ينطلق أصحاب الاتجاه الاجتماعى فى فهمهم للرواية من رؤيتهم للعلاقة الجدلية بين العمل الأدبى والواقع الاجتماعى/ التاريخى. ومن ثم, فالرواية, عندهم, شأنها شأن أى نوع أدبى آخر, ليست كيانا أدبيا مجردا، ولم يكن ليوجد بفعل عوامل ذاتية، وإنما أوجدته تطورات الواقع الاجتماعى – التاريخى, باعتباره تلبية للحاجة الى رصد وتفهم عدة تحولات جوهرية جرت على واقع البشر فى زمان ومكان محددين .
مفهوم الرواية:
يرى "جورج لوكاتش" أن الرواية هى .. "التعبير المكافىء للملحمة فى العصر الحديث". فهى النوع الادبى الأكثر نموذجية بالنسبة للمجتمع البرجوازى. ورغم وجود كتابات تنتمى إلى الشرق القديم مثل "ألف ليلة وليلة"، و "كليلة ودمنة" ..إلخ، أو إلى العصور القديمة أو الوسيطة فى أوربا، تقوم على مفهوم الحكى الذى تقوم عليه الرواية, باعتبارها جنسا أدبيا مستقلا، الا أن هذه الاستقلالية التى شكلت الملامح المعروفة للنموذج الروائى, لم تزهر ولم تتحقق إلا فى المجتمع البرجوازى .
لقد قامت الرواية, بهذه الملامح المحددة, لتحقيق مهمة تصوير المشكلات والتناقضات الخاصة بهذا المجتمع, بصورة متميزة عن باقى الأجناس الادبية السابقة عليها. وعلى هذا يرى جورج لوكاتش أن تناقضات المجتمع البرجوازى تمنحنا مفتاحا لفهم الرواية من حيث كونها جنسا أدبيا.(1)
واذا كانت الرواية هى العنصر المكافىء للملحمة فى العصر الحديث, فان الفارق بين الرواية والملحمة يكمن فى طبيعة كلا المجتمعين اللذين عالجتاهما. ومن ثم تشكلت كل منهما على هذا النحو المختلف. فلقد قامت الملحمة كشكل حكائى لتصوير ما يسميه بـ"الوحدة البدائية للمجتمع العشائرى". وهذه الوحدة البدائية تتحدد على أساس غياب التناقضات بين الفرد والجماعة. وهو الامر الذى يوفر إمكانية واقعية وإبداعية لطرح "مفهوم البطولة".(2) فهذا العصر هو عصر البطولات، الذى يقوم الشعر فيه، لا باعتباره شكلا يقوم على النظم الفنى فقط، لكن باعتباره مضمونا أيضاً, وباعتباره منظقا إنسانى فى الوعى والحركة والممارسة فى الحياة. ان أبطال هوميروس, حسبما يقول لوكاتش: " يعيشون ويتصرفون فى عالم لا تزال تقوم فيه كل الظواهر بحماية شاعرية الحياة .."إنه عصر طفولة الإنسان" كما يقول ماركس".(3)
ومن هنا فإن لوكاتش يتبنى موقف هيجل الذى يتناول الشعر باعتباره تمثيلا لوعى المجتمع القديم, فى مقابل "النثر" الذى يعد أحد سمات التطور البرجوازى الحديث, حيث تقف (الفردية) من جانب، عزلاء فى مواجهة قوة مجردة بالغة العتو والحضور وهى الدولة، ومن جانب آخر فإن الواقع اليومى للانسان الحديث يعد واقعا سوقيا وفارغا، يملأه اللهاث المرير الذى يقاسيه (الانسان العادى) وراء مجرد تحصيل المقومات الضرورية للحياة الاستهلاكية, والتواؤم مع المجتمع الخاضع للسلطة المركزية والقانون, مما يخلق نوعا من الاغتراب والاحساس المفعم بالوحدة وانعدام الفاعلية وأن الانسان مجرد رقم زائد عن الحاجة, لا يمثل وجوده أو موته كثيرا من الأهمية. انه المجتمع الذى يجعل العامل جزءا من الآلة, أو آلة موازية تدير الآلة, بعيدا عن ذاتيته وارتباطه الشخصى بالمنتج الذى يقوم بصنعه. وهو مجتمع "اليونيفورم" النظامى أو شبه النظامى الذى يسوى بين جميع أبناء المهنة فى زى موحد بعيدا عن أذواقهم أو ميولهم الشخصية, كما يسوى بين جميع المواطنين أمام صندوق الانتخابات, بصرف النظر عن تفاوت امكاناتهم وقدراتهم الخاصة. انه مجتمع الخطوط والأسهم والاشارات والكاميرات التى تضبط وتتحكم فى سلوك الأفراد ولا تترك لهم أدنى متنفس لممارسة استقلاليتهم وحريتهم الشخصية, بعيدا عن ما تحددده لهم الدولة.
وهو ما يجعل, فى المحصلة, هذا الواقع خاليا من بواعث الفخر والمجد الذى كانت توفره مجتمعات ما قبل الحداثة, بدرجة تجعل من أى سمو شعرى حقيقى للحياة وللانسان أمراً مفتعلا وغير واقعى. ومن هنا فان لوكاتش يعتبر أن تقسيم العمل الرأسمالى هو الذى حرم الحياة من الشعر, وهو الأساس المادى للنثر فى العصر البرجوازى.
ويضيف لوكاتش, إلى الاقتباس السابق, الذى أخذه عن هيجل, ما يراه تناقضاً جوهريا يمثل الأساس المادى للنثر. ألا وهو التناقض بين الانتاج الاجتماعى والملكية الفردية. فحسب لوكاتش, يتوقف هيجل عند وصف شكل ظهور التناقض بين الفرد والمجتمع فى صورتة المجردة، بينما يرى هو (اى لوكاتش) أن .. "ما يحدد مضمون الرواية أن هذا المضمون يرصد الحرب الدائرة داخل المجتمع".(4)
وهو ما يعنى أن الرواية تقوم على أبراز نوعية البشر فى ضوء وجودهم الاجتماعى الذى يقوم على انفصام العرى داخل الوحدة الاجتماعية بين الفرد والجماعة، بعكس ما كان فى المجتمعات التقليدية من "وحدة بدائية بين الفرد والجماعة". هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فان الفرد قد كتب عليه ان يمارس معركته اليومية مع الجماعة /المؤسسة، بأشكالها القمعية والاستغلالية المحددة، تلك التى تحاول أن تقولبه وتسلبه تفرده وخصوصيته, اللذان يمثلان جوهر حريته التى وعدته بها هذه الجماعة فى بواكير التحول البرجوازى.
ومن هنا تصبح الرواية قائمة على طرح "نثر "الحياة, المتمظهر فى الفردية والسوقية وافتقاد معانى البطولة, وانعدام الانسجام بين الانسان وعالمه، وذلك بعكس الملحمة التى كانت تطرح مفهوم البطولة والخيال المطلق السراح, الممثل ل "شعر" العالم والوجود.
ان النثرية هنا ترتبط, أيضا, بانتفاء مفهوم "الانسجام", باعتباره محددا لصفة "الجميل" aesteticum. غير أن لوكاتش يتعامل مع مفهوم الانسجام على أرضية واقعية أجتماعية محددة، أى على أرضية الشروط التى يطرحها الواقع الاجتماعى المعاش, فيما يتعلق بعلاقة الانسان بعالمه, وليس على مستوى تجليه فى العالم النفسى أو الروحى. ان الانسجام المفتقد هنا هو انسجام الفرد مع واقعه الاجتماعى مما يخلق لديه الاحساس بالاغتراب والسوقية والانسحاق. لذا فإنه يرى أن الكتاب الكبار فقط هم "الذين يبشرون بالشوق الانسانى إلى الانسجام، حيث يقولون على الدوام بأن انسجام الفرد يقتضى تعامله المنسجم مع العالم الخارجى وانسجامه مع المجتمع".(5)
إن مفهوم "النثرية" هذا الذى انبثقت منه الرواية، هو الذى يقف وراء تعريف لوسيان جولدمان للرواية بأنها .. "قصة بحث متفسخ عن قيم أصيلة بطريقة متفسخة فى مجتمع متفسخ". وهو ما يؤدى إلى أن يصبح شكل الرواية, عنده, كما لو كان نقلا للحياة اليومية التى تم خلقها عن طريق انتاج السوق فى المجتمع الفردى, الى المستوى الأدبى. حيث يقرر, مواصلا حديثه, وجود .. "مماثلة دقيقة بين الشكل الأدبى للرواية كما حددتها (الكلام لجولدمان)بمساعدة لوكاتش وجيرار،والعلاقة اليومية بين الرجل والسلعة بشكل عام. وبشكل أعم بين بشر وبشر آخرين فى مجتمع ينتج من أجل السوق " .. لذا فهو يرى أنه .. "لا يوجد شىء عجيب فيما يتصل بإبداع الرواية, بوصفها نوعا أدبياً، فشكلها الذى بدا شديد التعقيد يحياه الناس كل يوم".(6)
تقوم الرواية, إذن, بمثابة استجابة للتحدى الذى طرحته التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية البرجوازية على إنسان العصر الحديث, تلك التحولات التى "أدهشته وأربكته", فيما يقول محسن جاسم الموسوى .. "فممارسة الفعل الإعتيادى اليومى لا تعيد إليه الإنسجام فى العالم الخارجى، شأنه فى ذلك شأن الروائيين أنفسهم الذين إنفرط عندهم الإحساس بالانسجام وأخذوا يبحثون مجدداً عن معنى وقيمة الوجود".(7)
ولعل هذه القطيعة بين الفرد والعالم هى التى "تعزز سيطرة النثر على البشرية" فيما يقول لوكاتش، حيث يبرز النثر, هنا, باعتباره مجسدا للإستجابة النوعية لواقع يتعذر فيه الانسجام.
والرواية, أيضا, تمثل طرحاً لنوع من اشكالية العلاقة بين الانسان والتاريخ، أو لنوع من أنواع الوعى بالتاريخ. بل هى عند محمود أمين العالم جنس تاريخى بالمقام الأول, حين يقول: "فالرواية بحق هى البنية الأدبية الزمنية الإبداعية، المعبرة بلغتها السردية عن الوعى التاريخى المعرفى الوجدانى القيمى بهذه المراحل التاريخية الجديدة، بكل ما يتم به هذا الوعى التاريخى من اتساع وعمق وتراكم والتباس واشكالية وتأزم وتطلع ومواقف ودلالات مختلفة".(8)
فيعتبر محمود العالم أن إشتباك الاسطورة بالتاريخ, أو محاولتها التأريخ لعالمها حسب الوعى الانسانى الأولى البسيط, (فالاسطورة ما هى إلا المراحل الأولية للمعرفة التاريخية) يتسق بقوة مع الصفة التاريخية للملحمة والسيرة الشعبية المرتبطتين بالأسطورة، سواء كانت الإلياذة أو الأوديسة أو سيرة الزير سالم والسيرة الهلالية ..إلخ. وإذا إعتبرنا ان الرواية هى ملحمة العصر البرجوازى بمفهوم لوكاتش، الذى تقدم، وكانت الملحمة متسمة بتلك السمة التأريخية, فإن محمود العالم يؤسس على ذلك أن الرواية هى الأخرى تتميز بطابع تاريخى واضح وملموس, لكنه تاريخ نوعى, يتبع سنة التخصص والانفصال النوعى للمجالات. فكما إنفصل العلم وتمايز عن الفلسفة، وكذلك انفصل التاريخ وتمايز عن الاسطورة والملحمة وأصبح قريباً من العلم المستقل، فقد تمخض هذا الاستقلال عن ظهور الرواية بإعتبارها وريثة للملحمة فى العصر الحديث .. يقول: "فأصبح للحكاية بنيتها الزمنية الخاصة التى تتمثل فى الرواية الحديثة ،وأصبح للتاريخ موضوعيته المعرفية التى تسعى لأن تكون علما". إلا أن هذا الانفصال والتمايز بين الرواية والتاريخ لم يؤديا إلى نزع الرواية بالكامل عن المعرفة التاريخية، بل .. (يواصل العالم) "على العكس من ذلك تماما، فقد ضاعف وعمق وأفسح هذه الطبيعة الزمنية والتاريخية, بل كانت الرؤية المعرفية التاريخية الجديدة عاملا أساسيا من عوامل إبداع البنية الروائية الجديدة نفسها"(9)
إن الرواية تعد بذلك نوعاً يمكن تسميته بأنه تاريخ ما لا يكتبه أو يذكره التاريخ، إنها تاريخ الأشخاص فى فرديتهم, وتاريخ الأخلاق فى علاقتها بالواقع الاجتماعى, وتاريخ الاستجابات الفردية تجاه التحولات الاجتماعية والانسانية العامة.
ومن ثم فإن العلاقة بين الانسان والتاريخ هى التى يمكن أن تمثل مفاتيح فهم الرواية. ولذلك يؤكد فريدريك إنجلز أنه قد تعلم من روايات بلزاك اكثر مما تعلم .."من جميع كتب المؤرخين والاقتصاديين المهنيين جميعا فى عصره".(10) أى عصر بلزاك. وأتصور أن انجلز يقصد أنه تعلم فعالية التاريخ الحقيقية وغير المرئية من خلال تجليه النوعى, المادى والفكرى, على سلوك الافراد ونفوسهم وجوانب حياتهم الداخلية والخارجية، وصراعاتهم بشأن تحديد مصائرهم, فى خضم تحولاته.
وبدهى أن هذا النوع من القضايا الانسانية الباطنية لا يمكن أن يعالجها المؤرخون والاقتصاديون، وهو الأمر الذى يؤكده بلزاك نفسه فى مقدمة طبعته لسلسة "الكوميديا الإنسانية" عام 1842, قائلاً : أنه قد .. "أضاف إلى عمل المؤرخين فصلا منسياً هو تاريخ العادات والتقاليد" .(11)
وعلى هذا فإننا نستطيع ان نقول أن الرواية عند ممثلى الاتجاه الاجتماعى تقوم على تجلى التحولات الاجتماعية التاريخية فى جدلها مع الانسان الفرد, بل إنها تجسد محاولة تمثيل وضع الانسان إزاء تحولات التاريخ.
الشخصية الروائية
لقد احتل مفهوم الانسان مكانا محوريا عند اصحاب الاتجاه الاجتماعى كما هو واضح فى النقطة السابقة. بل إن لوكاتش يرى أن الانسان هو المحور الأصيل, الذى, بدونه يستحيل وجود فن أو أدب ,فيقول فى كتابه "معنى الواقعية المعاصرة": "ليس هناك مضمون الا وكان الانسان بذاته نقطته البؤروية". لذلك فإن القضية الاساسية بالنسبة للادب, عنده, هى البحث عن معنى الانسان وقضيته الوجودية, فمهما تنوعت اتجاهات الأدب, سواء أكانت طرحا لتجربة ابداعية, أم (حتى) مجرد ابتغاء لهدف تعليمى .. "فالسؤال الاساسى هو – وسيظل – ما هو الانسان". (12)
ان لوكاتش بذلك يعتبر أن الطرح الابداعى لقضية الانسان يمثل نقطة فاصلة بين ما هو أدب حقيقى وآخر زائف, أو ربما, ليس بأدب على الاطلاق. ومن أجل بحث معنى الانسان على نحو يتسق مع معطياته الاجتماعية السالفة الذكر, فإن لوكاتش ينطلق من مقولة أرسطو (التى توصل اليها عن طريق اعتبارات مغايرة للاعتبارات الجمالية المحض ) : "الانسان حيوان اجتماعى". حيث يرى أن هذه المقولة تنطبق على كل ما يمكن أن يطلق عليه تسمية "الادب الواقعى العظيم", لتشكل نماذج الشخصيات الروائية الخالدة لهذا الأدب. من أمثال أخيلوس, وفارتر, وأوديب, وتوم جونز, وأنتيجونا, وأنا كارينينا .. إلخ.
