من تراجع الأخلاق إلى انعدامها عند فئة المثقفين والمبدعين مسافة مراحل زمنية وتاريخية مليئة بالأمثلة، تبدأ من زمن قد يصعب تحديده تاريخيا، وتستمر في طريقها وصولا إلى كبار الكتاب والمفكرين والفنانين في العالم.
ما يجعلنا نتساءل اليوم عن أخلاق المبدعين التي تراجعت حتى ساءت، وهو ما ينشر عبر الإنترنت ووسائل الإعلام المختلفة من فضائح أخلاقية ودسائس بين هذا الاسم وذاك، وصعود نجم البعض على حساب الآخرين حكايات مخجلة لا تنتهي.
عن هذا الموضوع كان الاستطلاع التالي مع عدد من الكتاب والأدباء والفنانين العرب….
> تصفية حسابات
بداية يقول الكاتب الليبي فتحي نصيب، بالنسبة لسوء أخلاق المبدعين، فهذه الظاهرة ليست حديثة، بل قد نجد أمثلة لها في الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، إنما كانت في السابق تتخذ شكلا أدبيا، كما في شكل الهجاء، والمثال الأبرز تلاسن جرير والفرزدق، أو اتهام أحدهم لآخر بالسرقة الأدبية والطعن في كتاباته، كما بين الشريف الرضي والمتنبي مثلا، أو التمترس في اتجاه أدبي معين، كما حدث بين جماعة أبوللو لزكي أبو شادي مقابل مدرسة الديوان بزعامة العقاد. وشهدنا أيضا المعارضات الأدبية، التي صيغت بأسلوب أقرب إلى المزاح والفكاهة بين عدد من الكتاب. أما الظاهرة الحديثة فتخلت عن الوجه الأدبي، وصار التنافس والمعارك بين المبدعين أقرب إلى المهاترات واستخدام أسلحة الطعن الشخصي، لاسيما الجانب الأخلاقي، الذي يظن من يستخدمه أنه يجذب إليه الغالبية من الجمهور القارئ، أو المستمع، أي التركيز على الجوانب الذاتية وليس الموضوعية في الاحتراب. إنه تحول كبير وخطير من مفهوم الخلاف إلى الاختلاف، حيث تحول البعض إلى ديوك ينتف بعضها ريش البعض الاّخر، لأسباب شللية أحيانا، أو عجز عن تقديم إبداع حقيقي أو ممالأة للسلطة، ضد من يقف ضدها. ومن أسباب انتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، دخول عدد كبير الساحة الأدبية لا علاقة له بالثقافة أو الإبداع، لأنه في ظني أن الثقافة سلوك وأسلوب حياة وطريقة تفكير، قبل أن تكون شهادات أو ألقابا، لذا فهذا الوافد الجديد يظن واهما أنه يخلق شهرة ويحقق مجدا، من خلال افتعال المعارك الدونكيشوتية، التي تسود فترة قصيرة ثم يطويها الزمان، وربما أيضا بسبب انتشار الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مفتوحة لكل من لا يعترف بسلطة المعرفة، أو سلطة الضمير، وصارت مواقع لتصفية الحسابات الشخصية، وقد يكون هناك دافع آخر يتمثل في الأنظمة السياسية، التي تشجع على ذلك، بل توفر الفرصة من خلال القنوات الإذاعية والصحف، إما لضرب وتشويه السلطة الرمزية التي يملكها المثقف والأديب، بهدف خلق فجوة بين المبدع والقارئ، كي لا تكون للنخب المثقفة الوطنية أي دور في مناوئة السلطة السياسية، وكشف عيوبها وأوجه قصورها، وأيضا لخلق معارك جانبية لإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية المتمثلة في الحرية والديمقراطية والعيش بكرامة، كمواطنين لهم حقوق قبل الواجبات في دولتهم وليس كقطيع من الغنم يساق حيثما أراد الراعي.
