرت إليه وضوء الشعلة يتراقص على وجهها، ثم همست:
- لستَ مخطئاً..
همس:
- وداعاً إذاً..
مضى في طريقه وهي تراقبه حتى اختفي في لجة الظلام.
(تمت)
الحوش معتم؛ ترابي وواسع، وهيكل الزير على الجهة الغربية يتكئ على جزع نخلة نمت في عهد جده، تقطر من قعر الزير قطرات صغيرة فترطب الأرض تحته. وهناك باب لم يطرقه أحد منذ وفاة جميع سكان هذي الدار، وارثين أو غير وارثين. تغيب الذاكرة في الماضي السحيق، يتذكر أشياء غريبة، مثل فيلم بروس لي، كان قد شاهد عرضه الأول في السينما، يتذكر كيف كسر العملاق ظهر أحد المقاتلين، ولكن المشهد الأكثر وضوحاً في ذاكرته، عندما دخل بروس لي إلى غرفة المرايا، التي أخذت تعكس صورته وصورة عدوه الآخر. لا زال المشهد عالقاً في ذاكرته، ربما لأن تكرار الصورة المنعكسة عشرات المرات، قد مثل له في ذلك الوقت، نبوءة عن مستقبله. لم تكن نبوءة، بل مخاوف تحققت. يخرج كيس نشوقه، ويضع على شفته السفلى قطعة كورها بعناية، ثم ينفض كفيه ويعيدهما وراء جمجمته. بروس لي.. هذه الشخصية عظيمة...لا يعرف لماذا على وجه التحديد..لكنه رجل عظيم..يختفي بروسلي.
يتذكر حبيبة قديمة، أنجبت ثلاثة رجال وبنت، وبنتها أنجبت بدورها طفلين. شاهدها قبل سنوات، كانت لا تزال جميلة. تأملها من بعيد ثم توارى عن انظارها وقد غمره يأس مفاجئ، ليس لفقدها، ولكن لأنه أحس بوطأة الزمن عليها وعليه. الزمن قاسٍ جداً. نهض من سريره وجلس على طرفه بصمت، كان يريد فعل شيء ما، ولكن ما هو؟ لا يعرف. فافتعل مهمة من العدم، إذ حمل كرسي الحديد الصدئ وخرج ليجلس عليه أمام باب منزله. ظل يراقب الشارع الترابي الخالي والمظلم. إنها مدينة التراب، كم هو وافر التراب في هذا البلد، وكم هو وافر فيها الظلام. تمتد أمامه مساحة خالية شاسعة، خمسة أطفال يلعبون، تحت ضوء القمر. يركلون شيئا ما، لكنه ليس كرة بأي حال. يتصارعون كالجراء، فيعود بذاكرته إلى زمانهم. وكالصور القديمة غير الملونة يتذكر طفولة شاحبة وأبويه الذين عبرا إلى العدم.
وهو حين يعود إلى الوراء يقفز على ذكريات يتجنب حضورها السخيف، ولكنها تغزوا دماغه كالوسواس القهري، ويقاومها كمريض عاجز. لا شيء في حياته يستحق الذكر، لقد عاش إنساناً أقل من عادي، أقل بكثير من إنسان عادي، على ملامحه يرتسم بله وبرود. يبصق نشوقه، ثم يتلوا ذلك ببصقات أكبر، يمجمج فيها لعابه بلسانه ثم يتفله لزجاً عفناً.
القمر واسع هذه الليلة..وأبيض جداً، أبيض كإبط قوقازية. ورغم ذلك فهو حزين. إن القمر حين يحزن يزداد بُيضة. تمضي من تحته سحابات قليلة بطيئة الحركة، وأعلاه وعلى جوانبه تتوهج نجمات بعيدة. هناك ثلاث نجمات في خط مستقيم واحد، ظل يراهن منذ أن وعى دنياه. ثلاث نجمات كصديقات يعبرن زقاقاً بأحد الأسواق ويتأملن الفترينات دون أن يشترين. يبدو هو كبائع ينتظر دخولهن لدكانه مراراً. ولكن..ما الذي سيبيعه لهن. إن دكانه خالٍ، ربما يمكنه أن يبيعهن الحكمة كتلك القصة العربية القديمة لإمرأة تبيع الحكمة للعابرين. مرت خمسة عقود والصديقات يتفرجن فقط..وهو يبحث عن حكمة غائبة ليبيعها لهن.
