ذات مساءٍ من خريف سنة 1958 أويتُ إلى مضجعي منتويًا زيارة العقاد. وفي صباح اليوم التالى اتجهت إلى روكسي بمصر الجديدة؛ حيث البيت، 13 شارع السلطان سليم. لم أكنْ أدري وأنا أتقدم نحو الباب أن تلك النيةَ القديمةَ في ذلك المساء الغابر شاء الله لها أن تكون بداية منعطف في حياتي سيكون له فيها شأنٌ أيُّ شأن! دخلت، وصعدت السُّلم، وعند نهاية الطابق الأول لى اليمين كان باب الشقة مفتوحًا، فضغطت الجرس لِيجيءَ الخادم أحمد حمزة، أو الشيخ أحمد حمزة كما اعتاد تلقيبَه العقاد، ويقودني إلى غرفة الجلوس. وبعد هنيهةٍ جاء الشيخ بمعنى الكلمة، أو فلنسمه، استعارةً من تراثنا الثقافي العريق، بما سُمي به قديمًا ابنُ سينا " الشيخَ الرئيس"، مرحبًا ترحيبه الشهير بكل قادم " أهلاً يا مولانا". وبعد المصافحة اتخذ مكانَه المعهودَ على المقعد الذي كان قدَرًا من أقدار الله لا منجاة لأحد منه أن يخلوَ منه إلى الأبد يوم 12 مارس 1964.
كنت أولَ زائر، فبدأ الحديثَ إليَّ سائلًا "مِنْ أي معهدٍ أنت؟" قلت: مِن دار العلوم. فبدا عليه الارتياح، وقال عبارات لا أذكر نصها، ولكن أذكر أنها تضمنت ثناء على الكلية لعنايتها المتميزة باللغة والأدب. ثم بدأ الزوار يفِدون.
بعد انفضاض الندوة وجدتُني في حاجة إلى خلوة. فنزلت أتمشى وحدي. وكأني نزلتُ من السماء إلى الأرض. أردت استبقاء ما كنت فيه من مَتاع. طوّف الرجل بنا في أجواز فضاء رحْب. وكأنه ركّب لأحدنا جناحين يطير بهما معه خلال الآفاق. لذا كان صعبًا عليّ أن أنتقل دفعةً واحدة من عالم الروح إلى عالم المادة والحس.
أحببت الأستاذ. وقعَ حبُّه في قلبي منذ الجلسة الأولى في ذلك الصباح الذي ألحقه بالغيب كرّ الزمان. والحبُّ وِجدان. أي إنه حتمٌ واقعٌ لا محالة، فيصعب جدًّا التماسُ علةٍ له. لكنْ لا بأس بأن نحاول الاقتراب. إنه حدَث، وهو ككل حدثٍ خاضع لقانون العلة والمعلول. هكذا علّمنا الأستاذ، وهكذا علّمنا من قبله شيوخ الفلسفة، وشيوخ الدين، وشيوخ الفن والأدب. ذلك قانون العقل؛ الوصل ُالمحْكم بين الطرفين اللذين لا مناص من الجمع بينهما جوابًا للسؤال الخالد " لماذا؟".
يقرِّبني من الجواب بعضُ كتاب الله عزّ وجل. ذلك أنّ مِنْ صفة المؤمنين، كما جاء في أول السورة المسماة بهذا الاسم أنهم " عن اللغوِ مُعْرضون". واللغوُ في العربية كلُّ كلام، أو عملٍ، لا فائدة له ولا خير فيه. وأنا أحدُ الكارهين جدًّا للكلام الفارغ والسلوكِ السخيف. ولقد أصبحا، واأسفا، أو أوشكا أن يصبحا، ظاهرتيْن في مجتمعاتنا، لا عند الدهماء فحسب، بل عند العِلية أيضًا. والذي شهدتُه في مجلس الأستاذ هو العكس؛ الجِدّ والقصد. لا جَرَم حُبّب لي.
