عشت في مدينة حمص في بيت قائم على المحبة والتعاون فيما بين الأهل وبين الناس، وأسرتي المتوسطة الحال مؤلفة من ستة ذكور وأخت وحيدة، كانت تجربتي الأولى مع أخواتي وزوار البيت، حيث العائلة عميقة الجذور في العروبة، وكان بيتنا ملتقى الأصدقاء والشباب والعلماء، فأخي الكبير كانت حالته المادية صالحة وأخ آخر كان يدرس العلوم الدينية والأدبية، وبسبب صلاح حال أخي الكبير من الناحية الخلقية والاجتماعية كان يزورنا الكثير من الناس شباباً وشيوخاً وكنت أجلس بجانب الحضور أستمع إليهم وأعجب خاصة بالذين يحسنون القول ويتقنون بعض العلوم، أستفيد منهم وأرجو أن أنال حظاً من العلم مثل حظوظهم، كان بعض الشباب يلقي شعراً وبعض الشيوخ يورد الأحاديث النبوية أو الأخبار التراثية.
كنت أتعطش إلى سماع أمثال هذه الروايات والأشعار وآمل أن أنشر على منوالهم وأكون في المستقبل مثلهم، أتحدث فأحسن الحديث، ألقي شعراً وأجيد الإلقاء، وأذكر من الأخبار التراثية روايات طريفة مفيدة.
ولما كبرت بعض الشيء وضعني أبي في مدرسة رسمية تسمى الإرشاد فكنت تلميذاً أصغي تمام الإصغاء للمعلم وينطبع في فكري وذاكرتي ما يقوله الأستاذ بشكل فريد، فكانت ذاكرتي قوية منذ الصغر لذلك كان الأساتذة يعاملونني معاملة حسنة ويذكرون فيما بينهم حسن انتباهي وجودة حفظي وإجاباتي السليمة على أسئلتهم في أي برنامج درسوه، قدمت شهادة الابتدائية ولا أعرف ماذا كتبت ولكن النتيجة كانت صالحة تشير إلى أنني من البداية من بين الناجحين، ولما وصلت إلى مدرسة التجهيز أو الثانوية كان أخي الأكبر مني يدرس في الصباح وفي المساء يأخذ العلم من شيوخ ماهرين في العلوم التراثية كالقصة والنحو والحديث وتفسير القرآن.
كان الخجل أهم الصفات البارزة عندي وكان لي عاداتي الخاصة، أستيقظ في الصباح الباكر وأنظر إلى النجوم الجميلة البراقة، وأحاول أن أتعرف على أسمائها الفلكية وأحفظها، ومنذ ذلك الوقت نشأت بيني وبين تلك النجوم صداقة لا أنساها مدى الحياة، فكنت أنظر ملياً لتلك النجوم ومن بعدها أذهب مسرعاً إلى الجامع أتحلق حول الشيخ الذي كان يدرس النحو والبلاغة وتفسير القرآن (تفسير البيضاوي)، فمنذ صغري أحببت اللغة العربية، ووجد الأخ الكبير أنني أهتم باللغة فأهداني كتاب «فقه اللغة» للثعالبي.
بهذه الثقافة القوية وصلت إلى المدرسة الثانوية، وكنت أفوز دائماً وكان بعض الأساتذة، لا سيما أستاذ تخرج من الأزهر الشريف قد عرف مقدرتي في اللغة العربية فكان يذكر اسمي ويعجب بحفظي وكنت كذلك ماهراً في الدروس الأخرى.
جرت عادة المدرسة على إهداء الطلاب المبرزين كتباً لقاء نجاحهم، وأذكر أن الأساتذة كانوا يغدقون علي هذه الكتب، فكنت في الفصل الأخير من السنة أرجع إلى البيت وأنا أحمل أكداساً من الكتب في مختلف المواضيع.
طفولتي ليس لها ميزة إلا الإطاعة لوالدي والمعاملة الحسنة لإخوتي ولرفاقي واجتهادي منذ الصغر والحمد لله على ذلك، لأن هذه البداية توجت بتتابع النجاح في جميع المراحل الدراسية التي مررت بها من الصف السادس حتى البكالوريا الأولى والثانية وحتى الدراسة في فرنسا، أما حياتي وتجاربي فهي محصورة في الدراسة والعمل العلمي.
