- مدخل:
إن الوقوف بأعتاب قصيدة (مراكش الموت والميلاد)، يدفعنا إلى رصد الشعرية فيها، ورصد بناء خطابها.
إن هذه القصيدة الثمانينية إن جاز لنا هذا التحقيب، هي صورة مقربة للقصيدة المغربية في هذه الفترة، وهي تبين حدودها الحداثية، والشكلية.
والقصيدة من جنس قصيدة النثر السائدة في المغرب، والتي وجدت لها مكانا عند الشاعر المغربي الأستاذ المهدي نقوس.
- أجناسية القصيدة:
إن قصيدته تنبني على أجناسية متعددة الأوجه. فهي نثيرة، ذات نفس يمتد إلى الشعر المنثور، والمرسل. فهل هذا اللون هو خارج سياق الثقافة المغربية، وبالتالي العربية.؟
إن مفهوم الشعر والنثر وحدهما، يجعلنا نجزم أن قصيدة (مراكش الموت والميلاد)، قصيدة حداثية، معاصرة. نهجت ما هو مألوف في المغرب عند الشعراء المغاربة الحداثيين. ورغم أن الكثير لن يشاطرني الرأي، ويرجح النثرية على الشعرية في هذه القصيدة، إلا أن درجة الشعر فيها عالية.
صحيح، أننا ننظر إلى هذه القصيدة من حيث الشكل، ولكن ننظر إليها من حيث شحناتها الشعرية، والرعشة الشعرية التي تخلفها فينا بعد قراءتها... لذلك يعتبر أدونيس الشكل تنفسا، من خلاله تتنفس القصيدة، وتتسع رؤيتها...
حتى على مستوى الكتابة، لا تتخذ شكلا معينا، بل هناك نوع من الفوضى الجميلة:<< الشكل هو في ذاته مضمون، والشعر بهذا المعنى هو الفوضى الرائعة كفوضى الطبيعة. القصيدة يجب أن تكون فوضى طبيعية>> (أدونيس، مجلة مواقف للحرية والإبداع والتعبير، العددان 13/14، كانون الثاني/ نيسان، 1971، مطبعة حايك وكمال، بيروت، ص: 2).
صحيح، إن القصيدة فيها ثورة على الموروث، والتقليدي... لكن ، يجب أن نكون موضوعيين في حكمنا... فهي لا تخلو من تجديد، وحداثة في بنائها الداخلي، من حيث: ( الموضوع، والأفكار، وتناسقها، والصورة الشعرية، والأخيلة، والصدق الفني، والإحساس، والعواطف، والرؤيا الشعرية الصادقة، والتجديد في اللغة، والبساطة في العرض...) وهذا كله وفر للقصيدة جانبها الإبداعي، والفني.
وتؤكد الباحثة الأستاذة حورية الخمليشي، أن قصيدة النثر ظهرت في سياق التحولات التي عرفها المجتمع العربي، والإبدالات النصية الجديدة التي مرت بها القصيدة العربية>> (حورية الخمليشي،الشعر المنثور، والتحديث الشعري، منشورات زاوية، طَبعة، 2006، ص: 183).
- قصيدة الخبر والاتصال:
والشاعر المهدي نقوس صوت شعري، مغربي داخل الحركة الشعرية المغربية المعاصرة. برع في قصيدة النثر، معتمدا على إيقاعية البنية الصوتية، والصورة الشعرية. والتي:<< تجمع بين الوقائع الغريبة، وبين واقع معيش ليوميات الإنسان المغربي>>، مع استخدام الأسلوب الحارق كالنار.
إن النص الشعري عند المهدي نقوس، يتحول إلى أداة اتصالية، وإخبارية، تعطي صورة عن الحالة العامة، و:<< بهذا استطاع أن يفتح أمام قصيدته الآفاق الرحبة، عندما جعل منها قصيدة حداثية اتصالية جديدة>> (الدكتور حفناوي بعلي، شعرية التوقيعة في شعر عز الدين المناصرة، مجلة الموقف الأدبي، ع: 413، أيلول 2005).
والجميل في هذه القصيدة النثرية، أنها قصيدة الخبر. حيث اتخذت الخبر مادة لها، مع إضفاء الشاعر عليها شاعريته الخاصة. مع العلم أن الخبر والشعر نقيضان، قلما يجتمعان. لذا شاعرنا المهدي نقوس جعل من الخبر وثيقة، بقيمة شعرية. ترفعه من مستوى الصحافة إلى مستوى الأدب.
إن القصيدة لا تخلو من بريق صوفي، لما يحسه الشاعر من الم وحسرة، ويأس، وعزلة، وغربة وانكسار.. إنه يرى القوى التقدمية منكسرة، مدحورة ، لما تلقته من ضربات مميتة. وهذا ولد في شعره نوعا من القلق الوجودي. دون أن ننسى ما أركب قصيدته من تلميح، وتنديد بالمناخ السياسي العام، والإرهاب الفكري الممارس، وانعدام الحرية.
لذا كان الرمز وسيلة لفضح جملة من الممارسات، والوقائع، والأحداث.. وهذا دفع الكثير من المثقفين إلى توقيع كتاباتهم بأسماء غير حقيقية، كما فعل شاعرنا سي المهدي نقوس.
<< قلت: فليبدأ الرحيل إلى الجنوب الحلزوني بن موحا وحمو بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن ناصر بن جنبلاط، عبر خريطة الوطن>>
وهي أسماء كان الشاعر نقوس يوقع بها كتاباته على صفحات المحرر (الاتحاد الاشتراكي حاليا)، والتي منعت وصودرت من طرف وزارة الداخلية، من الصدور في أواخر السبعينيات.
إنه يجسد مأساة الوطن، وما مس رموزه من اضطهاد، واغتيال. هذا ما أعطى للقصيدة وهجا إنسانيا شاسعا، جمع بين الفردي، والقومي، والإنساني.
- الالتزام بالحداثة و الحدث السياسي:
وهذه القصيدة (مراكش الموت والميلاد)، تمثل قصيدة البيان واللافتات. حيث تختلف أطوال الأسطر. وهذا التزام حداثي من الشاعر. كذلك هذا الأسلوب في الكتابة، والشكل:<< يشير إلى التحديث في شكل قصيدة النثر/ اللافتة، الذي يقوم على المعنى، وما تقتضيه الصورة>> (عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات، رياض الريس للكتاب والنشر، بيروت،2002، ص:153/154).
والقصيدة كتبت في مرحلة تاريخية حرجة من تاريخ المغرب الحديث، سميت بسنوات الرصاص. وقد نشرت هذه القصيدة تحت اسم مستعار، على صفحات جريدة المحرر.
إن هذه القصيدة تفاعلت مع الحدث السياسي، وبالتالي- كما يقول محمد بنيس- أصبح السياسي حاضرا في الإبدال والاختيار الشعريين (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء الرابع ن دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص:151).
فالحدث السياسي، أو حرية التعبير، كانا مجرد ثغرة مؤقتة تنفتح في السور الحديدي لتنغلق من جديد، مادامت أساسيات السياسي في العالم العربي الحديث، مدعمة بالمطلقات، والمتعاليات تموت لتحيا بأقوى مما كانت عليه>>...
وهذا التفاعل مع السياسي نتج عنه صراع، أخذ عند الشاعر المهدي نقوس بعده الشعري، وغير الشعري، والشعري والسياسي.
- اللغة ووقائعية التلقي والأصالة:
وتأثرا بشعرية الحداثة، والشعر الفرنسي، نجده يهتم باللغة الشعرية في قصيدته، ليبين للمتلقي أنه شاعر وأديب ينتمي لثقافته من خلال النسق الثقافي ، الذي كان سائدا آنذاك.
وقد اهتم الأستاذ نقوس بالوقائع التي طبعت هذه المرحلة من تاريخ المغرب الحديث. فجاءت قصيدته واقعية، تاريخية، الشيء الذي اقترب فيها الشعر من النثر، لأنه استخدم الكلمات وفق دلالاتها المألوفة.
صحيح أن الشاعر المهدي نقوس واع جدا بان: << لغة الشعر هي لغة الإشارة، في حين أن اللغة العادية هي لغة الإيضاح. فالشعر هو، بمعنى ما جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله>> (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء3، دار توبقال للنشر، ط2،2001).
هكذا حاول في قصيدته أن ينتقل أكثر من مرة من لغة الوقائع إلى اللغة المغايرة، أي لغة الإشارة... ولذلك امتزج في القصيدة الشعر والنثر معا...
وعندما نلج تخوم هذه القصيدة، يلفتنا شيئان مهمان كقارئين، وهمل: التلقي والأصالة.
· فالتلقي وهو واسطة المرسل/ الشاعر إلى المرسل إليه/ المتلقي، يجعلنا ننظر إلى التلقي من خلال قلب الدلالة، واستعمال الرمز.
1- استعمال الدلالة:
والدلالة هي: << كون الشيء بحالة يلزم من العلم به بشيء آخر. والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول>> ( عبد العزيز إبراهيم، شعرية الحداثة، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2005).
وحينما نسمع الشاعر المهدي نقوس يقول في المقطع الأول من قصيدته (مراكش الموت والميلاد):
<< في الأفق الشاسع انتشرت سرابا تدوسين فقر الفيافي، وشريان قلبي...
ناديتك حتى جف مني الحلق، وتيبست الكلمات...
كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل....
بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي أخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثر ائب....
أشرت للريح فاهتزت...
فكنت أنت من استدارة الخبز وتجويفة الجوع...>>.