ويقرُّبني منه كذلك بعضُ حديثِ رسول الله، وَصَف صلى الله عليه وسلم صاحبَه أبا ذر الغفاريَّ بصدق اللهجة. وهي صفة لا يَقْدُرها حقَّ قَدْرها إلا صادقٌ، محب لأهل الصدق، ذواقةٌ للكلام، نافر من التصنع والتزويق. وهي معنًى أشهدُ أني ازددت له فهْما لمـّا استمعتُ إلى الأستاذ.
ويقرُّبني منه كذلك بعضُ شعر المتنبي. جاء في مِدْحةٍ له لبدر بْنِ عَمّار بيتان غريبان لا أذْكر في كل ما اطلعتُ عليه من مدائحَ مثلهما. قال:
تَعرفُ في عينه حقائقَه كـأنـه بالـذكـــاء مـكــتـــحــِلُ
أُشْفق عند اتقادِ فكرتِه عليه منها، أخافُ يشتعلُ
لا أدري إن كان ابن عمّار جديرًا بأن تُرسم له هذه الصورة الرائعة، أو هل كان المقصود برسمها أن تكون مثلًا أعلى يضاف إلى غيرها من المـُثل العليا التي ينحِتها صناعُ المدائح عالمين بالفرق القائم قطعًا بين عالم المـُثل وعالم الحقائق الواقعة لتكون أنجمًا يتطلع إليها بُغاة الفضل والعلاء. وهو المعنى الذي عبّر عنه أحسن العبارة أبو تمام في بيته الشهير:
ولولا خِلالٌ سَنّها الشعرُ ما دَرى بناةُ العُلا مِن أين تُؤتى المكارمُ
أو هل كان أبو الطيب، ربما، يُسقط، غير قاصد، ما عَرفه من أمر نفسه هو على رجل رأى فيه بطلًا، أي هل كان يمدح نفسه هو، دون أن يشعر ـ ولكني أدري يقينًا أن تلك الصورة الرائعة تصْدق كلّ الصدق على الأستاذ، وأنه جديرٌ بها كل الجدارة. لقد كان، رحمةُ الله عليه، دائم الاحتدام. لذا أُعجبتُ به، ولذا حُبِّب إلىّ.
كان ما سَبق إطلالةً قصيرةً على بداية القصة، وفيما يلي إطلالةٌ أخرى قصيرة على نهايتها.
كنت حريصًا على حضور المجلس كل جمُعة، إلا عندما ترغمني الضرورة على التخلف؛ مرضٌ أو سفر. كان يوم الجمعة عيدًا عندي وعند كل قُصّاد الأستاذ. وفي صباح السادس من مارس سنة 1964 توجهتُ، كما اعتدتُ، إلى بيته لأفاجأ بأنه مريض، ملازم للفراش، غيرُ قادر على استقبال الناس. كنتُ أحد الخاصة، وكانوا بضعة نَفَرٍ أخصُّهم وأبرزهم أديب شاعر عارف بعلوم اللغة والأدب، هو الأستاذ محمد خليفة التونسي رحمة الله عليه. بعد قليل أَذِن الأستاذ لنا في عيادته بغرفة النوم. كان جالسًا على السرير معتمدًا عليه بكفيه. وبعد الإعراب عن تمنياتنا بالشفاء قال التونسي في محاولة للطمأنة مهوّنًا من الأمر إن الحالة ليست أكثر من شيء من الضعف في القلب، فعقّب الأستاذ فورًا قائلاً: "وأنا أعملْ إيه بقلب ضعيف". ثم اضطجع إيذانًا بانتهاء الزيارة.
