شرفٌ أن نحسن الظنّ بالرواية إلى الحدّ الذي يجعلنا لا نتردّد في أن نحمّلها وزر مسئولية جسيمة كالتغيير. نحن الذين لم نعترف في أدبيّاتنا بصاحب الرواية إلاّ ناسكاً معتصماً بخلوته الأبديّة، مشاهداً من وراء حجاب لوقائع المهزلة البشرية، مغالباً بسمة السخرية التي اعتاد أن يترجم بها موقفه من الحياة الدنيا كباطل أباطيل. فهل نعوّل على مريد إستعارة كهذا، في شأن حرفي كالتغيير الذي كان حكراً على أهل العبارة دوماً؟.
يستطيع مريد الإستعارة أن يستجيب لنداء إمام الحكمة القائل: “تكلّم لكي أراك”، فيشمّر على ساعديه في نيّةٍ لدخول المعترك، لأن القَول حرفته، برغم أنه لم يؤمن بجدواه يوماً، ولكن نداءً آخر يعلو محذّراً: “إن لم تروِ فسوف أقتلك!”، فيستوقفه.
في النداء الأول يقرأ دعوةً للكشف، بل دعوة لما هو أعظم وهو تعرية الروح، لأن رجلاً يعرّي روحاً، في يقينه، هو أرذل من إمرأة تعرّي جسداً.
فكيف يتكلّم إذا كان القول بديلاً للفعل، وربّما لهذا السبب صار اللسانُ عضلة آثمة في عرف الأمم؟ بأيّ حقّ يلبّي النداء في وصيّة الحكيم وهو العليم بأن الحكيم نفسه لم يلقَ مصرعه إلاّ لأنه استهان بدعوة ملاكه الحارس في وصيّتة القائلة بوجوب الإحتكام إلى حرم ربّات الفنون في القول، الذي لن يعني سوى الإستجارة بسلطان الإستعارة، فخان العهد باختياره سبيل العبارة، ليلقى مصرعه بسبب هذه العبارة؟ ذلك لأننا عندما ننتصر لآلهات “الميثوس”، على حساب “الأيدوس”، إنّما نُعلي شأن الفطرة التي كانت منذ الأزل ضماناً للفوز بالعنقاء التي نسمّيها سعادةً، لأننا لو خُيِّرنا بأن نحيا في واقعٍ يهيمن عليه حرف الأيديولوجيا المميت، لما اعترفنا بوجود جمالٍ في عالمنا، ولما أردنا بالتالي أن نعيش! ذلك أنّ الأيديولوجيا، كربيبيتها السياسة، إذا ارتادَتْ حَرَم الرواية إنقلبتْ رصاصة رحمةٍ تكتم أنفاس الروح الإلهيّة في المعزوفة الموسيقية، بتعبير ستاندال! فكيف لمُرِيد التَّوْرِية أن يقبل بالعبارة قَدَرَاً وهو الذي أتّخذ تميمة من وصيّة شيخ الطريقة القائلة: “عِلْمُنا هذا إشارة، فإن تحوّل عبارةً إغترب”؟ هل يحرّك العضلة المشئومة، المشرّبة بصنوف السمّ، كما يحرّك السفهاء النار بالسكّين، فيذهب إلى شهريار في عقر داره ليعيّره بمصّ الدماء، مخالفاً بذلك وصية حكيمٍ آخر تقول: “لا تسبّ وليّ الأمر حتى في سرّك، لئلّا يسمعك الطير فيخبره!”؟ (سفر الجامعة).
لا ملاذ للروائي، في واقعٍ موبوء بأنفاس الأيديولوجيا كواقعنا، إلاّ أن يتقمّص روح شهرزاد، ويمثل معها في بلاط آلهات الفنون اللائي لا يعترفن بغير الميثولوجيا ديناً، لإيمانهنّ بأن الآلهة لم تفوّض سوى الأسطورة لتكون، من دون كل الفنون، الناطق باسم الحقيقة! حقيقة تكون سفيراً فوق العادة لدى محفل الأولمب!
ليست بالطبع حقيقة اليقين المسبق، المغلولة بروح الـVanitas Vanitatum ، المعتمد في عُرف الأيديولوجيا، ولكنها حقيقة الطّيف الذي يحلّق خارج سلطان اللغة، مستجيراً بالتّجلّي، متّخذاً من الحَدَس ترجماناً، لأن معقلهُ ليس الواقع، ولكنه: الضمير.