فهناك قلب للدلالة، وهذا مقصود من الشاعر، حيث تجاوز خلف المجاز... فلننظر إلى فقر الفيافي يداس، وكيف تيبست الكلمات مما تيبس الأوراق .. وها هي الريح تمشط أهدابها، وتصهل كأنها فرس جموح... إنها صورة جديدة يوظفها الشاعر، حيث يداس فقر الفيافي. فكيف للفيافي فقر؟... وكيف يداس؟.. والكلمات تيبست كأنها حطب، وأوراق. والريح تمشط أهدابها. فهل للريح أهداب وصهيل؟. وها هي الهضاب ترتجف كما يرتجف البدن من القر. ولكنها هنا ترتجف من عفونة الخوف ، والبطش، والظلم. فهل للخوف عفونة؟...
إنه يزحزح الكلمات عن دلالتها، وهذا أعطى لهذا الاستهلال فنيته، وجماليته.
2- استعمال الرمز:
نبه الدكتور ابراهيم السامرائي على أن الشعراء:<< يستعينون بذلك- ( يعني الرمز)- للوصول إلى ما يريدون، فيعربون عنه صراحة، أو يومئون إليه تلميحا، أو يغضون عن قصدن فيتركون القارئ في ضرب من متاهة مظلمة>> (د. إبراهيم السامرائي، البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 2002، ص: 7).
وهذا الاستعمال- كما يقول الأستاذ عبد العزيز إبراهيم- لا يؤدي أكله إلا إذا اطمأن الشاعر إلى أن المتلقي قادر على فهم رموزه التي وظفها:
<< قال الدليل: من لونها أخذ أحمر الشفاه...
من غيها نفح رائحة الطيب..
النتانة... الفقر... الثوم... الدخان... الاخضرار... العرق... الجوع.. الاصفرار... المخزن... الهراوات... البصارة... السيبة... الاحمرار... الشوارع المرشوشة بصهد الشمس... الجلابيب.... النخيل...>>.
إن هذه الأوصاف والدلالات يرمز بها إلى مدينة مراكش، مدينة المتناقضات، حيث يجتمع فيها الفقر والغنى، والجوع والشبع، والموت والميلاد...
· والأصالة، رغم حداثة القصيدة، وشكلها الجديد، وابتعادها عن الموروث الشعري، فإن الشاعر المهدي نقوس بقي مرتبطا بالماضي، من حيث اللغة الموظفة. فهي تمتاز بالأصالة، والفصاحة، والحضور.
وقد جعل الكلمة تعيش حياتها الجديدة. لابسة دلالتها التي أعطاها لها الشاعر... وهذا يبين وعي سي نقوس بأهمية اللغة في الشعر، واعتبارها مادته وجوهره. ويعرف انه :<< إذا كانت اللغة عنصرا من عناصر الشعر المهمة، فلا بد للشاعر أن يسلك مسلكا خاصا، ليستطيع فيها أن يؤدي المعاني بطريقة تختلف عنها في ما عدا الشعر من فنون القول>>( د. ابراهيم السامرائي، لغة الشعر بين جيلين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2 ، 1980، ص:102).
وهذا يعني، الجميل المناسب، والأنيق الحسن من اللفظ الذي يشترط البعد عن الغرابة والوحشية، ومناسبة اللفظ للمعنى.
وكما يقول ابن طباطبا العلوي:<< للشعر أدوات، وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد ، ولزوم العدل، وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها>>( ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق الدكتور عبد العزيز بن ناصر المانع، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1985، ص: 7).
وهذا جعل الشاعر المهدي نقوس يعي أدواته الشعرية، الشيء الذي أعطى لقصيدته نوعا من الجدة، والفنية، والشعرية. فعمل على تطوير لغته، حيث أبعد عنها وحشي اللفظ، وغريبه...معتمدا على الوضوح، والبساطة اللغوية، وتناسق الحروف، وتجانسها...لأنه يؤمن أن اللغة:<< تأخذ أناقتها من جزالة اللفظ، وحسن الرصف والحفاظ على الإيقاع والجرس>> ( د. إبراهيم السامرائي، لغة الشعر بين جيلين، ص: 55).
<< المد والجزر أعطى لونه لمراكش كما أعطت اسمها للوطن، ومضى إلى ما وراء الشاطئ ليطلب اللجوء السياسي...
فتعلمت كيف أكفر بشحوب الموت وأصلي للوطن، وأتيم، بالنخيل...>>.
فهو يستعير لون المد والجزر لصبغه على مراكش، التي أخذ الوطن اسمها، واستعاره لنفسه...إنه يجمع بين اللغة والصورة، ليصل إلى معاني يريدها أن تصل إلى المتلقي، ليكتشف من خلالها الحالة النفسية، والعامة لمراكش في هذه الفترة العصيبة.
عماذا تتحدث القصيدة؟:
والجميل أن الشاعر المهدي نقوس في قصيدته( مراكش الموت والميلاد)، يضع فيها موقفه من الأحداث التي عرفتها مراكش، بل المغرب كله في بداية الثمانينيات. كما يبين فيها شعوره نحو المناضلين الاتحاديين، المعتقلين منهم ، والمحاكمين في أحداث 1965، وأحداث 1972، وأحداث 1979، و1981. أو الذين صفوا جسديا، كالمهدي بن بركة، وعمر بن جلون، وغيرهما من اليساريين أمثال: عبد السلام مدن،ومحمد كرينة،والحسين المانوزي، وعزيز بلال...
إنه يبثها حالته النفسية، وتجربته الشعرية والفنية، وبالتالي جاءت القصيدة حابلة بالحقائق، والنصوص الغائبة، والأحداث التي هي جزء من تاريخ حقبة سوداء في حيلة المغرب السياسي.
إن الأحداث التي عرفتها كثير من المدن المغربية، ومنها مراكش، غدت شاعريته، وحركت أحاسيسه، وكسرت الصمت فيه. وهزت كيانه. ولذا المتلقي يجد في هذه القصيدة صدى تجربة الشاعر نقوس الخاصة. وقد نجح في إيصالها إلى الآخرين، قصيدة جميلة معبرة.
إن القصيدة رؤية إنسانية، وتعبير عن مرحلة دامية من تاريخ المغرب السياسي. تنقل لنا تجربة ذاتية صادقة عاشت الأحداث، ووقفت على ماساتها...
- الصورة الشعرية الموظفة في القصيدة:
وهذه التجربة الشعرية التي عاشها الشاعر المهدي نقوس، وشعوره اتجاه هذه الأحداث المغربية، أعطتنا صورة/ قصيدة قوية، تعاون فيها رصد الواقع والخيال واللغة. وهذا أيد مقولة:<<إن الشعور يظل مبهما في نفس
الشاعر قلا يتضح له إلا بعد أن يتشكل في صورة>> (د. عز الدين إسماعيل،الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية .المعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967، ص:134).
والصورة لها دلالتها الوجودية... والصور التي وظفها الشاعر المهدي نقوس، نجد فيها ذاته المتشظية بين الألم والإدانة، بين .، بين تأبين الموت، وتطرية الولادة، حيث يمزج بين الألم ومعاينته، وبين الحلم والتمني... إن هذه الصورة يجسد فيها الواقع المهيض...
والجميل، هو أن سي المهدي نقوس في صورته الشعرية هاته، خلق على المنوال ، والمثيل، فجاءت صوره صادقة، برزت فيها:<< مواطن من الطاقات الكامنة تترجم عنها محمولات البراعة، والمهارة في إطار التشابه ، والمماثلة>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 96).
إنه يقدم لنا صورة لا تخلو من إشراق، ومن جمالية:
<< هنا الوردة... هنا نرقص...
فرقصنا وتضوعت شذى... وانتصرنا....>>
<<آه...
حين رحلت كنت قد علمت الشعب رقصة الوداع...
وعلمت الخيل كيف تتهجى سورة الحركة
وحين رحلت للمرة الثانية، كان مارس الحزين ينبت على أهداب الصبية... الطلبة...العمال... الكادحين... اليتامى...
ساعتها لم يكن سواد الزنازين عميقا...
ولا للمال رنينا...
سوى انه كان للوطن الممتد فينان وفيك أفقا ولينا...>>.
إن الصورة عنده نوع من التشكيل ، والكتابة المنتقلة من الجواني إلى البراني:<< إنها الكتابة عبر أجناسية - على حد تعبير الناقد والروائي إدوار الخراط - ، التي تتوسل بها الذات الشاعرة في هذا المضمار، لتجعل من المكونات النصية أدوات لتجريب الرسم بالكلمات ضمن فسيفساء نصية، يتحد فيها ما هو شعري وما هو نثري، وما هو معتاد وما هو عجائبي. وبهذه التشكيلات يحصل الوعي عند رسم أفعال التجريب>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 111).
كما نجد في القصيدة مجموعة من الصور الحسية، والتي يقول فيها الدكتور عبد الإله الصائغ:<< نعني بها فنيا ، تفكيك الواقع وتشكيله في المخيلة الثانية، تشكيلا لحمته الحواس الخمس. >> ( عبد العزيز إبراهيم، المرجع نفسه، ص:29).
<< كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل... بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي أخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثرائب... أشرت للريح فاهتزت...>>.
وهذا يدل على خصوبة الخيال عند الشاعر المهدي نقوس، والذي يبين مدى تأثره ب:
-القصيدة العربية الحداثية المعاصرة.
- الشعر الأوربي، الفرنسي خاصة.
وهذا ظهر في نمطية صوره، وتنوعها، وابتعادها عن نمطية الصورة القديمة المعتمدة على التشبيه، والكناية، والاستعارة الهجينة...
وعندما نقرأ هذا المقطع:
<< كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش...
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية>>.