ان العظمة الفنية التى تجسدها هذه الشخصيات, باعتبارها نماذج انسانية, تتمثل فى .. "أن وجودهم الفردى أو نظرتهم الى الحياة (...) أو كينونتهم الانطولوجية لا يمكن تمييزها عن بيئتهم الاجتماعية والتاريخية, ولا يمكن الفصل بين مغزاهم الانسانى وتفردهم الخاص وبين الاطار الذى خلقوا فيه."(13)
فالانسان على هذا الأساس انما هو كائن تاريخى (كما أن الرواية تمثل بنية فنية ذات طابع تاريخى كما تقدم فى النقطة السابقة ), أى أن مصيره وعوامل التأثير فيه لا ينحصران داخل حدود تجربته الخاصة, فحسب, بل فى العلاقة بين هذه التجربة الذاتية الخاصة والواقع الموضوعى العام. فهو يمتلك تاريخه الشخصى , ولكن هذا التاريخ لا يتطور الا من خلال اتصاله بالعالم , فهو يشكله كما يتشكل به , ويؤثر فيه ويتأثر به.
والانسان, حسب ذلك, يمثل نقيضا مباشرا لنظيره الذى يتم تصويره وتجسيده فى أعمال الكتاب البرجوازيين من "الطليعيين" و"العبثيين" و "الوجوديين".. الخ, الذين وجه لهم لوكاتش نقدا مريرا, من هذه الناحية. فالانسان عندهم, فيما يرى, كائن غير اجتماعى, منحصر داخل حدود تجربته الخاصة, منعزل ومنغلق على ذاته, وعزلته وانغلاقه ليسا مجرد حالة فردية, ولكنهما يمثلان الوضع الانسانى العام والمطلق. ومن ثم, فانسان هذا الأدب كائن لا تاريخى, ولا تتغير أوضاعه الروحية والمادية بحسب زمنه وواقعه الاجتماعى.
والاسهام الوحيد الذى يمكن أن يحققه الأدب فى هذه الحالة, فيما يرى لوكاتش, هو الكشف التدريجى عن هذا الوضع الجامد واللانهائى : "فالانسان هو ما كان عليه على الدوام وما سيكون عليه على الدوام", حسب منظورهم. وهو ما يؤدى الى طرح ملمح فى غاية الأهمية يدلل به لوكاتش على عقم النزعة الطليعية (أو ما يسميه فى مكان اخر بالنزعة الحديثة ) حيث يرى أن الروائى أو الذات الفاحصة يصبح فى هذه الحالة .. "فى حالة حركة, والواقع المختبر فى حالة جمود"(14).
ان هذا يعنى أن هذا الفهم البرجوازى للعالم, المتمثل فى الحركة الطليعية, وما يماثلها فى الرؤية والمنهج, من اتجاهات فنية تتخذ لنفسها صفة الحداثة, انما يجمد الوضع الانسانى عند حالة روحية واحدة, ولا يرى فيه ما هو أبعد من ذلك من امكانات وتجليات غير منظورة للوجود الانسانى. ومن ثم لا تتصل حركية الابداع بحركية الوجود لتطرح نماذج وكيانات روائية متجددة باستمرار, وليس نسخا مكررة من الضجر والغربة والانزواء كما تفعل هذه الحركات الفنية وأضرابها.
ويفرق لوكاتش فى هذا المجال بين نوعين من الامكانات التى تحكم حركة الشخصية الروائية حسب المناظير المختلفة, وهما : "الامكانات المجردة", و "الامكانات المحددة". ف"الامكانات المجردة" تنتمى كليا الى عالم الذات وتقبع داخله على هيئة أحلام ورؤى وتصورات. وهى, بالتأكيد, أكثر ثراء من الحياة الفعلية المعاشة, حيث أنه من الممكن أن نتخيل احتمالات لا حصر لها لتطور الانسان, حسب هذه الامكانات, بيد أنه لا تتحقق منها الا نسبة ضئيلة للغاية. و اذ تخلط "الذاتية الطليعية", (وهو الاسم الذى يطلقه لوكاتش مجددا على هذه الحركات المرتدية ثوب الحداثة) بين هذه الامكانيات المتخلية وبين التعقيد الفعلى فى الحياة فانها تحصل على نتيجة مفادها أنه لا امكانية للمواءمة بين أشواق الذات الهادرة المبهمة و ما يمكن أن يقدمه الواقع الفعلى المعاش, ومن ثم تتأرجح بأسى بين السوداوية والانبهار. وعندما يرفض العالم هذه الامكانيات, تأخذه هذه السوداوية الى "صيغة الازدراء". فيأخذ فى الازورار والاغتراب البائس عن العالم.
أما "الامكانيات المحددة" فهى تلك التى تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الذات الفردية والواقع الموضوعى, ولهذا فإن العرض الأدبى للامكانات المحددة (الجدلية), لابد أن يتضمن وصف الأشخاص وهم يعيشون فى عالم محسوس ويمتلك ملامح, يمكن التعرف عليه من خلالها. فى هذه الوضعية التى تمثل عملية تفاعل الشخصية مع عالمها الواقعى, يمكن تبين الامكانات المحددة (بمعنى الفعلية والممكنة, هنا) لشخص معين, حيث سنلاحظ الآفاق اللانهائية التى ينفتح عليها ويمكن أن يتطور اليها, فيصبح مصيره مرتبطا بعملية جدلية منفتحة بين ملكاته الشخصية وتحديات عالمه الاجتماعى المتحول تاريخيا وأبدا, عبر عوامل التغيير التى لاتهدأ, والتى ربما يكون هذا الشخص بالذات أحد الفاعلين فى تحقق أجزاء ليست هينة منه. مما يؤدى الى امكانية فصل هذه الشخصية عن ما يسميه لوكاتش بـ "اللانهائية الرديئة" لل"امكانية المجردة" الخالصة, التى تطرحها التصورات البرجوازية للانسان والعالم. ان هذه "الامكانات المحددة" ذات الطابع الجدلى المنفتح على علاقة تجاذبها عناصر "الوحدة والصراع" بين الانسان والعالم, هى وحدها ما يمكن أن يتيح فرصة ابراز العوامل الحقيقية للبؤس الانسانى, وتحديد أن هذه الظروف المحددة هى التى تتحكم فى هذا الفرد بالذات وفى هذه المرحلة بالذات من مراحل تطوره, ومن ثم يمكن قياس الموقف المضاد الذى يمكن أن يتخذه الشخص وتبيان حصيلة هذا الجدل الغنية والمفعمة.
وهذا المبدأ وحده هو الذى يتيح للفنان التمييز بين انواع متباينة من الشخصيات, بقدر تباين قدراتها فى مواجهة واقعها والتحديات التى يلقى بها فى وجوهها. فكما يقول لوكاتش : "هناك من المواقف ما يحدث ويواجه الانسان باختيار ما, وفى عملية الاختيار قد تكشف شخصية الانسان عن نفسها فى ضوء قد يدهشه هو نفسه." (15)
فليس هناك من سبيل لتمييز هذه الامكانات الأخيرة, بصورة مسبقة, عن الامكانات العديدة التى تعيش فى عقل الشخصية, طالما ظلت امكانية ذاتيه فى هذا العقل ولم تخض, بعد, غمار التجربة الفعلية. بل ان هذه الامكانية الفعلية قد تكون دفينة تماما لدرجة انها يمكن الا تخطر على بال هذه الشخصية, حتى باعتبارها إمكانية مجردة, قبل لحظة الاختيار. وقد تكون الذات الواعية غير مدركة لدوافعها ذاتها بعد أن تصل لقرارها.
ومن هنا لا يمكن عزل "الامكانية المحددة" عن "الامكانات المجردة" العديدة, والواقع الفعلى هو فقط الذى يمكنه أن يكشف عن الاختلاف القائم بينهما.
وعلى هذا يمكن القول بأن لوكاتش يرى أن الأدب الواقعى الذى يهدف الى تصوير الواقع تصويرا صادقا, لابد أن يبين كلا من "الامكانات المجردة" و "الامكانات المحددة" للشخصيات الانسانية فى مواقف متطرفة, أى مواقف كاشفة من فرط قوة وفاعلية تأثيرها .. "واذا ما تكشفت الامكانية المحددة للشخصية. فسوف تبدو امكانيتها المجردة غير صحيحة من أساسها."(16) وذلك على العكس تماما مما نجده عند اصحاب النزعة "الطليعية", المشار اليها آنفا, حيث يتم تصوير الانسان ككائن منفرد وحيد, قد تقرر مصيره بصورة مسبقة, غير قادر على اقامة العلاقات ذات الدلالات. وهنا يكون التمييز بين "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة" للشخصية غير ممكن وباطل المفعول, وتميل التقسيمات بينهما الى التداخل. فالقدر الخارجى بالعزلة والغربة والنفى يقابله من الداخل الضجر والسأم واللا مبالاة.
ومن هنا فإن لوكاتش يحصر الفارق بين هاتين النظرتين فى اطار كونه ممثلا لمشكلة عقائدية بالدرجة الأولى, من حيث موقف الكاتب من الواقع. فهل من الممكن من الناحية المبدئية فهم هذا الواقع ؟؟ ومن ثم, يمكن تفسير تحولاته ؟؟ أم أنه يستعصى على الفهم ؟؟ ومن ثم, فلا جدوى من محاولة تفسيره, وبالتالى تغييره ؟؟
فإذا أصبحت استحالة فهم الواقع هى منطق الكتابة, فضلا عن الاحتفاء المبالغ فيه بالذات, (وهما مرتبطان عند لوكاتش), فلابد للشخصية أن "تتحلل" بالضرورة. لأنها تصبح, حينئذ, مرتكزة على عالمها الذاتى الخالص الملئ بالامكانيات المجردة التى لا تسفر الا عن الوهم, وبالتالى اليأس والعزلة, وربما الانتحار. كما أن الاعلاء من أهمية هذه الذات (يقول لوكاتش) .. "على حساب الواقع الموضوعى لبيئته, يفقر ذاتية الانسان نفسها." (17)
كما أن طرح الوجود الذاتى بدون صفات انما هو أمر مكمل لمفهوم "انكار الوقع الخارجى". وهنا تصبح "صنعة كافكا الحقيقة", موجهة نحو احلال رؤيته القلقة للعالم محل الحقيقة الموضوعية المستقلة لهذا العالم, أما تفاصيل الواقع عنده فهى ليست الا تعبيرا عن الوهم الطيفى, عن عالم من اضغاث الأحلام, الذى من شأنه أن يثير القلق لا أن يعين على فهم العالم والانسان.
وهكذا يصل لوكاتش الى أن .. "التقليل من شان الواقع, وتحلل الشخصية, يعتمدان أحدهما على الآخر, وكلما ازدادت قوة الواحد منهما ازدادت قوة الآخر, وتحت الاثنين معا يكمن الافتقار الى نظرة ثابتة للطبيعة البشرية. فالانسان يختزل الى متتالية من الجزئيات التجربية غير المترابطة. وهو يدق على التفسير بالنسبة للآخرين كما يدق على التفسير بالنسبة للشخص نفسه."(18)
وبالتالى, فان "تحلل الشخصية", أى, خواؤها وانقسامها وانهيارها باعتبارها نموذجا انسانيا, انما هو فى الاصل نتيجة لا واعية للمطابقة بين "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة", أو اعتبار "الامكانية المجردة", أو الذاتية, هى الامكانية الوحيدة. ومن ثم, تحل محل "الامكانية المحددة", أوالواقعية. ان هذا الخلل يرتفع, حسب لوكاتش لدى هؤلاء الطليعيين وفى وعيهم الى مستوى "المبدأ المقصود", حيث يقول : "ليست مجرد مصادفة أن يطلق "جوتفريد بن" على احدى كراساته النظرية "حياة مزدوجة", فقد اتخذ تحلل الشخصية هذا بالنسبة ل"بن" شكل الانقسام الفصامى. وليس هناك مجال لرؤية أى نسق متماسك للدوافع والسلوك فى شخصية الانسان".(19)
ان هذا "المبدأ المقصود"، انما يعنى الانتماء الواعى والعمدى للرؤية المبنية على اعتبار التشويه حالة قدرية, وأن الشخصية الفصامية المنقسمة هى نموذجه المعتمد للحقيقة الانسانية. وهنا يربط لوكاتش هذا "المبدأ المقصود" الذى أقر به "بن", وأدى الى طرحه المتحلل للشخصية الانسانية، يربطه بانتشار فلسفة كيركجارد الذى أنكر الوحدة بين العالم الداخلى والعالم الخارجى. فالانسان بالنسبة لكيركجارد يوجد داخل "شخصية متنكرة" مغبشة لا يمكن النفاذ إليها. حيث لقيت هذه الفلسفة رواجاً ملحوظاً بعد الحرب الثانية.
وهو ما يجعل لوكاتش يرى فى ذلك دليلاً على أنه حتى أكثر النظريات إبهاماً قد تعكس الواقع الاجتماعى، ولكنه انعكاس شائه لا يأخذ فى اعتباره كلا الامكانيتين اللذين سبقت الاشارة اليهما. وهما "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة", فلم يناقش مأزق الانسان فى علاقته بعالمه, بل ناقشه باعتباره مأزقه قدرا سرمديا, مما يجعل تغييره مستحيلا, ويؤدى الى هذا الطرح أحادى البعد.
كما لا ينسى لوكاتش أن يربط بين هذه الافكار التى تقول بأن "أفعال الانسان الخارجية ليست دليلا على دوافعه "وبين اصحابها (مارتن هيدجر، كارل شميت، وغيرهما), ممن شاركوا فى دعم النازية. أى أن الفاشيست قد وصلوا بسلوكهم الى نفس تحليل الشخصية الذى نجده فى أدب الطليعيين.(20)
يمكننا اذن ان نفرق بين نوعين من التعارض بين الشخصية وعالمها:
الأول: هو التعارض القائم من خلال وحدة جدلية بين الانسان وعالمه، كما تقدم, وهو الذى يفضى الى خلق شخصيات روائية على قدر من العمق والتماسك والدلالة الانسانية القوية.
أما التعارض الثانى: فهو الذى يقوم على تحطيم نسيج العلاقات المعقدة بين الانسان وبيئته, وبدلا من أن يقوم على الوحدة الجدلية بينهما، اذا به يقوم انفصال مطلق بين الذات والعالم وهو ما يؤدى الى تحلل الشخصية.
