هل حياة الإنسان لها غاية؟ وهل يمكن لنا أن نستشف تلك الغاية بالفكر؟ وهل نستطيع من جهة أخرى أن نتلمس البعد الاجتماعي من تلك الغاية؟
يروى عن ابن سينا انه استطاع علاج فتى من بني بويه أصيب بالمالنخوليا واشتدت به العلة حتى اعتقد أنه بقرة. كان الفتى يردد الصياح طوال النهار ويقول: اذبحوني فإن طعاماً شهياً يمكن أن يتخذ من لحمي. وقد امتنع عن الطعام والشراب فساءت حاله وخارت قواه ونحل جسمه وعجز الأطباء عن معالجته. وكان الشيخ الرئيس ابن سينا عالي الشأن رفيع المنزلة يتولى الوزارة لعلاء الدولة البويهي ويقضي كثيراً من وقته في التدريس والتصنيف. وقد انتشر في الآفاق ذكره، وعلم الخاص والعام بمهارته في التطبيب وعلاج مرضى العقول فهرع أهل المريض إلى علاء الدولة وتوسلوا به لدى ابن سينا، وعرض الأمير الحالة على الشيخ فقبل أن يتولى العلاج.
هذه القصة تدل على مهارة ابن سينا وفهمه نفس الإنسانية في حالات مرضها. ولا شك في مهارته وألمعيته أيضاً حين يبحث النفس الإنسانية في حالاتها السوية. فهو من أشهر الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية. عاش ابن سينا ثلاثاً وخمسين سنة (985 – 1037). والحق أنه كان نابغة في علوم شتى. ترك مؤلفات في الطب. ويقال: كان الطب معدوماً فأوجده أبقراط، وكان ميتاً فأحياه جالينوس، وكان متفرقاً فجمعه الرازي، وكان ناقصاً فأكمله ابن سينا. وله كتب في المنطق والطبيعيات كالصوت والنور وغيرهما، وفي الرياضيات والفلك والأرصاد والموسيقى واللغة، وكذلك له بحوث في الإلهيات، وشهرته الفلسفية والطبية هي التي طغت وشاعت. إلى جانب ممارسته للشعر. له أرجوزة في المنطق وأرجوزة في الطب. ولكن قصيدته العينية في النفس أشهر ما تناقله المفكرون والأدباء.
يقول ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
يعيد ابن سينا الفكرة التي أشار إليها أفلاطون وهي إن النفس كانت قبلاً تعيش في عالم علوي غيبي مليء بالأسرار والطلاسم، ثم هبطت لتتصل بجسد الإنسان وتحل في عالم أرضي يعج بالخطوب والحروب والأضرار والمخاطر مع أنها كانت متمنعة متعززة. إن تلك الروح أو النفس محجوبة عن أعين العارفين والعلماء ولكن وجودها واضح جلي لعقل دون حجاب.
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
لم يكن الهبوط برضاها ولكنها بعد اتصالها بالجسد أصبحت تكره فراقه، إذ ألفته مع أنه خراب، فهل نسيت الروح بألفتها للجسد أصلها السامي؟
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما أنست فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى
ومنازلاً بفراقها لم تقنــــــــع
ثم يأخذ الفيلسوف الشاعر أوائل بعض الألفاظ ليدل على أحداث هبوط النفس من مركزها السامي السابق، فالهاء أول لفظ الهبوط والميم أول لفظ المركز والثاء أول لفظ الثقيل الذي يدل على البدن، ولقد كانت النفس طليقة خفيفة قبل أن تحل به والجسم هو الرملة المستوية التي لا تنبت.
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
عن ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضع
إن المادة التي يتألف منها الجسد خاضعة لقوانين لا تخرج عنها وليست هي حرة كالروح. ولذلك تحن الروح إلى سابق مقامها على حين يضمحل الجسم وما الجسم إلا قفص ضيق يحول بينها وبين رجوعها إلى عالمها الفسيح السالف.
تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى
بمدامع تهمي ولم تتقطع
وتظل ساجعة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرب الكثيف وصدها
قفص من الأوج الفسيح المربع
حتى إذا أزفت ساعة الرحيل عن الدنيا إلى الفضاء الواسع وقد أبصرت ببصيرتها النافذة ما لم تكن تدركه حين حلولها في الجسد، فهي قد غردت من نشوة المعرفة لأنها حينئذ تحصل الكمال بتمام العلم إذ كان العلم يرفع صاحبه فوق الذرا الشاهقة.