نجد أن الصورة فيه صورة فاعلةـ تؤدي وظيفتها، وتعطي وضوحا لمقصدية الشاعر. فهو يصور لنا ما يوجد ما وراء الأطلس الكبير وما أمامه. فوراءه الجنوب المغربي وأمامه مراكش الفيحاء... وهو يحيط بها كسيف معقوف... مراكش المدينة العالمية، والتي تنتشر سمعتها في العالم كله.
كما نجد صورا ذهنية، والتي:<< ليس لها ما يطابقها في الخارج، فالشاعر يرسم صورتهن وفي نفسه إيهام المتلقي بأنها تقرير للواقع، وهنا يتألف دور الباحث في ربط أجزاء الصورة، وملاحقة روافدها>>.( عبد العزيز ابراهيم، المرجع نفسه، ص: 29).
<< وفي كل الطعنات بكت مراكش دما احمر، وناغى باب دكالة باب أغمات...
واختار جامع الفناء شكل البندقية، والموت لون الرصاصة...>>
رغم أن هذا المقطع يتضمن لقطات حسية، إلا أنها تدرك ذهنيا. فالشاعر يبين أن مراكش عرفت أحداثا كثيرة في كثير من نواحيها. وجامع الفناء الذي يعتبر الوجه السياحي لمراكش، كان ذات يوم ساحة موت بعدما كان ساحة فقر، وبحث عن لقمة عيش. فقد لعلع الرصاص في جنباتها لإخماد صوت الرفض، والإدانة، والاستنكار، والاحتجاج...
- تقنية المقطع في القصيدة:
وقصيدة (مراكش الموت والميلاد)،قصيدة نثرية- كما أسلفت- تتكون من أربعة مقاطع. كل مقطع مرقم، ويتكون من:
- المقطع الأول: يتكون من خمسة أسطر شعرية.
- المقطع الثاني: يتكون من خمسة عشر سطرا شعريا.
- المقطع الثالث: يتكون من عشرين سطرا شعريا.
- المقطع الرابع: يتكون من ثمانية أسطر شعرية.
كما أن الملفت للانتباه، هو أن الشاعر المهدي نقوس اعتمد في قصيدته على نوع من التكثيف، رغم الطول النسبي الذي يميزها، ورغم السردية التي وسمت بعض مقاطعها...
إن هذا النموذج الكتابي المعتمد على المقاطع القصيرة، المنتظمة في نص طويل له عنوان، يفسر بؤرة انبثاق النص، أو الحالة العامة التي حرضت الشاعر على الكتابة.
وهو نمط كان معروفا في الستينيات، والسبعينيات، عند عز الدين المناصرة، ومحمود درويش، وأمل دنقل، واحمد مطر، وفاضل العزاوي، والمظفر النواب، وبولص ، وغيرهم من الشعراء. واجه انكسار الأمة بعد نكبة 1967 بهذا النموذج الشعري المتمرد.
وحتى وإن نعت البعض القصيدة بالنثرية، والسردية، فإن الحقيقة تقول إن الشاعر المهدي نقوس، هدفه إلى تخليد الذكرى، وإنقاذها من النسيان، والمحو المقصود،وهذا تهديم للموروث، والخروج عن التقليدية.
والشاعر نقوس اعتمد على المقطع كمكون شعري بنائي في القصيدة، والتي تتكون من أربعة مقاطع - كما سبق القول- لكل مقطع عنوانه الخاص. وهذا يطرح علينا سؤالا: هل كل مقطع مع عنوانه هو قصيدة مستقلة بذاتها، تجتمع كلها تحت عنوان رئيسي؟. أم أنها قصيدة واحدة مقطعة إلى تمفصلات ومقاطع معنونة؟.
والمقطع عكس المطلع الذي استعمله العرب القدماء في الحقل الشعري.
ويتقدم المقطع في مفهومه القديم ن كمشترك بين الشعر والنثر. فهو: << يفعل في الممارستين النصيتين معا. والمشترك هنا هو مكان الحدود بين وحدات الخطاب. ويسمح لنا الاشتقاق اللغوي بالتعامل مع المقطع كمصدر ميمي. جاء في اللسان: << والمقطع مصدر كالقطع. والقطع إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا. والقطع: مصدر قطعت الحبل قطعا فانقطع.. نقل المقطع من خانة اسم المكان إلى المصدرية يوسع الدلالة، ويمنحنا إمكانية استعماله كمفهوم يحتضن الممارسة النصية الرومانسية العربية. كما يستوعب الممارسة المقطعية العربية القديمة شعرا ونثرا>> (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء2، دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص: 73).
ويؤكد الدكتور محمد بنيس أن الرومانسية عرفت في العالم باختراق الحدود بين الشعر والنثر، عن طريق إدخال الشعر إلى النثر، ثم بتجديد النثر وهدم الحواجز بين الأجناس الأدبية.
والنص ( مراكش الموت والميلاد)، جسد تبين بعض أجزائه عن المقطع والانقطاع. والمقطع في هذه الحالة وحدة مستقلة متجانسة لها نقصانها، يبين بتماسكه الداخلي فيما هو منقطع عن غيره. فالمقطع وحدة دالة من بين وحدات الخطاب. وهو في الوقت نفسه دال من بين دواله تتآلف فيه مجموعة من الأبيات، وتنفصل به عن غيرها داخل الخطاب( محمد بنيس، المرجع السابق، ص: 73).
وهكذا يرد محمد بنيس تقنية المقاطع، والاعتماد عليها إلى الرومانسية التي اعتمدت المقطع في تشكيل النص الشعري.
- تقنية المحو في القصيدة:
والشاعر المهدي نقوس يمارس في قصيدته مفهوم كتابة المحو، التي امتازت بها الحداثة الشعرية المغربية. فهو يقوم بعملية محو كل الماضي الأليم، وما انطبعت فيه من آلام، ومن جروح ليبني برانيا، يتأسس على الإشراق، والتجدد، وجعل الرؤية كلها تفاؤل، وحياة. ومل الميلاد كلفظة إلا خير دليل على هذا المحو للنسيان، وللموت القهري، والإجباري، ومحو لكل أشكال التعسف.
إنه بقصيدته هاته يكسر النسيان. كما يذوب فيها الفردي إلى ما هو جماعي، حيث يحول اللحظات الدامية التي مرت إلى ذاكرة جماعية:<< ومن هنا يتجسد الربط الذكي، واليقظ بين المعرفة بمستوياتها الشعرية، والفلسفية والاجتماعية، وبين الممارسة الكتابية- كما يقول الدكتور عبد القادر الغزالي في كتابه السالف، ص: 121-
هذا ما جعل قصيدة المهدي نقوس لا تخلو من حياة، خاصة حياة الغيري، أو الآخر. فنجد تذكيرا بالمهدي بن بركة وعمر بن جلون، والوردة رمز حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
<< في فترة القتل الأولى...والقتل... والقتل الثانية، كان أزيز الرصاص يصوت في أدمغة بني أمية، وفي كل الطعنات. بكت مراكش دما احمر، وناغى باب دكالة باب أغمات...>>.
وعندما نعود إلى قصيدة ( مراكش الموت والميلادà، نجدها تتضمن عنوانا رئيسيا، ثم عناوين فرعية. تشكل جميعها نصا موازيا. وهي ورقة تعريف تحدد هوية القصيدة، ومقاطعها.
صحيح، هناك صعوبات كثيرة، حيث يطرح التعريف نفسه عدة مشاكل تقتضي بذل مجهود من أجل التحليل(Gérard Genette : Seuils,éd,seuil, Février 1987, p :54).
- العنوان كعتبة نصية:
إن هذه العناوين تخلخل ما ترسخ بالعادة، والتقليد. ولها حضور لافت في القصيدة. وتلعب وظيفة جديدة. وتشكل نوعا من اللافتة titulus، المثيرة للانتباه. فارضة سلطتها وإغراءها على المتلقي... محفزة إياه على القراءة والتأويل.
وهذه العناوين الموظفة في القصيدة هي: ( غزل بدائي- نشيد من اجل المدينة- نشيد للمهدي وعمر وآخرون من اجل سعيدة- وداع). وهي عناوين تيمية thème. ذات دلالة ، ورمزية وإيحالة.
والسؤال المطروح هو: بما أن هذه العناوين مجموعة من العلاقات اللسانية، هل توفق الشاعر المهدي نقوس في توظيفها ن وتحديد وظيفتها وتداولها داخل هذا السياق النصي؟. وهل هناك علاقة بين العنوان والنص؟. هل تنفتح القراءة على الحضور المتعدد للعنوان؟.
والعنوان الرئيسي الذي اختاره الأستاذ المهدي نقوس، ( مراكش الموت والميلاد):<< تدهمنا على التو، بهذا الصدد أسئلة متلاحقة تتمحور حول كيفية قراءة هذا العنوان الموارب إلى حد كبير>> ( د. عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط2004، ص:31).
وهذا العنوان رغم أنه مركب اسمي، يتبعه رابط وتابع، فإن له دلالة استعارية، اختصر النص كله، وترجم الرؤيا الشعرية للأستاذ المهدي نقوس، وهو ينبني على تضاد الموت ≠ الميلاد ( الحياة). ولذلك فإن العنوان ( مراكش الموت والميلاد): << مؤشر أولي على الكون الإيقاعين والتخييلي في (النص). فالكتابة الشعرية من خلال هذا التجريب الصادم، تقوم من داخل الصراع بوصفه قانونا ترتضيه المواجهة، وتبتغيه الذات، وهي تمارس أفعال الهدم والبناء>> (د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 33).
وبالتالي ف ( مراكش الموت والميلاد) تجربة عميقة، وخطاب شعري متميز شكلا ودلالة: << إنه جواب محتمل عن أسئلة السكن الشعري في العالم، ونداء وجودي جوهري ضد العادة، والاستهلاك، والابتذال من خلال المزج بين الواقعي، والخيالي>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 33).