إن الانفصال بين الذات والعالم يعنى أن هذه الشخصية لا تمتلك ما يسميه لوكاتش بـ"النظرة الى العالم", وهو نفسه مصطلح "المنظور" perspective الذى ورد ذكره فى الباب الثانى من هذا الكتاب. والنظرة للعالم هنا تعنى رؤية محددة للوجود, تقوم على أساس تبنى موقف واضح من قضايا المرحلة التاريخية بما تشتمل عليه من عناصر الصراع الدائر فى الواقع الاجتماعى. وهى تعد, عنده, الشكل الأرقى للوعى, وهى نتاج التجربة الشخصية العميقة التى يعيشها الفرد، بل هى .. "أرقى تعبير يميز ماهيته الداخلية، وهى تعكس بذات الوقت مسائل العصر المهمة عكساً بليغاً".(21)
ولهذا يستنتج لوكاتش أن أى وصف لا يشتمل على نظرة معينة من لدن شخصيات العمل الروائى الى العالم لا يمكنه أن يكون تاماً، وهو فى ذلك يطابق بين مفهوم النظرة الى العالم، وبين مفهوم آخر استخدمه فى كتابه : "دراسات فى الواقعية", أطلق عليه مصطلح : "السيماء الفكرية للشخصية". وهى تعنى أنه ليس من الضرورى أن يكون موقف الشخصية الروائية صحيحا تماماً من الناحية الموضوعية، أو أنها تعكس الواقع عكساً صادقا أو دقيقاً. ولكنها فى أى وضع من اوضاعها ينبغى أن تمتلك دلالة فكرية ما, أو نظرة معينة الى العالم, ولا تشترط هذه السيماء, بالضرورة, أن تكون هذه النظرة ذات كيفية فكرية مجردة. بل تشترط, بالدرجة الأولى, جذوراً سلوكية يمكن رؤيتها فى نوازع الاشخاص وفى ارتباطها العميق بكامل جوانب حياتهم.
ويربط لوكاتش مفهوم "النظرة الى العالم", أو "السيماء الفكرية للشخصية", بالمفهوم الجوهرى لجهده النظرى الأساسى، ألا وهو الانعكاس الفنى للواقع الموضوعى بكل غناه وتعدده وعمقه. وهذا الغنى والتعدد والعمق ينشأون جميعا فى الواقع من الفعل المتبادل والمتنوع والملىء بالصراعات بين النوازع الانسانية المتضادة، وهذا ناتج تحديداً عن أن .. "أناس الواقع لا يعملون جنباً الى جنب بل من أجل بعضهم بعضاً وضد بعضهم بعضاً. وهذا الكفاح (الصراع) هو الذى يؤلف أساس وجود وتفتح الفردية الانسانية".(22)
اذن فهذه الوضعية المعقدة هى التى تغنى الحدث وتجعله متوترا، بحيث يكون بمثابة ملتقى لصراع الأفعال والنظرات المتبدلة عيانيا, فى تشابكها وتعقدها داخل الممارسة الانسانية. كما أن التوازى والتضاد اللذين يمكن أن نلمسهما فى سلوك الشخصيات إزاء بعضها البعض، وباعتبارهما ممثلين لشكلي تجلى الاتجاهات البشرية, انما يعكسان فى جوهرهما الأشكال الاساسية الأعم والأعمق والأكثر جوهرية للحياة الانسانية ذاتها.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط, وانما يكتمل بأن تصبح الظواهر العامة النموذجية, تصرفات خاصة فى الآن نفسه. أو أن تتجلى هذه التصرفات الخاصة وتصبح نوازع شخصية لأناس محددين، وهنا يكمن, ما يراه لوكاتش, سر النهوض بالفردية الى مستوى نموذجى، دون أن تسلب منها القسمات الفردية, بل ينبغى أن يتم التشديد على هذه القسمات بالذات، حيث يؤدى امتدادها على استقامتها وتبيان مجاليها المختلفة, الى اكتشاف النوازع والقدرات الخفية للانسان والتى لا يمتلكها فى الحياة ذاتها الا على نحو مشوه، ولا تتعدى فيها نطاق الرغبة والإمكان.
وهو ما يعد على نحو من الأنحاء اجابة من زاوية معينة على السؤال الذى يرى لوكاتش أنه يمثل جوهر الأدب الجيد . ألا وهو "ما هو الانسان", كما سبقت الاشارة.
ومن هنا يصبح مفهوم الانعكاس فى مجال الادب الروائى مرتكزاً على أن ما يرتقى الى واقع مصاغ عن طريق الأدب، ما هو الا ما ينطوى عليه الانسان باعتباره إمكانية وليس باعتباره مجرد واقع بارد مباشر، وهو ما نفهمه من عبارة لوكاتش:"ان التخطى الأدبى يقوم على اعطاء هذه الامكانيات الغافية فى الانسان تفتحاً كاملاً".(23)
وهذا الأمر يمثل النقيض المباشر لما تفصح عنه عمليات طرح نظرة الشخصية الروائية للعالم دون أن ترتبط بممارسة حدثية مباشرة، ودون ان ترتبط بالامكانيات المحددة والملموسة للانسان من خلال الممارسة داخل الحدث،أو دون أن تبرز من خلال الصراع الحسى للنوازع والمآرب البشرية، كأن تظل فى نطاق التصريحات الفكرية المجردة.
فالشخصية الروائية لا تصبح مهمة ونموذجية الا إذا عاشت أشد قضايا العصر تجريدأ وكأنها قضاياها الخاصة, أو "كانها مسألة حياة أو موت" كما يقول لوكاتش.
بينما ينحط هذا التعميم الى تجريد فارغ حين تنقطع الصلة بين الفكرة المجردة والمعاناة الشخصية الملموسة عبر الحدث، وكذلك, حين لا تتعايش هذه الفكرة مع صميم الخصوصية الفردية للشخصية الروائية.(24)
إن الشخصية الفنية على هذا النحو تعد بذاتها التجسيد المباشر لمفهوم "النمط", الذى تحدث عنه لوكاتش فى كتابه "دراسات فى الواقعية الأوربية". حيث يعتبره المعيار الرئيسى والمقولة الرئيسية للأدب الواقعى, ويصفه بأنه : "ذلك المركب الغريب الذى يربط الخاص والعام معاً بطريقة عضوية فى كل الشخصيات والمواقف وما يعطى للنمط جوهره ليس كونه مثلاً للوسط الحسابى للنوع الذى ينتمى إليه، وليس مجرد وجوده الفردى، مهما كان تصوره عميقاً، لكنها تلك التحديات الاساسية، والانسانية، والإجتماعية التى نجدها متمثلة فى أوج تطورها وارتقائها، فى أقصى تفتح للامكانيات الكامنة فيها، فى ذروة عرضها لأطرافها البعيدة، مجسدة بذلك قمم وحدود البشر والمراحل التاريخية".(25)
وهكذا فإن الواقعية العظيمة, كما يراها لوكاتش, تقوم على تصوير الانسان بإعتباره كياناً كلياً.
وعلى العكس من ذلك، فإن الاتجاهات التى تقوم على الاستبطان المطلق، أو التجريد الذاتى, الذى يهمل شأن الواقع الموضوعى, أو يقوم على زعم استحالة فهمه, كما رأينا قبل قليل، وكذلك الذى يقوم على التبسيط المطلق أو تستطيح الشخصية لصالح طرح الواقع الموضوعى حرفياً، كما هو عند الطبيعيين، هذه الاتجاهات تتساوى فى أنها تجدب الواقع والانسان وتشوههما, من خلال اختزالهما فى نقطة أحادية من وجودهما دون أن يكتملا ككايانين كاملين وحقيقيين.
إن طرح الشخصية الروائية على هذا النحو الجدلى ينطلق من كونها تعتبر"شخصية إشكالية" أو "شخصية معضلة" (بالترادف بين المصطلحين) بالمقام الاول. بما يعنى انها شخصية غير بطولية، كما قد نجد فى الملحمة أو التراجيديا. كما أنها ليست شخصية أحادية الجانب, كأن تعيش عالمها الداخلى فقط أو الخارجى فقط، بل هى شخصية متعددة الأبعاد، متناقضة الرؤى والنوازع، تكتنفها حالة صراعية كاملة، سواء, أفى داخلها أم مع خارجها، أو بينهما أو معهما. وهى فى كل ذلك, ولكى تكون كذلك لابد أن تكون منطلقة من نظرة معينة للعالم, سواء, أكانت ظاهرة ومعلنة, أم مضمرة.
ولقد تطور مفهوم "النظرة الى العالم", الذى رأيناه عند لوكاتش, على أيدى لوسيان جولدمان, ليشمل كل نتاجات الأدب والفلسفة, ولا يقتصر على الشخصية الفنية وحدها. كما أنه يمدده, بحيث يصبح .. "ليس وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية". وهذا الأمر ليس متناقضاً بأى حال, فى جوهره, مع ما طرحه لوكاتش, فهو (أى مفهوم النظرة الى العالم) يمثل عند جولدمان"طريقة للنظر والاحساس بكون ملموس مشتمل على كائنات واشياء ".(26)
وتصبح النقطة الجوهرية, فى هذا المقام, هى العلاقة بين العمل الأدبى و نظرات للعالم, "رؤيات العالم", التى تقابل شريحة أو طبقة, أو عدة شرائح أوطبقات, اجتماعية معينة. وهى تلك التى تطرح الدلالة الموضوعية للعمل الأدبى، بحيث يمكن بعد ذلك اقامة علاقة بينه وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر.
فعلى الرغم من أن العمل الأدبى هو بالتأكيد من انتاج صاحبه، الا أن جولدمان يؤكد أنه, الى جانب ذلك, متوفر على منطقه الخاص، وأنه ليس ابداعاً تعسفياً، بل هناك التحام داخلى لمنظومته المفهومية، كما أن هناك التحاماً لمجموعة المكونات الحية داخله، وهذا الالتحام يجعل تلك المفاهيم والكائنات تؤلف"كليات"يمكن لاجزائها أن تٌفهم انطلاقاً من بعضها البعض, وأن يفهم الجزئى انطلاقاً من بنية الكلى .
وهذا المعنى لا ينفصل بأى حال، فى رأيى ،عن مفهوم الشخصية الروائية أيضاً, تلك التى لا يمكن الفصل بين محيطها الاجتماعى التاريخى الذى طرحت فى اطاره وبين خصوصيتها وتفردها الناجمين عن خصوصية وتفرد كاتبها ذاته, رغم تاريخيته .. يقول جولدمان: "لا شك أنه من المستحيل ان نفهم (فاوست)و(باندورا)بدون إيلاء الاعتبار للثورة الفرنسية أو لنابليون. لكن عندما تظهر العلاقة الرابطة بين هذه الأعمال وبين الاحداث التاريخية المعاصرة لها، فإنه يبقى علينا كذلك أن نتسائل عن الكيفية التى امتزجت بها الأحداث فى وعى جوته ومع تجاربه الشخصية لينتهى الى تلك الروائع التى كتبها تعبيراً عنه".(27)
وكما أن وعى جوته لا يمكن فصله عن محاولتنا لفهم شخصيتى فاوست وباندورا الا أنهما (أقصد الشخصيتين) يمتلكان استقلالية من نوعٍ خاص داخل العمل الأدبى، ولذلك فهما أيضا يمتلكان نوعاً من الوعى الذى يحكم حركتهما الفنية وأختياراتهما المصيرية الخاصة. بيد أن هذا الوعى ليس منفصلاً عن وجودهما الاجتماعى المحدد .. يقول جولدمان: "ان الوعى ذاته عنصر من عناصر الواقع الاجتماعى، ووجوده نفسه يسهم فى جعل مضمونه ملائماً أو غير ملائم".(28) ففاوست وباندورا، لذلك لا يمتلكان توترهما الخاص الذى يجعل منهما شخصيات فنية حية.
وينقسم هذا الوعى عند جولدمان الى نوعين:"وعى قائم"، وهو الوعى الذى تضافرت فى تشكيله الخبرة التاريخية الاجتماعية المكتسبة. و"وعى ممكن"، وهو يمثل الحد الأدنى للتلاؤم الذى يمكن أن تدركه الجماعة, أو "الشخصية الفنية" دون أن تغير من طبيعتها .(29)
ويمكن فهم العلاقة بين هذين النوعين من الوعى بالنظر إلى الفرضية الأساسية التى تقوم عليها "البنيوية التكوينية" التى قام عليها ونظر لها لوسيان جولدمان. من حيث أنها ترى أن كل سلوك انسانى إنما هو محاولة لتقديم جواب دال على وضعية مطروحة، وهو من خلال ذلك يعد محاولة لخلق توازن بين الذات الفاعلة والموضوع الذى مورس عليه الفعل. وهو المعنى عينه الذى يردنا مرة أخرى الى مفهوم الانسجام الذى تعرفنا عليه عند لوكاتش.
وهذه الفرضية لا يطرحها جولدمان بإعتبارها فرضية مطلقة, بل هى نسبية على نحو خالص. ومن هنا تصبح العلاقة بين "الوعى القائم" و"الوعى الممكن" متمثلة فى عناصر السلوك التى تنتجها الذات الفنية "الاجتماعية" لتحقيق التلاؤم – الانسجام بين الذات والموضوع، وبين الانسان والعالم.
وهو الأمر الذى يمكن أن نتصور أنه عملية انتاج ل"لإيدولوجيا"، وأقصد بها هذا البناء الفكرى الذى يصوغ رؤوية الانسان وعالمه وتصوره لدوره الممكن خلاله. لذلك فإن سلوك البطل الروائى لا يمكن فصله عن رؤيته الأيدولوجية, بل هو مبرر دائماً من خلال هذه الايدولوجية.
ويواصل ميخائيل باختين هذا الخط قائلا: "إن فعل البطل الروائى مبرر دائما من طرف ايدولوجيته ويتصرف داخل عالمه الايدولجى الخاص به ..وله مفهومه الخاص به للعالم مجسدا فى كلامه وأفعاله "(30)
إن هذا الأمر مبنى عند باختين على أساس ان خطاب المتكلم فى الرواية ليس مجرد خطاب منسوخ أو معاد إنتاجه كما رأينا عند البنيويين (بارت، وكريستيفا، وتودوروف), بل .. "هو بالذات مشخص بطريقة فنية"، وهو يقول هذا رغم إقراره بأن "المتكلم" أساساً, إنما هو.. "فرد إجتماعى ملموس ومحدد تاريخياً". وخطابه يعد لغة أجتماعية..وليس مجرد لهجة فردية .. "وذلك لأن كلام الشخصيات ينزع دوماً نحو دلالة وانتشار اجتماعيين معينين". فهو لغة إفتراضية, أو لغة بالقوة، لو إستخدمنا التعبير الفلسفى (الأرسطى). ومن هنا فهو ليس نسخاً أو محاكاة للخطاب الإجتماعى عبر ايدولوجيا المتكلم أو الشخصية الروائية على حدٍ سواء. وعلى هذا فإن المتكلم فى الرواية عند باختين إنما هو منتج أيدولوجياً..وكلماته هى دائماً"عينة أيدولوجية", أو "أيديولوجيم", كما يسميها.(31)
هكذا يتضح لنا أن الشخصية الروائية لدى الاتجاه الإجتماعى تنطلق من مفهوم الانسان, باعتباره كائناً إجتماعياً بالدرجة الأولى. ومن ثم, فهى تمثل النموذج الإنسانى الإشكالى الذى يتجاذبه طرفا التوتر الجدلى، المتمثلين فى مقولتى "الذات" و "الموضوع", "الأنا" و"الآخر", "الخاص" و"العام", "الداخل" و"الخارج" .. الى غير ذلك من مترادفات.
وهى (أى الشخصية), فى كل هذه الألوان من الصراع, تكتسب وعياً جديداً كما أنها تنتج وعيا متجدداً، أى تحمل أيدولوجياً وتنتج أيدولوجيا، باحثة عن الانسجام والتلاؤم مع عالم يتحدى إنسانيته وينفيها.
أساليب السرد الروائي
مثلما يفتقر الاتجاه البنيوي إلى نظرية مستقرة حول الشخصية الروائية, كذلك فإن أصحاب النقد الاجتماعي يفتقرون إلى نظرية متكاملة حول مفهوم السرد وأساليبه.