وفي صباح الخميس التالي توجهت إلى عملي بمبنى التليفزيون. كنتُ عضوًا بلجنة القراءة بهيئة السينما. وكان رئيسي المباشر في ذلك الوقت الأستاذ نجيب محفوظ، رحمة الله عليه. ولما وصلت إلى المكتب أُخبرتُ أنه يطلبني. وكان يعرف صلتي الوثيقة بالأستاذ. ولمـّا دخلت بادرني بالسؤال: هل رأيت جرائد اليوم؟ قلتُ: ليس بعد. قال: البقية في حياتك، الأستاذ العقاد تُوفي! وأَذن لي بالانصراف إلى مصر الجديدة. وفي الطريق منّيت نفسي باحتمال؛ قلت أليس من الجائز أن أفاجأ عندما أصل أن الخبر غير صحيح، وأن الأستاذ لا يزال يحيا؟! وعند مدخل البيت كان بضعة رجال جالسين، أذكر منهم توفيق الحكيم، ومحمود محمد شاكر، ويوسف السباعى، وكمال الدين حسين، ثم لحق بهم نجيب محفوظ. صعِدت السلم، وفي غرفة الجلوس كان بضعة رجال آخرين أذكر منهم التونسي وعلي أدهم. وكانوا صامتين، إلا من نشيج يُسمع بين الحين والحين، كأنه يقول لي: كَذَبتْك نفسُك! وتذكرت المتنبي لأني وجدته معبرًا أدق تعبير عن حالي في ذلك الوقت:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يـَدعْ لي صدقُه أمـلاً شرِقتُ بالدَّمْعِ حتى كاد يشرَقُ بي
ثم أُذِن لنا أن ننظر إلى شيخنا النظرة الأخيرة. لحظتُ أن على جبينه شجّةً واضحةً، لا أعرف لها سببا. ووجدتُني أخيرًا مع العزاء الخالد "إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
شُيعت الجنازة بدءًا من ميدان التحرير وانتهاءً بمبنى نقابة الصحفيين. كان العقاد مشتغلاً طوال حياته بالصحافة. وفي اليوم نفسه نُقل الجثمان إلى مسقط رأسه ومُقام عائلته؛ أسوان. وفي المساء أُقيم في الميدان سرادق العزاء. وكان في صدارة المتلقين للمعزّين يوسف السباعي رحمة الله عليه. وكان يعامل العقاد في احترام كبير. ولكنْ مما أذكره أني سمعت العقاد يشتمه مرةً في الندوة ـ وكان السبب أن العقاد، رئيسَ لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للآداب، وكان من رأيه أن الشعر الحر نثر لا شعر، رفض الموافقة على سفر أحمد حجازي وصلاح عبد الصبور إلى دمشق في أحد مهرجانات الشعر، فلم يمتثل السباعي لرأيه، وأمر بسفرهما على أن يكون إسهامهما، ترضّيًا للعقاد، من الشعر المقفى لا من الحر. وهكذا كان. وكسب تاريخ الشعر العربي قصيدتين أضيفتا إليه في مسيرته الطويلة العريقة من نظْم أبرز المؤيدين للشعر الحر في مصر والعالم العربي.
