ما ينيف على العقد والنصف من الزمن، قبل أن يعلن كل من رولان بارت (1968م) وميشيل فوكو (1969م) «موت المؤلف»، كان موريس بلانشو قد تحدث عن «غيابه». إذا كان ما حرّك «بارت» و«فوكو» لإعلان ذلك «الموت» هو محاولة القيام ضد مفهوم معيّن عن الأدب كان مهيمنًا على الدراسات الأدبية نقدًا وتأريخًا، فيبدو أن ما دفع «بلانشو» إلى إعلان «الغياب» فيما قبل، ربما كان أبعد من ذلك بكثير.
قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بلانشو في كتابيه المؤسِّسين: الفضاء الأدبي (1955م)، وكتاب المستقبل (1959م)، لا بأس أن نقف عند الدعائم الأساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات الأدبية خلال النصف الأول من القرن الماضي نقدًا وتأريخًا: معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ الأدب» كتابةً وتدريسًا هو ذلك الذي أرسى دعائمه غوستاف لانسون عند نهاية القرن التاسع عشر، والذي ظل يهيمن على الجامعة الفرنسية خلال عقود، مكرّسًا تفسيرًا للأعمال الأدبية بوصفها تعبيرًا عن مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد المؤلفين، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وما يدور بخلدهم؛ كي تتضح معاني تلك الأعمال. بلوغ مقصد المؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف على معنى العمل. ولن يكون النقد الأدبي حينئذ إلا دراسة لـ«الرجل وأعماله».
لم يكن هدف بلانشو ليقتصر على إعادة النظر في هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها للأدب، وإنما كان يرمي إلى الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة الأدبية بهدف إعادة النظر في الأسس الأنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة. وقد أدى به ذلك إلى خلخلة النظرة السائدة عن العمل الأدبي، تلك النظرة التي كانت تُعلي من «ذاتية» المؤلف، وتؤكد سلطته على النص، مع ما يصاحب ذلك من إلحاح على الطابع التعبيري للكتابة. صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من إعادة النظر، فقام ضد المفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل الأدبي إلى الأحوال النفسية لصاحبه، ويكفي أن نذكّر هنا بما سبق لـ«ت.س. إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «الأدب ليس تعبيرًا عن الشخص، بل هو هروب وانفلات»، إلا أن بلانشو لا يكتفي بالتأكيد على هذا الطابع اللاشخصي للكتابة، وإضفاء طابع «الحياد» عليها، وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع محلّ المؤلف، كمبدأ إبداع العمل الأدبي وتفسيره، اللغةَ بما تتسم به من طابع لا شخصي، ملبّيًا دعوة مالارميه إلى «انسحاب صوت الشاعر، لإفساح المجال للكلمات».
بلانشو وحصة النار
لا داعي إذًا لأن يولي النقد الأدبي عنايته لما يدور بخلد المؤلف، ما دام العمل سينحل إلى لغة، أي إلى منظومات من العلامات لا تكترث بالذات المتكلمة. كتب بلانشو في حصة النار: «نستخلص من الملاحظات السابقة حول اللغة نقطًا أساسية لعل أهمها هي الخاصية اللاشخصية للغة، ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارميه. فهذه اللغة، لا تفترض أي شخص يتكلمها، ولا أيّ شخص يسمعها: إنها تكلّم ذاتها وتكتب نفسَها. وذلك هو شرط سيادتها. والكتاب هو رمز هذا الوجود المستقل. إنه يتجاوزنا ولا حول لنا ولا قوة أمامه. وإذا كانت اللغة تنعزل عن الإنسان وتعزله عن الأشياء، إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه، فهِمنا لماذا غدت، بالنسبة لمن يتمثلها على هذا النحو، قوة سحرية. إنها نوع من الوعي من غير ذات، انفصل عن الكائن، وغدا هو نفسه انفصالًا ونفيًا وقدرةً لا متناهية على خلق الفراغ».
