حين سئل، ذات مرّة، الروائي الأيرلندي جيمس جويس، في آخر أيامه، إن كان يحنُّ للعودة إلى مدينته دبلن. رد قائلاً: «هل غادرتها أنا مطلقاً؟».
من دون مدن العالم كلها، كانت مدينة – دبلن – أيقونة كتابات جويس. حبَّه الأولَ والأخير، والشبح الذي يطارده. لا شيء في الدنيا يقلق راحته، ولا شيء فيها مبعث ارتياحه وسعادته مثلها. فهل يستحق من حَمَلَ في قلبه كل ذلك الحب، أن يقابل بالإنكار، والحرمان من مبادلته حباً بحب، بل ويعامل معاملة القطة لبعض أبنائها؟
استنادا إلى الباحث الأيرلندي مارك أوكونيل فإن جويس «غادر دبلن، مكرهاً، في العشرينات من عمره، فراراً بروحه من فقرها الروحي، وقمعها المثابر لكل من كان يحاول العيش والتفكير خارج إطار أنماطها الباروكية». كان يقول دائماً إنه «منفي». وتوفي، ودفن في مدينة زيوريخ، بسويسرا عام 1941.
في مدينة زيوريخ يوجد تمثال له، وهو جالس في حديقة، مرتديا بدلته، وربطة عنقه، وعلى عينيه نظارتاه، وفي يده اليسرى سيجارة، بينما حملت اليمنى كتابا، وملتفتاً بوجهه نحو الأفق، في تفكير عميق.
ما لا يعرفه الكثيرون أن روايته الخالدة «عوليس» أو «يوليسيس» الصادرة عام 1922، لم تدخل، وقتذاك، لبلده أيرلندا. المفارقة أن الحكومة الأيرلندية لم تصدر قرارا بحظر دخولها. لكن لا أحد من دور النشر الأيرلندية خاطر بإحضارها إلى البلاد، لأن أصحابها، جميعاً، كانوا يخشون من تجشم محنة مرورها عبر جهاز الجمارك، وما قد يتعرضون له!
حين تُوفي عام 1941، بعث السفير الأيرلندي في سويسرا ببرقية إبلاغ بالوفاة إلى وزير خارجيته في دبلن. رد الوزير كان قصيراً: «يرجى تزويدنا بتفاصيل وفاة جويس. بلغ تعازيَّ إلى السيدة جويس، وأعلمها بعدم استطاعتي حضور الجنازة».
مع اقتراب عام 2022 الذي يصادف الذكرى المئوية لصدور «عوليس»، بدأت تتسرب تقارير إعلامية، من دبلن، تشير إلى أن قرب مئوية عوليس، أوعزت إلى بعض من أعضاء مجلسها البلدي بفكرة إحضار رفات جويس من زيوريخ، وإعادة دفنه في مدينته دبلن.
جويس، شخصياً، قبل وفاته، لم يبدِ أي رغبة في دفنه في دبلن، أو في أيرلندا. الداعون إلى ذلك، يعرفون هذه الحقيقة، لكنهم يحاججون بقولهم إن أرملته نورا، عبرت عن رغبتها، في الأربعينيات، في إحضار رفاته من زيوريخ وإعادة دفنه في دبلن.
العديدون غيرهم، يقولون إن الانبثاق الفجائي لهذه الرغبة مبعثه مالي، ودافعه تجاري لا غير. ذلك لأن قبر جويس في زيوريخ، منذ وفاته، صار معلماً سياحياً، وقِبلة للسواح، ومصدر دخل مهم. أهالي المدينة التي احتضنته، وأمنته، حريصون على بقائه بينهم ميّتاً، كما حرصوا على ذلك في حياته. وهم يرفضون، قطعياً، تحويل الرفات. لكن المتحمسين، من أعضاء البلدي في مدينة دبلن، يرون أن ذلك الرفض ليس مبعثه حباً في جويس، بل فيما يعود على زيوريخ وتجارها من عوائد مالية سخيّة، تتدفق من جيوب آلاف السائحين المحبين لأدب جيمس جويس ويزورن، سنوياً، قبره.
ثمة سخرية فيما يجري. فجويس، شخصياً، في حياته، لم يحب لا العيش ولا العمل في أيرلندا آنذاك. أيرلندا، وقتذاك، كانت لا تختلف عن طرابلس الغرب: مدينة، خانقة ومختنقة، ولا تتنفس من الهواء إلا ما تتيحه لها، وتسمح به، الكنيسة الكاثوليكية المتشددة. وبالتالي، لا مكان فيها لأي نوع من الحرّيات، ولا فضاء فيها مرحبا بالفن والإبداع. ولتلك الأسباب فضل جويس المغادرة والعيش في الخارج، ولم ينس أن يحمل معه في قلبه، وحقيبة سفره دبلن مدينته، وأيرلندا بلاده.