تنثال عليَّ الذكريات. ولا بد من اختيار؛ لأن المجال لا يتسع لهن جميعًا. فلنبدأ بأَوْردها عليَّ، قضية الشعر الحر. شغلتني منذ الشباب الباكر. كانت أُولى مقالاتي بمجلة "الآداب" البيروتية سنة 1959 بعنوان "نازك وعروض الشعر الحر" بحثًا في صميم المسألة. ولمـّا بدأت صحبتي للعقاد كنتُ أحد المؤيدين للمذهب الجديد في نظم الشعر في "دار العلوم"، ولاحظت أن شيخي لم يدرس القضية الدرسَ الواجب من الناحية العروضية. أذكر أن صلاح عبد الصبور نشر مرةً في "الآداب" قصيدة. يقول منها:
هذا زمانُ السأمْ
نفْخُ النراجيل سأمْ
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلْ
سأمْ
وكان للعقاد صاحب أديب عزيز عليه هو الأستاذ طاهر الجبلاوي، عليه رحمة الله، فذَكرها الجبلاوي في إحدى الندوات منتقدًا لها وتلا الجملة الثالثة من الجمل السابقة تلاوةً تَكسر النظْم وتخرج به على البحر المستعمل، وهو بحر "الرجز"، ألقاها الرجل هكذا:
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلٍ سأمْ
وواضح أنها تلاوة تحيل الكلام إلى "نثرٍ" صريح. وتدل على أن صاحبها لا يعلم المبدأ الأساسي للشعر الحر العربي. وأقول "العربى" لأن هناك فارقًا جوهريًّا بين الشعر الحر عندنا والشعر الحر فى الآداب الغربية، وهو ما يقال له فى الإنجليزية Free verse وفي الفرنسية Vers libre ؛ العربيُّ موزون، نوعًا ما من الوزن، والغربي غير موزون. وغَفَل الجبلاوي بطبيعة الحال عن الخطأ الذي وقع فيه عبد الصبور في الجملة الأولى "هذا زمان السأم" ، إذْ إنه ليس من "الرجز" الوزن المختار في القصيدة كلها. والكسور ظاهرة شائعة في الشعر الحر كله. وهي مما توقفت عنده في مقالتي الأولى عنه منبهًا أصحابه "وأصحابي" في ذلك الوقت إلى وجوب إتقان العمل. لكن ّتلاميذ العقاد، والعقاد نفسه، واأسفا، لم يفحصوا المسألة، كما قلت من قبل، الفحصَ الواجب، مع أن الأستاذ، كما هو معلوم مقرر، من كبار الدارسين المحسنين المدققين المتعمقين في بحث كل ما يَعرض له من مسائل علمية. انحرفتْ المناقشة بين الحزبين عمّا ينبغي لها. ولو أنها لزمت سواء السبيل لكان مرجوًّا أن يدخل الأستاذ بها في صلب الموضوع، وصلبُ الموضوع أننا بإزاء منهج جديد في "نظْم" الشعر، وعلينا أن نبدأ البحث مما هو صحيح مُسَلّم، إذا أردنا أن نخلص إلى نتائج صحيحة تُسَلَّمُ إلى جانب المسلّمات المبدوء بها. وتلك هي العبرةُ التي نخرج بها من تلك الذكرى التي اقتصرنا عليها تاركين غيرَها إلى أوان آخر، إن قُدِّر له أن يجيء، وخصوصًا في هذه الأيام التي اشتد فيها اختلاط الحابل بالنابل، أنه لا نجاة لنا مما نحن فيه إلا بأن نقيم حياتنا كلها على "أصول". الحياةُ العلمُ، والعلمُ "الأصول".
الحسّاني حسن عبد الله
19-2-2014(مجلة الهلال – عدد شهر مارس 2014)
كنت أولَ زائر، فبدأ الحديثَ إليَّ سائلًا "مِنْ أي معهدٍ أنت؟" قلت: مِن دار العلوم. فبدا عليه الارتياح، وقال عبارات لا أذكر نصها، ولكن أذكر أنها تضمنت ثناء على الكلية لعنايتها المتميزة باللغة والأدب. ثم بدأ الزوار يفِدون.
بعد انفضاض الندوة وجدتُني في حاجة إلى خلوة. فنزلت أتمشى وحدي. وكأني نزلتُ من السماء إلى الأرض. أردت استبقاء ما كنت فيه من مَتاع. طوّف الرجل بنا في أجواز فضاء رحْب. وكأنه ركّب لأحدنا جناحين يطير بهما معه خلال الآفاق. لذا كان صعبًا عليّ أن أنتقل دفعةً واحدة من عالم الروح إلى عالم المادة والحس.
أحببت الأستاذ. وقعَ حبُّه في قلبي منذ الجلسة الأولى في ذلك الصباح الذي ألحقه بالغيب كرّ الزمان. والحبُّ وِجدان. أي إنه حتمٌ واقعٌ لا محالة، فيصعب جدًّا التماسُ علةٍ له. لكنْ لا بأس بأن نحاول الاقتراب. إنه حدَث، وهو ككل حدثٍ خاضع لقانون العلة والمعلول. هكذا علّمنا الأستاذ، وهكذا علّمنا من قبله شيوخ الفلسفة، وشيوخ الدين، وشيوخ الفن والأدب. ذلك قانون العقل؛ الوصل ُالمحْكم بين الطرفين اللذين لا مناص من الجمع بينهما جوابًا للسؤال الخالد " لماذا؟".