لن ندرك قيمة هذا الكلام وأهميته التاريخية إلا إذا وقفنا على ميزة السبق التي يتمتع بها والتي ستمكّنه من أن يكون تمهيدًا لكل المواقف البنيوية. وبالفعل، لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إلا على تأكيد هذا الموقف من اللغة. وهكذا فنحن نقرأ على سبيل المثال عند ليفي ستروس، محرفًا عبارة باسكال «للقلب من الحجج والأسباب ما لا يملكه العقل»: «إن اللغة عقل إنساني له حججه وقواعده التي لا يعرفها الإنسان».
يقوم هذا الموقف البنيوي من اللغة على دعائم ثلاث:
أولًا- اللغة منظومة من الاختلافات، بدون حدود مطلقة. والمسافة بين الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غير مادة جوهرية، لا طبيعية ولا ذهنية.
ثانيًا- لا تتوقف الشفرة المتحكمة في المنظومات على الذات المتكلمة، وإنما هي بالأحرى اللاشعور المقولي الذي يسمح بممارسة الكلام من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان.
ثالثًا- الدال نفسه يتكون من اختلافات، ولا يستدعي الدال أي علاقة خارجية.
لذا فإن اللغة، والحالة هذه، منظومة بلا «حدود» ولا «ذات» ولا «أشياء». والذات مفعول للغة، وليست فاعلًا متحكمًا فيها.
ستغدو الكتابة، كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك المحايد، وتلك اللامباشرة التي تنفلت عبرها ذاتيتنا. إنها البياض والسواد اللذان تضيع فيهما هوياتنا، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». سيخلي المؤلف إذًا المكان للكتابة و«النصّ»، وسيترك المجالَ للناسخ الذي لن تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» بالمعنى النحوي واللغوي للكلمة، وليس مطلقًا بالمعنى الأنطلوجي من حيث هو الحامل المؤسس. بل إن هناك من سيقول فيما بعد: إن المؤلف ليس إلا كائنًا من ورق، وهو ليس مطلقًا ذلك الشخص الذي يتحكم في لعبة الكتابة؛ يهيمن على معانيها، ويتحكم في دلالاتها.
وهكذا سيتضح إلى أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم الأدباء» عائقًا معرفيًّا في الدراسات الأدبية؛ لذا فبدلًا من أن تنكبّ تلك الدراسات على الأدباء والشعراء وما يقصدون إليه، سيتحول الاهتمام إلى دراسة الشعر والأدب، أو الأدبية على الأصح.
على هذا النحو سينتقل النقد من المرمى التفسيري الذي يسعى إلى بلوغ مقاصد المؤلف ونواياه إلى المرمى التأويلي الذي يروم قراءة النص لتقصي معانيه. نقرأ في كتاب الفضاء الأدبي: «كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقضي على المؤلف؛ كي يضع العمل الأدبي أمام حضوره النكرة، أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف ولا شخصي». ولن تتوخى القراءة بلوغ المقاصد والنوايا، وإنما ستنغمس بين ثنايا النص بحثًا عن القوى المطموسة في غياهب النسيان، وسعيًا وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية. وهكذا سيغدو «غياب المؤلف» مجرد شكل من الأشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو في الفكر المعاصر.
لم يكتف م. بلانشو إذًا بإعادة النظر في مفهوم الكتابة، وإنما أسهم من زاوية الأدب في إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح على الفكر، وليس على نظرية الأدب وحدها، أسئلة من نوع جديد. ولعل أهمها تلك التي صاغها م. فوكو في عبارة مركزة عندما كتب: «ماذا يتعين علي أنا الذي أفكر وأشكل تفكيري، لكي أكون ذلك الذي لا أفكر فيه، ولكي يكون تفكيري غير ما أنا عليه».