وعلى ذلك، فرغم التضاد الذي يحمله العنوان ( موت وميلاد)، فإن الشاعر المهدي نقوس،يمارس حياة من خلال الكتابة. يمارس حياة واقعية مقابلا بين حياتين: حياة مهمومة، ثقيلة بجروحها، دمائها، وآلامها، وصراعاتها السايسية، وحياة تقوم على أنقاضها، وهي حياة جديدة، مدنية وحضارية. ولذا يأتي بهذا التقابل والإيديولوجية، المبنيان على التضاد، والتعارض ما بين حياة مهددة بالانتهاء والموت، وحياة تبدأ فيها الولادة، ويسير فيها الاستمرار والبناء.
وجميع العناوين الواردة في النص، تتكون من لفظتين أو أكثر، ما عدا العنوان الرابع( وداع)، فهو يتكون من لفظة واحدة، جاءت على صورة مصدر.
والعناوين التي جاءت في أكثر من كلمة، تبين حالة الانشطار ، والتشظي التي عاشها الشاعر، ويعيشها المجتمع. وهي عناوين لمقاطع شعرية مكونة لهذه القصيدة ( مراكش الموت والميلاد).
والعنوان ( مراكش الموت والميلاد) تصطدم اللغة فيه بعلاقة التناقض، حيث إن كلمة ( ميلاد) مجاز مرسل، إذ كل ميلاد لا بد له من أن يصبح موتا: << ولكن هذا التبرير غير كاف بالنسبة إلينا، لأنه يفسر لنا آلية المجاز المرسل، دون أن يبررها هي نفسها، اعتمادا على أنها معنى متفرع عن تصور أولي واصلي لدى الشاعر. لم يخرق به اللغة المتواترة،بقدر ما عبر في أصالة تامة عن معرفة متخيلة، واكتشاف إبداعي لا سبيل إلى نقله أو ترجمته ، إلا عبر علاقة التناقض المشار إليه أعلاه>> ( إدريس بلمليح، القراءة التفاعلية، دار توبقال للنشر، ط1، 2000، ص: 84).
- الإهداء كعتبة نصية:
وبعد تجاوز العنوان الرئيسي نجد الإهداء، والذي يمكن اعتباره خطابا توجيهيا، يحفز على القراءة والتفسير: << إن الإهداء، إذن، وبصورة عامة، تكريم واعتراف بالفضل>> ( جيرار جنيت، المرجع السابق، ص: 112).
والمهدي إليه، هو الحامل الرمزي لجوهر هذا العمل الشعري. وهذا الإهداء يبين العلاقة مع نظام شعبي، وسياسي، ونضالي. ويمثله المهدي نقوس في أولئك القتلى الذين سقطوا دفاعا عن الحرية ، والكرامة، والعيش الرغيد في هذا البلد الحبيب.
ومن ثم ، تعتبر القصيدة قصيدة نضالية، بل نضالا، مهدى إلى كل أولئك الذين ناضلوا من أجل كرامة الإنسان وحريته.
فما عسى شاعرنا المهدي نقوس أن يهديهم غير الآلام، والجراح، والمواساة، والأمل في غد أفضل، وحياة رغيدة، ومجتمع أفضل. إنه يذكرنا بأن الحرية باب بكل يد مخضبة بالدماء تدق.
ولا بد من الدماء، والتضحيات، للوصول إلى الغايات المبتغاة... إنه لا يملك غير الشعر سلاحا للنضال، ومقاسمة هؤلاء المناضلين نضالهم.
والكتابة نجدها عند شاعرنا حرة. يتفاوت فيها الطول أو القصر، حسب أوضاع الذات وإيقاعها في الخطاب- كما يقول الدكتور عبد القادر الغزالي- مما يسمح بإقامة تفاعلات متنوعة بين السواد والبياض، والتي تتخلله علامات الترقيم، التي تبين وبوضوح الاختيار الكتابي الذي تنتفي في إطاره الحدود بين الشعر والنثر.
كما يمتاز النص الشعري باسترساله، وانسيابيته.
- الفضاء النصي:
هذا الفضاء الكتابي، الذي يشغله السواد والبياض، يتكسر على طول القصيدة، وعلى امتداد فضائها، خالقا نوعا من الإيقاعية، والهرمونية الجميلة،و التي اتسقت كلماتها، وانسجمت ، وتناغمت حروفها، لتجعل القارئ، يمتح من فنيتها، ومن صورها وصدق أحاسيسها الكثير.
- خاتمة:
وختاما لا نجد غير أن نقول، إن قصيدة ( مراكش الموت والميلاد)، تمتاز بخطابها الجامع بين التاريخي والاجتماعين والسياسي. ومن خلال عمليتي الهدم والبناء، يعيد المهدي نقوس بناء قضايا اجتماعية وسياسية، وإنسانية، حتى يخلد هذا الوعي الجمعي،ويصعد حده التوعوي فيه...
إن سي المهدي نقوس، أبدع في هذه القصيدة، وصبغ عليها من أحاسيسه ومشاعره، وتاريخيته، فأعطانا لوحة إنسانية، نضالية، ترشح فنية، وجمالا.
د. محمد داني
****
* نص القصيدة
نقوس المهدي - مراكش الموت والميلاد
- الى قافلة الشهداء من اجل الحرية
1- غزل بدائي..
في الأفق الشاسع انتشرت سرابا تدوسين فقر الفيافي وشريان قلبي.. ناديتك حتى جف مني الحلق وتيبست الكلمات... كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل.. بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي اخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثر ائب.. أشرت للريح فاهتزت فكنت أنت من استدارة الخبز وتجويفة الجوع..
2- نشيد من أجل المدينة..
تحركت نحو الجنوب..
هل تعلمون .. هذا الجنوب غامر في رحلة بين الرمل والرمل .. خلخل الرمل حتى فاض فخرج .. تدحرج عبر النتوءات ولم يفرق بين السهل والوعر..
قال الدليل: من لونها أخد احمر الشفاه .. من فيها تفح رائحة الطيب.. النتانة .. الثوم .. الدخان .. الاخضرار .. الجوع .. الاصفرار .. المخزن .. الهراوات . البصارة.. تلخشة.. السيبة.. الاحمرار.. الشوارع المرشوشة بصهد الشمس .. الجلابيب.. الصوت الشعري اللون الجزري..
قلت فليبدأ الرحيل إلى الجنوب الحلزوني بن موحا اوحمو بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن جنبلاط عبر خريطة الوطن..
كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس..
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش..
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية..
والبحر بين الألوان.. غلالات الزبد ..المد والجزر أعطى لونه لمراكش كما أعطت اسمها للوطن ومضى إلى ما وراء الشاطيء ليطلب اللجوء السياسي..
فتعلمت كيف أكفر بشحوب الموت وأصلي للوطن وأتيمن بالنخيل الجمل.. الرحامنة الحوز.. أولاد ليم يا أولاد خليفة ..
3 - نشيد للمهدي وعمر وآخر من أجل سعيدة ..
وحدها العيون كانت مشرعة بسعة الأحلام..
وحده القلب كان يمجد الحب فينا بتضاريس تلك الأجساد المهترئة بالطموح لحظة كانت الكتبية تحرس سعف النخيل الساهم فوق وهج الرمال .. بينما كان القميص ينحسر عن الجهاز التناسلي .. فابتز الليل منك اسمك فقلنا آه مات الشهيد .. ( هنا سقط الريال هنا نرقص ) .. فرقصنا وتضوعت شذي ورقصنا ..
في فترة القتل الأولى والقتل والقتل الثانية كان ازيز الرصاص يصوت في أدمغة بني أمية .. وفي كل الطعنات بكت مراكش دما احمرا .. وناغى باب دكالة باب أغمات .. واختار جامع الفناء شكل البندقية .. والموت لون الاجاصة ..
أما أنت فتصلبت في رميم الجسد كأنك تحضر عرسا دمويا بينما كان التاريخ يكبر عبر الجرح..والفقر يسافر في الأسمال والإسهال لأجل الشهادة..
حين حاصرتك أبخرة الند البشري القاري الحامضي للوهلة الأولى..
تحولت الى حاو يبيع أشلاءه ويخدع العوانس..
كفيف يدخن الكيف ويلغط بالحكمة..
كناوي يقرع الطبل ويسبح بحمد الدولار بن كارتر..
وحين غازلتك صفرة الحيطان شفرات الحلاقة رعشة الكهرباء للوهلة الثانية أقمت مندبة وبكيت على جرادي يأكل خبزا ويتبرز فحما حجريا .. فوسفاطي يقتات بالسواطير العرق الصقيع برد أخر الليل .. موظف يمتصه سرطان البورصة..
4- وداع
اه ..
حين رحلت كنت قد علمت الشعب رقصة الوداع..
وعلمت الخيل كيف تتهجى سورة الحركة..
وحين رحلت للمرة الثانية كان مارس الحزين ينبت على أهداب الصبية .. الطلبة.. العمال.. الكادحين .. اليتامى ..
ساعتها لم يكن سواد الزنازين عميقا ..
ولا للمال رنينا..
ولا للنياشين بريقا ..
سوى انه كان للوطن الممتد فينا أفق ولين..
نشرت بجريدة المحرر 1979
إن الوقوف بأعتاب قصيدة (مراكش الموت والميلاد)، يدفعنا إلى رصد الشعرية فيها، ورصد بناء خطابها.
إن هذه القصيدة الثمانينية إن جاز لنا هذا التحقيب، هي صورة مقربة للقصيدة المغربية في هذه الفترة، وهي تبين حدودها الحداثية، والشكلية.