فلم يحظ مفهوم السرد Narration , بمعناه المعاصر, من حيث كونه تقنية للحكي, بمعالجات كافية, سواء, أمن كلاسيكييهم, أم من المعاصرين منهم, بيد أنهم تناولوا شيئاً قريباً من ذلك. ألا وهو, مشكلة الصياغة الفنية للرواية, والفارق في الطرح السردي بين كل من الرواية الطليعية والرواية الطبيعية, ورواية الواقعية النقدية ورواية الواقعية الاشتراكية.
ففي كتابه "دراسات في الواقعية", يتحدث جورج لوكاتش عن الحدث باعتباره ملتقي للأفعال المتبادلة والمتشابكة في ممارسة الإنسان. حيث يقوم الصراع عنده, ممثلا لشكل أساسي من هذه الأفعال المتبادلة المليئة بالتناقض. وذلك عبر مقولتي : "التوازي" و "التضاد" اللتين تشكلان اتجاه الحدث , وباعتبارهما شكلين تمارس فيهما النوازع البشرية فعلها تآزرا أو تنازعاً. ويخلص من ذلك إلى أن هذه المبادئ الأساسية للتأليف الروائي.."إنما تعكس في تركيز إنشائي الأشكال الأساسية الأعم والأعمق بضرورة الحياة الإنسانية ذاتها". لكن الأمر عنده لا يتعلق بهذه الأشكال في ذاتها, بل ينبغي أن تقوم على تحويل الظواهر العامة النموذجية إلى تصرفات خاصة في الآن نفسه, إلى نوازع شخصية لأناس معينين.
وهذه المهمة تقع على عاتق الفنان الذي يقوم بخلق أوضاع ووسائل تعبير, يمكن بواسطتها أن يظهر على نحو حسى كيفية تجاوز هذه النوازع الفردية للأطر المشكلة للعالم الفردي المحض.(32)
ويتم ذلك عبر ما يسميه "بالتجريد", الذي يمكن أن يكون مرادفاً لمفهوم "التكثيف". فلا يوجد فن روائي بدون تجريد وإلا لما تمكن هذا الفن من خلق البطل "النموذجي". بيد أن لعملية التجريد, تلك, مثل كل تقنية محددة, اتجاها, وهذا الاتجاه هو ما يهم لوكاتش بصورة أساسية. فكل كاتب كبير يعالج, بوسائل التجريد تلك, مادة عمله. وذلك كي ينفذ إلى السمات الجوهرية للواقع الموضوعي, وإلى علاقاته الخفية غير المدركة بصورة حسية مباشرة, والتي لا يمكن لمسها إلا عبر وسائط. إن هذه العلاقات عادة ما تكون متداخلة وغير متساوية في أهميتها أو آثارها, ولا تقوم إلا على هيئة توجهات محتملة, فضلاً عن أنها ليست منظورة على السطح المباشر, ولذلك فإن الكاتب يقع عليه عبء مزدوج:
فعليه, أن يتناول الجانب الفني كما يتناول جانب نظرته إلى العالم عبر هذه التلافيف, يقول لو كاتش : "فهو يقوم أولا, على مهمة الكشف الفكري والصياغة الفنية لهذه الترابطات, وثانياً يقوم – وهذا لا ينفصل عن الأولى – على التغطية الفنية للترابطات التي تعالج مجردة – أي على رفع التجريد". وهو يقصد برفع التجريد رؤية علاقات الواقع في تجسدها وتداخلها تمهيداً لطرحها من خلال منظوره في تجريدها النموذجي. وهو ما يؤدي إلى طرح صياغي فني جديد للواقع, أو كما يقول: "سطح للحياة مصنوع فنياً". غير أنه رغم ذلك عليه أن يبدو كسطح شامل للحياة بكل تعيناته الجوهرية, لا كلحظة مدركة فى ذاتها, أو معزولة عن مجمل هذا الترابط الكلي.(33)
إن القضية عند لوكاتش, إذن, تتحدد في قدرة الكاتب على إبراز التركيب الجوهري للعالم, من خلال تعمق بنيته وعدم الوقوع في شراك "خبثه" أو مكره, الذي تحدث عنه لينين. على أن يتم طرح ذلك من خلال صياغة فنية قادرة على إبراز منظور الكاتب لهذا العالم, إن المقصود "بالجوهري", هنا, هو تلك العناصر والقوى الحقيقية, وليست الزائفة أو السطحية, المحركة لصيرورات الوقائع والبشر.
والكاتب يرى هذا "الجوهري" في حركية هذه الوقائع وتعقدها وتداخلها, كما سبق ذكره. فى حين أن هذا الجوهري, إلى جانب ذلك, متعلق بما يمكن أن يبدو, في حدوثه, مصادفة. بينما هو في الحقيقة مرتب على نحو يحكمه قانون الحركة المعقد الذي ينبغي على الكاتب أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجهاً آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب ناتجة عن سبب محدد وعليه أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجها آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب شيء عرضي, كل هدف هو أداة من أدوات المسرح, حتى تتم بينها التفاعلات الحاسمة وتعبر عن نفسها بشكل شعري من خلال بعض الأحداث". (34) ومن هنا يصل الكاتب, من خلال ما يبدو عرضياً, إلى الجوهر الحقيقي الذي يحكم نزوع الشخصية ويحكم حركة أحداث الرواية.
إن ما يلعب الدور الحاسم في هذه في هذه المسألة هو ما يسميه لوكاتش, "بالمنظور" Prespective, وقد أشرت اليه من قبل. وهو يعد مصطلحاً بالغ الأهمية في الطرح الجمالي عند لوكاتش, لأنه هو الذى .. "يحدد الاتجاه والمحتوي بالنسبة للرواية ويجمع خيوط السرد ويمكن الفنان من أن يختار بين المهم والسطحي, بين القاطع البات والحدسي, فالاتجاه الذي تتطور فيه الشخصيات يحدده المنظور, فتوصف فقط تلك الملامح المهمة في تطورها (أي تطور الشخصيات). وكلما كان المنظور صافيا (..) وكان الاختيار مقتصداً ولافتا للنظر". (35) إنه إذن مبدأ الاختيار والمعيار الذي يختار به الكاتب تفصيلات عمله, ومن ثم يتجنب منزلقات الثرثرة أو الحركة في اتجاه لا يخدم رؤيته الفنية والموضوعية. ومن خلاله, يتم ابراز ما هو جوهري, واطراح ما دون ذلك. ولعل هذا هو ما يحدد مفهوم الصياغة الفنية الصائبة عن لوكاتش, خاصة, عندما يقول : "الفن هو اختيار ما هو جوهري وطرح ما هو غير جوهري". (36)
إن هذا الموقف يطرح, حسب ذلك, مفهوم المنظور, أو "الرؤية الفنية للعالم", باعتبارها إحدى قضايا الصياغة الفنية في العمل الروائي, أو باعتبارها شكلاً فنياً. وهو الأمر الذي يؤكده لوكاتش منذ كتابه المبكر "تاريخ تطور الدراما الحديثة" A modern drama fejlodesenek tortenete, قائلاً: "إن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب". (37) وقول لوكاتش هذا من الضروري فهمه في إطار مفهوم الوحدة الجدلية بين الشكل والمضمون أو بين الصياغة والمحتوى, وهو ما يؤدي إلى أن يصبح الشكل عنصراً اجتماعياً من حيث كونه يحمل طابعاً أيديولوجياً, أو أنه يحمل منظوراً أو عنصر اختيار محدد باعتباره يمثل الصياغة الفنية لرؤية محددة للعالم, تختار ما هو جوهري وتطرح ما هو غير جوهري, كما سبقت الاشارة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم (المنظور) وباستخدامه يحدد لوكاتش أساليب الصياغة الفنية (يمكن أن نطلق عليها أساليب السرد) في أربعة اتجاهات رئيسية: الأول: الاتجاه الطليعي الذي, وإن حاول تصوير الواقع بشكل أو بآخر, إلا أنه يستخدم منظورا يقوم على الغربة المطلقة للإنسان, وأن عذابه الوجودي سرمدي وكامن في طبيعة الحياة نفسها وغير معلل بأية عوامل متحركة خارج الفرد. وذلك من خلال تثبيت المشهد الإنساني, واعتبار القلق والاضطراب والقهر والعدمية عناصر قدرية لا فكاك منها. ومن هنا يولى هذا الاتجاه جهده للتجريب الشكلي بعد أن أصبح تصوره للإنسان ولمصيره أمرا مفروغا منه.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الطبيعي, ذلك الذي يقف على الطرف النقيض من الاتجاه السابق من حيث إنه يركز على العوامل البيئية والبيولوجية المحركة للإنسان. مع تغافل تام عن ما يعتمل داخل ذاته, وعن نوازعه, وفاعليته, باعتباره عنصرا مشاركا في العملية الاجتماعية, فيبدو الإنسان في هذا الاتجاه مثل فأر التجارب, الذي تمارس عليه صنوف التحولات, ولا يملك من أمر نفسه شيئا, ولا يمكنه إلا أن يكون مفعولا به.
أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه الواقعية النقدية, ذلك الذي يقوم على منظور الإيمان بحركية التاريخ والواقع وتطورهما, وعلى بحث الإنسان الدائم عن وضع أفضل باعتباره كائنا اجتماعيا مؤثرا ومتأثرا بما يحيط به. إن هذا المنظور يتيح, حسب لوكاتش, تعرية اللحظة المعاشة, ويمكن الكاتب من سبر أغوارها. وذلك من خلال استبطان الأعماق الداخلية الغنية للعالم وللإنسان. ومن هنا فإن ما يشغل منظور الواقعية النقدية ويشكل مادتها, هو تعمق الصراعات التي تتزايد حدتها بتعقد الأوضاع المجتمعية وتعقد الاستجابات الإنسانية تجاهها. فهذا المنظور, حسب لوكاتش, يقوم على تحديد المواضع .. "التي تصل فيها هذه الصراعات إلى أكثف درجات شدتها وأكثرها نمطية, وأن يعبر عنها تعبيرا ملائما, وغالبا ما يتضمن التفصيل الواقعي الجيد حكما على هذه الصراعات."(38)
وذلك بالارتكاز على مصطلحين مرتبطين يقترحهما لوكاتش هما: (المعيار) و (التشويه) حيث على الكاتب لكي يصف (التشويه) الحادث في المجتمع والمنصب على الإنسان الذي يحياه فإن عليه أن يستخدم (معيارا) معينا لقياسه عليه, ورغم أن لوكاتش لا يفصل القول في هذا الشأن, وقد مر عليه مرورا سريعا, إلا أنني استطيع أن استنتج أن هذا المعيار إنما هو اليوتوبيا البديلة التي يمكن أن تتمثل في "الاشتراكية", حسبما يراها جورج لوكاتش, وهو يركد ذلك في موضع آخر قائلاً:
"إن رفض الاشتراكية كظاهرة ممكنة الحدوث يعني أن يغمض المرء عينيه عن المستقبل, وعندئذ يقبل الفرد القلق والفوضى كوضع دائم." (39)
ومن هنا فإن منظور الواقعية النقدية لا يقوم على مجرد تصوير الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يبرزها المجتمع المعاصر. لكن أيضا تصويرها في إطار الكل المجتمعي, باعتبارها ظاهرة تمتلك أسبابها الكامنة في المرحلة التاريخية المحددة, وفي الوضع الاجتماعي المحدد, وإن كان هذا المنظور لا يعالج, بصورة مباشرة, تلك الحالة اليوتيوبية البديلة.
ولعل فيما قاله (ابسن) و (تشيكوف) وأورده لوكاتش موافقا عليه, ما يؤكد ذلك, يقول إبسن: "إن مهمتي أن أضع الأسئلة لا أن أقدم الإجابات" وأعلن تشيكوف أنه "لابد أن يكون السؤال (فقط) الذي يضعه الكاتب معقولا, والإجابات في حالة كثيرة حتى عند تولستوي ليست معقولة, لكن هذا لا يبطل العمل طالما أنه يقوم على سؤال معقول." (40)
أما الاتجاه الرابع الذي يورده لوكاتش فهو ما يمكن أن يشكل تطويرا وامتدادا للاتجاه الواقعي النقدي, أو قل إجابة عن أسئلته (المعقولة), وذلك هو اتجاه "الواقعية الاشتراكية". الذي لا يكتفي بمجرد طرح أسئلة ابسن وتشيكوف, بل ينشغل بعوامل التغيير الاجتماعي ذاتها, حيث يقوم على ما يسميه لوكاتش (بالوصف من الداخل) أي طرح واكتشاف عوامل التغيير الكامنة داخل الأفراد والمجتمعات, وذلك في مقابل ما تكتفي به الواقعية النقدية من التعامل مع هذه العوامل, دون التوقف عندها. وموقف الواقعية النقدية, هنا, هو ما يمكن أن يعني (الوصف من الخارج), وعن طريق هذا (الوصف من الخارج) يصل الكاتب إلى طرح نماذج الأفراد وصراعاتهم الشخصية, محاولا الوصول إلى دلالة اجتماعية أوسع. أما (الوصف من الداخل) فانه, يقول لوكاتش, "يقوم على اكتشاف نقطة التفجير في التناقضات الاجتماعية القائمة, ثم يقيم بناءه الفني في علاقاته بهذه النقطة"(41) ويدخل في هذا الإطار وصف دخائل الأفراد الذين يعملون لهذا المستقبل من خلال التركيز على العناصر (الجوهرية) الحاملة لإمكانية التغيير فيهم وفي مجتمعهم.
وانطلاقاً من مفهوم (الجوهري) هذا, يصل (تيودور أدورنو) إلى نتائج مغايرة, حيث يطرح ما يتصوره مأزقا للرواية الحديثة. ويتمثل هذا المأزق في أن تدفق المعلومات والتقدم العلمي, وبخاصة فى أثرهما على معرفة خبايا النفس والتاريخ.. الخ, قد حرم الرواية من إمكانيات تصويرية وتعبيرية هائلة, تماما مثلما فعل اختراع آلة التصوير بالنسبة لفن الرسم. ومن هنا يدعو إلى أن تنقطع الرواية عن كل هذه الموضوعات التقليدية التي غطتها العلوم الجديدة, وأن .. "تكرس نفسها لتشخيص الجوهري وما ليس جوهريا."(42) حيث إن تحولات المجتمع تزداد كثافة وتلاحقا وتداخلا وهو ما يؤدي إلى خفاء الحقيقة المجتمعية والإنسانية واستتارها خلف حجب كثيفة.
ومن هنا تأتي أهمية الرواية التي تستطيع أن تغوص إلى ما خلف هذه الأستار والتعقيدات لا أن تعيد إنتاج ما هو سطحي لأنها في هذه الحالة ستكون "متواطئة مع الكذب", على حد قول أدورنو. وعلى هذا فإنه يرى ضرورة أن تتخلى الرواية عن صيغة الفعل الماضي (هكذا كان). وإذا كان لوكاتش قد تساءل عن احتمال أن تكون روايات ديستويفسكي حجر الأساس لملاحقة المستقبل, فإن أدورنو يرى أن الرواية المعاصرة التي تتحول فيها الذاتية العارمة إلى نفي للذاتية نفسها, نتيجة لمشكلتها الخاصة إزاء مجتمع يلفظها, هذه الرواية, بذاتها, تشبه الملاحم لكنها, كما يقول, "ملاحم سالبة". من حيث إنها تشهد على حالة يقوم فيها الفرد بتصفية نفسه بنفسه. ويلتقي الفرد, عبر ذلك, بما هو سابق عن الفردي (من وحدة بدائية مع الجماعة), والذي كان يبدو, فى الماضى ضمانة لوجود عالم مليء بالمعنى.