يقرِّبني من الجواب بعضُ كتاب الله عزّ وجل. ذلك أنّ مِنْ صفة المؤمنين، كما جاء في أول السورة المسماة بهذا الاسم أنهم " عن اللغوِ مُعْرضون". واللغوُ في العربية كلُّ كلام، أو عملٍ، لا فائدة له ولا خير فيه. وأنا أحدُ الكارهين جدًّا للكلام الفارغ والسلوكِ السخيف. ولقد أصبحا، واأسفا، أو أوشكا أن يصبحا، ظاهرتيْن في مجتمعاتنا، لا عند الدهماء فحسب، بل عند العِلية أيضًا. والذي شهدتُه في مجلس الأستاذ هو العكس؛ الجِدّ والقصد. لا جَرَم حُبّب لي.
ويقرُّبني منه كذلك بعضُ حديثِ رسول الله، وَصَف صلى الله عليه وسلم صاحبَه أبا ذر الغفاريَّ بصدق اللهجة. وهي صفة لا يَقْدُرها حقَّ قَدْرها إلا صادقٌ، محب لأهل الصدق، ذواقةٌ للكلام، نافر من التصنع والتزويق. وهي معنًى أشهدُ أني ازددت له فهْما لمـّا استمعتُ إلى الأستاذ.
ويقرُّبني منه كذلك بعضُ شعر المتنبي. جاء في مِدْحةٍ له لبدر بْنِ عَمّار بيتان غريبان لا أذْكر في كل ما اطلعتُ عليه من مدائحَ مثلهما. قال:
تَعرفُ في عينه حقائقَه كـأنـه بالـذكـــاء مـكــتـــحــِلُ
أُشْفق عند اتقادِ فكرتِه عليه منها، أخافُ يشتعلُ
لا أدري إن كان ابن عمّار جديرًا بأن تُرسم له هذه الصورة الرائعة، أو هل كان المقصود برسمها أن تكون مثلًا أعلى يضاف إلى غيرها من المـُثل العليا التي ينحِتها صناعُ المدائح عالمين بالفرق القائم قطعًا بين عالم المـُثل وعالم الحقائق الواقعة لتكون أنجمًا يتطلع إليها بُغاة الفضل والعلاء. وهو المعنى الذي عبّر عنه أحسن العبارة أبو تمام في بيته الشهير:
ولولا خِلالٌ سَنّها الشعرُ ما دَرى بناةُ العُلا مِن أين تُؤتى المكارمُ
أو هل كان أبو الطيب، ربما، يُسقط، غير قاصد، ما عَرفه من أمر نفسه هو على رجل رأى فيه بطلًا، أي هل كان يمدح نفسه هو، دون أن يشعر ـ ولكني أدري يقينًا أن تلك الصورة الرائعة تصْدق كلّ الصدق على الأستاذ، وأنه جديرٌ بها كل الجدارة. لقد كان، رحمةُ الله عليه، دائم الاحتدام. لذا أُعجبتُ به، ولذا حُبِّب إلىّ.
كان ما سَبق إطلالةً قصيرةً على بداية القصة، وفيما يلي إطلالةٌ أخرى قصيرة على نهايتها.