والقصيدة من جنس قصيدة النثر السائدة في المغرب، والتي وجدت لها مكانا عند الشاعر المغربي الأستاذ المهدي نقوس.
- أجناسية القصيدة:
إن قصيدته تنبني على أجناسية متعددة الأوجه. فهي نثيرة، ذات نفس يمتد إلى الشعر المنثور، والمرسل. فهل هذا اللون هو خارج سياق الثقافة المغربية، وبالتالي العربية.؟
إن مفهوم الشعر والنثر وحدهما، يجعلنا نجزم أن قصيدة (مراكش الموت والميلاد)، قصيدة حداثية، معاصرة. نهجت ما هو مألوف في المغرب عند الشعراء المغاربة الحداثيين. ورغم أن الكثير لن يشاطرني الرأي، ويرجح النثرية على الشعرية في هذه القصيدة، إلا أن درجة الشعر فيها عالية.
صحيح، أننا ننظر إلى هذه القصيدة من حيث الشكل، ولكن ننظر إليها من حيث شحناتها الشعرية، والرعشة الشعرية التي تخلفها فينا بعد قراءتها... لذلك يعتبر أدونيس الشكل تنفسا، من خلاله تتنفس القصيدة، وتتسع رؤيتها...
حتى على مستوى الكتابة، لا تتخذ شكلا معينا، بل هناك نوع من الفوضى الجميلة:<< الشكل هو في ذاته مضمون، والشعر بهذا المعنى هو الفوضى الرائعة كفوضى الطبيعة. القصيدة يجب أن تكون فوضى طبيعية>> (أدونيس، مجلة مواقف للحرية والإبداع والتعبير، العددان 13/14، كانون الثاني/ نيسان، 1971، مطبعة حايك وكمال، بيروت، ص: 2).
صحيح، إن القصيدة فيها ثورة على الموروث، والتقليدي... لكن ، يجب أن نكون موضوعيين في حكمنا... فهي لا تخلو من تجديد، وحداثة في بنائها الداخلي، من حيث: ( الموضوع، والأفكار، وتناسقها، والصورة الشعرية، والأخيلة، والصدق الفني، والإحساس، والعواطف، والرؤيا الشعرية الصادقة، والتجديد في اللغة، والبساطة في العرض...) وهذا كله وفر للقصيدة جانبها الإبداعي، والفني.
وتؤكد الباحثة الأستاذة حورية الخمليشي، أن قصيدة النثر ظهرت في سياق التحولات التي عرفها المجتمع العربي، والإبدالات النصية الجديدة التي مرت بها القصيدة العربية>> (حورية الخمليشي،الشعر المنثور، والتحديث الشعري، منشورات زاوية، طَبعة، 2006، ص: 183).
- قصيدة الخبر والاتصال:
والشاعر المهدي نقوس صوت شعري، مغربي داخل الحركة الشعرية المغربية المعاصرة. برع في قصيدة النثر، معتمدا على إيقاعية البنية الصوتية، والصورة الشعرية. والتي:<< تجمع بين الوقائع الغريبة، وبين واقع معيش ليوميات الإنسان المغربي>>، مع استخدام الأسلوب الحارق كالنار.
إن النص الشعري عند المهدي نقوس، يتحول إلى أداة اتصالية، وإخبارية، تعطي صورة عن الحالة العامة، و:<< بهذا استطاع أن يفتح أمام قصيدته الآفاق الرحبة، عندما جعل منها قصيدة حداثية اتصالية جديدة>> (الدكتور حفناوي بعلي، شعرية التوقيعة في شعر عز الدين المناصرة، مجلة الموقف الأدبي، ع: 413، أيلول 2005).
والجميل في هذه القصيدة النثرية، أنها قصيدة الخبر. حيث اتخذت الخبر مادة لها، مع إضفاء الشاعر عليها شاعريته الخاصة. مع العلم أن الخبر والشعر نقيضان، قلما يجتمعان. لذا شاعرنا المهدي نقوس جعل من الخبر وثيقة، بقيمة شعرية. ترفعه من مستوى الصحافة إلى مستوى الأدب.
إن القصيدة لا تخلو من بريق صوفي، لما يحسه الشاعر من الم وحسرة، ويأس، وعزلة، وغربة وانكسار.. إنه يرى القوى التقدمية منكسرة، مدحورة ، لما تلقته من ضربات مميتة. وهذا ولد في شعره نوعا من القلق الوجودي. دون أن ننسى ما أركب قصيدته من تلميح، وتنديد بالمناخ السياسي العام، والإرهاب الفكري الممارس، وانعدام الحرية.
لذا كان الرمز وسيلة لفضح جملة من الممارسات، والوقائع، والأحداث.. وهذا دفع الكثير من المثقفين إلى توقيع كتاباتهم بأسماء غير حقيقية، كما فعل شاعرنا سي المهدي نقوس.
<< قلت: فليبدأ الرحيل إلى الجنوب الحلزوني بن موحا وحمو بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن ناصر بن جنبلاط، عبر خريطة الوطن>>
وهي أسماء كان الشاعر نقوس يوقع بها كتاباته على صفحات المحرر (الاتحاد الاشتراكي حاليا)، والتي منعت وصودرت من طرف وزارة الداخلية، من الصدور في أواخر السبعينيات.
إنه يجسد مأساة الوطن، وما مس رموزه من اضطهاد، واغتيال. هذا ما أعطى للقصيدة وهجا إنسانيا شاسعا، جمع بين الفردي، والقومي، والإنساني.
- الالتزام بالحداثة و الحدث السياسي:
وهذه القصيدة (مراكش الموت والميلاد)، تمثل قصيدة البيان واللافتات. حيث تختلف أطوال الأسطر. وهذا التزام حداثي من الشاعر. كذلك هذا الأسلوب في الكتابة، والشكل:<< يشير إلى التحديث في شكل قصيدة النثر/ اللافتة، الذي يقوم على المعنى، وما تقتضيه الصورة>> (عبد الواحد لؤلؤة، مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات، رياض الريس للكتاب والنشر، بيروت،2002، ص:153/154).
والقصيدة كتبت في مرحلة تاريخية حرجة من تاريخ المغرب الحديث، سميت بسنوات الرصاص. وقد نشرت هذه القصيدة تحت اسم مستعار، على صفحات جريدة المحرر.
إن هذه القصيدة تفاعلت مع الحدث السياسي، وبالتالي- كما يقول محمد بنيس- أصبح السياسي حاضرا في الإبدال والاختيار الشعريين (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء الرابع ن دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص:151).
فالحدث السياسي، أو حرية التعبير، كانا مجرد ثغرة مؤقتة تنفتح في السور الحديدي لتنغلق من جديد، مادامت أساسيات السياسي في العالم العربي الحديث، مدعمة بالمطلقات، والمتعاليات تموت لتحيا بأقوى مما كانت عليه>>...
وهذا التفاعل مع السياسي نتج عنه صراع، أخذ عند الشاعر المهدي نقوس بعده الشعري، وغير الشعري، والشعري والسياسي.
- اللغة ووقائعية التلقي والأصالة:
وتأثرا بشعرية الحداثة، والشعر الفرنسي، نجده يهتم باللغة الشعرية في قصيدته، ليبين للمتلقي أنه شاعر وأديب ينتمي لثقافته من خلال النسق الثقافي ، الذي كان سائدا آنذاك.
وقد اهتم الأستاذ نقوس بالوقائع التي طبعت هذه المرحلة من تاريخ المغرب الحديث. فجاءت قصيدته واقعية، تاريخية، الشيء الذي اقترب فيها الشعر من النثر، لأنه استخدم الكلمات وفق دلالاتها المألوفة.
صحيح أن الشاعر المهدي نقوس واع جدا بان: << لغة الشعر هي لغة الإشارة، في حين أن اللغة العادية هي لغة الإيضاح. فالشعر هو، بمعنى ما جعل اللغة تقول ما لم تتعلم أن تقوله>> (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء3، دار توبقال للنشر، ط2،2001).
هكذا حاول في قصيدته أن ينتقل أكثر من مرة من لغة الوقائع إلى اللغة المغايرة، أي لغة الإشارة... ولذلك امتزج في القصيدة الشعر والنثر معا...
وعندما نلج تخوم هذه القصيدة، يلفتنا شيئان مهمان كقارئين، وهمل: التلقي والأصالة.
· فالتلقي وهو واسطة المرسل/ الشاعر إلى المرسل إليه/ المتلقي، يجعلنا ننظر إلى التلقي من خلال قلب الدلالة، واستعمال الرمز.
1- استعمال الدلالة:
والدلالة هي: << كون الشيء بحالة يلزم من العلم به بشيء آخر. والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول>> ( عبد العزيز إبراهيم، شعرية الحداثة، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2005).
وحينما نسمع الشاعر المهدي نقوس يقول في المقطع الأول من قصيدته (مراكش الموت والميلاد):
<< في الأفق الشاسع انتشرت سرابا تدوسين فقر الفيافي، وشريان قلبي...
ناديتك حتى جف مني الحلق، وتيبست الكلمات...
كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل....
بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي أخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثر ائب....
أشرت للريح فاهتزت...
فكنت أنت من استدارة الخبز وتجويفة الجوع...>>.