إن ما يجعل الرواية كذلك, إنما هو ذلك الموقف الملتبس, المتمثل في التساؤل حول ما إذا كان الاتجاه التاريخي الذي تتعامل معه الرواية يمثل عودة إلى البربرية أم يتجه نحو تحقيق الإنسانية ؟؟.
بيد أن بعض هذه الروايات في رأيه يستعذب أو يفضل حسم هذا الأمر بوضع تلك الرحلة برمتها داخل إطار البربرية.(43)
ومن هنا فعلى العكس من لوكاتش, يعتبر أدورنو أنه لا يوجد عمل فني, له بعض القيمة, لا يتجه نحو النشاز أو الخروج الفني على السائد من تقاليد تشكيلية. لأن هذه الأعمال بذلك إنما تخدم قضية الحرية بشهادتها على ما يتحمله الفرد مرغما في العصر الحديث أو "العصر الليبرالي" حسب تسميته.
وإذا كان لوكاتش قد هاجم أدب "الطليعة" لأنه يؤدي, في رأيه, إلى إجداب الواقع وإمحال الحقيقة الإنسانية ويؤدي إلى تحلل الشخصية وتفسخ الشكل الفني (كما سبق ذكره), فإن أدورنو يرى أن إدخال التغريب الجمالي والاستسلام أمام الواقع المعاصر العاتي, إنما هو أمر يفرضه الاتجاه الخاص بطبيعة الشكل الروائي ذاته, فيقول: "إن إدخال المسافة الاستطيقية إلى الرواية الحديثة, وفي الوقت نفسه استسلامها أمام الواقع البالغ القوة الذي لا يمكن, بعد, تغييره بطريقة ملموسة وليس عن طريق نقله إلى الصورة, هو مقتضى يفرضه الاتجاه الخاص بالشكل الروائي ذاته" (44)
ولا يبرهن أدورنو على صحة زعمه هذا, كما أنه لا يربط هذا الاستنتاج الأخير بدعوته السابق إيرادها حول ضرورة أن يكرس الفن الروائي نفسه لاكتشاف (ما هو جوهري وما هو غير جوهري).
غير أن ما يجمع أدورنو ولوكاتش, رغم ذلك, هو حصرهما مشكلة الشكل السردي الروائي في كونها مشكلة صياغة للرؤية الفنية للعالم. وبتنوع هذه الرؤية تتنوع أساليب السرد أو الصياغة الفنية, ومن هنا يوجد أسلوب السرد الطليعي الذي هاجمه لوكاتش وبرره أدورنو, والأسلوب الطبيعي الذي يعتبره لوكاتش النقيض الملتحم (رغم ذلك) بالأسلوب الطليعي, والأسلوب الواقعي النقدي الذي يعتبر عند لوكاتش الأسلوب الأمثل لطرح رؤية أكثر عمقاً ونفاذا وغنى للإنسان والعالم, وأخيرا الأسلوب الواقعي الاشتراكي الذي ينطلق من منظور الواقعية النقدية, محاولا ولوج مستقبل هذا الواقع وهذا الإنسان باكتشاف وطرح إمكانيات وعوامل التغيير الكامنة داخلهما.
الهوامش
1 – جورج لوكاتش، (بالمجرية), كتابات جمالية، دار كوشوط، بودابست, 1985، ص635
2 – نفسه،ص636
3 –نفسه ،ص637
4 – نفسه،ص 638
5 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية، ترجمة نايف بلوز، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط3،1985،ص5
6 – لوسيان جولدمان، مشكلات علم اجتماع الرواية، ترجمة خيرى دومة، فصول صيف 1992، ص39
7 – محسن جاسم الموسوى، عصر الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، بالاشتراك مع دار الشئون الثقافية، بغداد 1986، ص27
8 – محمود أمين العالم، الرواية بين زمنها وزمانيتها، فصول، ربيع1993، ص14
9 – نفسه، ص15
10 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية الأوربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ،1972، ص270
11 – نفسه، ص27
12 – جورج لوكاتش، معنى الواقعية المعاصرة، مرجع سابق، ص18
13 – نفسه, ص18،19
14 – نفسه, ص21
15 - نفسه، ص23
16 – نفسه، ص24
17 – نفسه، ص26
18 – نفسه، ص28
19 – نفسه، ص29
20 – نفسه، ص30
21 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية، مرجع سابق، ص25
22 – نفسه، ص28-29
23 – نفسه، ص29
24 – نفسه، ص29
25 – نفسه، ص30
26 – انظر: جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية الأوربية، مرجع سابق، ص28
27 – لوسيان جولدمان، المادية الجدلية، وتاريخ الأدب، مرجع سابق، ص17
28 – نفسه، ص31
29 – نفسه، ص36
30 – نفسه، ص37
31 – ميخائيل باختين،الخطاب الروائى، ترجمة محمد برادة، دار الفكر، القاهرة، باريس، 1987، ص103
32- نفسه، ص102
33- جوناثان كوللر،شعرية الرواية، ترجمة السيد امام، ابداع سبتمبر1995، ص112
34- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 29
35- نفسه, ص 131 – 132
36- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 82
37- لوكاتش, معنى الواقعية المعاصرة, سابق, ص 39
38- نفسه, ص 66
39- لوكاتش, تاريخ تطور الدراما الحديثة, شركة فرانكلين, بودابست, 1911, الجزء الأول, ص 71 (بالمجرية), Lukas Gyorgy, Amodern drama fejlodesenek Tortente, Frankline Trasulat, Budapest, 1917 , I kotet, VI oldal
40- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 97
41- نفسه, ص 94
42- نفسه, ص 89
43- جورج لوكاتش, أهمية الواقعية النقدية اليوم, دار الآداب, بودابست, 1985, ص 140 (بالمجرية) Lukas Gyorgy, Alritikairealizmus jelentosege ma, szep irodalmi konyvikiado, Budapest, 1985, 130
44- تيودور أدورنو, وضعية السارد في الرواية المعاصرة, ترجمة محمد برادة, فصول صيف 1993, ص 92 .
مفهوم الرواية:
يرى "جورج لوكاتش" أن الرواية هى .. "التعبير المكافىء للملحمة فى العصر الحديث". فهى النوع الادبى الأكثر نموذجية بالنسبة للمجتمع البرجوازى. ورغم وجود كتابات تنتمى إلى الشرق القديم مثل "ألف ليلة وليلة"، و "كليلة ودمنة" ..إلخ، أو إلى العصور القديمة أو الوسيطة فى أوربا، تقوم على مفهوم الحكى الذى تقوم عليه الرواية, باعتبارها جنسا أدبيا مستقلا، الا أن هذه الاستقلالية التى شكلت الملامح المعروفة للنموذج الروائى, لم تزهر ولم تتحقق إلا فى المجتمع البرجوازى .
لقد قامت الرواية, بهذه الملامح المحددة, لتحقيق مهمة تصوير المشكلات والتناقضات الخاصة بهذا المجتمع, بصورة متميزة عن باقى الأجناس الادبية السابقة عليها. وعلى هذا يرى جورج لوكاتش أن تناقضات المجتمع البرجوازى تمنحنا مفتاحا لفهم الرواية من حيث كونها جنسا أدبيا.(1)
واذا كانت الرواية هى العنصر المكافىء للملحمة فى العصر الحديث, فان الفارق بين الرواية والملحمة يكمن فى طبيعة كلا المجتمعين اللذين عالجتاهما. ومن ثم تشكلت كل منهما على هذا النحو المختلف. فلقد قامت الملحمة كشكل حكائى لتصوير ما يسميه بـ"الوحدة البدائية للمجتمع العشائرى". وهذه الوحدة البدائية تتحدد على أساس غياب التناقضات بين الفرد والجماعة. وهو الامر الذى يوفر إمكانية واقعية وإبداعية لطرح "مفهوم البطولة".(2) فهذا العصر هو عصر البطولات، الذى يقوم الشعر فيه، لا باعتباره شكلا يقوم على النظم الفنى فقط، لكن باعتباره مضمونا أيضاً, وباعتباره منظقا إنسانى فى الوعى والحركة والممارسة فى الحياة. ان أبطال هوميروس, حسبما يقول لوكاتش: " يعيشون ويتصرفون فى عالم لا تزال تقوم فيه كل الظواهر بحماية شاعرية الحياة .."إنه عصر طفولة الإنسان" كما يقول ماركس".(3)
ومن هنا فإن لوكاتش يتبنى موقف هيجل الذى يتناول الشعر باعتباره تمثيلا لوعى المجتمع القديم, فى مقابل "النثر" الذى يعد أحد سمات التطور البرجوازى الحديث, حيث تقف (الفردية) من جانب، عزلاء فى مواجهة قوة مجردة بالغة العتو والحضور وهى الدولة، ومن جانب آخر فإن الواقع اليومى للانسان الحديث يعد واقعا سوقيا وفارغا، يملأه اللهاث المرير الذى يقاسيه (الانسان العادى) وراء مجرد تحصيل المقومات الضرورية للحياة الاستهلاكية, والتواؤم مع المجتمع الخاضع للسلطة المركزية والقانون, مما يخلق نوعا من الاغتراب والاحساس المفعم بالوحدة وانعدام الفاعلية وأن الانسان مجرد رقم زائد عن الحاجة, لا يمثل وجوده أو موته كثيرا من الأهمية. انه المجتمع الذى يجعل العامل جزءا من الآلة, أو آلة موازية تدير الآلة, بعيدا عن ذاتيته وارتباطه الشخصى بالمنتج الذى يقوم بصنعه. وهو مجتمع "اليونيفورم" النظامى أو شبه النظامى الذى يسوى بين جميع أبناء المهنة فى زى موحد بعيدا عن أذواقهم أو ميولهم الشخصية, كما يسوى بين جميع المواطنين أمام صندوق الانتخابات, بصرف النظر عن تفاوت امكاناتهم وقدراتهم الخاصة. انه مجتمع الخطوط والأسهم والاشارات والكاميرات التى تضبط وتتحكم فى سلوك الأفراد ولا تترك لهم أدنى متنفس لممارسة استقلاليتهم وحريتهم الشخصية, بعيدا عن ما تحددده لهم الدولة.
وهو ما يجعل, فى المحصلة, هذا الواقع خاليا من بواعث الفخر والمجد الذى كانت توفره مجتمعات ما قبل الحداثة, بدرجة تجعل من أى سمو شعرى حقيقى للحياة وللانسان أمراً مفتعلا وغير واقعى. ومن هنا فان لوكاتش يعتبر أن تقسيم العمل الرأسمالى هو الذى حرم الحياة من الشعر, وهو الأساس المادى للنثر فى العصر البرجوازى.
ويضيف لوكاتش, إلى الاقتباس السابق, الذى أخذه عن هيجل, ما يراه تناقضاً جوهريا يمثل الأساس المادى للنثر. ألا وهو التناقض بين الانتاج الاجتماعى والملكية الفردية. فحسب لوكاتش, يتوقف هيجل عند وصف شكل ظهور التناقض بين الفرد والمجتمع فى صورتة المجردة، بينما يرى هو (اى لوكاتش) أن .. "ما يحدد مضمون الرواية أن هذا المضمون يرصد الحرب الدائرة داخل المجتمع".(4)
وهو ما يعنى أن الرواية تقوم على أبراز نوعية البشر فى ضوء وجودهم الاجتماعى الذى يقوم على انفصام العرى داخل الوحدة الاجتماعية بين الفرد والجماعة، بعكس ما كان فى المجتمعات التقليدية من "وحدة بدائية بين الفرد والجماعة". هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, فان الفرد قد كتب عليه ان يمارس معركته اليومية مع الجماعة /المؤسسة، بأشكالها القمعية والاستغلالية المحددة، تلك التى تحاول أن تقولبه وتسلبه تفرده وخصوصيته, اللذان يمثلان جوهر حريته التى وعدته بها هذه الجماعة فى بواكير التحول البرجوازى.
ومن هنا تصبح الرواية قائمة على طرح "نثر "الحياة, المتمظهر فى الفردية والسوقية وافتقاد معانى البطولة, وانعدام الانسجام بين الانسان وعالمه، وذلك بعكس الملحمة التى كانت تطرح مفهوم البطولة والخيال المطلق السراح, الممثل ل "شعر" العالم والوجود.
ان النثرية هنا ترتبط, أيضا, بانتفاء مفهوم "الانسجام", باعتباره محددا لصفة "الجميل" aesteticum. غير أن لوكاتش يتعامل مع مفهوم الانسجام على أرضية واقعية أجتماعية محددة، أى على أرضية الشروط التى يطرحها الواقع الاجتماعى المعاش, فيما يتعلق بعلاقة الانسان بعالمه, وليس على مستوى تجليه فى العالم النفسى أو الروحى. ان الانسجام المفتقد هنا هو انسجام الفرد مع واقعه الاجتماعى مما يخلق لديه الاحساس بالاغتراب والسوقية والانسحاق. لذا فإنه يرى أن الكتاب الكبار فقط هم "الذين يبشرون بالشوق الانسانى إلى الانسجام، حيث يقولون على الدوام بأن انسجام الفرد يقتضى تعامله المنسجم مع العالم الخارجى وانسجامه مع المجتمع".(5)
إن مفهوم "النثرية" هذا الذى انبثقت منه الرواية، هو الذى يقف وراء تعريف لوسيان جولدمان للرواية بأنها .. "قصة بحث متفسخ عن قيم أصيلة بطريقة متفسخة فى مجتمع متفسخ". وهو ما يؤدى إلى أن يصبح شكل الرواية, عنده, كما لو كان نقلا للحياة اليومية التى تم خلقها عن طريق انتاج السوق فى المجتمع الفردى, الى المستوى الأدبى. حيث يقرر, مواصلا حديثه, وجود .. "مماثلة دقيقة بين الشكل الأدبى للرواية كما حددتها (الكلام لجولدمان)بمساعدة لوكاتش وجيرار،والعلاقة اليومية بين الرجل والسلعة بشكل عام. وبشكل أعم بين بشر وبشر آخرين فى مجتمع ينتج من أجل السوق " .. لذا فهو يرى أنه .. "لا يوجد شىء عجيب فيما يتصل بإبداع الرواية, بوصفها نوعا أدبياً، فشكلها الذى بدا شديد التعقيد يحياه الناس كل يوم".(6)
تقوم الرواية, إذن, بمثابة استجابة للتحدى الذى طرحته التحولات الاقتصادية والاجتماعية والقانونية البرجوازية على إنسان العصر الحديث, تلك التحولات التى "أدهشته وأربكته", فيما يقول محسن جاسم الموسوى .. "فممارسة الفعل الإعتيادى اليومى لا تعيد إليه الإنسجام فى العالم الخارجى، شأنه فى ذلك شأن الروائيين أنفسهم الذين إنفرط عندهم الإحساس بالانسجام وأخذوا يبحثون مجدداً عن معنى وقيمة الوجود".(7)
ولعل هذه القطيعة بين الفرد والعالم هى التى "تعزز سيطرة النثر على البشرية" فيما يقول لوكاتش، حيث يبرز النثر, هنا, باعتباره مجسدا للإستجابة النوعية لواقع يتعذر فيه الانسجام.