قبل أن نقف عند «الثورة الفكرية» التي بلورها بلانشو في كتابيه المؤسِّسين: الفضاء الأدبي (1955م)، وكتاب المستقبل (1959م)، لا بأس أن نقف عند الدعائم الأساسية التي كانت تقوم عليها الدراسات الأدبية خلال النصف الأول من القرن الماضي نقدًا وتأريخًا: معروف أن الشكل الرسمي الذي اتخذه «تأريخ الأدب» كتابةً وتدريسًا هو ذلك الذي أرسى دعائمه غوستاف لانسون عند نهاية القرن التاسع عشر، والذي ظل يهيمن على الجامعة الفرنسية خلال عقود، مكرّسًا تفسيرًا للأعمال الأدبية بوصفها تعبيرًا عن مؤلفيها؛ لذا كان يكفي الوقوف عند مقاصد المؤلفين، ومعرفة ما يجول بخواطرهم، وما يدور بخلدهم؛ كي تتضح معاني تلك الأعمال. بلوغ مقصد المؤلف وإدراك نواياه كفيل بأن يجعلنا نقف على معنى العمل. ولن يكون النقد الأدبي حينئذ إلا دراسة لـ«الرجل وأعماله».
لم يكن هدف بلانشو ليقتصر على إعادة النظر في هذه الكيفية التي يتم وفقها النقد ويُؤرخ بها للأدب، وإنما كان يرمي إلى الكشف عن الفلسفة الثاوية خلف الكتابة الأدبية بهدف إعادة النظر في الأسس الأنطلوجية التي تقوم عليها نظرية الكتابة. وقد أدى به ذلك إلى خلخلة النظرة السائدة عن العمل الأدبي، تلك النظرة التي كانت تُعلي من «ذاتية» المؤلف، وتؤكد سلطته على النص، مع ما يصاحب ذلك من إلحاح على الطابع التعبيري للكتابة. صحيح أن هناك من كان قد مهد الطريق لهذا النوع من إعادة النظر، فقام ضد المفهوم السيكولوجي الذي يرجع العمل الأدبي إلى الأحوال النفسية لصاحبه، ويكفي أن نذكّر هنا بما سبق لـ«ت.س. إليوت» أن أشار إليه عندما كتب أن «الأدب ليس تعبيرًا عن الشخص، بل هو هروب وانفلات»، إلا أن بلانشو لا يكتفي بالتأكيد على هذا الطابع اللاشخصي للكتابة، وإضفاء طابع «الحياد» عليها، وإنما يذهب أبعد من ذلك ليضع محلّ المؤلف، كمبدأ إبداع العمل الأدبي وتفسيره، اللغةَ بما تتسم به من طابع لا شخصي، ملبّيًا دعوة مالارميه إلى «انسحاب صوت الشاعر، لإفساح المجال للكلمات».
بلانشو وحصة النار
لا داعي إذًا لأن يولي النقد الأدبي عنايته لما يدور بخلد المؤلف، ما دام العمل سينحل إلى لغة، أي إلى منظومات من العلامات لا تكترث بالذات المتكلمة. كتب بلانشو في حصة النار: «نستخلص من الملاحظات السابقة حول اللغة نقطًا أساسية لعل أهمها هي الخاصية اللاشخصية للغة، ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارميه. فهذه اللغة، لا تفترض أي شخص يتكلمها، ولا أيّ شخص يسمعها: إنها تكلّم ذاتها وتكتب نفسَها. وذلك هو شرط سيادتها. والكتاب هو رمز هذا الوجود المستقل. إنه يتجاوزنا ولا حول لنا ولا قوة أمامه. وإذا كانت اللغة تنعزل عن الإنسان وتعزله عن الأشياء، إذا لم تعد فعل شخص يتكلم تجاه من يسمعه، فهِمنا لماذا غدت، بالنسبة لمن يتمثلها على هذا النحو، قوة سحرية. إنها نوع من الوعي من غير ذات، انفصل عن الكائن، وغدا هو نفسه انفصالًا ونفيًا وقدرةً لا متناهية على خلق الفراغ».