> تغيّر المناخ الثقافي
وتقول الكاتبة المصرية سهير المصادفة، إن تغير المناخ الأدبي والثقافي في ربع القرن الأخير، وتحديدًا مع نهاية التسعينيات وبداية ما نسميه بجيل الألفية. فمن أجل السعي نحو تأسيس صناعة حقيقية للكتاب العربي، تم استيراد بعض ظواهر هذه الصناعة من الغرب، فتكاثرت في سنوات معدودة الجوائز الأدبية العربية، وظاهرة الأكثر مبيعًا، وكذلك المؤتمرات المحلية والدولية، وفي الوقت نفسه انهارت تمامًا جسور الكاتب مع جماهير القراء، وأصبح أعضاء لجان القراءة المختلفة في الملتقيات والجوائز هم الوسطاء، الذين يحددون للقارئ ما يقرأ! ومع جدّة هذه الظواهر على المبدعين والنقاد، ومع عدم وضوح أو فهم آلياتها الغربية فهمًا كاملًا، تم تدشينها بخفةٍ أغضبتْ الجميع، فصرنا نسمع أن أحد الناشرين طبع مئة عدد من رواية ما كاتبًا عليها الطبعة الأولى، وأخذ يتبعها بمئة أخرى للطبعة الثانية، وهكذا، حتى وصل إلى الطبعة السابعة لرواية لم تُقرأ بالفعل، وأصبحنا نتابع كيف تُمنح الجوائز لمرض أحد الكُتّاب الشيوخ، رغم أنه كان من المفترض أن يكون متحققًا وألَّا ينتظر أي جائزة، أو من أجل المساهمة في زواج أحد الكُتَّاب الشبان، أو حتى اعتذارًا لكاتب كان يستحقها منذ سنوات، إلخ. كل ذلك وأكثر عمل على زيادة الشروخ في علاقات المبدعين، فصاروا لا يطيقون بعضهم بعضًا، خصوصًا وهم يعرفون جيدًا كواليس عمل كلّ لجان الجوائز والفعّاليات الثقافية الكبرى، علاوة على أن علاقتهم مع قرائهم قد تم قطعها بالفعل، ولم يعد لديهم حائط أخير يلوذون به. قبل آليات السوق تلك، كانت علاقة الكُتّاب جيدة مع الفنانين والقراء والسينمائيين، كان الوسط الثقافي والأدبي والفني يدعم بعضه بعضًا، مستندًا إلى جماهير عريضة تقرأ وتشاهد الأعمال الجيدة. فكان طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي، يكتبون على صفحات جريدة «الأهرام» العريقة، التي شكّلت جسرًا مع قرائهم، ما أدى إلى معارك ثقافية حقيقية كبرى حول الثقافة وسؤال الهوية، وهذه المعارك اختفت بالطبع، وحلَّت محلها صراعات المبدعين ودسائسهم ونميمتهم ونشر بعض فضائحهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو على صفحات بعض الجرائد، خصوصًا وقد واكب كل ذلك انتشار الكثير من المواقع الصحافية الإلكترونية أيضًا.