الذين صادف وقرأوا «بلاد تحبها وتزدريك» قصيدة الشاعر الليبي عمر الكدي، ربما تحضر في ذاكراتهم أجواء تلك القصيدة الحزينة، والرائعة في نفس الوقت. القصيدة، التي يعيش كاتبها، حتى يوم الناس هذا، في منفاه بهولندا، يعاني من آلام وأوجاع المرض، والوحدة، والبعد عن الأهل والأصدقاء والبلاد التي أحبها. وهي قصيدة تختصر، بجمال، طبيعة غرابة العلاقة التي ربطت سواء بين جويس وبلاده، خصوصاً، أو بين كثيرين غيره من شعراء وكتاب العالم الآخرين وبلدانهم عموماً، ومن ضمنهم الشاعر الصديق عمر الكدي.
إنها، حقاً، علاقة مثيرة للتساؤل، ومدعاة للاستغراب، حيث شدة الحب تقابل بالإنكار بل وبالازدراء، في علاقة بين شعراء وكتاب لا يملكون إلا حبهم لأوطانهم، وأوطان، بسلطات وقوانين وتقاليد، تنكر عليهم ذلك الحب، وتشترط قبوله بقبولهم العيش وفقاً لشروطها، وما يسودها من تقاليد، وثقافة، وأنظمة سياسية… إلخ حتى وإن كانت منخورة بسوس التخلف والقمع، وخانقة لحرية الفن والإبداع.
عمر الكدي، شاعر، وقاص، وروائي، وكاتب مقالة سياسية من الطراز الأول، وإنسان تتجلى فيه كل الفضائل الخيّرة، وصاحب نكتة، وكريم رغم فقره، ومبعث أنس لأصدقائه، وصاحب ضحكة مستفزة. دفعته الظروف السياسية، في العهد الاستبدادي، إلى مغادرة طرابلس حتى لا يموت فيها اختناقا، واختار هولندا لتكون منفاه.
وهو ما زال يعيش هناك، وربما سيكون مصيره كمصير جيمس جويس، وغيره من الفنانين والكتاب. لكنه يظل من أجمل من عرفت وجالست. أدعو الله الكريم أن يمنّ عليه بالشفاء.
تحية للصديق الجميل عمر الكدي، وأدعو الله ألا يحرمنا من ضحكاته المستفزة.
من دون مدن العالم كلها، كانت مدينة – دبلن – أيقونة كتابات جويس. حبَّه الأولَ والأخير، والشبح الذي يطارده. لا شيء في الدنيا يقلق راحته، ولا شيء فيها مبعث ارتياحه وسعادته مثلها. فهل يستحق من حَمَلَ في قلبه كل ذلك الحب، أن يقابل بالإنكار، والحرمان من مبادلته حباً بحب، بل ويعامل معاملة القطة لبعض أبنائها؟
استنادا إلى الباحث الأيرلندي مارك أوكونيل فإن جويس «غادر دبلن، مكرهاً، في العشرينات من عمره، فراراً بروحه من فقرها الروحي، وقمعها المثابر لكل من كان يحاول العيش والتفكير خارج إطار أنماطها الباروكية». كان يقول دائماً إنه «منفي». وتوفي، ودفن في مدينة زيوريخ، بسويسرا عام 1941.
في مدينة زيوريخ يوجد تمثال له، وهو جالس في حديقة، مرتديا بدلته، وربطة عنقه، وعلى عينيه نظارتاه، وفي يده اليسرى سيجارة، بينما حملت اليمنى كتابا، وملتفتاً بوجهه نحو الأفق، في تفكير عميق.
ما لا يعرفه الكثيرون أن روايته الخالدة «عوليس» أو «يوليسيس» الصادرة عام 1922، لم تدخل، وقتذاك، لبلده أيرلندا. المفارقة أن الحكومة الأيرلندية لم تصدر قرارا بحظر دخولها. لكن لا أحد من دور النشر الأيرلندية خاطر بإحضارها إلى البلاد، لأن أصحابها، جميعاً، كانوا يخشون من تجشم محنة مرورها عبر جهاز الجمارك، وما قد يتعرضون له!
حين تُوفي عام 1941، بعث السفير الأيرلندي في سويسرا ببرقية إبلاغ بالوفاة إلى وزير خارجيته في دبلن. رد الوزير كان قصيراً: «يرجى تزويدنا بتفاصيل وفاة جويس. بلغ تعازيَّ إلى السيدة جويس، وأعلمها بعدم استطاعتي حضور الجنازة».