حتى إذا قرب المسير عن الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكل مخلف
عنها حليف الترب غير مشيع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
هكذا ينتهي القسم الأول من القصيدة وهي حكاية نزول النفس من عالمها العلوي واتصالها بالجسم في العالم السفلي. ويبدأ القسم الثاني من القصيدة، على شكل سؤال يتضمن قسطاً كبيراً من الشك في رواية هبوط النفس من العالم العلوي.
لأي شيء تعلقت النفس بالبدن؟ إذا كان لأمر غير تحصيل الكمال فهي حكمة خفية على الأذهان. وإن كان لتحصيل الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصول الكمال فإن أكثر النفوس تفارق أبدانها من دون تحصيل الكمال؟
فلأي شيء أهبطت من شامخ
عادت إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت على الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب
لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى إذا غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أنعم برد جواب ما أنا فاحص
عنه فنار العلم ذات تشعشع
يمكن الجواب عن سؤال ابن سينا بتناسخ الأرواح الذي لا يزال حتى ينتهي بها إلى الكمال، وهو انتقالها بعد مغادرة أجسادها إلى أجساد أخرى فكأن الأجساد قوالب لتلك الأرواح المتنقلة. وذلك أن النفس لا تحيط بالمطلوب إحاطة كلية دفعة واحدة بلا زمان بل تحتاج إلى تتبع الجزئيات واستقراء الممكنات، فهي تتردد في الأبدان البالية تبعاً لأعمالها الصالحة أو السيئة حتى تحصل الكمال وتستيقن شرف ذاتها وقوامها لا بغيرها وتستغني عن المادة وعن تلبسها بصورها وإحاطتها بخساستها.
يذكر البيروني تصنيف المتكلمين للتناسخ في «أربع مراتب هي النسخ وهو التوالد بين الناس لأنه ينسخ من شخص إلى آخر، وضده المسخ ويخص الناس بأن يمسخوا قردة وخنازير وفيلة، والرسخ كالنبات وهو أشد من النسخ لأنه يرسخ ويبقى على الأيام ويدوم كالجبال، وضده الفسخ وهو للنبات المقطوف والمذبوحات لأنها تتلاشى ولا تعقب».
أما أبو العلاء المعري فينوه للتناسخ فيقول:
وتقدم الأرض نفوس أتت
مخلوقة من أنفس ثاوية
أو يقول:
والجسم كالثوب على روحه
ينزع إذ يخلق أو يتسخ
ولكنه في مواقف أخرى يتهكم على مذهب الفسخ والرسخ ويتنصل منه:
يا آكل التفاح لا تبعدن
ولا يقم يوم ردى ثاكلك
قد كنت في دهرك تفاحة
وكان تفاحك ذا آكلك
إن من أبدع أبيات الشعر في تلك القصيدة السينية ذلك البيت الذي يشبه فيه الحياة الإنسانية في قصرها بالبرق الخاطف يومض سناه فلا يلبث أن يتوارى في أطواء العدم وكأنه لم يتألق قط:
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
إن حياة الإنسان على وجه الكرة الأرضية ومضة برق. وعلى قصرها تتخطفها الحروب وتنتقصها الخطوب وتتحيفها الأمراض. إن ذلك الحدس الفلسفي العميق قد جعل البيت يتألق في قصيدة ابن سينا تألقاً ساطعاً.
إن ابن سينا والسهروردي يقدران حياة الإنسان بفينة وميض البرق الخاطف. أما أبو العلاء المعري المتشائم فيرى الحياة قصيرة أو طويلة بمنزلة الصفر. فعند المعري يتساوى ذلك الذي عمر طويلاً مع آخر قد وافته المنية مبكراً. وبهذا الاعتبار أمسى القريب كالماضي السحيق:
أمسى الذي مر على قربه
يعجز أهل الأرض على رده
أضحى الذي آجل في سنه
مثل الذي عوجل في مهده
وإذا كان ابن طفيل والسهروردي وابن سينا يرون حياة النفس بالجسم نوراً أو برقاً لامعاً فان أبا العلاء يرى ذلك لغواً وخرقاً وتفاهة. وهنا نصل إلى جواب آخر عن سؤال ابن سينا وهو نفي الكمال مطلقاً في الحياة وإثبات اللهو والعبث فيها أو اللامعقول حسب تعبير طائفة من الوجوديين الحديثين.