> لنكن لا أخلاقيين
أما الشاعر والكاتب التونسي محمد ناصر المولهي، فيرى الأمر بشكل مختلف، قائلاً: الحكم على الأخلاق في مقاربتها الفلسفية، سواء في مقاربات كانط أو نيتشه وغيرهما، فهي موضوع جدلي جدا، لكنه يتحرك غالبا في ثنائية الخير والشر، ثنائية تتغير بتغير المعطى التاريخي، المكان والزمان والحدث، الأخلاق هي قيمة الأفعال في محيطها وبيئتها، والإبداع في النهاية هو قيم جمالية وفكرية وعاطفية، قيم لا ثبات فيها، بل محاولات للتغيير كما تتغير المعاني في الإبداع، حتى لو كانت الثيمة واحدة، مقاربة الشجاعة مثلا عند عنترة في السيف والنزال القاتل، ليست مقاربة لشجاعة اليوم في الخروج للتظاهر ضد الديكتاتوريات، الشجاعة نفسها هل سقطت عن المبدعين الأخلاق اليوم؟ ربما يصح هذا السؤال في مقاربتنا لقيمة فعل الإبداع، فإبداع في برج عاجي بعيد عن بيئته، هو إبداع غير مؤثر، وبالتالي تتراجع قيمته ثم مثلا إبداع ضد تحرر الشعوب ومع الديكتاتورية، هو غير أخلاقي، لا لأن دينا أو إماما أو عادات قالت ذلك، بل لأننا نسائل قيمة الفعل الإبداعي في محيطه. إبداع مثلا مع القتل وضد الحياة، هو إبداع فاقد لقيمته الأخلاقية، إبداع يزيف الحقائق أو يشتري لغايات ما هو لا أخلاقي. هنا لا نضع ميزانا أخلاقيا للفعل الإبداعي، بقدر ما نقيم تقييمات نسبية. ففقدان الإبداع للأخلاقية لا ينفي عنه الإبداعية، ولنا في الكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين خير دليل، في وقوفه مع النازية ضد شعبه، ومع ذلك يظل من أكبر الروائيين والكتاب الفرنسيين في النهاية، أدعو الكتاب والشعراء والمبدعين العرب أن يكونوا لا أخلاقيين، ربما نخلخل منظومة العادات البالية ونطرح للنقد أشد الأعراف قسوة وقداسة وضررا بمجتمعاتنا التي صارت مواتا من الجهل والتعصب بسبب هذا الموروث التالد.
> مزيفون
وتضيف التشكيلية الكويتية سوزان بوشناق.. ساءت أخلاقهم لأنهم ليسوا أصيلين، فالمبدع الحقيقي إنسان يتحلى بالأخلاق الحميدة والتواضع والإنسانية وفعلا هذه أصبحت ظاهرة نراها كل يوم، يمكن لأنهم يحبون الظهور أكثر من الذين يمتلكون الموهبة والأصالة الحقيقية، ولأنه فتحت لهم الأبواب وسلط عليهم الضوء وحصلوا على الفرص. وحتى لو كانوا أصيلين ومبدعين فعلا، البعض منهم ساءت أخلاقهم لأن الحياة تغيرت كثيرا، وتلاشى الكثير من القيم والمبادئ، ازدياد النفاق والسرقة والتزوير والحالة الاجتماعية في المجتمعات أثرت على النفوس. عالمنا العربي تغير، حياتنا أصبحت في ضياع ولا نعلم ما المصير. ولا أعتقد أن مَن له تاريخ في مجاله وسنوات من الاجتهاد أن تتغير أخلاقه، بل العكس هو الصحيح كلما زادت خبرته وإنجازاته العظيمة أصبح أكثر تواضعا.
> معارك سيئة السمعة
ويرى الناقد السينمائي المصري كمال القاضي، أنها معارك تدار بالأساس على خلفية المنافسة لمحاولة كل طرف الاستحواذ على المشهد الثقافي وإزاحة الآخر وهي معارك تقليدية، ولكنها سيئة السمعة، لأنها تقوم على أساليب غير شريفة وتهدف إلى تصفية المنافس أو الخصم، وفقا لآلية الحرب. كل ذلك يسبب ارتباكا في الحركة الثقافية، ويؤدي إلى غياب المعايير ومن ثم يخلق حالات عدائية تنحط بموجبها الأخلاق، أي أن المناخ في الأصل فاسد والمحسوبيات في منح الجوائز وفرص النشر والمسابقات. كل هذه المشكلات تترجم الأزمة بشكل واضح، وتسيء للنخبة التي من المفترض أنها لواء التغيير والارتقاء بالسلوكيات العامة. من دلائل المحسوبية أيضا وعدم الموضوعية، منح التفرغ التي توزع على المحاسيب والمعارف، بدون الالتزام باللوائح والشروط القانونية وهي مسألة قديمة في التجاوز ولها تاريخ طويل، ولم يتم النظر فيها عبر سنوات، رغم تعاقب الوزارات فهي أشبه بالمرض المزمن، كل هذه تراكمات أدت في النهاية إلى وجود أزمات لدى المثقف والثقافة بشكل عام.