فلنستحضر هذا الطيف باستخدام تميمة التجلّي، لنقف على ماهيّته كنموذج للمعادلة في بطاقة تعريف:
أولاً: شهريار…
الهوية: جلّاد. المهنة: العنف.
الخطاب: العبارة.
الدليل: الحسّ.
الدّليل: الحَدَس.
النتيجة: هيمنة الحرف الذي يُميت.
> ثانياً: شهرزاد…
الهويّة: الضحيّة.
المهنة: السّرد.
الخطاب: الإستعارة.
الدّليل: الحَدَس.
النتيجة: الأسطورة التي تُحيي.
الإستنتاج: غياب العنف، في واقعٍ يتغيّر سلميّاً.
لماذا؟
لأن استخدام منطق الرّعاع حُجّةٌ وليس استفزازاً أوسفسافاً وحسب، ولكنه خطيئةٌ في حضرة مَن نصّبتهم الأقدار أخلافاً. فنحن لا نتحدّى الحاكم عندما ننازع الحاكم، ولكننا نجدّف في حقّ القوّة الغيبيّة التي سخّرت الحاكم، لأن فيه نصيبٌ من حكمتها مهما تبدّى نظرنا أخرقاً أو مخبولاً. وهو ما شاء فيثاغورس أن يذكّرنا به عندما حذّر من تحريك النار بحدّ السكّين. وهي الوصيّة التي اعتمدتها شهرزاد بدهاء في صراعها مع الغول الذي يسكن شهريار. فالسعادة إذا كانت رهينة إتقان إستعمال اللسان، فإن إساءة إستخدام هذه العضلة، كفيلٌ بترحيل سعادتنا إلى أجلٍ غير مسمّى.
فهل هذه دعوة للتساهل في شأن شهريارات الأجيال؟
كلّا بالطبع. كل ما هنالك أن السلطة أيضاً موقف وجودي. وأن يكون موقف مريد السلطة وجوديّاً يعني أنه سرديّ. سرديّ على نحوٍ عارٍ، وليس استعارياً كالمَرويّ. وهذا العريّ هو ما يجعله يبدو كاريكاتوريّاً على نحوٍ دراميّ. وإلاّ ماذا يمكن أن نسمّي مخلوقاً فانياً يستميت كي يقنعنا بأنه يستطيع أن يستعير صلاحيات الغيوب، ليتحوّل بموجبها ربّاً يسعى بيننا على قدمين؟.
إنه إنسانٌ ظاميء لأن يروي وجوده، فإن أعجزه أن يروي، فاض بالرواية إلى خارج، باختلاق دورٍ يتوهّم أنه يستطيع أن يكون فيه ترجماناً يروي به نفسه بالإنابة، دون أن يتخيّل أنه يقترف خطيئة، لأن الإنابة، في الموقف من الوجود، هو التزوير الذي لا يعترف به الوجود.
فشهريار أيضاً باحثٌ: كل ما هنالك أنه ضلّ السبيل إلى الوجود، ولم يجد سوى التمثيل ليعبّر به عن هويّته الضائعة، وعندما يغترب عن نفسه، بتماهيه مع دور الدمية التي اختارها لنفسه ترجماناً، يصدّق أكذوبته التي نصّب بها نفسه، أو نصّبته بالأصحّ، على الأرض معبوداً، بكامل الصلاحيّات كما يليق بأيّ ربّ، فتبدأ رحلة العبث الدامي بتجربة مترجمة في حرف سؤالٍ فتح به راسكولنيكوف على نفسه بوابة الجحيم: “لماذا يحقّ لنابليون بونابرت أن يقتل الملايين، ولا يحقّ لي أن أقتل مرابية عجوز؟“.
يجب أن نلاحظ هنا أن صاحب الجريمة والعقاب يتعمّد إستخدام كلمة Prestuplenie للتدليل على كلمة جريمة، وهي بالروسية، إشتقاقٌ من فعل prestupit الذي يعني تخطّي، أو تجاوز حدود أو تعدّي أو تطاول بالمفهوم الديني للكلمة، لأن من التخطّي إستعرنا في العربية كلمة خطيئة أو خطيّة باعتبار التخطّي تجديفاً لا بمفهوم القانون الدنيوي، ولكن بمفهوم الناموس الديني، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة “تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون“.