يقول اليافي: حديثنا هذا أضغاث أقوال جعلنا محورها قصيدة ابن سينا في النفس. وقد اعتبرنا النفس هنا مقابلة للجسم مغفلين على عمد تفريق فلاسفة الإسلام أحياناً بين الروح والنفس. ونظرنا إلى النفس على أنها إمكانية تتحقق في حجر المجتمع وبالتضامن مع غيرها من النفوس. على خلاف بعض الوجوديين الذين يرون في النفس إمكانية معزولة ومقذوفة في بحر الحياة المتلاطم ودون أمل ما.
وسؤال ابن سينا شعر. ولا بد لنا أن يكون جوابنا شعراً لزيادة الإيضاح في موقفنا ولإسباغ التناسب.
مهما بلوت النفس بالتحليل لم
تحصل على حل أكيد مقنع
سر من الأسرار أعيا فهمه
من شئت من طب ومن متنطع
قل للرئيس مقالة من واثق
بجوابه من علمه المتنوع
النفس تبذل وسعها في سعيها
نحو الكمال الشاسع المتمنع
لكنها جزء من الشعب الذي
يبني الحياة معاً بناء المبدع
النفس ليست وحدها في سعيها
أبداً فكل في الورى ذو موضع
وكأنها برق تألـــــــق هاتكاً
حجب الظلام بنوره المتصدع
تمضي ويبقى سعيها متحققاً
أبد الزمان على أديم الأربع
متضامناً مع غيره متجمعاً
شأن الخضم الزاخر المتدفع
وملاوة من سؤدد متألق
أجدى إذن من ألف عام بلقع
فاصرف جهودك للعلى متحفزاً | يكفيك نبل القصد والمتطلَع
هذا جوابٌ ســـائغ ومحقق | فاحرص عليه ودع كلام المدعي
عبد الكريم اليافي
يروى عن ابن سينا انه استطاع علاج فتى من بني بويه أصيب بالمالنخوليا واشتدت به العلة حتى اعتقد أنه بقرة. كان الفتى يردد الصياح طوال النهار ويقول: اذبحوني فإن طعاماً شهياً يمكن أن يتخذ من لحمي. وقد امتنع عن الطعام والشراب فساءت حاله وخارت قواه ونحل جسمه وعجز الأطباء عن معالجته. وكان الشيخ الرئيس ابن سينا عالي الشأن رفيع المنزلة يتولى الوزارة لعلاء الدولة البويهي ويقضي كثيراً من وقته في التدريس والتصنيف. وقد انتشر في الآفاق ذكره، وعلم الخاص والعام بمهارته في التطبيب وعلاج مرضى العقول فهرع أهل المريض إلى علاء الدولة وتوسلوا به لدى ابن سينا، وعرض الأمير الحالة على الشيخ فقبل أن يتولى العلاج.
هذه القصة تدل على مهارة ابن سينا وفهمه نفس الإنسانية في حالات مرضها. ولا شك في مهارته وألمعيته أيضاً حين يبحث النفس الإنسانية في حالاتها السوية. فهو من أشهر الفلاسفة في الحضارة العربية الإسلامية. عاش ابن سينا ثلاثاً وخمسين سنة (985 – 1037). والحق أنه كان نابغة في علوم شتى. ترك مؤلفات في الطب. ويقال: كان الطب معدوماً فأوجده أبقراط، وكان ميتاً فأحياه جالينوس، وكان متفرقاً فجمعه الرازي، وكان ناقصاً فأكمله ابن سينا. وله كتب في المنطق والطبيعيات كالصوت والنور وغيرهما، وفي الرياضيات والفلك والأرصاد والموسيقى واللغة، وكذلك له بحوث في الإلهيات، وشهرته الفلسفية والطبية هي التي طغت وشاعت. إلى جانب ممارسته للشعر. له أرجوزة في المنطق وأرجوزة في الطب. ولكن قصيدته العينية في النفس أشهر ما تناقله المفكرون والأدباء.
