دائما بالقرب من القلب القديم للمدينة، تنتصب القلعة على تلة مرتفعة أو فوق جبل. فهى الملاذ الأخير لمدن لم تأمن أبدا شر الغزاة، يأتون من الشمال البارد، أو من الصحراء الحارة. يجتاحون، كأسراب الجراد، الأسواق والبساتين والحارات. فتكون القلعة حصن الناس الأخير. يفرون إليها، ثم يغلقون أبوابها المصفحة الثقيلة، وينزلون المتاريس. وتبدأ الحرب الأخيرة، حرب الدفاع عن آخر الحصون.
لم تعد التجريدات تأتى، ولا الإغارات المباغتة، وبقيت القلاع شواهد على زمن حوشى، فهل انتهت الأزمنة الحوشية؟ الآن يؤمها السياح، ويغشاها الدارسون واللاهون من أبناء البلد، ويقتنص التجار فى جنباتها الفرص، فيقيمون مسرحا تجاريا هنا، وكافيتريا هناك، وقد كان الرجل مكلفا بنقل تموين كافيتريا القلعة ذاك الصباح. مئات من علب الكوكاكولا والبيرة وصناديق البسكويت والسجائر. ولأن القلعة لم تكن دروبها تكف عن الدوران والصعود، فلم يكن يلائم دروبها إلا أن تكون درجًا، وكان عصيا أن تُنقل كل هذه البضاعة إلا على ظهر دابة تُنقِّل أقدامها على الدرجات درجة درجة، ومع كل درجة تئن وتميل، لكنها تواصل الصعود، يقودها بعصا صغيرة ذلك الرجل الضئيل الحافى ذو الجلباب الحسير، وقد فاجأته مجموعة السياح، ووراءها حفنة من أولاد البلد اللاهين، عند منعطف شحيح الضوء من التفافات الدرج.
حمار صغير ضئيل، وحَمَّار، وخُرج يفيض بالعلب الملونة فى ضوء القلعة الداخلى الفاتر المنساب من الفتحات الحجرية الضيقة المستطيلة، أزمنة عديدة فى منظر طريف واحد، وهاصت مجموعة السياح الشماليين ولمعت عيون عصابة أولاد البلد.
أخذت آلات التصوير تومض من هنا ومن هنا ومن هناك. وكحمَّار متحضر وحِمار طيب، توقفت حزمة الأزمنة عن الصعود حتى يصور الضيوف ما يروق لهم. ثم اختلطت بالأجانب عصابة الأولاد وتقدمت المشهد، راحوا يمدون أياديهم فى الخُرج على ظهر الحمار متضاحكين سائلين الرجل عما يحمل: «كوكاكولا؟ وبسكويت؟ ومياه معدنية؟». ثم أربكوه فيما بدا عتابا له على أنه لا يقوم بواجب الضيافة تجاه الأغراب!
ابتسم وجه الرجل البسيط المرتبك وهو يقدم لأقرب السائحات منه علبة كوكاكولا، فارتفعت صيحات التهليل الممتنة والمُستحسنة، عندئذ أمتدت أيادى الصُيَّع تنتزع من الخرج وتقدم للضيوف بسخاء: «تفضل. تفضلى. تفضلى. تفضل»، وفى ارتباكة تاريخية كان الرجل البسيط يبتسم ابتسامة خجلى، بينما الأولاد يدسون أياديهم وينتزعون من الخُرج ما يقدمونه للأيادى المرحة «وأنا». «وأنا». «وأنا». وظلت الأيادى تعاود الامتداد.
لا بأس. بدا للحظة أن الرجل حسبها برغم ارتباكه، لكن فى نهاية الأمر وضح أن الحسبة كانت خاطئة تماما عندما انفض عنه الجمع الصاخب بمرح، وقد اختلط السياح بأولاد البلد، وإذ بالرجل يتهاوى مُقعيا بين أرجل حماره وفوضى عشرات العلب الفارغة، لا يمتلك سداد ثمنها للمورد أو صاحب الكافيتريا فى أعلى طوابق القلعة، أبدا لا يمتلك.
وفى مكان كهذه القلعة العتيقة، ملاذ الناس الداثرين، وحصن الجنود القدامى، وسدة حكم سلاطين التاريخ، ثمة مئات الأبواب لمغارات، وحبوس، وغرف مئونة، ودهاليز لا تُعرف الآن على وجه اليقين ألغاز تشابكها، ولا أسرار الخروج منها. وحيثما يكون هناك قرار بالهرب فى هذه المتاهة، فإن رعب المطاردة يستولى على الهارب، ويُفزِع الدابة. ثم تتجلى أشباح القلعة بعد شهور: عفريت أشعر حافى القدمين فى أسمال من بقايا ثياب بلدية، يظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد، وحُمُر مسحورة تلوح كالسراب هنا وهناك أمام العيون المدهوشة، برهة خاطفة، وتختفى.