فهناك قلب للدلالة، وهذا مقصود من الشاعر، حيث تجاوز خلف المجاز... فلننظر إلى فقر الفيافي يداس، وكيف تيبست الكلمات مما تيبس الأوراق .. وها هي الريح تمشط أهدابها، وتصهل كأنها فرس جموح... إنها صورة جديدة يوظفها الشاعر، حيث يداس فقر الفيافي. فكيف للفيافي فقر؟... وكيف يداس؟.. والكلمات تيبست كأنها حطب، وأوراق. والريح تمشط أهدابها. فهل للريح أهداب وصهيل؟. وها هي الهضاب ترتجف كما يرتجف البدن من القر. ولكنها هنا ترتجف من عفونة الخوف ، والبطش، والظلم. فهل للخوف عفونة؟...
إنه يزحزح الكلمات عن دلالتها، وهذا أعطى لهذا الاستهلال فنيته، وجماليته.
2- استعمال الرمز:
نبه الدكتور ابراهيم السامرائي على أن الشعراء:<< يستعينون بذلك- ( يعني الرمز)- للوصول إلى ما يريدون، فيعربون عنه صراحة، أو يومئون إليه تلميحا، أو يغضون عن قصدن فيتركون القارئ في ضرب من متاهة مظلمة>> (د. إبراهيم السامرائي، البنية اللغوية في الشعر العربي المعاصر، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، 2002، ص: 7).
وهذا الاستعمال- كما يقول الأستاذ عبد العزيز إبراهيم- لا يؤدي أكله إلا إذا اطمأن الشاعر إلى أن المتلقي قادر على فهم رموزه التي وظفها:
<< قال الدليل: من لونها أخذ أحمر الشفاه...
من غيها نفح رائحة الطيب..
النتانة... الفقر... الثوم... الدخان... الاخضرار... العرق... الجوع.. الاصفرار... المخزن... الهراوات... البصارة... السيبة... الاحمرار... الشوارع المرشوشة بصهد الشمس... الجلابيب.... النخيل...>>.
إن هذه الأوصاف والدلالات يرمز بها إلى مدينة مراكش، مدينة المتناقضات، حيث يجتمع فيها الفقر والغنى، والجوع والشبع، والموت والميلاد...
· والأصالة، رغم حداثة القصيدة، وشكلها الجديد، وابتعادها عن الموروث الشعري، فإن الشاعر المهدي نقوس بقي مرتبطا بالماضي، من حيث اللغة الموظفة. فهي تمتاز بالأصالة، والفصاحة، والحضور.
وقد جعل الكلمة تعيش حياتها الجديدة. لابسة دلالتها التي أعطاها لها الشاعر... وهذا يبين وعي سي نقوس بأهمية اللغة في الشعر، واعتبارها مادته وجوهره. ويعرف انه :<< إذا كانت اللغة عنصرا من عناصر الشعر المهمة، فلا بد للشاعر أن يسلك مسلكا خاصا، ليستطيع فيها أن يؤدي المعاني بطريقة تختلف عنها في ما عدا الشعر من فنون القول>>( د. ابراهيم السامرائي، لغة الشعر بين جيلين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2 ، 1980، ص:102).
وهذا يعني، الجميل المناسب، والأنيق الحسن من اللفظ الذي يشترط البعد عن الغرابة والوحشية، ومناسبة اللفظ للمعنى.
وكما يقول ابن طباطبا العلوي:<< للشعر أدوات، وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد ، ولزوم العدل، وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها>>( ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق الدكتور عبد العزيز بن ناصر المانع، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1985، ص: 7).
وهذا جعل الشاعر المهدي نقوس يعي أدواته الشعرية، الشيء الذي أعطى لقصيدته نوعا من الجدة، والفنية، والشعرية. فعمل على تطوير لغته، حيث أبعد عنها وحشي اللفظ، وغريبه...معتمدا على الوضوح، والبساطة اللغوية، وتناسق الحروف، وتجانسها...لأنه يؤمن أن اللغة:<< تأخذ أناقتها من جزالة اللفظ، وحسن الرصف والحفاظ على الإيقاع والجرس>> ( د. إبراهيم السامرائي، لغة الشعر بين جيلين، ص: 55).
<< المد والجزر أعطى لونه لمراكش كما أعطت اسمها للوطن، ومضى إلى ما وراء الشاطئ ليطلب اللجوء السياسي...
فتعلمت كيف أكفر بشحوب الموت وأصلي للوطن، وأتيم، بالنخيل...>>.
فهو يستعير لون المد والجزر لصبغه على مراكش، التي أخذ الوطن اسمها، واستعاره لنفسه...إنه يجمع بين اللغة والصورة، ليصل إلى معاني يريدها أن تصل إلى المتلقي، ليكتشف من خلالها الحالة النفسية، والعامة لمراكش في هذه الفترة العصيبة.
عماذا تتحدث القصيدة؟:
والجميل أن الشاعر المهدي نقوس في قصيدته( مراكش الموت والميلاد)، يضع فيها موقفه من الأحداث التي عرفتها مراكش، بل المغرب كله في بداية الثمانينيات. كما يبين فيها شعوره نحو المناضلين الاتحاديين، المعتقلين منهم ، والمحاكمين في أحداث 1965، وأحداث 1972، وأحداث 1979، و1981. أو الذين صفوا جسديا، كالمهدي بن بركة، وعمر بن جلون، وغيرهما من اليساريين أمثال: عبد السلام مدن،ومحمد كرينة،والحسين المانوزي، وعزيز بلال...
إنه يبثها حالته النفسية، وتجربته الشعرية والفنية، وبالتالي جاءت القصيدة حابلة بالحقائق، والنصوص الغائبة، والأحداث التي هي جزء من تاريخ حقبة سوداء في حيلة المغرب السياسي.
إن الأحداث التي عرفتها كثير من المدن المغربية، ومنها مراكش، غدت شاعريته، وحركت أحاسيسه، وكسرت الصمت فيه. وهزت كيانه. ولذا المتلقي يجد في هذه القصيدة صدى تجربة الشاعر نقوس الخاصة. وقد نجح في إيصالها إلى الآخرين، قصيدة جميلة معبرة.
إن القصيدة رؤية إنسانية، وتعبير عن مرحلة دامية من تاريخ المغرب السياسي. تنقل لنا تجربة ذاتية صادقة عاشت الأحداث، ووقفت على ماساتها...
- الصورة الشعرية الموظفة في القصيدة:
وهذه التجربة الشعرية التي عاشها الشاعر المهدي نقوس، وشعوره اتجاه هذه الأحداث المغربية، أعطتنا صورة/ قصيدة قوية، تعاون فيها رصد الواقع والخيال واللغة. وهذا أيد مقولة:<<إن الشعور يظل مبهما في نفس
الشاعر قلا يتضح له إلا بعد أن يتشكل في صورة>> (د. عز الدين إسماعيل،الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية .المعنوية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967، ص:134).
والصورة لها دلالتها الوجودية... والصور التي وظفها الشاعر المهدي نقوس، نجد فيها ذاته المتشظية بين الألم والإدانة، بين .، بين تأبين الموت، وتطرية الولادة، حيث يمزج بين الألم ومعاينته، وبين الحلم والتمني... إن هذه الصورة يجسد فيها الواقع المهيض...
والجميل، هو أن سي المهدي نقوس في صورته الشعرية هاته، خلق على المنوال ، والمثيل، فجاءت صوره صادقة، برزت فيها:<< مواطن من الطاقات الكامنة تترجم عنها محمولات البراعة، والمهارة في إطار التشابه ، والمماثلة>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 96).
إنه يقدم لنا صورة لا تخلو من إشراق، ومن جمالية:
<< هنا الوردة... هنا نرقص...
فرقصنا وتضوعت شذى... وانتصرنا....>>
<<آه...
حين رحلت كنت قد علمت الشعب رقصة الوداع...
وعلمت الخيل كيف تتهجى سورة الحركة
وحين رحلت للمرة الثانية، كان مارس الحزين ينبت على أهداب الصبية... الطلبة...العمال... الكادحين... اليتامى...
ساعتها لم يكن سواد الزنازين عميقا...
ولا للمال رنينا...
سوى انه كان للوطن الممتد فينان وفيك أفقا ولينا...>>.
إن الصورة عنده نوع من التشكيل ، والكتابة المنتقلة من الجواني إلى البراني:<< إنها الكتابة عبر أجناسية - على حد تعبير الناقد والروائي إدوار الخراط - ، التي تتوسل بها الذات الشاعرة في هذا المضمار، لتجعل من المكونات النصية أدوات لتجريب الرسم بالكلمات ضمن فسيفساء نصية، يتحد فيها ما هو شعري وما هو نثري، وما هو معتاد وما هو عجائبي. وبهذه التشكيلات يحصل الوعي عند رسم أفعال التجريب>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 111).
كما نجد في القصيدة مجموعة من الصور الحسية، والتي يقول فيها الدكتور عبد الإله الصائغ:<< نعني بها فنيا ، تفكيك الواقع وتشكيله في المخيلة الثانية، تشكيلا لحمته الحواس الخمس. >> ( عبد العزيز إبراهيم، المرجع نفسه، ص:29).
<< كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل... بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي أخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثرائب... أشرت للريح فاهتزت...>>.
وهذا يدل على خصوبة الخيال عند الشاعر المهدي نقوس، والذي يبين مدى تأثره ب:
-القصيدة العربية الحداثية المعاصرة.
- الشعر الأوربي، الفرنسي خاصة.
وهذا ظهر في نمطية صوره، وتنوعها، وابتعادها عن نمطية الصورة القديمة المعتمدة على التشبيه، والكناية، والاستعارة الهجينة...
وعندما نقرأ هذا المقطع:
<< كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش...
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية>>.
نجد أن الصورة فيه صورة فاعلةـ تؤدي وظيفتها، وتعطي وضوحا لمقصدية الشاعر. فهو يصور لنا ما يوجد ما وراء الأطلس الكبير وما أمامه. فوراءه الجنوب المغربي وأمامه مراكش الفيحاء... وهو يحيط بها كسيف معقوف... مراكش المدينة العالمية، والتي تنتشر سمعتها في العالم كله.
