التحق ثلاثتنا بكلية دار العلوم التي كانت أملا يراودنا وحلما يداعب أخيلتنا لما نسمعه من نشاطها الدائب وحركتها المستمرة في الشعر ونقده، والتي أوصانا بها الأستاذ العقاد ونصحنا بالالتحاق بها، وكان ذلك على غير رغبة والدي الذي نذرني للأزهر، وكان يريدني أن أتخرج فيه، واتهمني بأني التحقت بها من أجل وجود الاختلاط فيها، وبعد لأي ما قبل وجودي بها. وقضينا أيامنا الأولى بها في تعرفها واختبار ما فيها، وبعد مرحلة لم تطل من الاضطراب والقلق تكيفنا مع الوضع الجديد، والنظام الجديد، يحدونا الأمل، ويدفعنا التطلع أننا سوف نشق الصفوف فيها إلى المقدمة بما نملك من موهبة وبما يملأ قلوبنا من الشعر، ولكنه الأمل المشوب بالرهبة من الأسماء الكبيرة التي كنا نتسامع بها في الشعر والنقد، وبعد التغلب على الإحساس الطارئ بالشعور بالغربة لأننا في أرض غير الأرض التي ألفناها تسع سنوات كاملة من سني التعلم شجعنا زملاؤنا الأكبر سنا الذين كانوا أزهريين مثلنا، وكانوا زملاء لأخي حامد الأكبر سنا وهو أحمد طاهر، وكان مجرد كلام واحد منهم لنا كلاما عابرا يثبت القلب والأقدام في هذه الأرض الجديدة.
بعد شهر تقريبا من بدء الدراسة رأينا إعلانا على السبورة في فناء الكلية – المبني القديم بالطبع نضر الله أيامه بكل خير – يدعو الطلاب الذين يكتبون الشعر للقاء مع مقرر جماعة الشعر، وكان علي البطل – رحمه الله – وهو طالب وقتها في الفرقة الثالثة. والتقينا ووجدت عددا كبيرا من الطلاب يملأون مدرج (أ)، يا لله ! كل هؤلاء يقولون الشعر؟ أين معهد القاهرة من هذا الثراء الخصيب في المواهب؟ وشرح لنا مقرر جماعة الشعر النظام المعمول به، وعرفنا أن هناك لقاء أسبوعيا في يوم الخميس، يختار فيه عدد من القصائد يلقيها أصحابها ويعلق عليها أحد الأساتذة ومنهم المعيدون. وقدمت قصيدة جديدة كتبتها أيامها من وحي ما شاهدته من بعض زميلاتي في الكلية أقول فيها:
لا تقيمي على الجمال ستارا * من مساحيق تصرخ استهتارا
وثقي بالذي برته يد الله فقد أبدعت لنا الأزهارا
أنت يا أختُ درّةٌ والدراري * غاص من أجلها الأنام البحارا
وقدم أحمد درويش قصيدة طويلة – وهي القصيدة التي أسمعنيها أول ما عرفته – ولم يقدمنا مقرر الجماعة في لقاء الخميس الأول، وعندما ذهبت أسأله قال لي: إن قصيدتك مقبولة لأن (عايدة) أعجبت بها (عايدة زميلته التي تزوجها فيما بعد)، فسألته عن قصيدة أحمد ألم تعجب بها عايدة فنظر إلىَّ شزرًا قائلاً: إنها ليست قصيدة، فقلت: إنها أكثر من ستين بيتا، فقال قولة لم أنسها قط: (نحن لا نقيس الشعر بالشبر).