د.محمد المخزنجي
جريدة الشروق - 16 ديسمبر 2010
لم تعد التجريدات تأتى، ولا الإغارات المباغتة، وبقيت القلاع شواهد على زمن حوشى، فهل انتهت الأزمنة الحوشية؟ الآن يؤمها السياح، ويغشاها الدارسون واللاهون من أبناء البلد، ويقتنص التجار فى جنباتها الفرص، فيقيمون مسرحا تجاريا هنا، وكافيتريا هناك، وقد كان الرجل مكلفا بنقل تموين كافيتريا القلعة ذاك الصباح. مئات من علب الكوكاكولا والبيرة وصناديق البسكويت والسجائر. ولأن القلعة لم تكن دروبها تكف عن الدوران والصعود، فلم يكن يلائم دروبها إلا أن تكون درجًا، وكان عصيا أن تُنقل كل هذه البضاعة إلا على ظهر دابة تُنقِّل أقدامها على الدرجات درجة درجة، ومع كل درجة تئن وتميل، لكنها تواصل الصعود، يقودها بعصا صغيرة ذلك الرجل الضئيل الحافى ذو الجلباب الحسير، وقد فاجأته مجموعة السياح، ووراءها حفنة من أولاد البلد اللاهين، عند منعطف شحيح الضوء من التفافات الدرج.
حمار صغير ضئيل، وحَمَّار، وخُرج يفيض بالعلب الملونة فى ضوء القلعة الداخلى الفاتر المنساب من الفتحات الحجرية الضيقة المستطيلة، أزمنة عديدة فى منظر طريف واحد، وهاصت مجموعة السياح الشماليين ولمعت عيون عصابة أولاد البلد.
أخذت آلات التصوير تومض من هنا ومن هنا ومن هناك. وكحمَّار متحضر وحِمار طيب، توقفت حزمة الأزمنة عن الصعود حتى يصور الضيوف ما يروق لهم. ثم اختلطت بالأجانب عصابة الأولاد وتقدمت المشهد، راحوا يمدون أياديهم فى الخُرج على ظهر الحمار متضاحكين سائلين الرجل عما يحمل: «كوكاكولا؟ وبسكويت؟ ومياه معدنية؟». ثم أربكوه فيما بدا عتابا له على أنه لا يقوم بواجب الضيافة تجاه الأغراب!
ابتسم وجه الرجل البسيط المرتبك وهو يقدم لأقرب السائحات منه علبة كوكاكولا، فارتفعت صيحات التهليل الممتنة والمُستحسنة، عندئذ أمتدت أيادى الصُيَّع تنتزع من الخرج وتقدم للضيوف بسخاء: «تفضل. تفضلى. تفضلى. تفضل»، وفى ارتباكة تاريخية كان الرجل البسيط يبتسم ابتسامة خجلى، بينما الأولاد يدسون أياديهم وينتزعون من الخُرج ما يقدمونه للأيادى المرحة «وأنا». «وأنا». «وأنا». وظلت الأيادى تعاود الامتداد.
لا بأس. بدا للحظة أن الرجل حسبها برغم ارتباكه، لكن فى نهاية الأمر وضح أن الحسبة كانت خاطئة تماما عندما انفض عنه الجمع الصاخب بمرح، وقد اختلط السياح بأولاد البلد، وإذ بالرجل يتهاوى مُقعيا بين أرجل حماره وفوضى عشرات العلب الفارغة، لا يمتلك سداد ثمنها للمورد أو صاحب الكافيتريا فى أعلى طوابق القلعة، أبدا لا يمتلك.
وفى مكان كهذه القلعة العتيقة، ملاذ الناس الداثرين، وحصن الجنود القدامى، وسدة حكم سلاطين التاريخ، ثمة مئات الأبواب لمغارات، وحبوس، وغرف مئونة، ودهاليز لا تُعرف الآن على وجه اليقين ألغاز تشابكها، ولا أسرار الخروج منها. وحيثما يكون هناك قرار بالهرب فى هذه المتاهة، فإن رعب المطاردة يستولى على الهارب، ويُفزِع الدابة. ثم تتجلى أشباح القلعة بعد شهور: عفريت أشعر حافى القدمين فى أسمال من بقايا ثياب بلدية، يظهر فى أكثر من مكان فى وقت واحد، وحُمُر مسحورة تلوح كالسراب هنا وهناك أمام العيون المدهوشة، برهة خاطفة، وتختفى.
د.محمد المخزنجي
جريدة الشروق - 16 ديسمبر 2010