والرواية, أيضا, تمثل طرحاً لنوع من اشكالية العلاقة بين الانسان والتاريخ، أو لنوع من أنواع الوعى بالتاريخ. بل هى عند محمود أمين العالم جنس تاريخى بالمقام الأول, حين يقول: "فالرواية بحق هى البنية الأدبية الزمنية الإبداعية، المعبرة بلغتها السردية عن الوعى التاريخى المعرفى الوجدانى القيمى بهذه المراحل التاريخية الجديدة، بكل ما يتم به هذا الوعى التاريخى من اتساع وعمق وتراكم والتباس واشكالية وتأزم وتطلع ومواقف ودلالات مختلفة".(8)
فيعتبر محمود العالم أن إشتباك الاسطورة بالتاريخ, أو محاولتها التأريخ لعالمها حسب الوعى الانسانى الأولى البسيط, (فالاسطورة ما هى إلا المراحل الأولية للمعرفة التاريخية) يتسق بقوة مع الصفة التاريخية للملحمة والسيرة الشعبية المرتبطتين بالأسطورة، سواء كانت الإلياذة أو الأوديسة أو سيرة الزير سالم والسيرة الهلالية ..إلخ. وإذا إعتبرنا ان الرواية هى ملحمة العصر البرجوازى بمفهوم لوكاتش، الذى تقدم، وكانت الملحمة متسمة بتلك السمة التأريخية, فإن محمود العالم يؤسس على ذلك أن الرواية هى الأخرى تتميز بطابع تاريخى واضح وملموس, لكنه تاريخ نوعى, يتبع سنة التخصص والانفصال النوعى للمجالات. فكما إنفصل العلم وتمايز عن الفلسفة، وكذلك انفصل التاريخ وتمايز عن الاسطورة والملحمة وأصبح قريباً من العلم المستقل، فقد تمخض هذا الاستقلال عن ظهور الرواية بإعتبارها وريثة للملحمة فى العصر الحديث .. يقول: "فأصبح للحكاية بنيتها الزمنية الخاصة التى تتمثل فى الرواية الحديثة ،وأصبح للتاريخ موضوعيته المعرفية التى تسعى لأن تكون علما". إلا أن هذا الانفصال والتمايز بين الرواية والتاريخ لم يؤديا إلى نزع الرواية بالكامل عن المعرفة التاريخية، بل .. (يواصل العالم) "على العكس من ذلك تماما، فقد ضاعف وعمق وأفسح هذه الطبيعة الزمنية والتاريخية, بل كانت الرؤية المعرفية التاريخية الجديدة عاملا أساسيا من عوامل إبداع البنية الروائية الجديدة نفسها"(9)
إن الرواية تعد بذلك نوعاً يمكن تسميته بأنه تاريخ ما لا يكتبه أو يذكره التاريخ، إنها تاريخ الأشخاص فى فرديتهم, وتاريخ الأخلاق فى علاقتها بالواقع الاجتماعى, وتاريخ الاستجابات الفردية تجاه التحولات الاجتماعية والانسانية العامة.
ومن ثم فإن العلاقة بين الانسان والتاريخ هى التى يمكن أن تمثل مفاتيح فهم الرواية. ولذلك يؤكد فريدريك إنجلز أنه قد تعلم من روايات بلزاك اكثر مما تعلم .."من جميع كتب المؤرخين والاقتصاديين المهنيين جميعا فى عصره".(10) أى عصر بلزاك. وأتصور أن انجلز يقصد أنه تعلم فعالية التاريخ الحقيقية وغير المرئية من خلال تجليه النوعى, المادى والفكرى, على سلوك الافراد ونفوسهم وجوانب حياتهم الداخلية والخارجية، وصراعاتهم بشأن تحديد مصائرهم, فى خضم تحولاته.
وبدهى أن هذا النوع من القضايا الانسانية الباطنية لا يمكن أن يعالجها المؤرخون والاقتصاديون، وهو الأمر الذى يؤكده بلزاك نفسه فى مقدمة طبعته لسلسة "الكوميديا الإنسانية" عام 1842, قائلاً : أنه قد .. "أضاف إلى عمل المؤرخين فصلا منسياً هو تاريخ العادات والتقاليد" .(11)
وعلى هذا فإننا نستطيع ان نقول أن الرواية عند ممثلى الاتجاه الاجتماعى تقوم على تجلى التحولات الاجتماعية التاريخية فى جدلها مع الانسان الفرد, بل إنها تجسد محاولة تمثيل وضع الانسان إزاء تحولات التاريخ.
الشخصية الروائية
لقد احتل مفهوم الانسان مكانا محوريا عند اصحاب الاتجاه الاجتماعى كما هو واضح فى النقطة السابقة. بل إن لوكاتش يرى أن الانسان هو المحور الأصيل, الذى, بدونه يستحيل وجود فن أو أدب ,فيقول فى كتابه "معنى الواقعية المعاصرة": "ليس هناك مضمون الا وكان الانسان بذاته نقطته البؤروية". لذلك فإن القضية الاساسية بالنسبة للادب, عنده, هى البحث عن معنى الانسان وقضيته الوجودية, فمهما تنوعت اتجاهات الأدب, سواء أكانت طرحا لتجربة ابداعية, أم (حتى) مجرد ابتغاء لهدف تعليمى .. "فالسؤال الاساسى هو – وسيظل – ما هو الانسان". (12)
ان لوكاتش بذلك يعتبر أن الطرح الابداعى لقضية الانسان يمثل نقطة فاصلة بين ما هو أدب حقيقى وآخر زائف, أو ربما, ليس بأدب على الاطلاق. ومن أجل بحث معنى الانسان على نحو يتسق مع معطياته الاجتماعية السالفة الذكر, فإن لوكاتش ينطلق من مقولة أرسطو (التى توصل اليها عن طريق اعتبارات مغايرة للاعتبارات الجمالية المحض ) : "الانسان حيوان اجتماعى". حيث يرى أن هذه المقولة تنطبق على كل ما يمكن أن يطلق عليه تسمية "الادب الواقعى العظيم", لتشكل نماذج الشخصيات الروائية الخالدة لهذا الأدب. من أمثال أخيلوس, وفارتر, وأوديب, وتوم جونز, وأنتيجونا, وأنا كارينينا .. إلخ.
ان العظمة الفنية التى تجسدها هذه الشخصيات, باعتبارها نماذج انسانية, تتمثل فى .. "أن وجودهم الفردى أو نظرتهم الى الحياة (...) أو كينونتهم الانطولوجية لا يمكن تمييزها عن بيئتهم الاجتماعية والتاريخية, ولا يمكن الفصل بين مغزاهم الانسانى وتفردهم الخاص وبين الاطار الذى خلقوا فيه."(13)
فالانسان على هذا الأساس انما هو كائن تاريخى (كما أن الرواية تمثل بنية فنية ذات طابع تاريخى كما تقدم فى النقطة السابقة ), أى أن مصيره وعوامل التأثير فيه لا ينحصران داخل حدود تجربته الخاصة, فحسب, بل فى العلاقة بين هذه التجربة الذاتية الخاصة والواقع الموضوعى العام. فهو يمتلك تاريخه الشخصى , ولكن هذا التاريخ لا يتطور الا من خلال اتصاله بالعالم , فهو يشكله كما يتشكل به , ويؤثر فيه ويتأثر به.
والانسان, حسب ذلك, يمثل نقيضا مباشرا لنظيره الذى يتم تصويره وتجسيده فى أعمال الكتاب البرجوازيين من "الطليعيين" و"العبثيين" و "الوجوديين".. الخ, الذين وجه لهم لوكاتش نقدا مريرا, من هذه الناحية. فالانسان عندهم, فيما يرى, كائن غير اجتماعى, منحصر داخل حدود تجربته الخاصة, منعزل ومنغلق على ذاته, وعزلته وانغلاقه ليسا مجرد حالة فردية, ولكنهما يمثلان الوضع الانسانى العام والمطلق. ومن ثم, فانسان هذا الأدب كائن لا تاريخى, ولا تتغير أوضاعه الروحية والمادية بحسب زمنه وواقعه الاجتماعى.
والاسهام الوحيد الذى يمكن أن يحققه الأدب فى هذه الحالة, فيما يرى لوكاتش, هو الكشف التدريجى عن هذا الوضع الجامد واللانهائى : "فالانسان هو ما كان عليه على الدوام وما سيكون عليه على الدوام", حسب منظورهم. وهو ما يؤدى الى طرح ملمح فى غاية الأهمية يدلل به لوكاتش على عقم النزعة الطليعية (أو ما يسميه فى مكان اخر بالنزعة الحديثة ) حيث يرى أن الروائى أو الذات الفاحصة يصبح فى هذه الحالة .. "فى حالة حركة, والواقع المختبر فى حالة جمود"(14).
ان هذا يعنى أن هذا الفهم البرجوازى للعالم, المتمثل فى الحركة الطليعية, وما يماثلها فى الرؤية والمنهج, من اتجاهات فنية تتخذ لنفسها صفة الحداثة, انما يجمد الوضع الانسانى عند حالة روحية واحدة, ولا يرى فيه ما هو أبعد من ذلك من امكانات وتجليات غير منظورة للوجود الانسانى. ومن ثم لا تتصل حركية الابداع بحركية الوجود لتطرح نماذج وكيانات روائية متجددة باستمرار, وليس نسخا مكررة من الضجر والغربة والانزواء كما تفعل هذه الحركات الفنية وأضرابها.
ويفرق لوكاتش فى هذا المجال بين نوعين من الامكانات التى تحكم حركة الشخصية الروائية حسب المناظير المختلفة, وهما : "الامكانات المجردة", و "الامكانات المحددة". ف"الامكانات المجردة" تنتمى كليا الى عالم الذات وتقبع داخله على هيئة أحلام ورؤى وتصورات. وهى, بالتأكيد, أكثر ثراء من الحياة الفعلية المعاشة, حيث أنه من الممكن أن نتخيل احتمالات لا حصر لها لتطور الانسان, حسب هذه الامكانات, بيد أنه لا تتحقق منها الا نسبة ضئيلة للغاية. و اذ تخلط "الذاتية الطليعية", (وهو الاسم الذى يطلقه لوكاتش مجددا على هذه الحركات المرتدية ثوب الحداثة) بين هذه الامكانيات المتخلية وبين التعقيد الفعلى فى الحياة فانها تحصل على نتيجة مفادها أنه لا امكانية للمواءمة بين أشواق الذات الهادرة المبهمة و ما يمكن أن يقدمه الواقع الفعلى المعاش, ومن ثم تتأرجح بأسى بين السوداوية والانبهار. وعندما يرفض العالم هذه الامكانيات, تأخذه هذه السوداوية الى "صيغة الازدراء". فيأخذ فى الازورار والاغتراب البائس عن العالم.
أما "الامكانيات المحددة" فهى تلك التى تتعلق بالعلاقة الجدلية بين الذات الفردية والواقع الموضوعى, ولهذا فإن العرض الأدبى للامكانات المحددة (الجدلية), لابد أن يتضمن وصف الأشخاص وهم يعيشون فى عالم محسوس ويمتلك ملامح, يمكن التعرف عليه من خلالها. فى هذه الوضعية التى تمثل عملية تفاعل الشخصية مع عالمها الواقعى, يمكن تبين الامكانات المحددة (بمعنى الفعلية والممكنة, هنا) لشخص معين, حيث سنلاحظ الآفاق اللانهائية التى ينفتح عليها ويمكن أن يتطور اليها, فيصبح مصيره مرتبطا بعملية جدلية منفتحة بين ملكاته الشخصية وتحديات عالمه الاجتماعى المتحول تاريخيا وأبدا, عبر عوامل التغيير التى لاتهدأ, والتى ربما يكون هذا الشخص بالذات أحد الفاعلين فى تحقق أجزاء ليست هينة منه. مما يؤدى الى امكانية فصل هذه الشخصية عن ما يسميه لوكاتش بـ "اللانهائية الرديئة" لل"امكانية المجردة" الخالصة, التى تطرحها التصورات البرجوازية للانسان والعالم. ان هذه "الامكانات المحددة" ذات الطابع الجدلى المنفتح على علاقة تجاذبها عناصر "الوحدة والصراع" بين الانسان والعالم, هى وحدها ما يمكن أن يتيح فرصة ابراز العوامل الحقيقية للبؤس الانسانى, وتحديد أن هذه الظروف المحددة هى التى تتحكم فى هذا الفرد بالذات وفى هذه المرحلة بالذات من مراحل تطوره, ومن ثم يمكن قياس الموقف المضاد الذى يمكن أن يتخذه الشخص وتبيان حصيلة هذا الجدل الغنية والمفعمة.
وهذا المبدأ وحده هو الذى يتيح للفنان التمييز بين انواع متباينة من الشخصيات, بقدر تباين قدراتها فى مواجهة واقعها والتحديات التى يلقى بها فى وجوهها. فكما يقول لوكاتش : "هناك من المواقف ما يحدث ويواجه الانسان باختيار ما, وفى عملية الاختيار قد تكشف شخصية الانسان عن نفسها فى ضوء قد يدهشه هو نفسه." (15)
فليس هناك من سبيل لتمييز هذه الامكانات الأخيرة, بصورة مسبقة, عن الامكانات العديدة التى تعيش فى عقل الشخصية, طالما ظلت امكانية ذاتيه فى هذا العقل ولم تخض, بعد, غمار التجربة الفعلية. بل ان هذه الامكانية الفعلية قد تكون دفينة تماما لدرجة انها يمكن الا تخطر على بال هذه الشخصية, حتى باعتبارها إمكانية مجردة, قبل لحظة الاختيار. وقد تكون الذات الواعية غير مدركة لدوافعها ذاتها بعد أن تصل لقرارها.
ومن هنا لا يمكن عزل "الامكانية المحددة" عن "الامكانات المجردة" العديدة, والواقع الفعلى هو فقط الذى يمكنه أن يكشف عن الاختلاف القائم بينهما.
وعلى هذا يمكن القول بأن لوكاتش يرى أن الأدب الواقعى الذى يهدف الى تصوير الواقع تصويرا صادقا, لابد أن يبين كلا من "الامكانات المجردة" و "الامكانات المحددة" للشخصيات الانسانية فى مواقف متطرفة, أى مواقف كاشفة من فرط قوة وفاعلية تأثيرها .. "واذا ما تكشفت الامكانية المحددة للشخصية. فسوف تبدو امكانيتها المجردة غير صحيحة من أساسها."(16) وذلك على العكس تماما مما نجده عند اصحاب النزعة "الطليعية", المشار اليها آنفا, حيث يتم تصوير الانسان ككائن منفرد وحيد, قد تقرر مصيره بصورة مسبقة, غير قادر على اقامة العلاقات ذات الدلالات. وهنا يكون التمييز بين "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة" للشخصية غير ممكن وباطل المفعول, وتميل التقسيمات بينهما الى التداخل. فالقدر الخارجى بالعزلة والغربة والنفى يقابله من الداخل الضجر والسأم واللا مبالاة.