كان المعلق على قصائد الندوة هذه المرة هو الدكتور عبد الله درويش – رحمه الله – وقال عن قصيدتي كلاما مال فيه إلى التشجيع لا المؤاخذة مما أغراني بتقديم قصيدة أخرى كانت من بحر الخفيف وكنت سعيدا بها لأنها أول مرة أكتب فيها من هذا البحر الذي يعز على الشادين، وكانت بعنوان (حطم العود) أقول فيها:
حطم العود يا صديقي فإني * فوق صخر الأسى تحطم عودي
بعثر اللحن يا رفيقي فإني * غير مصغ لضاحك التغريد
ما مراحي وبهجتي ومزاحي * وصداحي وفرحتي ونشيدي
في حياة تعكّر الصفو قسرًا * وبكأس انتشاءة المرء تودي
بينما المرء في ربيع شباب * باسم الثغر للغد المنشود
يتثني بعوده الغض مزهوًّا بثوب الشباب كالعنقود
كالربيع الضحوك تهتز فيه * خطرات الصبا بصبح جديدِ
إذ يسوق الردى إليه سهامًا * ثم يودى بغصنه الأملودِ
كان الذي يعلق هذه المرة هو محمد فتوح أحمد، وكان معيدا لامعا واثقا بنفسه، وكان شاعرًا من شعراء الكلية المعدودين، وكنا نعجب بشعرة ونرى فيه نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة الحديثة، وقد هاجم في هذه الندوة قصيدتي هجومًا قاسيا، ورمى شاعرها بالفشل، وراح يعدد الأسباب التي ساعدت الشاعر على هذا الفشل، وكلما قال شيئًا تضاءلت في مقعدي ووددت لو اختفيت من هذا المكان، وأذكر أنني خرجت بعدها فلم أذهب إلى البيت، وظللت هائما على وجهي في طرقات القاهرة، لا أدري بالوقت ولا أشعر بالمكان، وكان عقلي يعيد النظر في أمر الشعر كله، كنت أقول لنفسي: هذا الشعر الذي كنت تعتز به وتحبه، وتشعر به بالتميز على زملائك وأندادك الذين لا يقولون الشعر هو اليوم سبب لشعورك الأليم بالخزي والهوان، وقرت نفسي يومها على هجر الشعر وتركه، فقد كنت أعدّه سببا لظهوري بين زملائي وتفوقي عليهم، الآن هو سبب لشعوري بالتضاؤل بينهم. ومضيت بعد أن انتهيت إلى هذا القرار لبيتي وارتاحت نفسي لما قررت وكنت أرى وقتها أنصاف الشعراء في الكلية لا يحققون راحة بالتفوق ولا راحة باليأس، واليأس إحدى الراحتين، وقلت: لنفسي إما أن أحقق بالشعر مكانة عليا وإما أن أصمت، فليس كل المتفوقين شعراء ولتكن الدراسة مجالا للتفوق. وظل حديث النفس هذا يلازمني حتى كان الأسبوع التالي، وقد دعانا زميل من أريتريا اسمه عبد القادر – وكنا نسميه عبد القادر الأريتري – إلى نادٍ خاص بالجالية الأريترية، وذهبنا نحن الثلاثة حامد وأحمد وأنا، ولم يكن هناك شعراء مدعوون لهذه الأمسية سوانا، وكان الذي يعلق على الندوة هو محمد فتوح أيضًا، وقدمت قصيدة في هذه الليلة بعنوان (البغيّ) وكانت صياغتها مختلفة عما ألفته من قبل، وعندما وجدت أن المعلق هو محمد فتوح وطنت النفس لتلقى مزيد من الاتهام بالفشل، ولكن محمد فتوح في هذه الليلة أهمل الإشارة إلى قصيدتي تمامًا سلبا وإيجابًا، وأسمع كلاًّ من أحمد وحامد عن قصيدتهما ما أسمعنيه عن قصيدتي في ندوة دار العلوم وكان لاذعًا قاسيا، أو بدا لنا الأمر كذلك. والحق أن بعض كلامه كان مبادئ نقدية عرفنا بعد قليل أنها مستقاة من محمد غنيمي هلال في كتابه مدخل إلى النقد الأدبي الحديث الذي كان يدرسه لنا في هذا العام، وغير عنوانه في هذا العام نفسه إلى (النقد الأدبي الحديث). وقد خرجنا نحن الثلاثة هذه الليلة نمشي في شوارع القاهرة ونضحك مما حدث، ويبدو أن تساندنا معا، لم يصبنا بما أصبت به في الأسبوع السابق. وكان حامد أكثرنا ثباتا وثقة فقال: إن فتوح يعلم مقدار موهبتنا لأنه شاعر قبل أن يكون ناقدًا، وهو يخشى من وجود قوة شعرية في مثل قوتنا في الكلية، فقد تنال هذه القوة الجديدة من مكانته المستقرة، ولذلك يريد أن يخيفنا ويفزعنا، ومن ثم ينبغي ألا نحقق له ما يريد ولكن الأمر لم يكن على ما صوّر حامد، وإن كان موقفه أعاد إلينا الثبات. كان فتوح أحمد يمارس أدواته النقدية التي تعلمها، وكان يقسو من أجل الرغبة في دفعنا إلى تطوير أدواتنا الشعرية وتصحيح مفهومنا عن الشعر، وسرعان ما ضمنا إليه وسمح لنا بالجلوس معه وزيارته في بيته ولكننا ظللنا ننطوي على شيء من الرهبة له والخوف منه. الآن بعد مرور أربعين سنة عندما أتذكر معه هذه المواقف يضحك ضحكة فيها شيء من الزهو، وشيء من الأسى أَنْ لم يُفْهم موقفه حق الفهم.