> لا توجد فئة معصومة
ويقول الكاتب والإعلامي الليبي عز الدين عبد الكريم.. رغم إنني لست من المتابعين لما يُصنف كفضائح بين الفئة المذكورة، أعتقد بأن المسألة أكثر عمقاً وأوسع انتشاراً بيننا نحن قطاعات الشعب المختلفة، إذ يجب أن لا ننسى أنه لا توجد فئة معصومة بحكم تخصصها، حتى إن كان التخصص مُصَنفا ومعروفا بالارتقاء الأخلاقي لطبيعة تعامله الحساسة مع الأفراد. أحاول – كلما استطعت إلى ذلك سبيلا – أن لا أجاري جوقة الجلادين في انتقاد الأفعال والأحداث، رغم عدم إخفائي للاستنكار ومقت الأفعال والتصريح بها أيضاً، لكنني في الوقت ذاته، أنطلق من القناعة بالخوف من احتمالية وقوع الإنسان في فخ ما يستنكره بشدة، في ما لو قدر الله أن يعيش المرء حيوات الآخرين بكل ظروفها ومعطياتها وبيئاتها، ومن هنا فإن التعاطي مع نقاش أي خلل، أرى أنه من الضروري عدم انطلاقه من افتراض مسلم به، سواء كان لنزاهة ذاتية، أو ترفع مكتسب عن احتمالية ممارسة الخطأ. فالأمر سيعود بنا إلى الاستيقاظ على جملة من العوامل ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هذا بالإضافة إلى ما أحدثه التقدم التقني من آثار سلبية إلى جانب حسنات، هذا التقدم لا محالة في أنه، وفي جانب منه، قد قاد لهدم عراقيل التواصل والنشر، ما منح خاصية الاختباء وراء شخصيات وهمية، وهو أمر شجع على نفث مساوئ كامنة، ما كان لها أن تخرج في أزمان سابقة، إذن فالتدني أصبح عاماً، والسلوكيات السلبية بدأت في التغول درجة صراعها على اكتساب مشروعية من باب اعتبارها عُرفاً قائماً، قد يصبح الاستنكار له، هو موضوع الجدل. أما في ما يتعلق بالفئة المذكورة، فإنهم يشكلون جزءاً في تركيبة المجتمع، ومع تقدم الأيام، صُدمنا بكثير ممن ينتمون إلى المجالات الفنية والثقافية، وهم لا علاقة لهم فعلية بهذه المجالات، ووجودهم إنما جاء لكونها أصبحت باباً من أبواب الرزق السهل، وملاذاً لتغطية فراغات يمتلأ بها البعض لتغطية الخواء عندهم، ولذلك فإن مخرجات السلوك تزداد تشوهاً، لتشوه متأصل أساسي في الشخصيات مع افتقار لجملة من المقومات، سواء البديهية أو الاستثنائية، فغياب الآليات المؤسساتية الكافلة لتقويم الأفراد الراغبين في التعاطي مع المجالات الثقافية والفنية، وتسلل الفساد حتى لبعض المقومين أنفسهم، مع سيطرة فكرة استهداف الربح المادي السريع، أفرغ هذه المجالات مما كانت تتمتع به من سمعة، تحاول الاقتراب من (القدسية) فانهارت بتشوهها تفاصيل عديدة، ووجدت الأسباب والمسببات، خواءً أصبح مرتعاً لكل عفونة.
> تخمة مثقفة
ويرى الكاتب الليبي محمد البحيري، أن الأمر ربما ليس إساءة في أخلاق المبدعين بقدر ما هو اختلاف تام للمفاهيم. فاختلاف الأجيال من النخب الثقافية جعل هناك فجوه بين هذه الأجيال، فالقديمة لا تعترف بالأجيال الجديدة، كما أن الأخيرة لا تريد أن تتعلم من الأجيال القديمة، وتحول الصراع بين المبدعين في المجالات الثقافية إلى صراع تربصي، ولم يعد النقد الفني والأدبي هو الفيصل، بل أصبح النقد الذاتي والشخصي والتشويه سياسة متبعة عند بعض المبدعين، وهنا أخشى أن تتحول النخبة المثقفة إلى تخمة مثقفة تصيب كل من تذوق الإبداع.