كنت حريصًا على حضور المجلس كل جمُعة، إلا عندما ترغمني الضرورة على التخلف؛ مرضٌ أو سفر. كان يوم الجمعة عيدًا عندي وعند كل قُصّاد الأستاذ. وفي صباح السادس من مارس سنة 1964 توجهتُ، كما اعتدتُ، إلى بيته لأفاجأ بأنه مريض، ملازم للفراش، غيرُ قادر على استقبال الناس. كنتُ أحد الخاصة، وكانوا بضعة نَفَرٍ أخصُّهم وأبرزهم أديب شاعر عارف بعلوم اللغة والأدب، هو الأستاذ محمد خليفة التونسي رحمة الله عليه. بعد قليل أَذِن الأستاذ لنا في عيادته بغرفة النوم. كان جالسًا على السرير معتمدًا عليه بكفيه. وبعد الإعراب عن تمنياتنا بالشفاء قال التونسي في محاولة للطمأنة مهوّنًا من الأمر إن الحالة ليست أكثر من شيء من الضعف في القلب، فعقّب الأستاذ فورًا قائلاً: "وأنا أعملْ إيه بقلب ضعيف". ثم اضطجع إيذانًا بانتهاء الزيارة.
وفي صباح الخميس التالي توجهت إلى عملي بمبنى التليفزيون. كنتُ عضوًا بلجنة القراءة بهيئة السينما. وكان رئيسي المباشر في ذلك الوقت الأستاذ نجيب محفوظ، رحمة الله عليه. ولما وصلت إلى المكتب أُخبرتُ أنه يطلبني. وكان يعرف صلتي الوثيقة بالأستاذ. ولمـّا دخلت بادرني بالسؤال: هل رأيت جرائد اليوم؟ قلتُ: ليس بعد. قال: البقية في حياتك، الأستاذ العقاد تُوفي! وأَذن لي بالانصراف إلى مصر الجديدة. وفي الطريق منّيت نفسي باحتمال؛ قلت أليس من الجائز أن أفاجأ عندما أصل أن الخبر غير صحيح، وأن الأستاذ لا يزال يحيا؟! وعند مدخل البيت كان بضعة رجال جالسين، أذكر منهم توفيق الحكيم، ومحمود محمد شاكر، ويوسف السباعى، وكمال الدين حسين، ثم لحق بهم نجيب محفوظ. صعِدت السلم، وفي غرفة الجلوس كان بضعة رجال آخرين أذكر منهم التونسي وعلي أدهم. وكانوا صامتين، إلا من نشيج يُسمع بين الحين والحين، كأنه يقول لي: كَذَبتْك نفسُك! وتذكرت المتنبي لأني وجدته معبرًا أدق تعبير عن حالي في ذلك الوقت:
طَوَى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
حتى إذا لم يـَدعْ لي صدقُه أمـلاً شرِقتُ بالدَّمْعِ حتى كاد يشرَقُ بي
ثم أُذِن لنا أن ننظر إلى شيخنا النظرة الأخيرة. لحظتُ أن على جبينه شجّةً واضحةً، لا أعرف لها سببا. ووجدتُني أخيرًا مع العزاء الخالد "إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
شُيعت الجنازة بدءًا من ميدان التحرير وانتهاءً بمبنى نقابة الصحفيين. كان العقاد مشتغلاً طوال حياته بالصحافة. وفي اليوم نفسه نُقل الجثمان إلى مسقط رأسه ومُقام عائلته؛ أسوان. وفي المساء أُقيم في الميدان سرادق العزاء. وكان في صدارة المتلقين للمعزّين يوسف السباعي رحمة الله عليه. وكان يعامل العقاد في احترام كبير. ولكنْ مما أذكره أني سمعت العقاد يشتمه مرةً في الندوة ـ وكان السبب أن العقاد، رئيسَ لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للآداب، وكان من رأيه أن الشعر الحر نثر لا شعر، رفض الموافقة على سفر أحمد حجازي وصلاح عبد الصبور إلى دمشق في أحد مهرجانات الشعر، فلم يمتثل السباعي لرأيه، وأمر بسفرهما على أن يكون إسهامهما، ترضّيًا للعقاد، من الشعر المقفى لا من الحر. وهكذا كان. وكسب تاريخ الشعر العربي قصيدتين أضيفتا إليه في مسيرته الطويلة العريقة من نظْم أبرز المؤيدين للشعر الحر في مصر والعالم العربي.