في السنة الأولى بدار العلوم حدث موقفان آخران لهما بالشعر صلة، أمّا أولهما فقد أعلنت إدارة رعاية الشباب للذين يكتبون الشعر أن يتقدموا بقصائدهم لاختيار من يشاركون منهم في أسبوع شباب الجامعات، وحدد موضوع القصيدة أن يكون قوميا، وتقدمت بقصيدة زاعقة مطلعها:
قف يازمان من السنا المتهادي * حيّ انطلاق الفجر في بغداد
قف حيّ فيها ثورة عربية * محقت ظلام الظلم والإفساد
واختير في هذا العام سعد مصلوح وحامد طاهر، كانت قصيدة سعد جميلة بعنوان (الصفصافة) مطلعها:
حنّ من رقة وأنّ صبابهْ * وأذاب العذاب فيّ شبابهْ
وكانت قصيدة حامد رباعية رائعة بعنوان (الراعي) ومطلعها:
من ربوة خضراء نائمة بأحضان الجبلْ
ساق النسيم الصبّ أغنية كرنّات القُبَلْ
إلى هنا والأمر مألوف ليس فيه شيء غير عادي، فقد سعدت لحامد كما لو كانت قصيدتي هي التي اختيرت، وكنا وقتها نحسب أنفسنا نفسا واحدة إذا حقق أحدنا شيئا فرح له الآخران، وإن كنت طويت النفس على أن أحسّن وأجوّد في شعري لقابل. وقد ألغي أسبوع شباب الجامعات بعد هذا العام. غير المألوف دعوة الدكتور عبد الحكيم بلبع – عليه رحمة الله – لي عن طريق رعاية الشباب، وكانت أول مرة ألتقي به، وكنت أضرب أخماسا في أسداس، وطار من قلبي طائر الأمن، فلما التقيت به حياني بابتسامته البشوش ووجهه الطلق وكلماته المشجعة، وناداني باسمي كأنه يعرفني من زمن بعيد، وقال لي: أرجو ألا تكون غاضبا لعدم اختيار قصيدتك، قصيدتك جيدة، وكان عدم اختيارها عن غير قصد، وطيب خاطري بكلام جميل، وكان هذا اللقاء وهذا الكلام الجميل عندي أجمل مما لو اختيرت قصيدتي. وكان كلامه معي درسًا لي لم أنسه قط كلما تعرضت بعد ذلك لموقف الحكم. ولم ينزع محبته من قلبي شيء حتى وفاته في سنة 1977م رحمه الله.
وأما الموقف الآخر فقد علق إعلان في الكلية أنها ستقيم حفل تأبين في ذكرى الأربعين للأستاذ العقاد الذي توفي يوم 12/3/1964، وسوف يلقي فيه الأستاذ عمر الدسوقي بحثا عنه، وسيكون هناك مجال لإلقاء قصيدة في رثائه، وعلى الراغبين في المشاركة أن يقدموا قصائدهم للأستاذ فتوح أحمد، وتقدمت ضمن من تقدموا، ولم يتقدم حامد مع أنه كتب قصيدة في رثاء العقاد، وكان رأيه أن التقديم في هذه المسابقة المحدودة عبث لأنه مادام فتوح موجودا لن يشارك أحد آخر. كان مطلع قصيدتي:
هل قضى نحبه وهل صار ذكرى * وطواه الردى فقصّر عمرا
كيف يندك شامخ متأبّ * عصرته الأحداث والدهر عصرا
ودهته فما ألان قناة * لعتي أراد للعود كسرا
وفيها:
إن يكن ضمه بأسوان قبْر * صار يزهى على المقابر فخرا
فهو بين العقول ينداح فكرًا * وهو بين القلوب ينبض ذكرى
يا رُبى الخلد كبري حين يأتي * وافتحي من حنانك الغض صدرا
وامنحيه تحية منك طرسًا * وأعدي له يراعًا وحبرا
علّه من علاك يزجي بيانًا * كاشفًا عن غوامض الحق سترا
كاشفًا ساحرا به كل أفعى * ظنت الموت يبطل اليوم سحرا
فاستفاقت من بعده تتباهى * وتلوّت لتنفث السمّ كفرا
ولنا الله بعد يتم يراعٍ * صال حرا واليوم يغمد حرا
وله جنة الخلود جزاء * ولتعادلْه جنة الخلد أجرا
وصدق حدس حامد، فلم يلق أحد شعرا سوى محمد فتوح، وقد أصابني هذا بشيء من الإحباط.