مع اقتراب عام 2022 الذي يصادف الذكرى المئوية لصدور «عوليس»، بدأت تتسرب تقارير إعلامية، من دبلن، تشير إلى أن قرب مئوية عوليس، أوعزت إلى بعض من أعضاء مجلسها البلدي بفكرة إحضار رفات جويس من زيوريخ، وإعادة دفنه في مدينته دبلن.
جويس، شخصياً، قبل وفاته، لم يبدِ أي رغبة في دفنه في دبلن، أو في أيرلندا. الداعون إلى ذلك، يعرفون هذه الحقيقة، لكنهم يحاججون بقولهم إن أرملته نورا، عبرت عن رغبتها، في الأربعينيات، في إحضار رفاته من زيوريخ وإعادة دفنه في دبلن.
العديدون غيرهم، يقولون إن الانبثاق الفجائي لهذه الرغبة مبعثه مالي، ودافعه تجاري لا غير. ذلك لأن قبر جويس في زيوريخ، منذ وفاته، صار معلماً سياحياً، وقِبلة للسواح، ومصدر دخل مهم. أهالي المدينة التي احتضنته، وأمنته، حريصون على بقائه بينهم ميّتاً، كما حرصوا على ذلك في حياته. وهم يرفضون، قطعياً، تحويل الرفات. لكن المتحمسين، من أعضاء البلدي في مدينة دبلن، يرون أن ذلك الرفض ليس مبعثه حباً في جويس، بل فيما يعود على زيوريخ وتجارها من عوائد مالية سخيّة، تتدفق من جيوب آلاف السائحين المحبين لأدب جيمس جويس ويزورن، سنوياً، قبره.
ثمة سخرية فيما يجري. فجويس، شخصياً، في حياته، لم يحب لا العيش ولا العمل في أيرلندا آنذاك. أيرلندا، وقتذاك، كانت لا تختلف عن طرابلس الغرب: مدينة، خانقة ومختنقة، ولا تتنفس من الهواء إلا ما تتيحه لها، وتسمح به، الكنيسة الكاثوليكية المتشددة. وبالتالي، لا مكان فيها لأي نوع من الحرّيات، ولا فضاء فيها مرحبا بالفن والإبداع. ولتلك الأسباب فضل جويس المغادرة والعيش في الخارج، ولم ينس أن يحمل معه في قلبه، وحقيبة سفره دبلن مدينته، وأيرلندا بلاده.
الذين صادف وقرأوا «بلاد تحبها وتزدريك» قصيدة الشاعر الليبي عمر الكدي، ربما تحضر في ذاكراتهم أجواء تلك القصيدة الحزينة، والرائعة في نفس الوقت. القصيدة، التي يعيش كاتبها، حتى يوم الناس هذا، في منفاه بهولندا، يعاني من آلام وأوجاع المرض، والوحدة، والبعد عن الأهل والأصدقاء والبلاد التي أحبها. وهي قصيدة تختصر، بجمال، طبيعة غرابة العلاقة التي ربطت سواء بين جويس وبلاده، خصوصاً، أو بين كثيرين غيره من شعراء وكتاب العالم الآخرين وبلدانهم عموماً، ومن ضمنهم الشاعر الصديق عمر الكدي.
إنها، حقاً، علاقة مثيرة للتساؤل، ومدعاة للاستغراب، حيث شدة الحب تقابل بالإنكار بل وبالازدراء، في علاقة بين شعراء وكتاب لا يملكون إلا حبهم لأوطانهم، وأوطان، بسلطات وقوانين وتقاليد، تنكر عليهم ذلك الحب، وتشترط قبوله بقبولهم العيش وفقاً لشروطها، وما يسودها من تقاليد، وثقافة، وأنظمة سياسية… إلخ حتى وإن كانت منخورة بسوس التخلف والقمع، وخانقة لحرية الفن والإبداع.
عمر الكدي، شاعر، وقاص، وروائي، وكاتب مقالة سياسية من الطراز الأول، وإنسان تتجلى فيه كل الفضائل الخيّرة، وصاحب نكتة، وكريم رغم فقره، ومبعث أنس لأصدقائه، وصاحب ضحكة مستفزة. دفعته الظروف السياسية، في العهد الاستبدادي، إلى مغادرة طرابلس حتى لا يموت فيها اختناقا، واختار هولندا لتكون منفاه.
وهو ما زال يعيش هناك، وربما سيكون مصيره كمصير جيمس جويس، وغيره من الفنانين والكتاب. لكنه يظل من أجمل من عرفت وجالست. أدعو الله الكريم أن يمنّ عليه بالشفاء.
تحية للصديق الجميل عمر الكدي، وأدعو الله ألا يحرمنا من ضحكاته المستفزة.