فمَن يكون مُريد التغيير في الواقع سوى أول داعية لتعدّي الحدود؟ وهو ما يعني أن تغيير ما بالعالم بوسيطٍ كالعنف هو بمثابة إنتحال لصلاحيات المعبود على رغم وجود الضرورة إلى التغيير التي يحتّمها هيمنة بعبع الجور مما ينفي مسحة القداسة عن واقعنا فلا ينجو من حلمنا في تعديله رغم اٌستهانتنا برأس الوصايا العشر: لا تقتل! ليكون القربان الذي ندفعه في التغيير هو فرارٌ أردنا له أن يكون تاج المجازفة تنصيب العدالة.
وهو ما يعني أن التجديف هنا في حقّ الربّ مبرّرٌ بحرف العدالة التي يسوّقها المُريد كحجّة في تسويغ القتل، لأن التجربة البشرية برهنت منذ القدم أن كل الجرائم التي أُرتُكبت ، وتُرتكب في حقّ الإنسانية، إنما ارتُكبت باسم العدالة! أو برأي ألبيركامو: “كلّنا نبدأ بطلب العدالة، ولكننا ننتهي بتنظيم جهاز للشرطة“!.
وفي العادة فإن التكفير عن الجريمة الأولى يتمّ باقتراف جريمة أخرى، لأن الظمأ إلى الوجود لا يرتوي بسيول الدم، ولكنه يتضاعف بجرعات الدم، فيشتدّ السُّعار في روح الجلّاد، فيطلب الترياق بسفح المزيد. وبطولة شهرزاد في محاولة إيقاف النزيف هي استعادة حجر الحكمة الضائع في المعادلة، وذلك بالعودة إلى النبع الذي سخّرته لنا الطبيعة بالمجّان، كي نُبقي على هويّتنا كظِلال فانية، قدرها أن تُثقل الأرض وهي تسعى لإثبات وجودها، ما دمنا، كما يقول شكسبير، منسوجون من ذات الثوب الذي نُسجت منه أحلامنا؛ لأننا لسنا شيئاً آخر سوى ما نهوى. ولكن المفارقة المُميتة أن مقتلنا إنّما يكمن في ما نهوى، وليس في ما نخشى! ولهذا السبب لعبت شهرزاد دور الدليل لشهريار في رحلة البعث، فلم تجد لدائه سوى الرواية ترياقاً. إختارت أن تُلهيه. تُلهيه كي يكفّ عن الإرتواء من الدماء التي لا تروي. واللهو كما نعلم دميتنا جميعاً، لأن الحكمة تقول أن على الإنسان أن يحيا لاهِيَاً كي يستطيب رحلة مملّة كالبقاء قيد وجودٍ هو شَرَكٌ بكلّ المقاييس، وأفضل ما نفعله به هو أن نتحرّر منه بأسرع وقت ممكن، سيّما في ظلّ غياب المعنى! هذا المعنى هو ما اجتهدت شهرزاد في حملتها كي تعيد له الإعتبار، وتحقن به روح شهريار الخاوية من الفحوى، فقررت أن تلقّنه الدرس برواية السيرة، لأن “الحياة، في منطق شكسبير، مجرّد سيرة، مرويّة بلسان مخبول، ملآنةٌ بالصّخب والعنف، وهي لا تعني شيئاً”. فاللهو حجّة، واستعادة المعنى الضائع في الحياة غاية، تماماً كما كان الجمال في رحلة السرد حيلة لتسويق الفحوى، أمّا الحقيقة في الملحمة فهو الذخيرة.
وعلّ عبقرية مؤلّف “ألف ليلة وليلة” في هذه التقنية المذهلة التي تُنصَّب المؤلف بطلاً في حكاية السرد لأول مرة في تاريخ المرويّة، لتغدو الملحمة، بهذا الإحتيال الجريء، مركّبة على طريقة دمية “ماتروشكا” الروسيّة، لتتحوّل رواية داخل رواية كما في ”هاملت”.
إنه التحدّي المبكّر جداً في مسيرة ثريّة وشاقّة للبحث الموجع عن البُعْد الضائع في الوجود الذي خاطرنا فخلعنا عليه لقباً غيبيّاً مهيباً، بخل به علينا شكسبير، وهو: المعنى! ولم تخذلنا شهرزاد في هذه الرحلة الأوليسية، لأن الفكر عندما يُختم عليه في الكهوف، كما يقول روبرت براوننغ، فلابدّ أن يهرع الحبّ لنجدتنا من قيعان الجحيم.