تنثال عليَّ الذكريات. ولا بد من اختيار؛ لأن المجال لا يتسع لهن جميعًا. فلنبدأ بأَوْردها عليَّ، قضية الشعر الحر. شغلتني منذ الشباب الباكر. كانت أُولى مقالاتي بمجلة "الآداب" البيروتية سنة 1959 بعنوان "نازك وعروض الشعر الحر" بحثًا في صميم المسألة. ولمـّا بدأت صحبتي للعقاد كنتُ أحد المؤيدين للمذهب الجديد في نظم الشعر في "دار العلوم"، ولاحظت أن شيخي لم يدرس القضية الدرسَ الواجب من الناحية العروضية. أذكر أن صلاح عبد الصبور نشر مرةً في "الآداب" قصيدة. يقول منها:
هذا زمانُ السأمْ
نفْخُ النراجيل سأمْ
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلْ
سأمْ
وكان للعقاد صاحب أديب عزيز عليه هو الأستاذ طاهر الجبلاوي، عليه رحمة الله، فذَكرها الجبلاوي في إحدى الندوات منتقدًا لها وتلا الجملة الثالثة من الجمل السابقة تلاوةً تَكسر النظْم وتخرج به على البحر المستعمل، وهو بحر "الرجز"، ألقاها الرجل هكذا:
دبيبُ فخْذ امرأةٍ ما بين أَلْيتَيْ رجلٍ سأمْ
وواضح أنها تلاوة تحيل الكلام إلى "نثرٍ" صريح. وتدل على أن صاحبها لا يعلم المبدأ الأساسي للشعر الحر العربي. وأقول "العربى" لأن هناك فارقًا جوهريًّا بين الشعر الحر عندنا والشعر الحر فى الآداب الغربية، وهو ما يقال له فى الإنجليزية Free verse وفي الفرنسية Vers libre ؛ العربيُّ موزون، نوعًا ما من الوزن، والغربي غير موزون. وغَفَل الجبلاوي بطبيعة الحال عن الخطأ الذي وقع فيه عبد الصبور في الجملة الأولى "هذا زمان السأم" ، إذْ إنه ليس من "الرجز" الوزن المختار في القصيدة كلها. والكسور ظاهرة شائعة في الشعر الحر كله. وهي مما توقفت عنده في مقالتي الأولى عنه منبهًا أصحابه "وأصحابي" في ذلك الوقت إلى وجوب إتقان العمل. لكن ّتلاميذ العقاد، والعقاد نفسه، واأسفا، لم يفحصوا المسألة، كما قلت من قبل، الفحصَ الواجب، مع أن الأستاذ، كما هو معلوم مقرر، من كبار الدارسين المحسنين المدققين المتعمقين في بحث كل ما يَعرض له من مسائل علمية. انحرفتْ المناقشة بين الحزبين عمّا ينبغي لها. ولو أنها لزمت سواء السبيل لكان مرجوًّا أن يدخل الأستاذ بها في صلب الموضوع، وصلبُ الموضوع أننا بإزاء منهج جديد في "نظْم" الشعر، وعلينا أن نبدأ البحث مما هو صحيح مُسَلّم، إذا أردنا أن نخلص إلى نتائج صحيحة تُسَلَّمُ إلى جانب المسلّمات المبدوء بها. وتلك هي العبرةُ التي نخرج بها من تلك الذكرى التي اقتصرنا عليها تاركين غيرَها إلى أوان آخر، إن قُدِّر له أن يجيء، وخصوصًا في هذه الأيام التي اشتد فيها اختلاط الحابل بالنابل، أنه لا نجاة لنا مما نحن فيه إلا بأن نقيم حياتنا كلها على "أصول". الحياةُ العلمُ، والعلمُ "الأصول".
الحسّاني حسن عبد الله
19-2-2014(مجلة الهلال – عدد شهر مارس 2014)