بعد شهر تقريبا من بدء الدراسة رأينا إعلانا على السبورة في فناء الكلية – المبني القديم بالطبع نضر الله أيامه بكل خير – يدعو الطلاب الذين يكتبون الشعر للقاء مع مقرر جماعة الشعر، وكان علي البطل – رحمه الله – وهو طالب وقتها في الفرقة الثالثة. والتقينا ووجدت عددا كبيرا من الطلاب يملأون مدرج (أ)، يا لله ! كل هؤلاء يقولون الشعر؟ أين معهد القاهرة من هذا الثراء الخصيب في المواهب؟ وشرح لنا مقرر جماعة الشعر النظام المعمول به، وعرفنا أن هناك لقاء أسبوعيا في يوم الخميس، يختار فيه عدد من القصائد يلقيها أصحابها ويعلق عليها أحد الأساتذة ومنهم المعيدون. وقدمت قصيدة جديدة كتبتها أيامها من وحي ما شاهدته من بعض زميلاتي في الكلية أقول فيها:
لا تقيمي على الجمال ستارا * من مساحيق تصرخ استهتارا
وثقي بالذي برته يد الله فقد أبدعت لنا الأزهارا
أنت يا أختُ درّةٌ والدراري * غاص من أجلها الأنام البحارا
وقدم أحمد درويش قصيدة طويلة – وهي القصيدة التي أسمعنيها أول ما عرفته – ولم يقدمنا مقرر الجماعة في لقاء الخميس الأول، وعندما ذهبت أسأله قال لي: إن قصيدتك مقبولة لأن (عايدة) أعجبت بها (عايدة زميلته التي تزوجها فيما بعد)، فسألته عن قصيدة أحمد ألم تعجب بها عايدة فنظر إلىَّ شزرًا قائلاً: إنها ليست قصيدة، فقلت: إنها أكثر من ستين بيتا، فقال قولة لم أنسها قط: (نحن لا نقيس الشعر بالشبر).
كان المعلق على قصائد الندوة هذه المرة هو الدكتور عبد الله درويش – رحمه الله – وقال عن قصيدتي كلاما مال فيه إلى التشجيع لا المؤاخذة مما أغراني بتقديم قصيدة أخرى كانت من بحر الخفيف وكنت سعيدا بها لأنها أول مرة أكتب فيها من هذا البحر الذي يعز على الشادين، وكانت بعنوان (حطم العود) أقول فيها:
حطم العود يا صديقي فإني * فوق صخر الأسى تحطم عودي
بعثر اللحن يا رفيقي فإني * غير مصغ لضاحك التغريد
ما مراحي وبهجتي ومزاحي * وصداحي وفرحتي ونشيدي
في حياة تعكّر الصفو قسرًا * وبكأس انتشاءة المرء تودي
بينما المرء في ربيع شباب * باسم الثغر للغد المنشود
يتثني بعوده الغض مزهوًّا بثوب الشباب كالعنقود
كالربيع الضحوك تهتز فيه * خطرات الصبا بصبح جديدِ
إذ يسوق الردى إليه سهامًا * ثم يودى بغصنه الأملودِ
كان الذي يعلق هذه المرة هو محمد فتوح أحمد، وكان معيدا لامعا واثقا بنفسه، وكان شاعرًا من شعراء الكلية المعدودين، وكنا نعجب بشعرة ونرى فيه نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة الحديثة، وقد هاجم في هذه الندوة قصيدتي هجومًا قاسيا، ورمى شاعرها بالفشل، وراح يعدد الأسباب التي ساعدت الشاعر على هذا الفشل، وكلما قال شيئًا تضاءلت في مقعدي ووددت لو اختفيت من هذا المكان، وأذكر أنني خرجت بعدها فلم أذهب إلى البيت، وظللت هائما على وجهي في طرقات