ما يجعلنا نتساءل اليوم عن أخلاق المبدعين التي تراجعت حتى ساءت، وهو ما ينشر عبر الإنترنت ووسائل الإعلام المختلفة من فضائح أخلاقية ودسائس بين هذا الاسم وذاك، وصعود نجم البعض على حساب الآخرين حكايات مخجلة لا تنتهي.
عن هذا الموضوع كان الاستطلاع التالي مع عدد من الكتاب والأدباء والفنانين العرب….
> تصفية حسابات
بداية يقول الكاتب الليبي فتحي نصيب، بالنسبة لسوء أخلاق المبدعين، فهذه الظاهرة ليست حديثة، بل قد نجد أمثلة لها في الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، إنما كانت في السابق تتخذ شكلا أدبيا، كما في شكل الهجاء، والمثال الأبرز تلاسن جرير والفرزدق، أو اتهام أحدهم لآخر بالسرقة الأدبية والطعن في كتاباته، كما بين الشريف الرضي والمتنبي مثلا، أو التمترس في اتجاه أدبي معين، كما حدث بين جماعة أبوللو لزكي أبو شادي مقابل مدرسة الديوان بزعامة العقاد. وشهدنا أيضا المعارضات الأدبية، التي صيغت بأسلوب أقرب إلى المزاح والفكاهة بين عدد من الكتاب. أما الظاهرة الحديثة فتخلت عن الوجه الأدبي، وصار التنافس والمعارك بين المبدعين أقرب إلى المهاترات واستخدام أسلحة الطعن الشخصي، لاسيما الجانب الأخلاقي، الذي يظن من يستخدمه أنه يجذب إليه الغالبية من الجمهور القارئ، أو المستمع، أي التركيز على الجوانب الذاتية وليس الموضوعية في الاحتراب. إنه تحول كبير وخطير من مفهوم الخلاف إلى الاختلاف، حيث تحول البعض إلى ديوك ينتف بعضها ريش البعض الاّخر، لأسباب شللية أحيانا، أو عجز عن تقديم إبداع حقيقي أو ممالأة للسلطة، ضد من يقف ضدها. ومن أسباب انتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، دخول عدد كبير الساحة الأدبية لا علاقة له بالثقافة أو الإبداع، لأنه في ظني أن الثقافة سلوك وأسلوب حياة وطريقة تفكير، قبل أن تكون شهادات أو ألقابا، لذا فهذا الوافد الجديد يظن واهما أنه يخلق شهرة ويحقق مجدا، من خلال افتعال المعارك الدونكيشوتية، التي تسود فترة قصيرة ثم يطويها الزمان، وربما أيضا بسبب انتشار الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مفتوحة لكل من لا يعترف بسلطة المعرفة، أو سلطة الضمير، وصارت مواقع لتصفية الحسابات الشخصية، وقد يكون هناك دافع آخر يتمثل في الأنظمة السياسية، التي تشجع على ذلك، بل توفر الفرصة من خلال القنوات الإذاعية والصحف، إما لضرب وتشويه السلطة الرمزية التي يملكها المثقف والأديب، بهدف خلق فجوة بين المبدع والقارئ، كي لا تكون للنخب المثقفة الوطنية أي دور في مناوئة السلطة السياسية، وكشف عيوبها وأوجه قصورها، وأيضا لخلق معارك جانبية لإلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية المتمثلة في الحرية والديمقراطية والعيش بكرامة، كمواطنين لهم حقوق قبل الواجبات في دولتهم وليس كقطيع من الغنم يساق حيثما أراد الراعي.