بلى! الحبّ هو المعنى. الحبّ هو حجر الحكمة الضائع الذي طهّر شهريار من ضلاله، ليشهد ميلاده الثاني. ليشهد أخيراً الميلاد الذي لا يُكتب لنا أن ندخل ملكوت الربّ ما لم نحققه، لأن الميلاد بالجسد هو فضيلة الطبيعة الذي لا فضل لنا فيه، أما الميلاد بالروح فهو البطولة التي أنجزناها بنزيفنا، ولهذا حقّ لنا أن نتباهى بها!
بالحضور في برزخ الأعراف يحقّق شهريار غفران الأخيار أمثال سلفه الشقيّ أوديب الذي لم يكن ليكون المنقذ الذي أبطل مفعول أحجية التنّين الجاثم على صدر طيبة لولا التوبة. وشهريار أيضاً يتحرّر: يتحرّر ليحرّر. يحرّر السبيّة التي كانت بين يديه بالأمس رهينة، لينعم أخيراً بالنوم في سلام ليموت مطمئنّاً على سرير، فينقشع من حياته كابوسٌ كان له دوماً هاجساً وهو انتظار الهلاك طعناً بالسكاكين! ولكن قدر شهرزاد كضحيّة لم يحُل دون أن تكون في حياة الجلّاد ترياقاً جلب له الشفاء بعون بيانٍ كفيل، بعد الآن، أن ينتصب في الصفقة برهاناً على خلاص فيما لو أحسنّا استغلال استعارةٍ افترضناها منذ البدء قياساً لخطاب.
وهي يقيناً ليست الإستعارة بمفهوم نظريات المدارس الأدبية، ولكنها الإستعارة بِبُعد العلامة: العلامة بمفهوم الدلالة المزدوجة المستودعة في بصمة الربّ على جبين قابيل لتكون له شفيعاً في شأن خطيئته من جهة، ودليلاً على غفرانٍ من جهة أخرى. أي أنه مفهوم حكماء القبّالة في شأن العلامة. أي أن الرهان ليس على الحرف الميّت للعُشر الذي يتبدّى من هرم الجبل الجليدي، ولكن على التسعة أعشار المغمورة تحت الغمر، لأن في هذا النصب العصيّ المغترب عنّا يسكن البُعد المفقود الذي كان لنا دوماً هاجساً، مادمنا ننتمي إلى معشر الفئة التي لا تعنيها الأشياء التي تُرَى، في مقابل الأشياء التي لا تُرى، لأن قيمة الأشياء التي تُرى، في وصية القدّيس الخالدة، وقتية، أما قيمة الأشياء التي لا تُرى فأبديّة. أي أنّ حرف السرّ لا يستظهر إلاّ لينفي. لا يكتفي بأن ينفي، ولكنه يعتنق دين الحَدَس الذي يُحيي فينا أقوى ما فينا، وإلاّ لما اختارته الحقيقة قناعاً تحجب به فتنتها كذخيرة تسكن ذاكرة غيبيّة عنوانها: الضمير!
بالمقابل: أيُّ بطولة نرجوها من جناب العبارة؟
العبارةُ خطابٌ يسوّق خصومةً، لأنه مسمارٌ في نعش العلاقة. العبارة حجّتها المعلومة، ولا تخون وظيفة وجودنا إلاّ لهذا السبب.
فلنتأمّل بحراً فسيحاً يفرّ عبر متاهةٍ ملفّقةٍ من غمر حتى يعتنق الأفق، ولكنه لا يستجيب لنداء التَّوق فينا ما لم يتجلّ في الأفق شراعٌ.
البحر في صفقة الوجود عبارة، ولكن وجود الشراع في بحر الوجود إستعارة. وجود الشراع في بحر الوجود برهانٌ على حضور الحرية، وفي حضور الحرية هيمنة الغاية.
وهو ما يعني أخيراً أن رسالة الرواية تنويرية بطبيعتها، ولكنها تُنكر فتنتها عندما تنقلب تحريضيّة. لأن التنوير هنا بمثابة سفير أقبل ليدشّن في واقعنا هيكل وعيٍ هو، ببعث الوجدان، ضمانُ خلاصٍ، مستعيراً عَون ضميرٍ، يُسخّر الحدَس وسيطاً لتحييد مخاطر النزوع إلى فوضى تستهوي عادةً هواة كل تغيير: تغييرٌ لا يبرّر سطوته ما لم يتخلّلنا، ليغيّر ما بنا، ما دمنا نحن، لا العالم، معيار الوجود، وإلاّ لما آمنّا مع مَن آمن بأن الإنسان في هذه الدنيا، وحده الغاية، في عالمٍ كلّ شيءٍ فيه وسيلة.