القاهرة، لا أدري بالوقت ولا أشعر بالمكان، وكان عقلي يعيد النظر في أمر الشعر كله، كنت أقول لنفسي: هذا الشعر الذي كنت تعتز به وتحبه، وتشعر به بالتميز على زملائك وأندادك الذين لا يقولون الشعر هو اليوم سبب لشعورك الأليم بالخزي والهوان، وقرت نفسي يومها على هجر الشعر وتركه، فقد كنت أعدّه سببا لظهوري بين زملائي وتفوقي عليهم، الآن هو سبب لشعوري بالتضاؤل بينهم. ومضيت بعد أن انتهيت إلى هذا القرار لبيتي وارتاحت نفسي لما قررت وكنت أرى وقتها أنصاف الشعراء في الكلية لا يحققون راحة بالتفوق ولا راحة باليأس، واليأس إحدى الراحتين، وقلت: لنفسي إما أن أحقق بالشعر مكانة عليا وإما أن أصمت، فليس كل المتفوقين شعراء ولتكن الدراسة مجالا للتفوق. وظل حديث النفس هذا يلازمني حتى كان الأسبوع التالي، وقد دعانا زميل من أريتريا اسمه عبد القادر – وكنا نسميه عبد القادر الأريتري – إلى نادٍ خاص بالجالية الأريترية، وذهبنا نحن الثلاثة حامد وأحمد وأنا، ولم يكن هناك شعراء مدعوون لهذه الأمسية سوانا، وكان الذي يعلق على الندوة هو محمد فتوح أيضًا، وقدمت قصيدة في هذه الليلة بعنوان (البغيّ) وكانت صياغتها مختلفة عما ألفته من قبل، وعندما وجدت أن المعلق هو محمد فتوح وطنت النفس لتلقى مزيد من الاتهام بالفشل، ولكن محمد فتوح في هذه الليلة أهمل الإشارة إلى قصيدتي تمامًا سلبا وإيجابًا، وأسمع كلاًّ من أحمد وحامد عن قصيدتهما ما أسمعنيه عن قصيدتي في ندوة دار العلوم وكان لاذعًا قاسيا، أو بدا لنا الأمر كذلك. والحق أن بعض كلامه كان مبادئ نقدية عرفنا بعد قليل أنها مستقاة من محمد غنيمي هلال في كتابه مدخل إلى النقد الأدبي الحديث الذي كان يدرسه لنا في هذا العام، وغير عنوانه في هذا العام نفسه إلى (النقد الأدبي الحديث). وقد خرجنا نحن الثلاثة هذه الليلة نمشي في شوارع القاهرة ونضحك مما حدث، ويبدو أن تساندنا معا، لم يصبنا بما أصبت به في الأسبوع السابق. وكان حامد أكثرنا ثباتا وثقة فقال: إن فتوح يعلم مقدار موهبتنا لأنه شاعر قبل أن يكون ناقدًا، وهو يخشى من وجود قوة شعرية في مثل قوتنا في الكلية، فقد تنال هذه القوة الجديدة من مكانته المستقرة، ولذلك يريد أن يخيفنا ويفزعنا، ومن ثم ينبغي ألا نحقق له ما يريد ولكن الأمر لم يكن على ما صوّر حامد، وإن كان موقفه أعاد إلينا الثبات. كان فتوح أحمد يمارس أدواته النقدية التي تعلمها، وكان يقسو من أجل الرغبة في دفعنا إلى تطوير أدواتنا الشعرية وتصحيح مفهومنا عن الشعر، وسرعان ما ضمنا إليه وسمح لنا بالجلوس معه وزيارته في بيته ولكننا ظللنا ننطوي على شيء من الرهبة له والخوف منه. الآن بعد مرور أربعين سنة عندما أتذكر معه هذه المواقف يضحك ضحكة فيها شيء من الزهو، وشيء من الأسى أَنْ لم يُفْهم موقفه حق الفهم.