> تغيّر المناخ الثقافي
وتقول الكاتبة المصرية سهير المصادفة، إن تغير المناخ الأدبي والثقافي في ربع القرن الأخير، وتحديدًا مع نهاية التسعينيات وبداية ما نسميه بجيل الألفية. فمن أجل السعي نحو تأسيس صناعة حقيقية للكتاب العربي، تم استيراد بعض ظواهر هذه الصناعة من الغرب، فتكاثرت في سنوات معدودة الجوائز الأدبية العربية، وظاهرة الأكثر مبيعًا، وكذلك المؤتمرات المحلية والدولية، وفي الوقت نفسه انهارت تمامًا جسور الكاتب مع جماهير القراء، وأصبح أعضاء لجان القراءة المختلفة في الملتقيات والجوائز هم الوسطاء، الذين يحددون للقارئ ما يقرأ! ومع جدّة هذه الظواهر على المبدعين والنقاد، ومع عدم وضوح أو فهم آلياتها الغربية فهمًا كاملًا، تم تدشينها بخفةٍ أغضبتْ الجميع، فصرنا نسمع أن أحد الناشرين طبع مئة عدد من رواية ما كاتبًا عليها الطبعة الأولى، وأخذ يتبعها بمئة أخرى للطبعة الثانية، وهكذا، حتى وصل إلى الطبعة السابعة لرواية لم تُقرأ بالفعل، وأصبحنا نتابع كيف تُمنح الجوائز لمرض أحد الكُتّاب الشيوخ، رغم أنه كان من المفترض أن يكون متحققًا وألَّا ينتظر أي جائزة، أو من أجل المساهمة في زواج أحد الكُتَّاب الشبان، أو حتى اعتذارًا لكاتب كان يستحقها منذ سنوات، إلخ. كل ذلك وأكثر عمل على زيادة الشروخ في علاقات المبدعين، فصاروا لا يطيقون بعضهم بعضًا، خصوصًا وهم يعرفون جيدًا كواليس عمل كلّ لجان الجوائز والفعّاليات الثقافية الكبرى، علاوة على أن علاقتهم مع قرائهم قد تم قطعها بالفعل، ولم يعد لديهم حائط أخير يلوذون به. قبل آليات السوق تلك، كانت علاقة الكُتّاب جيدة مع الفنانين والقراء والسينمائيين، كان الوسط الثقافي والأدبي والفني يدعم بعضه بعضًا، مستندًا إلى جماهير عريضة تقرأ وتشاهد الأعمال الجيدة. فكان طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي، يكتبون على صفحات جريدة «الأهرام» العريقة، التي شكّلت جسرًا مع قرائهم، ما أدى إلى معارك ثقافية حقيقية كبرى حول الثقافة وسؤال الهوية، وهذه المعارك اختفت بالطبع، وحلَّت محلها صراعات المبدعين ودسائسهم ونميمتهم ونشر بعض فضائحهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو على صفحات بعض الجرائد، خصوصًا وقد واكب كل ذلك انتشار الكثير من المواقع الصحافية الإلكترونية أيضًا.
> لنكن لا أخلاقيين
أما الشاعر والكاتب التونسي محمد ناصر المولهي، فيرى الأمر بشكل مختلف، قائلاً: الحكم على الأخلاق في مقاربتها الفلسفية، سواء في مقاربات كانط أو نيتشه وغيرهما، فهي موضوع جدلي جدا، لكنه يتحرك غالبا في ثنائية الخير والشر، ثنائية تتغير بتغير المعطى التاريخي، المكان والزمان والحدث، الأخلاق هي قيمة الأفعال في محيطها وبيئتها، والإبداع في النهاية هو قيم جمالية وفكرية وعاطفية، قيم لا ثبات فيها، بل محاولات للتغيير كما تتغير المعاني في الإبداع، حتى لو كانت الثيمة واحدة، مقاربة الشجاعة مثلا عند عنترة في السيف والنزال القاتل، ليست مقاربة لشجاعة اليوم في الخروج للتظاهر ضد الديكتاتوريات، الشجاعة نفسها هل سقطت عن المبدعين الأخلاق اليوم؟ ربما يصح هذا السؤال في مقاربتنا لقيمة فعل الإبداع، فإبداع في برج عاجي بعيد عن بيئته، هو إبداع غير مؤثر، وبالتالي تتراجع قيمته ثم مثلا إبداع ضد تحرر الشعوب ومع الديكتاتورية، هو غير أخلاقي، لا لأن دينا أو إماما أو عادات قالت ذلك، بل لأننا نسائل قيمة الفعل الإبداعي في محيطه. إبداع مثلا مع القتل وضد الحياة، هو إبداع فاقد لقيمته الأخلاقية، إبداع يزيف الحقائق أو يشتري لغايات ما هو لا أخلاقي. هنا لا نضع ميزانا أخلاقيا للفعل الإبداعي، بقدر ما نقيم تقييمات نسبية. ففقدان الإبداع للأخلاقية لا ينفي عنه الإبداعية، ولنا في الكاتب الفرنسي لويس فرديناند سيلين خير دليل، في وقوفه مع النازية ضد شعبه، ومع ذلك يظل من أكبر الروائيين والكتاب الفرنسيين في النهاية، أدعو الكتاب والشعراء والمبدعين العرب أن يكونوا لا أخلاقيين، ربما نخلخل منظومة العادات البالية ونطرح للنقد أشد الأعراف قسوة وقداسة وضررا بمجتمعاتنا التي صارت مواتا من الجهل والتعصب بسبب هذا الموروث التالد.