ذهبت إلى فرنسا لأدرس لكن الحرب العالمية الثانية اشتعلت وكوني ذاهباً للدراسة لا لألهو أو أعمل في السوق السوداء فقد حصلت على شهادات عديدة في العلوم والفلسفة والآداب، وأثناء وجودي هناك كان لي هوايات عديدة أمارسها إذ تعلمت السباحة لأنها كانت عندي بمثابة العقدة حيث لم يكن أهلي يسمحون لي بالخروج كيفما أريد وكنت أخاف وقتها من نهر العاصي وأحب أن أكسر هذا الحاجز، فبقي هذا في خاطري طويلاً وعندما ذهبت إلى باريس بحثت عمن يعلمني بشكل مأجور رياضتي الأثيرة وهي السباحة فتعلمتها وبقيت معي إلى آخر عمري.
لي ذكريات كثيرة تتعلق بالحرب العالمية الثانية، كنت ساكناً في الحي اللاتيني حي الطلاب قرب السوربون، وشهدت زمن الحرب على الأرض الفرنسية، وكنت أتفرج أنا وزملائي كيف كان الإنكليز يضربون مواقع الألمان الذين احتلوا مواقعَ قريبة من سكننا الجامعي، عايشنا أثناء دراستنا سنوات الحرب لحظة بلحظة فهي سيئة للغالب والمغلوب أما ذكرياتها القاسية فتحتاج الكثير من الأحاديث للإحاطة بتلك السنوات الصعبة ومعاناتها.
عشنا حكايا وحكايا في تلك الفترة، وكم من طالب أصيب بالمرض نتيجة التغذية السيئة، ذقنا مرارة الفقر، كانت ثيابنا تهترئ ويصعب علينا شراء بديلها، حتى أنني في إحدى المرات وأنا جالس على مقعد في حديقة المدينة الجامعية، شعرت بالبرودة تسري في جسدي فأخذت أبحث عن السبب، وقد وصل الاهتراء إلى بنطالي، فما كان مني إلا الذهاب إلى عند الخياط لرثيه مكان الاهتراء، حيث لم يكن مستغرباً هذا الفعل بين أوساط الطلبة الذين عاشوا الفقر والحرمان وتحملوا من أجل العلم، حوصرنا ولم نستطع العودة إلى أوطاننا، ومن جهتي لم أتوقف وتابعت دراستي بعد العلوم في الآداب، ثم الفلسفة والتي أتذكر بداياتها عندما طلب البروفسور أن ننجز رسالة عن الفيلسوف كانط، وعندما قابل الطلاب بدأ بالتأنيب والتهكم وإطلاق الأحكام، وبينما هو يتحدث كنت أواسي نفسي بأنني جديد على هذه الدراسة وأول مرة أدخل هذا الميدان وهكذا أخاطب نفسي حتى أبعد عن خاطري مرارة الفشل، وبعد أن أنهى البروفسور حديثه قال: ما عدا رسالة كريم يافي فقد عرف كيف يعالج الموضوع فانتبه الطلاب إلي بنظرات إعجاب وتعجب، وتابعت بعدها النجاح وكنت الأول في علم الجمال.