يستطيع مريد الإستعارة أن يستجيب لنداء إمام الحكمة القائل: “تكلّم لكي أراك”، فيشمّر على ساعديه في نيّةٍ لدخول المعترك، لأن القَول حرفته، برغم أنه لم يؤمن بجدواه يوماً، ولكن نداءً آخر يعلو محذّراً: “إن لم تروِ فسوف أقتلك!”، فيستوقفه.
في النداء الأول يقرأ دعوةً للكشف، بل دعوة لما هو أعظم وهو تعرية الروح، لأن رجلاً يعرّي روحاً، في يقينه، هو أرذل من إمرأة تعرّي جسداً.
فكيف يتكلّم إذا كان القول بديلاً للفعل، وربّما لهذا السبب صار اللسانُ عضلة آثمة في عرف الأمم؟ بأيّ حقّ يلبّي النداء في وصيّة الحكيم وهو العليم بأن الحكيم نفسه لم يلقَ مصرعه إلاّ لأنه استهان بدعوة ملاكه الحارس في وصيّتة القائلة بوجوب الإحتكام إلى حرم ربّات الفنون في القول، الذي لن يعني سوى الإستجارة بسلطان الإستعارة، فخان العهد باختياره سبيل العبارة، ليلقى مصرعه بسبب هذه العبارة؟ ذلك لأننا عندما ننتصر لآلهات “الميثوس”، على حساب “الأيدوس”، إنّما نُعلي شأن الفطرة التي كانت منذ الأزل ضماناً للفوز بالعنقاء التي نسمّيها سعادةً، لأننا لو خُيِّرنا بأن نحيا في واقعٍ يهيمن عليه حرف الأيديولوجيا المميت، لما اعترفنا بوجود جمالٍ في عالمنا، ولما أردنا بالتالي أن نعيش! ذلك أنّ الأيديولوجيا، كربيبيتها السياسة، إذا ارتادَتْ حَرَم الرواية إنقلبتْ رصاصة رحمةٍ تكتم أنفاس الروح الإلهيّة في المعزوفة الموسيقية، بتعبير ستاندال! فكيف لمُرِيد التَّوْرِية أن يقبل بالعبارة قَدَرَاً وهو الذي أتّخذ تميمة من وصيّة شيخ الطريقة القائلة: “عِلْمُنا هذا إشارة، فإن تحوّل عبارةً إغترب”؟ هل يحرّك العضلة المشئومة، المشرّبة بصنوف السمّ، كما يحرّك السفهاء النار بالسكّين، فيذهب إلى شهريار في عقر داره ليعيّره بمصّ الدماء، مخالفاً بذلك وصية حكيمٍ آخر تقول: “لا تسبّ وليّ الأمر حتى في سرّك، لئلّا يسمعك الطير فيخبره!”؟ (سفر الجامعة).
لا ملاذ للروائي، في واقعٍ موبوء بأنفاس الأيديولوجيا كواقعنا، إلاّ أن يتقمّص روح شهرزاد، ويمثل معها في بلاط آلهات الفنون اللائي لا يعترفن بغير الميثولوجيا ديناً، لإيمانهنّ بأن الآلهة لم تفوّض سوى الأسطورة لتكون، من دون كل الفنون، الناطق باسم الحقيقة! حقيقة تكون سفيراً فوق العادة لدى محفل الأولمب!
ليست بالطبع حقيقة اليقين المسبق، المغلولة بروح الـVanitas Vanitatum ، المعتمد في عُرف الأيديولوجيا، ولكنها حقيقة الطّيف الذي يحلّق خارج سلطان اللغة، مستجيراً بالتّجلّي، متّخذاً من الحَدَس ترجماناً، لأن معقلهُ ليس الواقع، ولكنه: الضمير.
فلنستحضر هذا الطيف باستخدام تميمة التجلّي، لنقف على ماهيّته كنموذج للمعادلة في بطاقة تعريف:
أولاً: شهريار…
الهوية: جلّاد. المهنة: العنف.
الخطاب: العبارة.
الدليل: الحسّ.