> مزيفون
وتضيف التشكيلية الكويتية سوزان بوشناق.. ساءت أخلاقهم لأنهم ليسوا أصيلين، فالمبدع الحقيقي إنسان يتحلى بالأخلاق الحميدة والتواضع والإنسانية وفعلا هذه أصبحت ظاهرة نراها كل يوم، يمكن لأنهم يحبون الظهور أكثر من الذين يمتلكون الموهبة والأصالة الحقيقية، ولأنه فتحت لهم الأبواب وسلط عليهم الضوء وحصلوا على الفرص. وحتى لو كانوا أصيلين ومبدعين فعلا، البعض منهم ساءت أخلاقهم لأن الحياة تغيرت كثيرا، وتلاشى الكثير من القيم والمبادئ، ازدياد النفاق والسرقة والتزوير والحالة الاجتماعية في المجتمعات أثرت على النفوس. عالمنا العربي تغير، حياتنا أصبحت في ضياع ولا نعلم ما المصير. ولا أعتقد أن مَن له تاريخ في مجاله وسنوات من الاجتهاد أن تتغير أخلاقه، بل العكس هو الصحيح كلما زادت خبرته وإنجازاته العظيمة أصبح أكثر تواضعا.
> معارك سيئة السمعة
ويرى الناقد السينمائي المصري كمال القاضي، أنها معارك تدار بالأساس على خلفية المنافسة لمحاولة كل طرف الاستحواذ على المشهد الثقافي وإزاحة الآخر وهي معارك تقليدية، ولكنها سيئة السمعة، لأنها تقوم على أساليب غير شريفة وتهدف إلى تصفية المنافس أو الخصم، وفقا لآلية الحرب. كل ذلك يسبب ارتباكا في الحركة الثقافية، ويؤدي إلى غياب المعايير ومن ثم يخلق حالات عدائية تنحط بموجبها الأخلاق، أي أن المناخ في الأصل فاسد والمحسوبيات في منح الجوائز وفرص النشر والمسابقات. كل هذه المشكلات تترجم الأزمة بشكل واضح، وتسيء للنخبة التي من المفترض أنها لواء التغيير والارتقاء بالسلوكيات العامة. من دلائل المحسوبية أيضا وعدم الموضوعية، منح التفرغ التي توزع على المحاسيب والمعارف، بدون الالتزام باللوائح والشروط القانونية وهي مسألة قديمة في التجاوز ولها تاريخ طويل، ولم يتم النظر فيها عبر سنوات، رغم تعاقب الوزارات فهي أشبه بالمرض المزمن، كل هذه تراكمات أدت في النهاية إلى وجود أزمات لدى المثقف والثقافة بشكل عام.