ينهض من كرسيه الصدئ، ويسير إلى الأمام قليلاً ثم يدور ليواجه منزله، بجدرانه الطينية المخلوطة بالزبل، وغرفه المظلمة المسقوفة بجذوع النخل. لجذع النخل رائحة مميزة، رائحة الأضرحة القديمة، وشكله كمقابر حضارة بائدة، يدقق النظر إلى المنزل الذي ورثه من جده ومن باقي الورثة الذين تجاوروا في العدم. تضيق عيناه. في هذا المنزل كانت تتعالى أصوات الضحكات، وأصوات الشجارات، وأصوات النميمة، وأصوات النحيب والعويل، ثم خمدت كل الأصوات، وتسيد الصمت زواياه المظلمة. عاد ونظر إلى هيكل كرسيه الصدئ، كانت أطراف الحديد الأسطواني تلمع تحت ضوء القمر. في هذا الكرسي جلس جده، ثم جلس بعده آخرون، ثم جلس هو. أدخل يديه داخل جيوب جلبابه القصير. ووقف بأسى. دار على عقبيه وسار مبتعداً عن منزله. سار بخطوات بطيئة. كان يتبع ظله الساقط أمامه في منتصف دائرة ضوء القمر، فشعر بأنه يسير دون أن يتحرك من مكانه، لكنه رفض أن يلتفت خلفه، عليه أن يسير فقط...تداهمه الرغبة في الإلتفات ليرى هل إبتعد، لكنه يقاومها، فهذه هي اللحظة التي يكتشف فيها المرء أنه لا يحتاج لمعرفة شيء. فالمعرفة تضحى وهماً.
يرفع رأسه، ويرى الصديقات الثلاث، ويرى السحابات البطيئة تعود من جديد. فكل شيء يكرر نفسه. حتى الارض المظلمة التي تتمدد أمامه، ويتوتد في أفقها جبل صغير مغسول بالعتمة. فيتقدم نحوه ليرى نجمة ساقطة في حجره. فيلفاها شعلة نار. وهناك المرأة التي تبيع الحكمة. يقف ويتأمل وجهها، فترمقه بعين فأر، وتتشمم الهواء، ثم تضحك بفم مظلم، فيسألها:
- ماذا تشمين في الهواء؟
تمدد جسدها العاري على الأرض وتضع ذراعيها خلف رأسها، ثم تقول:
- ألديك نشوق؟
يدخل يده في جيبه ويخرج علبته ثم يلقيها فتلتقطها هي بأصابع جافة.
- هل تريد شراء حكمة؟
تكور قطعة من النشوق ثم تلقي بها إلى حلقها.
- بل أنا من سأبيعك الحكمة.
قالت ضاحكة:
- لا أملك مالاً.
- إذاً.. سأواصل مسيري..
تأملته ثم غمغمت:
- يبدو انك تملك حكمة حقيقية.
هم بمواصلة سيره فصاحت:
- إنتظر...
نهضت واختفت في الظلام، ثم عادت وهي تحمل لفافة، فضتها، وهي تقول:
- هذا ما أملك...
قال دون أن ينظر إلى اللفافة:
- لا أريدها...
- وماذا تريد؟
- أن اخبرك بالحكمة وتخبرينني بأنني مخطئ.
طوت اللفافة وأدخلتها بين فخذيها الهزيلتين:
- هذا سهل..فما هي الحكمة؟
قال:
- لا توجد حكمة...
نظرت إليه وضوء الشعلة يتراقص على وجهها، ثم همست:
- لستَ مخطئاً..
همس:
- وداعاً إذاً..
مضى في طريقه وهي تراقبه حتى اختفي في لجة الظلام.
(تمت)