الدّليل: الحَدَس.
النتيجة: هيمنة الحرف الذي يُميت.
> ثانياً: شهرزاد…
الهويّة: الضحيّة.
المهنة: السّرد.
الخطاب: الإستعارة.
الدّليل: الحَدَس.
النتيجة: الأسطورة التي تُحيي.
الإستنتاج: غياب العنف، في واقعٍ يتغيّر سلميّاً.
لماذا؟
لأن استخدام منطق الرّعاع حُجّةٌ وليس استفزازاً أوسفسافاً وحسب، ولكنه خطيئةٌ في حضرة مَن نصّبتهم الأقدار أخلافاً. فنحن لا نتحدّى الحاكم عندما ننازع الحاكم، ولكننا نجدّف في حقّ القوّة الغيبيّة التي سخّرت الحاكم، لأن فيه نصيبٌ من حكمتها مهما تبدّى نظرنا أخرقاً أو مخبولاً. وهو ما شاء فيثاغورس أن يذكّرنا به عندما حذّر من تحريك النار بحدّ السكّين. وهي الوصيّة التي اعتمدتها شهرزاد بدهاء في صراعها مع الغول الذي يسكن شهريار. فالسعادة إذا كانت رهينة إتقان إستعمال اللسان، فإن إساءة إستخدام هذه العضلة، كفيلٌ بترحيل سعادتنا إلى أجلٍ غير مسمّى.
فهل هذه دعوة للتساهل في شأن شهريارات الأجيال؟
كلّا بالطبع. كل ما هنالك أن السلطة أيضاً موقف وجودي. وأن يكون موقف مريد السلطة وجوديّاً يعني أنه سرديّ. سرديّ على نحوٍ عارٍ، وليس استعارياً كالمَرويّ. وهذا العريّ هو ما يجعله يبدو كاريكاتوريّاً على نحوٍ دراميّ. وإلاّ ماذا يمكن أن نسمّي مخلوقاً فانياً يستميت كي يقنعنا بأنه يستطيع أن يستعير صلاحيات الغيوب، ليتحوّل بموجبها ربّاً يسعى بيننا على قدمين؟.
إنه إنسانٌ ظاميء لأن يروي وجوده، فإن أعجزه أن يروي، فاض بالرواية إلى خارج، باختلاق دورٍ يتوهّم أنه يستطيع أن يكون فيه ترجماناً يروي به نفسه بالإنابة، دون أن يتخيّل أنه يقترف خطيئة، لأن الإنابة، في الموقف من الوجود، هو التزوير الذي لا يعترف به الوجود.
فشهريار أيضاً باحثٌ: كل ما هنالك أنه ضلّ السبيل إلى الوجود، ولم يجد سوى التمثيل ليعبّر به عن هويّته الضائعة، وعندما يغترب عن نفسه، بتماهيه مع دور الدمية التي اختارها لنفسه ترجماناً، يصدّق أكذوبته التي نصّب بها نفسه، أو نصّبته بالأصحّ، على الأرض معبوداً، بكامل الصلاحيّات كما يليق بأيّ ربّ، فتبدأ رحلة العبث الدامي بتجربة مترجمة في حرف سؤالٍ فتح به راسكولنيكوف على نفسه بوابة الجحيم: “لماذا يحقّ لنابليون بونابرت أن يقتل الملايين، ولا يحقّ لي أن أقتل مرابية عجوز؟“.
يجب أن نلاحظ هنا أن صاحب الجريمة والعقاب يتعمّد إستخدام كلمة Prestuplenie للتدليل على كلمة جريمة، وهي بالروسية، إشتقاقٌ من فعل prestupit الذي يعني تخطّي، أو تجاوز حدود أو تعدّي أو تطاول بالمفهوم الديني للكلمة، لأن من التخطّي إستعرنا في العربية كلمة خطيئة أو خطيّة باعتبار التخطّي تجديفاً لا بمفهوم القانون الدنيوي، ولكن بمفهوم الناموس الديني، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة “تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون“.
فمَن يكون مُريد التغيير في الواقع سوى أول داعية لتعدّي الحدود؟ وهو ما يعني أن تغيير ما بالعالم بوسيطٍ كالعنف هو بمثابة إنتحال لصلاحيات المعبود على رغم وجود الضرورة إلى التغيير التي يحتّمها هيمنة بعبع الجور مما ينفي مسحة القداسة عن واقعنا فلا ينجو من حلمنا في تعديله رغم اٌستهانتنا برأس الوصايا العشر: لا تقتل! ليكون القربان الذي ندفعه في التغيير هو فرارٌ أردنا له أن يكون تاج المجازفة تنصيب العدالة.