في آخر حياتي الدراسية في جامعة السوربون في باريس وبعد نيلي الشهادات المتعددة تيسر لي وقت من الفراغ أنتظر فيه الباخرة الفرنسية التي كان تسمى «مراكش» عام 1945 لنقل الطلاب السوريين إلى وطنهم الذي انقطعوا عنه فترة الحرب العالمية الثانية والذي امتلأت قلوبهم شوقاً إليه ونزوعاً إلى لقاء أهله، بعد ذلك الانقطاع الغامض الذي لم تكن فيه بين الطلاب وأهلهم أي صلة، خرجت مرة في صباح يوم مشمس جميل أتمشى في حديقة اللوكسمبورغ، حديقة الحي اللاتيني، وفي أثناء تجوالي جلست على مقعد في تلك الحديقة، وكان ثمة فتاة في ريعان العمر وجمال الصبا جالسةً بالقرب مني وبعد تأمل طويل في الحياة وما جرته الحرب على الناس جميعاً من ويلات وآلام وفواجع شط بي الفضول فسألت تلك الفتاة فيما كانت تفكر؟ فأجابتني إنها لا تحب الحديث وإنها تفضل الاستمرار في أحلامها الخيالية. سألتها عن لون تلك الأحلام التي تعيش فيها، هل تتعلق بالزواج؟ وهل ترغب في الزواج من أبناء جنسها الفرنسيين؟ قالت: لا، قلت لها: ربما كان الزواج من بعض الشبان الألمان الصبوحين الذين كنا نراهم جنوداً من حين إلى حين يجتازون شوارع الحي اللاتيني؟ قالت: لا، قلت: ربما بعض الأمريكان الذين هرعوا بعد الحرب إلى السفر؟ قالت: لا، قلت: أسألك بربك أن تخبريني عن القوم الذين ترغبين الزواج منهم، قالت لي: أخبرك بأن لي صديقة في مثل عمري متزوجة من شاب أجنبي يقيم في باريس، وهي في غاية السعادة بالتفاهم والتعاون وإنه كان يعين زوجته (أي صديقتها) في كل شيء يتعلق بأمور البيت، فضلاً عن عمله موظفاً في إحدى دوائر الترجمة، فسألتها ما هي جنسية ذلك الفتى زوج صديقتك؟ قالت: إنه سوري، فاجأني الجواب واستعظمته لأن سورية لم تكن في مقدمة البلاد، وإن كان أبناؤها يضربون أحسن الأمثلة في السلوك وحب أسرهم وخدمة أبنائهم، ولم تكن تلك الفتاة تعلم أنني سوري، وقد أثر جوابها تأثيراً عميقاً في نفسي تلقاء أحلامها الفردوسية، ولما كنت أتهيأ للرجوع إلى البلاد، آثرت أن أتركها تنتظر الفارس السوري الجميل.
وعندما رجعت من فرنسا كانت الجامعة جديدة وبحاجة لأساتذة فتمكنت من التدريس في معظم الكليات الجامعية لأن ثقافتي كانت واسعة نتيجة دراساتي الكثيرة.
في حياتي كنت مرضيّ الوالدين، والإخوة، مرضيّ الأساتذة سواء في فرنسا أو سورية، وكان اسمي وحيداً في لوحة الشرف. ولما صرت أستاذاً عاملت الطلاب كما عاملني أساتذتي في العون والمحبة.
كرمت في سورية من قبل جامعة حمص وجامعة دمشق، ومن قبل وزارة الدفاع، وتوجت بالتكريم من قبل سيادة الرئيس بشار الأسد. وفي الختام أذكر قول الشاعر:
إن الوفاء الذي ألقاه في وطني
جزاء كل محب شاكر شادي
من مقالات عبد الكريم اليافي
كنت أتعطش إلى سماع أمثال هذه الروايات والأشعار وآمل أن أنشر على منوالهم وأكون في المستقبل مثلهم، أتحدث فأحسن الحديث، ألقي شعراً وأجيد الإلقاء، وأذكر من الأخبار التراثية روايات طريفة مفيدة.
ولما كبرت بعض الشيء وضعني أبي في مدرسة رسمية تسمى الإرشاد فكنت تلميذاً أصغي تمام الإصغاء للمعلم وينطبع في فكري وذاكرتي ما يقوله الأستاذ بشكل فريد، فكانت ذاكرتي قوية منذ الصغر لذلك كان الأساتذة يعاملونني معاملة حسنة ويذكرون فيما بينهم حسن انتباهي وجودة حفظي وإجاباتي السليمة على أسئلتهم في أي برنامج درسوه، قدمت شهادة الابتدائية ولا أعرف ماذا كتبت ولكن النتيجة كانت صالحة تشير إلى أنني من البداية من بين الناجحين، ولما وصلت إلى مدرسة التجهيز أو الثانوية كان أخي الأكبر مني يدرس في الصباح وفي المساء يأخذ العلم من شيوخ ماهرين في العلوم التراثية كالقصة والنحو والحديث وتفسير القرآن.