يقول ابن سينا:
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
يعيد ابن سينا الفكرة التي أشار إليها أفلاطون وهي إن النفس كانت قبلاً تعيش في عالم علوي غيبي مليء بالأسرار والطلاسم، ثم هبطت لتتصل بجسد الإنسان وتحل في عالم أرضي يعج بالخطوب والحروب والأضرار والمخاطر مع أنها كانت متمنعة متعززة. إن تلك الروح أو النفس محجوبة عن أعين العارفين والعلماء ولكن وجودها واضح جلي لعقل دون حجاب.
محجوبة عن كل مقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تتبرقع
لم يكن الهبوط برضاها ولكنها بعد اتصالها بالجسد أصبحت تكره فراقه، إذ ألفته مع أنه خراب، فهل نسيت الروح بألفتها للجسد أصلها السامي؟
وصلت على كره إليك وربما
كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما أنست فلما واصلت
ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى
ومنازلاً بفراقها لم تقنــــــــع
ثم يأخذ الفيلسوف الشاعر أوائل بعض الألفاظ ليدل على أحداث هبوط النفس من مركزها السامي السابق، فالهاء أول لفظ الهبوط والميم أول لفظ المركز والثاء أول لفظ الثقيل الذي يدل على البدن، ولقد كانت النفس طليقة خفيفة قبل أن تحل به والجسم هو الرملة المستوية التي لا تنبت.
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها
عن ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت
بين المعالم والطلول الخضع
إن المادة التي يتألف منها الجسد خاضعة لقوانين لا تخرج عنها وليست هي حرة كالروح. ولذلك تحن الروح إلى سابق مقامها على حين يضمحل الجسم وما الجسم إلا قفص ضيق يحول بينها وبين رجوعها إلى عالمها الفسيح السالف.
تبكي إذا ذكرت عهوداً بالحمى
بمدامع تهمي ولم تتقطع
وتظل ساجعة على الدمن التي
درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرب الكثيف وصدها
قفص من الأوج الفسيح المربع
حتى إذا أزفت ساعة الرحيل عن الدنيا إلى الفضاء الواسع وقد أبصرت ببصيرتها النافذة ما لم تكن تدركه حين حلولها في الجسد، فهي قد غردت من نشوة المعرفة لأنها حينئذ تحصل الكمال بتمام العلم إذ كان العلم يرفع صاحبه فوق الذرا الشاهقة.
حتى إذا قرب المسير عن الحمى
ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكل مخلف
عنها حليف الترب غير مشيع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت
ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت تغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يرفع كل من لم يرفع
هكذا ينتهي القسم الأول من القصيدة وهي حكاية نزول النفس من عالمها العلوي واتصالها بالجسم في العالم السفلي. ويبدأ القسم الثاني من القصيدة، على شكل سؤال يتضمن قسطاً كبيراً من الشك في رواية هبوط النفس من العالم العلوي.
لأي شيء تعلقت النفس بالبدن؟ إذا كان لأمر غير تحصيل الكمال فهي حكمة خفية على الأذهان. وإن كان لتحصيل الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصول الكمال فإن أكثر النفوس تفارق أبدانها من دون تحصيل الكمال؟
فلأي شيء أهبطت من شامخ
عادت إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أهبطها الإله لحكمة
طويت على الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب
لتكون سامعة لما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها
حتى إذا غربت بغير المطلع
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
أنعم برد جواب ما أنا فاحص
عنه فنار العلم ذات تشعشع
يمكن الجواب عن سؤال ابن سينا بتناسخ الأرواح الذي لا يزال حتى ينتهي بها إلى الكمال، وهو انتقالها بعد مغادرة أجسادها إلى أجساد أخرى فكأن الأجساد قوالب لتلك الأرواح المتنقلة. وذلك أن النفس لا تحيط بالمطلوب إحاطة كلية دفعة واحدة بلا زمان بل تحتاج إلى تتبع الجزئيات واستقراء الممكنات، فهي تتردد في الأبدان البالية تبعاً لأعمالها الصالحة أو السيئة حتى تحصل الكمال وتستيقن شرف ذاتها وقوامها لا بغيرها وتستغني عن المادة وعن تلبسها بصورها وإحاطتها بخساستها.