وهو ما يعني أن التجديف هنا في حقّ الربّ مبرّرٌ بحرف العدالة التي يسوّقها المُريد كحجّة في تسويغ القتل، لأن التجربة البشرية برهنت منذ القدم أن كل الجرائم التي أُرتُكبت ، وتُرتكب في حقّ الإنسانية، إنما ارتُكبت باسم العدالة! أو برأي ألبيركامو: “كلّنا نبدأ بطلب العدالة، ولكننا ننتهي بتنظيم جهاز للشرطة“!.
وفي العادة فإن التكفير عن الجريمة الأولى يتمّ باقتراف جريمة أخرى، لأن الظمأ إلى الوجود لا يرتوي بسيول الدم، ولكنه يتضاعف بجرعات الدم، فيشتدّ السُّعار في روح الجلّاد، فيطلب الترياق بسفح المزيد. وبطولة شهرزاد في محاولة إيقاف النزيف هي استعادة حجر الحكمة الضائع في المعادلة، وذلك بالعودة إلى النبع الذي سخّرته لنا الطبيعة بالمجّان، كي نُبقي على هويّتنا كظِلال فانية، قدرها أن تُثقل الأرض وهي تسعى لإثبات وجودها، ما دمنا، كما يقول شكسبير، منسوجون من ذات الثوب الذي نُسجت منه أحلامنا؛ لأننا لسنا شيئاً آخر سوى ما نهوى. ولكن المفارقة المُميتة أن مقتلنا إنّما يكمن في ما نهوى، وليس في ما نخشى! ولهذا السبب لعبت شهرزاد دور الدليل لشهريار في رحلة البعث، فلم تجد لدائه سوى الرواية ترياقاً. إختارت أن تُلهيه. تُلهيه كي يكفّ عن الإرتواء من الدماء التي لا تروي. واللهو كما نعلم دميتنا جميعاً، لأن الحكمة تقول أن على الإنسان أن يحيا لاهِيَاً كي يستطيب رحلة مملّة كالبقاء قيد وجودٍ هو شَرَكٌ بكلّ المقاييس، وأفضل ما نفعله به هو أن نتحرّر منه بأسرع وقت ممكن، سيّما في ظلّ غياب المعنى! هذا المعنى هو ما اجتهدت شهرزاد في حملتها كي تعيد له الإعتبار، وتحقن به روح شهريار الخاوية من الفحوى، فقررت أن تلقّنه الدرس برواية السيرة، لأن “الحياة، في منطق شكسبير، مجرّد سيرة، مرويّة بلسان مخبول، ملآنةٌ بالصّخب والعنف، وهي لا تعني شيئاً”. فاللهو حجّة، واستعادة المعنى الضائع في الحياة غاية، تماماً كما كان الجمال في رحلة السرد حيلة لتسويق الفحوى، أمّا الحقيقة في الملحمة فهو الذخيرة.
وعلّ عبقرية مؤلّف “ألف ليلة وليلة” في هذه التقنية المذهلة التي تُنصَّب المؤلف بطلاً في حكاية السرد لأول مرة في تاريخ المرويّة، لتغدو الملحمة، بهذا الإحتيال الجريء، مركّبة على طريقة دمية “ماتروشكا” الروسيّة، لتتحوّل رواية داخل رواية كما في ”هاملت”.
إنه التحدّي المبكّر جداً في مسيرة ثريّة وشاقّة للبحث الموجع عن البُعْد الضائع في الوجود الذي خاطرنا فخلعنا عليه لقباً غيبيّاً مهيباً، بخل به علينا شكسبير، وهو: المعنى! ولم تخذلنا شهرزاد في هذه الرحلة الأوليسية، لأن الفكر عندما يُختم عليه في الكهوف، كما يقول روبرت براوننغ، فلابدّ أن يهرع الحبّ لنجدتنا من قيعان الجحيم.
بلى! الحبّ هو المعنى. الحبّ هو حجر الحكمة الضائع الذي طهّر شهريار من ضلاله، ليشهد ميلاده الثاني. ليشهد أخيراً الميلاد الذي لا يُكتب لنا أن ندخل ملكوت الربّ ما لم نحققه، لأن الميلاد بالجسد هو فضيلة الطبيعة الذي لا فضل لنا فيه، أما الميلاد بالروح فهو البطولة التي أنجزناها بنزيفنا، ولهذا حقّ لنا أن نتباهى بها!