كان الخجل أهم الصفات البارزة عندي وكان لي عاداتي الخاصة، أستيقظ في الصباح الباكر وأنظر إلى النجوم الجميلة البراقة، وأحاول أن أتعرف على أسمائها الفلكية وأحفظها، ومنذ ذلك الوقت نشأت بيني وبين تلك النجوم صداقة لا أنساها مدى الحياة، فكنت أنظر ملياً لتلك النجوم ومن بعدها أذهب مسرعاً إلى الجامع أتحلق حول الشيخ الذي كان يدرس النحو والبلاغة وتفسير القرآن (تفسير البيضاوي)، فمنذ صغري أحببت اللغة العربية، ووجد الأخ الكبير أنني أهتم باللغة فأهداني كتاب «فقه اللغة» للثعالبي.
بهذه الثقافة القوية وصلت إلى المدرسة الثانوية، وكنت أفوز دائماً وكان بعض الأساتذة، لا سيما أستاذ تخرج من الأزهر الشريف قد عرف مقدرتي في اللغة العربية فكان يذكر اسمي ويعجب بحفظي وكنت كذلك ماهراً في الدروس الأخرى.
جرت عادة المدرسة على إهداء الطلاب المبرزين كتباً لقاء نجاحهم، وأذكر أن الأساتذة كانوا يغدقون علي هذه الكتب، فكنت في الفصل الأخير من السنة أرجع إلى البيت وأنا أحمل أكداساً من الكتب في مختلف المواضيع.
طفولتي ليس لها ميزة إلا الإطاعة لوالدي والمعاملة الحسنة لإخوتي ولرفاقي واجتهادي منذ الصغر والحمد لله على ذلك، لأن هذه البداية توجت بتتابع النجاح في جميع المراحل الدراسية التي مررت بها من الصف السادس حتى البكالوريا الأولى والثانية وحتى الدراسة في فرنسا، أما حياتي وتجاربي فهي محصورة في الدراسة والعمل العلمي.
ذهبت إلى فرنسا لأدرس لكن الحرب العالمية الثانية اشتعلت وكوني ذاهباً للدراسة لا لألهو أو أعمل في السوق السوداء فقد حصلت على شهادات عديدة في العلوم والفلسفة والآداب، وأثناء وجودي هناك كان لي هوايات عديدة أمارسها إذ تعلمت السباحة لأنها كانت عندي بمثابة العقدة حيث لم يكن أهلي يسمحون لي بالخروج كيفما أريد وكنت أخاف وقتها من نهر العاصي وأحب أن أكسر هذا الحاجز، فبقي هذا في خاطري طويلاً وعندما ذهبت إلى باريس بحثت عمن يعلمني بشكل مأجور رياضتي الأثيرة وهي السباحة فتعلمتها وبقيت معي إلى آخر عمري.
لي ذكريات كثيرة تتعلق بالحرب العالمية الثانية، كنت ساكناً في الحي اللاتيني حي الطلاب قرب السوربون، وشهدت زمن الحرب على الأرض الفرنسية، وكنت أتفرج أنا وزملائي كيف كان الإنكليز يضربون مواقع الألمان الذين احتلوا مواقعَ قريبة من سكننا الجامعي، عايشنا أثناء دراستنا سنوات الحرب لحظة بلحظة فهي سيئة للغالب والمغلوب أما ذكرياتها القاسية فتحتاج الكثير من الأحاديث للإحاطة بتلك السنوات الصعبة ومعاناتها.
عشنا حكايا وحكايا في تلك الفترة، وكم من طالب أصيب بالمرض نتيجة التغذية السيئة، ذقنا مرارة الفقر، كانت ثيابنا تهترئ ويصعب علينا شراء بديلها، حتى أنني في إحدى المرات وأنا جالس على مقعد في حديقة المدينة الجامعية، شعرت بالبرودة تسري في جسدي فأخذت أبحث عن السبب، وقد وصل الاهتراء إلى بنطالي، فما كان مني إلا الذهاب إلى عند الخياط لرثيه مكان الاهتراء، حيث لم يكن مستغرباً هذا الفعل بين أوساط الطلبة الذين عاشوا الفقر والحرمان وتحملوا من أجل العلم، حوصرنا ولم نستطع العودة إلى أوطاننا، ومن جهتي لم أتوقف وتابعت دراستي بعد العلوم في الآداب، ثم الفلسفة والتي أتذكر بداياتها عندما طلب البروفسور أن ننجز رسالة عن الفيلسوف كانط، وعندما قابل الطلاب بدأ بالتأنيب والتهكم وإطلاق الأحكام، وبينما هو يتحدث كنت أواسي نفسي بأنني جديد على هذه الدراسة وأول مرة أدخل هذا الميدان وهكذا أخاطب نفسي حتى أبعد عن خاطري مرارة الفشل، وبعد أن أنهى البروفسور حديثه قال: ما عدا رسالة كريم يافي فقد عرف كيف يعالج الموضوع فانتبه الطلاب إلي بنظرات إعجاب وتعجب، وتابعت بعدها النجاح وكنت الأول في علم الجمال.