يذكر البيروني تصنيف المتكلمين للتناسخ في «أربع مراتب هي النسخ وهو التوالد بين الناس لأنه ينسخ من شخص إلى آخر، وضده المسخ ويخص الناس بأن يمسخوا قردة وخنازير وفيلة، والرسخ كالنبات وهو أشد من النسخ لأنه يرسخ ويبقى على الأيام ويدوم كالجبال، وضده الفسخ وهو للنبات المقطوف والمذبوحات لأنها تتلاشى ولا تعقب».
أما أبو العلاء المعري فينوه للتناسخ فيقول:
وتقدم الأرض نفوس أتت
مخلوقة من أنفس ثاوية
أو يقول:
والجسم كالثوب على روحه
ينزع إذ يخلق أو يتسخ
ولكنه في مواقف أخرى يتهكم على مذهب الفسخ والرسخ ويتنصل منه:
يا آكل التفاح لا تبعدن
ولا يقم يوم ردى ثاكلك
قد كنت في دهرك تفاحة
وكان تفاحك ذا آكلك
إن من أبدع أبيات الشعر في تلك القصيدة السينية ذلك البيت الذي يشبه فيه الحياة الإنسانية في قصرها بالبرق الخاطف يومض سناه فلا يلبث أن يتوارى في أطواء العدم وكأنه لم يتألق قط:
فكأنها برق تألق بالحمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمع
إن حياة الإنسان على وجه الكرة الأرضية ومضة برق. وعلى قصرها تتخطفها الحروب وتنتقصها الخطوب وتتحيفها الأمراض. إن ذلك الحدس الفلسفي العميق قد جعل البيت يتألق في قصيدة ابن سينا تألقاً ساطعاً.
إن ابن سينا والسهروردي يقدران حياة الإنسان بفينة وميض البرق الخاطف. أما أبو العلاء المعري المتشائم فيرى الحياة قصيرة أو طويلة بمنزلة الصفر. فعند المعري يتساوى ذلك الذي عمر طويلاً مع آخر قد وافته المنية مبكراً. وبهذا الاعتبار أمسى القريب كالماضي السحيق:
أمسى الذي مر على قربه
يعجز أهل الأرض على رده
أضحى الذي آجل في سنه
مثل الذي عوجل في مهده
وإذا كان ابن طفيل والسهروردي وابن سينا يرون حياة النفس بالجسم نوراً أو برقاً لامعاً فان أبا العلاء يرى ذلك لغواً وخرقاً وتفاهة. وهنا نصل إلى جواب آخر عن سؤال ابن سينا وهو نفي الكمال مطلقاً في الحياة وإثبات اللهو والعبث فيها أو اللامعقول حسب تعبير طائفة من الوجوديين الحديثين.
يقول اليافي: حديثنا هذا أضغاث أقوال جعلنا محورها قصيدة ابن سينا في النفس. وقد اعتبرنا النفس هنا مقابلة للجسم مغفلين على عمد تفريق فلاسفة الإسلام أحياناً بين الروح والنفس. ونظرنا إلى النفس على أنها إمكانية تتحقق في حجر المجتمع وبالتضامن مع غيرها من النفوس. على خلاف بعض الوجوديين الذين يرون في النفس إمكانية معزولة ومقذوفة في بحر الحياة المتلاطم ودون أمل ما.
وسؤال ابن سينا شعر. ولا بد لنا أن يكون جوابنا شعراً لزيادة الإيضاح في موقفنا ولإسباغ التناسب.
مهما بلوت النفس بالتحليل لم
تحصل على حل أكيد مقنع
سر من الأسرار أعيا فهمه
من شئت من طب ومن متنطع
قل للرئيس مقالة من واثق
بجوابه من علمه المتنوع
النفس تبذل وسعها في سعيها
نحو الكمال الشاسع المتمنع
لكنها جزء من الشعب الذي
يبني الحياة معاً بناء المبدع
النفس ليست وحدها في سعيها
أبداً فكل في الورى ذو موضع
وكأنها برق تألـــــــق هاتكاً
حجب الظلام بنوره المتصدع
تمضي ويبقى سعيها متحققاً
أبد الزمان على أديم الأربع
متضامناً مع غيره متجمعاً
شأن الخضم الزاخر المتدفع
وملاوة من سؤدد متألق
أجدى إذن من ألف عام بلقع
فاصرف جهودك للعلى متحفزاً | يكفيك نبل القصد والمتطلَع
هذا جوابٌ ســـائغ ومحقق | فاحرص عليه ودع كلام المدعي
عبد الكريم اليافي