> لا توجد فئة معصومة
ويقول الكاتب والإعلامي الليبي عز الدين عبد الكريم.. رغم إنني لست من المتابعين لما يُصنف كفضائح بين الفئة المذكورة، أعتقد بأن المسألة أكثر عمقاً وأوسع انتشاراً بيننا نحن قطاعات الشعب المختلفة، إذ يجب أن لا ننسى أنه لا توجد فئة معصومة بحكم تخصصها، حتى إن كان التخصص مُصَنفا ومعروفا بالارتقاء الأخلاقي لطبيعة تعامله الحساسة مع الأفراد. أحاول – كلما استطعت إلى ذلك سبيلا – أن لا أجاري جوقة الجلادين في انتقاد الأفعال والأحداث، رغم عدم إخفائي للاستنكار ومقت الأفعال والتصريح بها أيضاً، لكنني في الوقت ذاته، أنطلق من القناعة بالخوف من احتمالية وقوع الإنسان في فخ ما يستنكره بشدة، في ما لو قدر الله أن يعيش المرء حيوات الآخرين بكل ظروفها ومعطياتها وبيئاتها، ومن هنا فإن التعاطي مع نقاش أي خلل، أرى أنه من الضروري عدم انطلاقه من افتراض مسلم به، سواء كان لنزاهة ذاتية، أو ترفع مكتسب عن احتمالية ممارسة الخطأ. فالأمر سيعود بنا إلى الاستيقاظ على جملة من العوامل ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، هذا بالإضافة إلى ما أحدثه التقدم التقني من آثار سلبية إلى جانب حسنات، هذا التقدم لا محالة في أنه، وفي جانب منه، قد قاد لهدم عراقيل التواصل والنشر، ما منح خاصية الاختباء وراء شخصيات وهمية، وهو أمر شجع على نفث مساوئ كامنة، ما كان لها أن تخرج في أزمان سابقة، إذن فالتدني أصبح عاماً، والسلوكيات السلبية بدأت في التغول درجة صراعها على اكتساب مشروعية من باب اعتبارها عُرفاً قائماً، قد يصبح الاستنكار له، هو موضوع الجدل. أما في ما يتعلق بالفئة المذكورة، فإنهم يشكلون جزءاً في تركيبة المجتمع، ومع تقدم الأيام، صُدمنا بكثير ممن ينتمون إلى المجالات الفنية والثقافية، وهم لا علاقة لهم فعلية بهذه المجالات، ووجودهم إنما جاء لكونها أصبحت باباً من أبواب الرزق السهل، وملاذاً لتغطية فراغات يمتلأ بها البعض لتغطية الخواء عندهم، ولذلك فإن مخرجات السلوك تزداد تشوهاً، لتشوه متأصل أساسي في الشخصيات مع افتقار لجملة من المقومات، سواء البديهية أو الاستثنائية، فغياب الآليات المؤسساتية الكافلة لتقويم الأفراد الراغبين في التعاطي مع المجالات الثقافية والفنية، وتسلل الفساد حتى لبعض المقومين أنفسهم، مع سيطرة فكرة استهداف الربح المادي السريع، أفرغ هذه المجالات مما كانت تتمتع به من سمعة، تحاول الاقتراب من (القدسية) فانهارت بتشوهها تفاصيل عديدة، ووجدت الأسباب والمسببات، خواءً أصبح مرتعاً لكل عفونة.
> تخمة مثقفة
ويرى الكاتب الليبي محمد البحيري، أن الأمر ربما ليس إساءة في أخلاق المبدعين بقدر ما هو اختلاف تام للمفاهيم. فاختلاف الأجيال من النخب الثقافية جعل هناك فجوه بين هذه الأجيال، فالقديمة لا تعترف بالأجيال الجديدة، كما أن الأخيرة لا تريد أن تتعلم من الأجيال القديمة، وتحول الصراع بين المبدعين في المجالات الثقافية إلى صراع تربصي، ولم يعد النقد الفني والأدبي هو الفيصل، بل أصبح النقد الذاتي والشخصي والتشويه سياسة متبعة عند بعض المبدعين، وهنا أخشى أن تتحول النخبة المثقفة إلى تخمة مثقفة تصيب كل من تذوق الإبداع.