في السنة الأولى بدار العلوم حدث موقفان آخران لهما بالشعر صلة، أمّا أولهما فقد أعلنت إدارة رعاية الشباب للذين يكتبون الشعر أن يتقدموا بقصائدهم لاختيار من يشاركون منهم في أسبوع شباب الجامعات، وحدد موضوع القصيدة أن يكون قوميا، وتقدمت بقصيدة زاعقة مطلعها:
قف يازمان من السنا المتهادي * حيّ انطلاق الفجر في بغداد
قف حيّ فيها ثورة عربية * محقت ظلام الظلم والإفساد
واختير في هذا العام سعد مصلوح وحامد طاهر، كانت قصيدة سعد جميلة بعنوان (الصفصافة) مطلعها:
حنّ من رقة وأنّ صبابهْ * وأذاب العذاب فيّ شبابهْ
وكانت قصيدة حامد رباعية رائعة بعنوان (الراعي) ومطلعها:
من ربوة خضراء نائمة بأحضان الجبلْ
ساق النسيم الصبّ أغنية كرنّات القُبَلْ
إلى هنا والأمر مألوف ليس فيه شيء غير عادي، فقد سعدت لحامد كما لو كانت قصيدتي هي التي اختيرت، وكنا وقتها نحسب أنفسنا نفسا واحدة إذا حقق أحدنا شيئا فرح له الآخران، وإن كنت طويت النفس على أن أحسّن وأجوّد في شعري لقابل. وقد ألغي أسبوع شباب الجامعات بعد هذا العام. غير المألوف دعوة الدكتور عبد الحكيم بلبع – عليه رحمة الله – لي عن طريق رعاية الشباب، وكانت أول مرة ألتقي به، وكنت أضرب أخماسا في أسداس، وطار من قلبي طائر الأمن، فلما التقيت به حياني بابتسامته البشوش ووجهه الطلق وكلماته المشجعة، وناداني باسمي كأنه يعرفني من زمن بعيد، وقال لي: أرجو ألا تكون غاضبا لعدم اختيار قصيدتك، قصيدتك جيدة، وكان عدم اختيارها عن غير قصد، وطيب خاطري بكلام جميل، وكان هذا اللقاء وهذا الكلام الجميل عندي أجمل مما لو اختيرت قصيدتي. وكان كلامه معي درسًا لي لم أنسه قط كلما تعرضت بعد ذلك لموقف الحكم. ولم ينزع محبته من قلبي شيء حتى وفاته في سنة 1977م رحمه الله.
وأما الموقف الآخر فقد علق إعلان في الكلية أنها ستقيم حفل تأبين في ذكرى الأربعين للأستاذ العقاد الذي توفي يوم 12/3/1964، وسوف يلقي فيه الأستاذ عمر الدسوقي بحثا عنه، وسيكون هناك مجال لإلقاء قصيدة في رثائه، وعلى الراغبين في المشاركة أن يقدموا قصائدهم للأستاذ فتوح أحمد، وتقدمت ضمن من تقدموا، ولم يتقدم حامد مع أنه كتب قصيدة في رثاء العقاد، وكان رأيه أن التقديم في هذه المسابقة المحدودة عبث لأنه مادام فتوح موجودا لن يشارك أحد آخر. كان مطلع قصيدتي:
هل قضى نحبه وهل صار ذكرى * وطواه الردى فقصّر عمرا
كيف يندك شامخ متأبّ * عصرته الأحداث والدهر عصرا
ودهته فما ألان قناة * لعتي أراد للعود كسرا
وفيها:
إن يكن ضمه بأسوان قبْر * صار يزهى على المقابر فخرا
فهو بين العقول ينداح فكرًا * وهو بين القلوب ينبض ذكرى
يا رُبى الخلد كبري حين يأتي * وافتحي من حنانك الغض صدرا
وامنحيه تحية منك طرسًا * وأعدي له يراعًا وحبرا
علّه من علاك يزجي بيانًا * كاشفًا عن غوامض الحق سترا
كاشفًا ساحرا به كل أفعى * ظنت الموت يبطل اليوم سحرا
فاستفاقت من بعده تتباهى * وتلوّت لتنفث السمّ كفرا
ولنا الله بعد يتم يراعٍ * صال حرا واليوم يغمد حرا
وله جنة الخلود جزاء * ولتعادلْه جنة الخلد أجرا
وصدق حدس حامد، فلم يلق أحد شعرا سوى محمد فتوح، وقد أصابني هذا بشيء من الإحباط.
رحلتي مع الشعر (الجزء الخامس) – أ.د. محمد حماسة
التحق ثلاثتنا بكلية دار العلوم التي كانت أملا يراودنا وحلما يداعب أخيلتنا لما نسمعه من نشاطها الدائب وحركتها المستمرة في الشعر ونقده، والتي أوصانا بها الأستاذ العقاد ونصحنا بالالتحاق بها، وكان ذلك …
www.hamassa.com