بالحضور في برزخ الأعراف يحقّق شهريار غفران الأخيار أمثال سلفه الشقيّ أوديب الذي لم يكن ليكون المنقذ الذي أبطل مفعول أحجية التنّين الجاثم على صدر طيبة لولا التوبة. وشهريار أيضاً يتحرّر: يتحرّر ليحرّر. يحرّر السبيّة التي كانت بين يديه بالأمس رهينة، لينعم أخيراً بالنوم في سلام ليموت مطمئنّاً على سرير، فينقشع من حياته كابوسٌ كان له دوماً هاجساً وهو انتظار الهلاك طعناً بالسكاكين! ولكن قدر شهرزاد كضحيّة لم يحُل دون أن تكون في حياة الجلّاد ترياقاً جلب له الشفاء بعون بيانٍ كفيل، بعد الآن، أن ينتصب في الصفقة برهاناً على خلاص فيما لو أحسنّا استغلال استعارةٍ افترضناها منذ البدء قياساً لخطاب.
وهي يقيناً ليست الإستعارة بمفهوم نظريات المدارس الأدبية، ولكنها الإستعارة بِبُعد العلامة: العلامة بمفهوم الدلالة المزدوجة المستودعة في بصمة الربّ على جبين قابيل لتكون له شفيعاً في شأن خطيئته من جهة، ودليلاً على غفرانٍ من جهة أخرى. أي أنه مفهوم حكماء القبّالة في شأن العلامة. أي أن الرهان ليس على الحرف الميّت للعُشر الذي يتبدّى من هرم الجبل الجليدي، ولكن على التسعة أعشار المغمورة تحت الغمر، لأن في هذا النصب العصيّ المغترب عنّا يسكن البُعد المفقود الذي كان لنا دوماً هاجساً، مادمنا ننتمي إلى معشر الفئة التي لا تعنيها الأشياء التي تُرَى، في مقابل الأشياء التي لا تُرى، لأن قيمة الأشياء التي تُرى، في وصية القدّيس الخالدة، وقتية، أما قيمة الأشياء التي لا تُرى فأبديّة. أي أنّ حرف السرّ لا يستظهر إلاّ لينفي. لا يكتفي بأن ينفي، ولكنه يعتنق دين الحَدَس الذي يُحيي فينا أقوى ما فينا، وإلاّ لما اختارته الحقيقة قناعاً تحجب به فتنتها كذخيرة تسكن ذاكرة غيبيّة عنوانها: الضمير!
بالمقابل: أيُّ بطولة نرجوها من جناب العبارة؟
العبارةُ خطابٌ يسوّق خصومةً، لأنه مسمارٌ في نعش العلاقة. العبارة حجّتها المعلومة، ولا تخون وظيفة وجودنا إلاّ لهذا السبب.
فلنتأمّل بحراً فسيحاً يفرّ عبر متاهةٍ ملفّقةٍ من غمر حتى يعتنق الأفق، ولكنه لا يستجيب لنداء التَّوق فينا ما لم يتجلّ في الأفق شراعٌ.
البحر في صفقة الوجود عبارة، ولكن وجود الشراع في بحر الوجود إستعارة. وجود الشراع في بحر الوجود برهانٌ على حضور الحرية، وفي حضور الحرية هيمنة الغاية.
وهو ما يعني أخيراً أن رسالة الرواية تنويرية بطبيعتها، ولكنها تُنكر فتنتها عندما تنقلب تحريضيّة. لأن التنوير هنا بمثابة سفير أقبل ليدشّن في واقعنا هيكل وعيٍ هو، ببعث الوجدان، ضمانُ خلاصٍ، مستعيراً عَون ضميرٍ، يُسخّر الحدَس وسيطاً لتحييد مخاطر النزوع إلى فوضى تستهوي عادةً هواة كل تغيير: تغييرٌ لا يبرّر سطوته ما لم يتخلّلنا، ليغيّر ما بنا، ما دمنا نحن، لا العالم، معيار الوجود، وإلاّ لما آمنّا مع مَن آمن بأن الإنسان في هذه الدنيا، وحده الغاية، في عالمٍ كلّ شيءٍ فيه وسيلة.