لن ندرك قيمة هذا الكلام وأهميته التاريخية إلا إذا وقفنا على ميزة السبق التي يتمتع بها والتي ستمكّنه من أن يكون تمهيدًا لكل المواقف البنيوية. وبالفعل، لن يعمل شيوخ البنيوية الفرنسية فيما بعد إلا على تأكيد هذا الموقف من اللغة. وهكذا فنحن نقرأ على سبيل المثال عند ليفي ستروس، محرفًا عبارة باسكال «للقلب من الحجج والأسباب ما لا يملكه العقل»: «إن اللغة عقل إنساني له حججه وقواعده التي لا يعرفها الإنسان».
يقوم هذا الموقف البنيوي من اللغة على دعائم ثلاث:
أولًا- اللغة منظومة من الاختلافات، بدون حدود مطلقة. والمسافة بين الوحدات الصوتية هي واقع اللسان الذي يغدو بفعل ذلك من غير مادة جوهرية، لا طبيعية ولا ذهنية.
ثانيًا- لا تتوقف الشفرة المتحكمة في المنظومات على الذات المتكلمة، وإنما هي بالأحرى اللاشعور المقولي الذي يسمح بممارسة الكلام من طرف أولئك الذين يستعملون اللسان.
ثالثًا- الدال نفسه يتكون من اختلافات، ولا يستدعي الدال أي علاقة خارجية.
لذا فإن اللغة، والحالة هذه، منظومة بلا «حدود» ولا «ذات» ولا «أشياء». والذات مفعول للغة، وليست فاعلًا متحكمًا فيها.
ستغدو الكتابة، كما سيقول بارت فيما بعد «هي ذلك المحايد، وتلك اللامباشرة التي تنفلت عبرها ذاتيتنا. إنها البياض والسواد اللذان تضيع فيهما هوياتنا، ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب». سيخلي المؤلف إذًا المكان للكتابة و«النصّ»، وسيترك المجالَ للناسخ الذي لن تتعدى «ذاتيته» «الفاعل» بالمعنى النحوي واللغوي للكلمة، وليس مطلقًا بالمعنى الأنطلوجي من حيث هو الحامل المؤسس. بل إن هناك من سيقول فيما بعد: إن المؤلف ليس إلا كائنًا من ورق، وهو ليس مطلقًا ذلك الشخص الذي يتحكم في لعبة الكتابة؛ يهيمن على معانيها، ويتحكم في دلالاتها.
وهكذا سيتضح إلى أيّ مدى قد شكل الوقوف عند «تراجم الأدباء» عائقًا معرفيًّا في الدراسات الأدبية؛ لذا فبدلًا من أن تنكبّ تلك الدراسات على الأدباء والشعراء وما يقصدون إليه، سيتحول الاهتمام إلى دراسة الشعر والأدب، أو الأدبية على الأصح.
على هذا النحو سينتقل النقد من المرمى التفسيري الذي يسعى إلى بلوغ مقاصد المؤلف ونواياه إلى المرمى التأويلي الذي يروم قراءة النص لتقصي معانيه. نقرأ في كتاب الفضاء الأدبي: «كل قراءة هي نوع من الخصام الذي يقضي على المؤلف؛ كي يضع العمل الأدبي أمام حضوره النكرة، أمام ما هو عليه من إثبات للذات عنيف ولا شخصي». ولن تتوخى القراءة بلوغ المقاصد والنوايا، وإنما ستنغمس بين ثنايا النص بحثًا عن القوى المطموسة في غياهب النسيان، وسعيًا وراء تلك اللغة التي تسبق الذات وتفعل خارج كل رقابة شعورية. وهكذا سيغدو «غياب المؤلف» مجرد شكل من الأشكال التي يتخذها تقويض الكوجيتو في الفكر المعاصر.
لم يكتف م. بلانشو إذًا بإعادة النظر في مفهوم الكتابة، وإنما أسهم من زاوية الأدب في إقامة أسس «كوجيتو معاصر» يطرح على الفكر، وليس على نظرية الأدب وحدها، أسئلة من نوع جديد. ولعل أهمها تلك التي صاغها م. فوكو في عبارة مركزة عندما كتب: «ماذا يتعين علي أنا الذي أفكر وأشكل تفكيري، لكي أكون ذلك الذي لا أفكر فيه، ولكي يكون تفكيري غير ما أنا عليه».