كما نجد صورا ذهنية، والتي:<< ليس لها ما يطابقها في الخارج، فالشاعر يرسم صورتهن وفي نفسه إيهام المتلقي بأنها تقرير للواقع، وهنا يتألف دور الباحث في ربط أجزاء الصورة، وملاحقة روافدها>>.( عبد العزيز ابراهيم، المرجع نفسه، ص: 29).
<< وفي كل الطعنات بكت مراكش دما احمر، وناغى باب دكالة باب أغمات...
واختار جامع الفناء شكل البندقية، والموت لون الرصاصة...>>
رغم أن هذا المقطع يتضمن لقطات حسية، إلا أنها تدرك ذهنيا. فالشاعر يبين أن مراكش عرفت أحداثا كثيرة في كثير من نواحيها. وجامع الفناء الذي يعتبر الوجه السياحي لمراكش، كان ذات يوم ساحة موت بعدما كان ساحة فقر، وبحث عن لقمة عيش. فقد لعلع الرصاص في جنباتها لإخماد صوت الرفض، والإدانة، والاستنكار، والاحتجاج...
- تقنية المقطع في القصيدة:
وقصيدة (مراكش الموت والميلاد)،قصيدة نثرية- كما أسلفت- تتكون من أربعة مقاطع. كل مقطع مرقم، ويتكون من:
- المقطع الأول: يتكون من خمسة أسطر شعرية.
- المقطع الثاني: يتكون من خمسة عشر سطرا شعريا.
- المقطع الثالث: يتكون من عشرين سطرا شعريا.
- المقطع الرابع: يتكون من ثمانية أسطر شعرية.
كما أن الملفت للانتباه، هو أن الشاعر المهدي نقوس اعتمد في قصيدته على نوع من التكثيف، رغم الطول النسبي الذي يميزها، ورغم السردية التي وسمت بعض مقاطعها...
إن هذا النموذج الكتابي المعتمد على المقاطع القصيرة، المنتظمة في نص طويل له عنوان، يفسر بؤرة انبثاق النص، أو الحالة العامة التي حرضت الشاعر على الكتابة.
وهو نمط كان معروفا في الستينيات، والسبعينيات، عند عز الدين المناصرة، ومحمود درويش، وأمل دنقل، واحمد مطر، وفاضل العزاوي، والمظفر النواب، وبولص ، وغيرهم من الشعراء. واجه انكسار الأمة بعد نكبة 1967 بهذا النموذج الشعري المتمرد.
وحتى وإن نعت البعض القصيدة بالنثرية، والسردية، فإن الحقيقة تقول إن الشاعر المهدي نقوس، هدفه إلى تخليد الذكرى، وإنقاذها من النسيان، والمحو المقصود،وهذا تهديم للموروث، والخروج عن التقليدية.
والشاعر نقوس اعتمد على المقطع كمكون شعري بنائي في القصيدة، والتي تتكون من أربعة مقاطع - كما سبق القول- لكل مقطع عنوانه الخاص. وهذا يطرح علينا سؤالا: هل كل مقطع مع عنوانه هو قصيدة مستقلة بذاتها، تجتمع كلها تحت عنوان رئيسي؟. أم أنها قصيدة واحدة مقطعة إلى تمفصلات ومقاطع معنونة؟.
والمقطع عكس المطلع الذي استعمله العرب القدماء في الحقل الشعري.
ويتقدم المقطع في مفهومه القديم ن كمشترك بين الشعر والنثر. فهو: << يفعل في الممارستين النصيتين معا. والمشترك هنا هو مكان الحدود بين وحدات الخطاب. ويسمح لنا الاشتقاق اللغوي بالتعامل مع المقطع كمصدر ميمي. جاء في اللسان: << والمقطع مصدر كالقطع. والقطع إبانة بعض أجزاء الجرم من بعض فصلا. والقطع: مصدر قطعت الحبل قطعا فانقطع.. نقل المقطع من خانة اسم المكان إلى المصدرية يوسع الدلالة، ويمنحنا إمكانية استعماله كمفهوم يحتضن الممارسة النصية الرومانسية العربية. كما يستوعب الممارسة المقطعية العربية القديمة شعرا ونثرا>> (محمد بنيس، الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها، الجزء2، دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص: 73).
ويؤكد الدكتور محمد بنيس أن الرومانسية عرفت في العالم باختراق الحدود بين الشعر والنثر، عن طريق إدخال الشعر إلى النثر، ثم بتجديد النثر وهدم الحواجز بين الأجناس الأدبية.
والنص ( مراكش الموت والميلاد)، جسد تبين بعض أجزائه عن المقطع والانقطاع. والمقطع في هذه الحالة وحدة مستقلة متجانسة لها نقصانها، يبين بتماسكه الداخلي فيما هو منقطع عن غيره. فالمقطع وحدة دالة من بين وحدات الخطاب. وهو في الوقت نفسه دال من بين دواله تتآلف فيه مجموعة من الأبيات، وتنفصل به عن غيرها داخل الخطاب( محمد بنيس، المرجع السابق، ص: 73).
وهكذا يرد محمد بنيس تقنية المقاطع، والاعتماد عليها إلى الرومانسية التي اعتمدت المقطع في تشكيل النص الشعري.
- تقنية المحو في القصيدة:
والشاعر المهدي نقوس يمارس في قصيدته مفهوم كتابة المحو، التي امتازت بها الحداثة الشعرية المغربية. فهو يقوم بعملية محو كل الماضي الأليم، وما انطبعت فيه من آلام، ومن جروح ليبني برانيا، يتأسس على الإشراق، والتجدد، وجعل الرؤية كلها تفاؤل، وحياة. ومل الميلاد كلفظة إلا خير دليل على هذا المحو للنسيان، وللموت القهري، والإجباري، ومحو لكل أشكال التعسف.
إنه بقصيدته هاته يكسر النسيان. كما يذوب فيها الفردي إلى ما هو جماعي، حيث يحول اللحظات الدامية التي مرت إلى ذاكرة جماعية:<< ومن هنا يتجسد الربط الذكي، واليقظ بين المعرفة بمستوياتها الشعرية، والفلسفية والاجتماعية، وبين الممارسة الكتابية- كما يقول الدكتور عبد القادر الغزالي في كتابه السالف، ص: 121-
هذا ما جعل قصيدة المهدي نقوس لا تخلو من حياة، خاصة حياة الغيري، أو الآخر. فنجد تذكيرا بالمهدي بن بركة وعمر بن جلون، والوردة رمز حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
<< في فترة القتل الأولى...والقتل... والقتل الثانية، كان أزيز الرصاص يصوت في أدمغة بني أمية، وفي كل الطعنات. بكت مراكش دما احمر، وناغى باب دكالة باب أغمات...>>.
وعندما نعود إلى قصيدة ( مراكش الموت والميلادà، نجدها تتضمن عنوانا رئيسيا، ثم عناوين فرعية. تشكل جميعها نصا موازيا. وهي ورقة تعريف تحدد هوية القصيدة، ومقاطعها.
صحيح، هناك صعوبات كثيرة، حيث يطرح التعريف نفسه عدة مشاكل تقتضي بذل مجهود من أجل التحليل(Gérard Genette : Seuils,éd,seuil, Février 1987, p :54).
- العنوان كعتبة نصية:
إن هذه العناوين تخلخل ما ترسخ بالعادة، والتقليد. ولها حضور لافت في القصيدة. وتلعب وظيفة جديدة. وتشكل نوعا من اللافتة titulus، المثيرة للانتباه. فارضة سلطتها وإغراءها على المتلقي... محفزة إياه على القراءة والتأويل.
وهذه العناوين الموظفة في القصيدة هي: ( غزل بدائي- نشيد من اجل المدينة- نشيد للمهدي وعمر وآخرون من اجل سعيدة- وداع). وهي عناوين تيمية thème. ذات دلالة ، ورمزية وإيحالة.
والسؤال المطروح هو: بما أن هذه العناوين مجموعة من العلاقات اللسانية، هل توفق الشاعر المهدي نقوس في توظيفها ن وتحديد وظيفتها وتداولها داخل هذا السياق النصي؟. وهل هناك علاقة بين العنوان والنص؟. هل تنفتح القراءة على الحضور المتعدد للعنوان؟.
والعنوان الرئيسي الذي اختاره الأستاذ المهدي نقوس، ( مراكش الموت والميلاد):<< تدهمنا على التو، بهذا الصدد أسئلة متلاحقة تتمحور حول كيفية قراءة هذا العنوان الموارب إلى حد كبير>> ( د. عبد القادر الغزالي، الصورة الشعرية وأسئلة الذات، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط2004، ص:31).
وهذا العنوان رغم أنه مركب اسمي، يتبعه رابط وتابع، فإن له دلالة استعارية، اختصر النص كله، وترجم الرؤيا الشعرية للأستاذ المهدي نقوس، وهو ينبني على تضاد الموت ≠ الميلاد ( الحياة). ولذلك فإن العنوان ( مراكش الموت والميلاد): << مؤشر أولي على الكون الإيقاعين والتخييلي في (النص). فالكتابة الشعرية من خلال هذا التجريب الصادم، تقوم من داخل الصراع بوصفه قانونا ترتضيه المواجهة، وتبتغيه الذات، وهي تمارس أفعال الهدم والبناء>> (د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 33).