ومن هنا فإن لوكاتش يحصر الفارق بين هاتين النظرتين فى اطار كونه ممثلا لمشكلة عقائدية بالدرجة الأولى, من حيث موقف الكاتب من الواقع. فهل من الممكن من الناحية المبدئية فهم هذا الواقع ؟؟ ومن ثم, يمكن تفسير تحولاته ؟؟ أم أنه يستعصى على الفهم ؟؟ ومن ثم, فلا جدوى من محاولة تفسيره, وبالتالى تغييره ؟؟
فإذا أصبحت استحالة فهم الواقع هى منطق الكتابة, فضلا عن الاحتفاء المبالغ فيه بالذات, (وهما مرتبطان عند لوكاتش), فلابد للشخصية أن "تتحلل" بالضرورة. لأنها تصبح, حينئذ, مرتكزة على عالمها الذاتى الخالص الملئ بالامكانيات المجردة التى لا تسفر الا عن الوهم, وبالتالى اليأس والعزلة, وربما الانتحار. كما أن الاعلاء من أهمية هذه الذات (يقول لوكاتش) .. "على حساب الواقع الموضوعى لبيئته, يفقر ذاتية الانسان نفسها." (17)
كما أن طرح الوجود الذاتى بدون صفات انما هو أمر مكمل لمفهوم "انكار الوقع الخارجى". وهنا تصبح "صنعة كافكا الحقيقة", موجهة نحو احلال رؤيته القلقة للعالم محل الحقيقة الموضوعية المستقلة لهذا العالم, أما تفاصيل الواقع عنده فهى ليست الا تعبيرا عن الوهم الطيفى, عن عالم من اضغاث الأحلام, الذى من شأنه أن يثير القلق لا أن يعين على فهم العالم والانسان.
وهكذا يصل لوكاتش الى أن .. "التقليل من شان الواقع, وتحلل الشخصية, يعتمدان أحدهما على الآخر, وكلما ازدادت قوة الواحد منهما ازدادت قوة الآخر, وتحت الاثنين معا يكمن الافتقار الى نظرة ثابتة للطبيعة البشرية. فالانسان يختزل الى متتالية من الجزئيات التجربية غير المترابطة. وهو يدق على التفسير بالنسبة للآخرين كما يدق على التفسير بالنسبة للشخص نفسه."(18)
وبالتالى, فان "تحلل الشخصية", أى, خواؤها وانقسامها وانهيارها باعتبارها نموذجا انسانيا, انما هو فى الاصل نتيجة لا واعية للمطابقة بين "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة", أو اعتبار "الامكانية المجردة", أو الذاتية, هى الامكانية الوحيدة. ومن ثم, تحل محل "الامكانية المحددة", أوالواقعية. ان هذا الخلل يرتفع, حسب لوكاتش لدى هؤلاء الطليعيين وفى وعيهم الى مستوى "المبدأ المقصود", حيث يقول : "ليست مجرد مصادفة أن يطلق "جوتفريد بن" على احدى كراساته النظرية "حياة مزدوجة", فقد اتخذ تحلل الشخصية هذا بالنسبة ل"بن" شكل الانقسام الفصامى. وليس هناك مجال لرؤية أى نسق متماسك للدوافع والسلوك فى شخصية الانسان".(19)
ان هذا "المبدأ المقصود"، انما يعنى الانتماء الواعى والعمدى للرؤية المبنية على اعتبار التشويه حالة قدرية, وأن الشخصية الفصامية المنقسمة هى نموذجه المعتمد للحقيقة الانسانية. وهنا يربط لوكاتش هذا "المبدأ المقصود" الذى أقر به "بن", وأدى الى طرحه المتحلل للشخصية الانسانية، يربطه بانتشار فلسفة كيركجارد الذى أنكر الوحدة بين العالم الداخلى والعالم الخارجى. فالانسان بالنسبة لكيركجارد يوجد داخل "شخصية متنكرة" مغبشة لا يمكن النفاذ إليها. حيث لقيت هذه الفلسفة رواجاً ملحوظاً بعد الحرب الثانية.
وهو ما يجعل لوكاتش يرى فى ذلك دليلاً على أنه حتى أكثر النظريات إبهاماً قد تعكس الواقع الاجتماعى، ولكنه انعكاس شائه لا يأخذ فى اعتباره كلا الامكانيتين اللذين سبقت الاشارة اليهما. وهما "الامكانية المجردة" و"الامكانية المحددة", فلم يناقش مأزق الانسان فى علاقته بعالمه, بل ناقشه باعتباره مأزقه قدرا سرمديا, مما يجعل تغييره مستحيلا, ويؤدى الى هذا الطرح أحادى البعد.
كما لا ينسى لوكاتش أن يربط بين هذه الافكار التى تقول بأن "أفعال الانسان الخارجية ليست دليلا على دوافعه "وبين اصحابها (مارتن هيدجر، كارل شميت، وغيرهما), ممن شاركوا فى دعم النازية. أى أن الفاشيست قد وصلوا بسلوكهم الى نفس تحليل الشخصية الذى نجده فى أدب الطليعيين.(20)
يمكننا اذن ان نفرق بين نوعين من التعارض بين الشخصية وعالمها:
الأول: هو التعارض القائم من خلال وحدة جدلية بين الانسان وعالمه، كما تقدم, وهو الذى يفضى الى خلق شخصيات روائية على قدر من العمق والتماسك والدلالة الانسانية القوية.
أما التعارض الثانى: فهو الذى يقوم على تحطيم نسيج العلاقات المعقدة بين الانسان وبيئته, وبدلا من أن يقوم على الوحدة الجدلية بينهما، اذا به يقوم انفصال مطلق بين الذات والعالم وهو ما يؤدى الى تحلل الشخصية.
إن الانفصال بين الذات والعالم يعنى أن هذه الشخصية لا تمتلك ما يسميه لوكاتش بـ"النظرة الى العالم", وهو نفسه مصطلح "المنظور" perspective الذى ورد ذكره فى الباب الثانى من هذا الكتاب. والنظرة للعالم هنا تعنى رؤية محددة للوجود, تقوم على أساس تبنى موقف واضح من قضايا المرحلة التاريخية بما تشتمل عليه من عناصر الصراع الدائر فى الواقع الاجتماعى. وهى تعد, عنده, الشكل الأرقى للوعى, وهى نتاج التجربة الشخصية العميقة التى يعيشها الفرد، بل هى .. "أرقى تعبير يميز ماهيته الداخلية، وهى تعكس بذات الوقت مسائل العصر المهمة عكساً بليغاً".(21)
ولهذا يستنتج لوكاتش أن أى وصف لا يشتمل على نظرة معينة من لدن شخصيات العمل الروائى الى العالم لا يمكنه أن يكون تاماً، وهو فى ذلك يطابق بين مفهوم النظرة الى العالم، وبين مفهوم آخر استخدمه فى كتابه : "دراسات فى الواقعية", أطلق عليه مصطلح : "السيماء الفكرية للشخصية". وهى تعنى أنه ليس من الضرورى أن يكون موقف الشخصية الروائية صحيحا تماماً من الناحية الموضوعية، أو أنها تعكس الواقع عكساً صادقا أو دقيقاً. ولكنها فى أى وضع من اوضاعها ينبغى أن تمتلك دلالة فكرية ما, أو نظرة معينة الى العالم, ولا تشترط هذه السيماء, بالضرورة, أن تكون هذه النظرة ذات كيفية فكرية مجردة. بل تشترط, بالدرجة الأولى, جذوراً سلوكية يمكن رؤيتها فى نوازع الاشخاص وفى ارتباطها العميق بكامل جوانب حياتهم.
ويربط لوكاتش مفهوم "النظرة الى العالم", أو "السيماء الفكرية للشخصية", بالمفهوم الجوهرى لجهده النظرى الأساسى، ألا وهو الانعكاس الفنى للواقع الموضوعى بكل غناه وتعدده وعمقه. وهذا الغنى والتعدد والعمق ينشأون جميعا فى الواقع من الفعل المتبادل والمتنوع والملىء بالصراعات بين النوازع الانسانية المتضادة، وهذا ناتج تحديداً عن أن .. "أناس الواقع لا يعملون جنباً الى جنب بل من أجل بعضهم بعضاً وضد بعضهم بعضاً. وهذا الكفاح (الصراع) هو الذى يؤلف أساس وجود وتفتح الفردية الانسانية".(22)
اذن فهذه الوضعية المعقدة هى التى تغنى الحدث وتجعله متوترا، بحيث يكون بمثابة ملتقى لصراع الأفعال والنظرات المتبدلة عيانيا, فى تشابكها وتعقدها داخل الممارسة الانسانية. كما أن التوازى والتضاد اللذين يمكن أن نلمسهما فى سلوك الشخصيات إزاء بعضها البعض، وباعتبارهما ممثلين لشكلي تجلى الاتجاهات البشرية, انما يعكسان فى جوهرهما الأشكال الاساسية الأعم والأعمق والأكثر جوهرية للحياة الانسانية ذاتها.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط, وانما يكتمل بأن تصبح الظواهر العامة النموذجية, تصرفات خاصة فى الآن نفسه. أو أن تتجلى هذه التصرفات الخاصة وتصبح نوازع شخصية لأناس محددين، وهنا يكمن, ما يراه لوكاتش, سر النهوض بالفردية الى مستوى نموذجى، دون أن تسلب منها القسمات الفردية, بل ينبغى أن يتم التشديد على هذه القسمات بالذات، حيث يؤدى امتدادها على استقامتها وتبيان مجاليها المختلفة, الى اكتشاف النوازع والقدرات الخفية للانسان والتى لا يمتلكها فى الحياة ذاتها الا على نحو مشوه، ولا تتعدى فيها نطاق الرغبة والإمكان.
وهو ما يعد على نحو من الأنحاء اجابة من زاوية معينة على السؤال الذى يرى لوكاتش أنه يمثل جوهر الأدب الجيد . ألا وهو "ما هو الانسان", كما سبقت الاشارة.
ومن هنا يصبح مفهوم الانعكاس فى مجال الادب الروائى مرتكزاً على أن ما يرتقى الى واقع مصاغ عن طريق الأدب، ما هو الا ما ينطوى عليه الانسان باعتباره إمكانية وليس باعتباره مجرد واقع بارد مباشر، وهو ما نفهمه من عبارة لوكاتش:"ان التخطى الأدبى يقوم على اعطاء هذه الامكانيات الغافية فى الانسان تفتحاً كاملاً".(23)
وهذا الأمر يمثل النقيض المباشر لما تفصح عنه عمليات طرح نظرة الشخصية الروائية للعالم دون أن ترتبط بممارسة حدثية مباشرة، ودون ان ترتبط بالامكانيات المحددة والملموسة للانسان من خلال الممارسة داخل الحدث،أو دون أن تبرز من خلال الصراع الحسى للنوازع والمآرب البشرية، كأن تظل فى نطاق التصريحات الفكرية المجردة.
فالشخصية الروائية لا تصبح مهمة ونموذجية الا إذا عاشت أشد قضايا العصر تجريدأ وكأنها قضاياها الخاصة, أو "كانها مسألة حياة أو موت" كما يقول لوكاتش.
بينما ينحط هذا التعميم الى تجريد فارغ حين تنقطع الصلة بين الفكرة المجردة والمعاناة الشخصية الملموسة عبر الحدث، وكذلك, حين لا تتعايش هذه الفكرة مع صميم الخصوصية الفردية للشخصية الروائية.(24)
إن الشخصية الفنية على هذا النحو تعد بذاتها التجسيد المباشر لمفهوم "النمط", الذى تحدث عنه لوكاتش فى كتابه "دراسات فى الواقعية الأوربية". حيث يعتبره المعيار الرئيسى والمقولة الرئيسية للأدب الواقعى, ويصفه بأنه : "ذلك المركب الغريب الذى يربط الخاص والعام معاً بطريقة عضوية فى كل الشخصيات والمواقف وما يعطى للنمط جوهره ليس كونه مثلاً للوسط الحسابى للنوع الذى ينتمى إليه، وليس مجرد وجوده الفردى، مهما كان تصوره عميقاً، لكنها تلك التحديات الاساسية، والانسانية، والإجتماعية التى نجدها متمثلة فى أوج تطورها وارتقائها، فى أقصى تفتح للامكانيات الكامنة فيها، فى ذروة عرضها لأطرافها البعيدة، مجسدة بذلك قمم وحدود البشر والمراحل التاريخية".(25)
وهكذا فإن الواقعية العظيمة, كما يراها لوكاتش, تقوم على تصوير الانسان بإعتباره كياناً كلياً.
وعلى العكس من ذلك، فإن الاتجاهات التى تقوم على الاستبطان المطلق، أو التجريد الذاتى, الذى يهمل شأن الواقع الموضوعى, أو يقوم على زعم استحالة فهمه, كما رأينا قبل قليل، وكذلك الذى يقوم على التبسيط المطلق أو تستطيح الشخصية لصالح طرح الواقع الموضوعى حرفياً، كما هو عند الطبيعيين، هذه الاتجاهات تتساوى فى أنها تجدب الواقع والانسان وتشوههما, من خلال اختزالهما فى نقطة أحادية من وجودهما دون أن يكتملا ككايانين كاملين وحقيقيين.
إن طرح الشخصية الروائية على هذا النحو الجدلى ينطلق من كونها تعتبر"شخصية إشكالية" أو "شخصية معضلة" (بالترادف بين المصطلحين) بالمقام الاول. بما يعنى انها شخصية غير بطولية، كما قد نجد فى الملحمة أو التراجيديا. كما أنها ليست شخصية أحادية الجانب, كأن تعيش عالمها الداخلى فقط أو الخارجى فقط، بل هى شخصية متعددة الأبعاد، متناقضة الرؤى والنوازع، تكتنفها حالة صراعية كاملة، سواء, أفى داخلها أم مع خارجها، أو بينهما أو معهما. وهى فى كل ذلك, ولكى تكون كذلك لابد أن تكون منطلقة من نظرة معينة للعالم, سواء, أكانت ظاهرة ومعلنة, أم مضمرة.
ولقد تطور مفهوم "النظرة الى العالم", الذى رأيناه عند لوكاتش, على أيدى لوسيان جولدمان, ليشمل كل نتاجات الأدب والفلسفة, ولا يقتصر على الشخصية الفنية وحدها. كما أنه يمدده, بحيث يصبح .. "ليس وقائع شخصية بل وقائع اجتماعية". وهذا الأمر ليس متناقضاً بأى حال, فى جوهره, مع ما طرحه لوكاتش, فهو (أى مفهوم النظرة الى العالم) يمثل عند جولدمان"طريقة للنظر والاحساس بكون ملموس مشتمل على كائنات واشياء ".(26)
وتصبح النقطة الجوهرية, فى هذا المقام, هى العلاقة بين العمل الأدبى و نظرات للعالم, "رؤيات العالم", التى تقابل شريحة أو طبقة, أو عدة شرائح أوطبقات, اجتماعية معينة. وهى تلك التى تطرح الدلالة الموضوعية للعمل الأدبى، بحيث يمكن بعد ذلك اقامة علاقة بينه وبين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعصر.
فعلى الرغم من أن العمل الأدبى هو بالتأكيد من انتاج صاحبه، الا أن جولدمان يؤكد أنه, الى جانب ذلك, متوفر على منطقه الخاص، وأنه ليس ابداعاً تعسفياً، بل هناك التحام داخلى لمنظومته المفهومية، كما أن هناك التحاماً لمجموعة المكونات الحية داخله، وهذا الالتحام يجعل تلك المفاهيم والكائنات تؤلف"كليات"يمكن لاجزائها أن تٌفهم انطلاقاً من بعضها البعض, وأن يفهم الجزئى انطلاقاً من بنية الكلى .