في آخر حياتي الدراسية في جامعة السوربون في باريس وبعد نيلي الشهادات المتعددة تيسر لي وقت من الفراغ أنتظر فيه الباخرة الفرنسية التي كان تسمى «مراكش» عام 1945 لنقل الطلاب السوريين إلى وطنهم الذي انقطعوا عنه فترة الحرب العالمية الثانية والذي امتلأت قلوبهم شوقاً إليه ونزوعاً إلى لقاء أهله، بعد ذلك الانقطاع الغامض الذي لم تكن فيه بين الطلاب وأهلهم أي صلة، خرجت مرة في صباح يوم مشمس جميل أتمشى في حديقة اللوكسمبورغ، حديقة الحي اللاتيني، وفي أثناء تجوالي جلست على مقعد في تلك الحديقة، وكان ثمة فتاة في ريعان العمر وجمال الصبا جالسةً بالقرب مني وبعد تأمل طويل في الحياة وما جرته الحرب على الناس جميعاً من ويلات وآلام وفواجع شط بي الفضول فسألت تلك الفتاة فيما كانت تفكر؟ فأجابتني إنها لا تحب الحديث وإنها تفضل الاستمرار في أحلامها الخيالية. سألتها عن لون تلك الأحلام التي تعيش فيها، هل تتعلق بالزواج؟ وهل ترغب في الزواج من أبناء جنسها الفرنسيين؟ قالت: لا، قلت لها: ربما كان الزواج من بعض الشبان الألمان الصبوحين الذين كنا نراهم جنوداً من حين إلى حين يجتازون شوارع الحي اللاتيني؟ قالت: لا، قلت: ربما بعض الأمريكان الذين هرعوا بعد الحرب إلى السفر؟ قالت: لا، قلت: أسألك بربك أن تخبريني عن القوم الذين ترغبين الزواج منهم، قالت لي: أخبرك بأن لي صديقة في مثل عمري متزوجة من شاب أجنبي يقيم في باريس، وهي في غاية السعادة بالتفاهم والتعاون وإنه كان يعين زوجته (أي صديقتها) في كل شيء يتعلق بأمور البيت، فضلاً عن عمله موظفاً في إحدى دوائر الترجمة، فسألتها ما هي جنسية ذلك الفتى زوج صديقتك؟ قالت: إنه سوري، فاجأني الجواب واستعظمته لأن سورية لم تكن في مقدمة البلاد، وإن كان أبناؤها يضربون أحسن الأمثلة في السلوك وحب أسرهم وخدمة أبنائهم، ولم تكن تلك الفتاة تعلم أنني سوري، وقد أثر جوابها تأثيراً عميقاً في نفسي تلقاء أحلامها الفردوسية، ولما كنت أتهيأ للرجوع إلى البلاد، آثرت أن أتركها تنتظر الفارس السوري الجميل.
وعندما رجعت من فرنسا كانت الجامعة جديدة وبحاجة لأساتذة فتمكنت من التدريس في معظم الكليات الجامعية لأن ثقافتي كانت واسعة نتيجة دراساتي الكثيرة.
في حياتي كنت مرضيّ الوالدين، والإخوة، مرضيّ الأساتذة سواء في فرنسا أو سورية، وكان اسمي وحيداً في لوحة الشرف. ولما صرت أستاذاً عاملت الطلاب كما عاملني أساتذتي في العون والمحبة.
كرمت في سورية من قبل جامعة حمص وجامعة دمشق، ومن قبل وزارة الدفاع، وتوجت بالتكريم من قبل سيادة الرئيس بشار الأسد. وفي الختام أذكر قول الشاعر:
إن الوفاء الذي ألقاه في وطني
جزاء كل محب شاكر شادي
من مقالات عبد الكريم اليافي