وبالتالي ف ( مراكش الموت والميلاد) تجربة عميقة، وخطاب شعري متميز شكلا ودلالة: << إنه جواب محتمل عن أسئلة السكن الشعري في العالم، ونداء وجودي جوهري ضد العادة، والاستهلاك، والابتذال من خلال المزج بين الواقعي، والخيالي>> ( د. عبد القادر الغزالي، المرجع نفسه، ص: 33).
وعلى ذلك، فرغم التضاد الذي يحمله العنوان ( موت وميلاد)، فإن الشاعر المهدي نقوس،يمارس حياة من خلال الكتابة. يمارس حياة واقعية مقابلا بين حياتين: حياة مهمومة، ثقيلة بجروحها، دمائها، وآلامها، وصراعاتها السايسية، وحياة تقوم على أنقاضها، وهي حياة جديدة، مدنية وحضارية. ولذا يأتي بهذا التقابل والإيديولوجية، المبنيان على التضاد، والتعارض ما بين حياة مهددة بالانتهاء والموت، وحياة تبدأ فيها الولادة، ويسير فيها الاستمرار والبناء.
وجميع العناوين الواردة في النص، تتكون من لفظتين أو أكثر، ما عدا العنوان الرابع( وداع)، فهو يتكون من لفظة واحدة، جاءت على صورة مصدر.
والعناوين التي جاءت في أكثر من كلمة، تبين حالة الانشطار ، والتشظي التي عاشها الشاعر، ويعيشها المجتمع. وهي عناوين لمقاطع شعرية مكونة لهذه القصيدة ( مراكش الموت والميلاد).
والعنوان ( مراكش الموت والميلاد) تصطدم اللغة فيه بعلاقة التناقض، حيث إن كلمة ( ميلاد) مجاز مرسل، إذ كل ميلاد لا بد له من أن يصبح موتا: << ولكن هذا التبرير غير كاف بالنسبة إلينا، لأنه يفسر لنا آلية المجاز المرسل، دون أن يبررها هي نفسها، اعتمادا على أنها معنى متفرع عن تصور أولي واصلي لدى الشاعر. لم يخرق به اللغة المتواترة،بقدر ما عبر في أصالة تامة عن معرفة متخيلة، واكتشاف إبداعي لا سبيل إلى نقله أو ترجمته ، إلا عبر علاقة التناقض المشار إليه أعلاه>> ( إدريس بلمليح، القراءة التفاعلية، دار توبقال للنشر، ط1، 2000، ص: 84).
- الإهداء كعتبة نصية:
وبعد تجاوز العنوان الرئيسي نجد الإهداء، والذي يمكن اعتباره خطابا توجيهيا، يحفز على القراءة والتفسير: << إن الإهداء، إذن، وبصورة عامة، تكريم واعتراف بالفضل>> ( جيرار جنيت، المرجع السابق، ص: 112).
والمهدي إليه، هو الحامل الرمزي لجوهر هذا العمل الشعري. وهذا الإهداء يبين العلاقة مع نظام شعبي، وسياسي، ونضالي. ويمثله المهدي نقوس في أولئك القتلى الذين سقطوا دفاعا عن الحرية ، والكرامة، والعيش الرغيد في هذا البلد الحبيب.
ومن ثم ، تعتبر القصيدة قصيدة نضالية، بل نضالا، مهدى إلى كل أولئك الذين ناضلوا من أجل كرامة الإنسان وحريته.
فما عسى شاعرنا المهدي نقوس أن يهديهم غير الآلام، والجراح، والمواساة، والأمل في غد أفضل، وحياة رغيدة، ومجتمع أفضل. إنه يذكرنا بأن الحرية باب بكل يد مخضبة بالدماء تدق.
ولا بد من الدماء، والتضحيات، للوصول إلى الغايات المبتغاة... إنه لا يملك غير الشعر سلاحا للنضال، ومقاسمة هؤلاء المناضلين نضالهم.
والكتابة نجدها عند شاعرنا حرة. يتفاوت فيها الطول أو القصر، حسب أوضاع الذات وإيقاعها في الخطاب- كما يقول الدكتور عبد القادر الغزالي- مما يسمح بإقامة تفاعلات متنوعة بين السواد والبياض، والتي تتخلله علامات الترقيم، التي تبين وبوضوح الاختيار الكتابي الذي تنتفي في إطاره الحدود بين الشعر والنثر.
كما يمتاز النص الشعري باسترساله، وانسيابيته.
- الفضاء النصي:
هذا الفضاء الكتابي، الذي يشغله السواد والبياض، يتكسر على طول القصيدة، وعلى امتداد فضائها، خالقا نوعا من الإيقاعية، والهرمونية الجميلة،و التي اتسقت كلماتها، وانسجمت ، وتناغمت حروفها، لتجعل القارئ، يمتح من فنيتها، ومن صورها وصدق أحاسيسها الكثير.
- خاتمة:
وختاما لا نجد غير أن نقول، إن قصيدة ( مراكش الموت والميلاد)، تمتاز بخطابها الجامع بين التاريخي والاجتماعين والسياسي. ومن خلال عمليتي الهدم والبناء، يعيد المهدي نقوس بناء قضايا اجتماعية وسياسية، وإنسانية، حتى يخلد هذا الوعي الجمعي،ويصعد حده التوعوي فيه...
إن سي المهدي نقوس، أبدع في هذه القصيدة، وصبغ عليها من أحاسيسه ومشاعره، وتاريخيته، فأعطانا لوحة إنسانية، نضالية، ترشح فنية، وجمالا.
د. محمد داني
****
* نص القصيدة
نقوس المهدي - مراكش الموت والميلاد
- الى قافلة الشهداء من اجل الحرية
1- غزل بدائي..
في الأفق الشاسع انتشرت سرابا تدوسين فقر الفيافي وشريان قلبي.. ناديتك حتى جف مني الحلق وتيبست الكلمات... كانت الريح تمشط أهدابها وتصهل.. بينما كانت الهضاب ترتجف من عفونة الخوف الأبدي الذي اخبرني الوطن الأم الحب انه يخرج من بين الصلب والثر ائب.. أشرت للريح فاهتزت فكنت أنت من استدارة الخبز وتجويفة الجوع..
2- نشيد من أجل المدينة..
تحركت نحو الجنوب..
هل تعلمون .. هذا الجنوب غامر في رحلة بين الرمل والرمل .. خلخل الرمل حتى فاض فخرج .. تدحرج عبر النتوءات ولم يفرق بين السهل والوعر..
قال الدليل: من لونها أخد احمر الشفاه .. من فيها تفح رائحة الطيب.. النتانة .. الثوم .. الدخان .. الاخضرار .. الجوع .. الاصفرار .. المخزن .. الهراوات . البصارة.. تلخشة.. السيبة.. الاحمرار.. الشوارع المرشوشة بصهد الشمس .. الجلابيب.. الصوت الشعري اللون الجزري..
قلت فليبدأ الرحيل إلى الجنوب الحلزوني بن موحا اوحمو بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن جنبلاط عبر خريطة الوطن..
كان الجنوب يلف خاصرة الأطلس..
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش..
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق المتوسط القرمزية..
والبحر بين الألوان.. غلالات الزبد ..المد والجزر أعطى لونه لمراكش كما أعطت اسمها للوطن ومضى إلى ما وراء الشاطيء ليطلب اللجوء السياسي..
فتعلمت كيف أكفر بشحوب الموت وأصلي للوطن وأتيمن بالنخيل الجمل.. الرحامنة الحوز.. أولاد ليم يا أولاد خليفة ..
3 - نشيد للمهدي وعمر وآخر من أجل سعيدة ..
وحدها العيون كانت مشرعة بسعة الأحلام..
وحده القلب كان يمجد الحب فينا بتضاريس تلك الأجساد المهترئة بالطموح لحظة كانت الكتبية تحرس سعف النخيل الساهم فوق وهج الرمال .. بينما كان القميص ينحسر عن الجهاز التناسلي .. فابتز الليل منك اسمك فقلنا آه مات الشهيد .. ( هنا سقط الريال هنا نرقص ) .. فرقصنا وتضوعت شذي ورقصنا ..
في فترة القتل الأولى والقتل والقتل الثانية كان ازيز الرصاص يصوت في أدمغة بني أمية .. وفي كل الطعنات بكت مراكش دما احمرا .. وناغى باب دكالة باب أغمات .. واختار جامع الفناء شكل البندقية .. والموت لون الاجاصة ..
أما أنت فتصلبت في رميم الجسد كأنك تحضر عرسا دمويا بينما كان التاريخ يكبر عبر الجرح..والفقر يسافر في الأسمال والإسهال لأجل الشهادة..
حين حاصرتك أبخرة الند البشري القاري الحامضي للوهلة الأولى..
تحولت الى حاو يبيع أشلاءه ويخدع العوانس..
كفيف يدخن الكيف ويلغط بالحكمة..
كناوي يقرع الطبل ويسبح بحمد الدولار بن كارتر..
وحين غازلتك صفرة الحيطان شفرات الحلاقة رعشة الكهرباء للوهلة الثانية أقمت مندبة وبكيت على جرادي يأكل خبزا ويتبرز فحما حجريا .. فوسفاطي يقتات بالسواطير العرق الصقيع برد أخر الليل .. موظف يمتصه سرطان البورصة..
4- وداع
اه ..
حين رحلت كنت قد علمت الشعب رقصة الوداع..
وعلمت الخيل كيف تتهجى سورة الحركة..
وحين رحلت للمرة الثانية كان مارس الحزين ينبت على أهداب الصبية .. الطلبة.. العمال.. الكادحين .. اليتامى ..
ساعتها لم يكن سواد الزنازين عميقا ..
ولا للمال رنينا..
ولا للنياشين بريقا ..
سوى انه كان للوطن الممتد فينا أفق ولين..
نشرت بجريدة المحرر 1979