وهذا المعنى لا ينفصل بأى حال، فى رأيى ،عن مفهوم الشخصية الروائية أيضاً, تلك التى لا يمكن الفصل بين محيطها الاجتماعى التاريخى الذى طرحت فى اطاره وبين خصوصيتها وتفردها الناجمين عن خصوصية وتفرد كاتبها ذاته, رغم تاريخيته .. يقول جولدمان: "لا شك أنه من المستحيل ان نفهم (فاوست)و(باندورا)بدون إيلاء الاعتبار للثورة الفرنسية أو لنابليون. لكن عندما تظهر العلاقة الرابطة بين هذه الأعمال وبين الاحداث التاريخية المعاصرة لها، فإنه يبقى علينا كذلك أن نتسائل عن الكيفية التى امتزجت بها الأحداث فى وعى جوته ومع تجاربه الشخصية لينتهى الى تلك الروائع التى كتبها تعبيراً عنه".(27)
وكما أن وعى جوته لا يمكن فصله عن محاولتنا لفهم شخصيتى فاوست وباندورا الا أنهما (أقصد الشخصيتين) يمتلكان استقلالية من نوعٍ خاص داخل العمل الأدبى، ولذلك فهما أيضا يمتلكان نوعاً من الوعى الذى يحكم حركتهما الفنية وأختياراتهما المصيرية الخاصة. بيد أن هذا الوعى ليس منفصلاً عن وجودهما الاجتماعى المحدد .. يقول جولدمان: "ان الوعى ذاته عنصر من عناصر الواقع الاجتماعى، ووجوده نفسه يسهم فى جعل مضمونه ملائماً أو غير ملائم".(28) ففاوست وباندورا، لذلك لا يمتلكان توترهما الخاص الذى يجعل منهما شخصيات فنية حية.
وينقسم هذا الوعى عند جولدمان الى نوعين:"وعى قائم"، وهو الوعى الذى تضافرت فى تشكيله الخبرة التاريخية الاجتماعية المكتسبة. و"وعى ممكن"، وهو يمثل الحد الأدنى للتلاؤم الذى يمكن أن تدركه الجماعة, أو "الشخصية الفنية" دون أن تغير من طبيعتها .(29)
ويمكن فهم العلاقة بين هذين النوعين من الوعى بالنظر إلى الفرضية الأساسية التى تقوم عليها "البنيوية التكوينية" التى قام عليها ونظر لها لوسيان جولدمان. من حيث أنها ترى أن كل سلوك انسانى إنما هو محاولة لتقديم جواب دال على وضعية مطروحة، وهو من خلال ذلك يعد محاولة لخلق توازن بين الذات الفاعلة والموضوع الذى مورس عليه الفعل. وهو المعنى عينه الذى يردنا مرة أخرى الى مفهوم الانسجام الذى تعرفنا عليه عند لوكاتش.
وهذه الفرضية لا يطرحها جولدمان بإعتبارها فرضية مطلقة, بل هى نسبية على نحو خالص. ومن هنا تصبح العلاقة بين "الوعى القائم" و"الوعى الممكن" متمثلة فى عناصر السلوك التى تنتجها الذات الفنية "الاجتماعية" لتحقيق التلاؤم – الانسجام بين الذات والموضوع، وبين الانسان والعالم.
وهو الأمر الذى يمكن أن نتصور أنه عملية انتاج ل"لإيدولوجيا"، وأقصد بها هذا البناء الفكرى الذى يصوغ رؤوية الانسان وعالمه وتصوره لدوره الممكن خلاله. لذلك فإن سلوك البطل الروائى لا يمكن فصله عن رؤيته الأيدولوجية, بل هو مبرر دائماً من خلال هذه الايدولوجية.
ويواصل ميخائيل باختين هذا الخط قائلا: "إن فعل البطل الروائى مبرر دائما من طرف ايدولوجيته ويتصرف داخل عالمه الايدولجى الخاص به ..وله مفهومه الخاص به للعالم مجسدا فى كلامه وأفعاله "(30)
إن هذا الأمر مبنى عند باختين على أساس ان خطاب المتكلم فى الرواية ليس مجرد خطاب منسوخ أو معاد إنتاجه كما رأينا عند البنيويين (بارت، وكريستيفا، وتودوروف), بل .. "هو بالذات مشخص بطريقة فنية"، وهو يقول هذا رغم إقراره بأن "المتكلم" أساساً, إنما هو.. "فرد إجتماعى ملموس ومحدد تاريخياً". وخطابه يعد لغة أجتماعية..وليس مجرد لهجة فردية .. "وذلك لأن كلام الشخصيات ينزع دوماً نحو دلالة وانتشار اجتماعيين معينين". فهو لغة إفتراضية, أو لغة بالقوة، لو إستخدمنا التعبير الفلسفى (الأرسطى). ومن هنا فهو ليس نسخاً أو محاكاة للخطاب الإجتماعى عبر ايدولوجيا المتكلم أو الشخصية الروائية على حدٍ سواء. وعلى هذا فإن المتكلم فى الرواية عند باختين إنما هو منتج أيدولوجياً..وكلماته هى دائماً"عينة أيدولوجية", أو "أيديولوجيم", كما يسميها.(31)
هكذا يتضح لنا أن الشخصية الروائية لدى الاتجاه الإجتماعى تنطلق من مفهوم الانسان, باعتباره كائناً إجتماعياً بالدرجة الأولى. ومن ثم, فهى تمثل النموذج الإنسانى الإشكالى الذى يتجاذبه طرفا التوتر الجدلى، المتمثلين فى مقولتى "الذات" و "الموضوع", "الأنا" و"الآخر", "الخاص" و"العام", "الداخل" و"الخارج" .. الى غير ذلك من مترادفات.
وهى (أى الشخصية), فى كل هذه الألوان من الصراع, تكتسب وعياً جديداً كما أنها تنتج وعيا متجدداً، أى تحمل أيدولوجياً وتنتج أيدولوجيا، باحثة عن الانسجام والتلاؤم مع عالم يتحدى إنسانيته وينفيها.
أساليب السرد الروائي
مثلما يفتقر الاتجاه البنيوي إلى نظرية مستقرة حول الشخصية الروائية, كذلك فإن أصحاب النقد الاجتماعي يفتقرون إلى نظرية متكاملة حول مفهوم السرد وأساليبه.
فلم يحظ مفهوم السرد Narration , بمعناه المعاصر, من حيث كونه تقنية للحكي, بمعالجات كافية, سواء, أمن كلاسيكييهم, أم من المعاصرين منهم, بيد أنهم تناولوا شيئاً قريباً من ذلك. ألا وهو, مشكلة الصياغة الفنية للرواية, والفارق في الطرح السردي بين كل من الرواية الطليعية والرواية الطبيعية, ورواية الواقعية النقدية ورواية الواقعية الاشتراكية.
ففي كتابه "دراسات في الواقعية", يتحدث جورج لوكاتش عن الحدث باعتباره ملتقي للأفعال المتبادلة والمتشابكة في ممارسة الإنسان. حيث يقوم الصراع عنده, ممثلا لشكل أساسي من هذه الأفعال المتبادلة المليئة بالتناقض. وذلك عبر مقولتي : "التوازي" و "التضاد" اللتين تشكلان اتجاه الحدث , وباعتبارهما شكلين تمارس فيهما النوازع البشرية فعلها تآزرا أو تنازعاً. ويخلص من ذلك إلى أن هذه المبادئ الأساسية للتأليف الروائي.."إنما تعكس في تركيز إنشائي الأشكال الأساسية الأعم والأعمق بضرورة الحياة الإنسانية ذاتها". لكن الأمر عنده لا يتعلق بهذه الأشكال في ذاتها, بل ينبغي أن تقوم على تحويل الظواهر العامة النموذجية إلى تصرفات خاصة في الآن نفسه, إلى نوازع شخصية لأناس معينين.
وهذه المهمة تقع على عاتق الفنان الذي يقوم بخلق أوضاع ووسائل تعبير, يمكن بواسطتها أن يظهر على نحو حسى كيفية تجاوز هذه النوازع الفردية للأطر المشكلة للعالم الفردي المحض.(32)
ويتم ذلك عبر ما يسميه "بالتجريد", الذي يمكن أن يكون مرادفاً لمفهوم "التكثيف". فلا يوجد فن روائي بدون تجريد وإلا لما تمكن هذا الفن من خلق البطل "النموذجي". بيد أن لعملية التجريد, تلك, مثل كل تقنية محددة, اتجاها, وهذا الاتجاه هو ما يهم لوكاتش بصورة أساسية. فكل كاتب كبير يعالج, بوسائل التجريد تلك, مادة عمله. وذلك كي ينفذ إلى السمات الجوهرية للواقع الموضوعي, وإلى علاقاته الخفية غير المدركة بصورة حسية مباشرة, والتي لا يمكن لمسها إلا عبر وسائط. إن هذه العلاقات عادة ما تكون متداخلة وغير متساوية في أهميتها أو آثارها, ولا تقوم إلا على هيئة توجهات محتملة, فضلاً عن أنها ليست منظورة على السطح المباشر, ولذلك فإن الكاتب يقع عليه عبء مزدوج:
فعليه, أن يتناول الجانب الفني كما يتناول جانب نظرته إلى العالم عبر هذه التلافيف, يقول لو كاتش : "فهو يقوم أولا, على مهمة الكشف الفكري والصياغة الفنية لهذه الترابطات, وثانياً يقوم – وهذا لا ينفصل عن الأولى – على التغطية الفنية للترابطات التي تعالج مجردة – أي على رفع التجريد". وهو يقصد برفع التجريد رؤية علاقات الواقع في تجسدها وتداخلها تمهيداً لطرحها من خلال منظوره في تجريدها النموذجي. وهو ما يؤدي إلى طرح صياغي فني جديد للواقع, أو كما يقول: "سطح للحياة مصنوع فنياً". غير أنه رغم ذلك عليه أن يبدو كسطح شامل للحياة بكل تعيناته الجوهرية, لا كلحظة مدركة فى ذاتها, أو معزولة عن مجمل هذا الترابط الكلي.(33)
إن القضية عند لوكاتش, إذن, تتحدد في قدرة الكاتب على إبراز التركيب الجوهري للعالم, من خلال تعمق بنيته وعدم الوقوع في شراك "خبثه" أو مكره, الذي تحدث عنه لينين. على أن يتم طرح ذلك من خلال صياغة فنية قادرة على إبراز منظور الكاتب لهذا العالم, إن المقصود "بالجوهري", هنا, هو تلك العناصر والقوى الحقيقية, وليست الزائفة أو السطحية, المحركة لصيرورات الوقائع والبشر.
والكاتب يرى هذا "الجوهري" في حركية هذه الوقائع وتعقدها وتداخلها, كما سبق ذكره. فى حين أن هذا الجوهري, إلى جانب ذلك, متعلق بما يمكن أن يبدو, في حدوثه, مصادفة. بينما هو في الحقيقة مرتب على نحو يحكمه قانون الحركة المعقد الذي ينبغي على الكاتب أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجهاً آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب ناتجة عن سبب محدد وعليه أن يكشف عنه, يقول لوكاتش: "ومشكلة الجوهري وغير الجوهري تمثل وجها آخر لمشكلة المصادفة, فكل صفة في أي إنسان هي من وجهة نظر الكاتب شيء عرضي, كل هدف هو أداة من أدوات المسرح, حتى تتم بينها التفاعلات الحاسمة وتعبر عن نفسها بشكل شعري من خلال بعض الأحداث". (34) ومن هنا يصل الكاتب, من خلال ما يبدو عرضياً, إلى الجوهر الحقيقي الذي يحكم نزوع الشخصية ويحكم حركة أحداث الرواية.
إن ما يلعب الدور الحاسم في هذه في هذه المسألة هو ما يسميه لوكاتش, "بالمنظور" Prespective, وقد أشرت اليه من قبل. وهو يعد مصطلحاً بالغ الأهمية في الطرح الجمالي عند لوكاتش, لأنه هو الذى .. "يحدد الاتجاه والمحتوي بالنسبة للرواية ويجمع خيوط السرد ويمكن الفنان من أن يختار بين المهم والسطحي, بين القاطع البات والحدسي, فالاتجاه الذي تتطور فيه الشخصيات يحدده المنظور, فتوصف فقط تلك الملامح المهمة في تطورها (أي تطور الشخصيات). وكلما كان المنظور صافيا (..) وكان الاختيار مقتصداً ولافتا للنظر". (35) إنه إذن مبدأ الاختيار والمعيار الذي يختار به الكاتب تفصيلات عمله, ومن ثم يتجنب منزلقات الثرثرة أو الحركة في اتجاه لا يخدم رؤيته الفنية والموضوعية. ومن خلاله, يتم ابراز ما هو جوهري, واطراح ما دون ذلك. ولعل هذا هو ما يحدد مفهوم الصياغة الفنية الصائبة عن لوكاتش, خاصة, عندما يقول : "الفن هو اختيار ما هو جوهري وطرح ما هو غير جوهري". (36)
إن هذا الموقف يطرح, حسب ذلك, مفهوم المنظور, أو "الرؤية الفنية للعالم", باعتبارها إحدى قضايا الصياغة الفنية في العمل الروائي, أو باعتبارها شكلاً فنياً. وهو الأمر الذي يؤكده لوكاتش منذ كتابه المبكر "تاريخ تطور الدراما الحديثة" A modern drama fejlodesenek tortenete, قائلاً: "إن الشكل هو العنصر الاجتماعي الحقيقي في الأدب". (37) وقول لوكاتش هذا من الضروري فهمه في إطار مفهوم الوحدة الجدلية بين الشكل والمضمون أو بين الصياغة والمحتوى, وهو ما يؤدي إلى أن يصبح الشكل عنصراً اجتماعياً من حيث كونه يحمل طابعاً أيديولوجياً, أو أنه يحمل منظوراً أو عنصر اختيار محدد باعتباره يمثل الصياغة الفنية لرؤية محددة للعالم, تختار ما هو جوهري وتطرح ما هو غير جوهري, كما سبقت الاشارة.
وانطلاقاً من هذا المفهوم (المنظور) وباستخدامه يحدد لوكاتش أساليب الصياغة الفنية (يمكن أن نطلق عليها أساليب السرد) في أربعة اتجاهات رئيسية: الأول: الاتجاه الطليعي الذي, وإن حاول تصوير الواقع بشكل أو بآخر, إلا أنه يستخدم منظورا يقوم على الغربة المطلقة للإنسان, وأن عذابه الوجودي سرمدي وكامن في طبيعة الحياة نفسها وغير معلل بأية عوامل متحركة خارج الفرد. وذلك من خلال تثبيت المشهد الإنساني, واعتبار القلق والاضطراب والقهر والعدمية عناصر قدرية لا فكاك منها. ومن هنا يولى هذا الاتجاه جهده للتجريب الشكلي بعد أن أصبح تصوره للإنسان ولمصيره أمرا مفروغا منه.
أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه الطبيعي, ذلك الذي يقف على الطرف النقيض من الاتجاه السابق من حيث إنه يركز على العوامل البيئية والبيولوجية المحركة للإنسان. مع تغافل تام عن ما يعتمل داخل ذاته, وعن نوازعه, وفاعليته, باعتباره عنصرا مشاركا في العملية الاجتماعية, فيبدو الإنسان في هذا الاتجاه مثل فأر التجارب, الذي تمارس عليه صنوف التحولات, ولا يملك من أمر نفسه شيئا, ولا يمكنه إلا أن يكون مفعولا به.
أما الاتجاه الثالث فهو اتجاه الواقعية النقدية, ذلك الذي يقوم على منظور الإيمان بحركية التاريخ والواقع وتطورهما, وعلى بحث الإنسان الدائم عن وضع أفضل باعتباره كائنا اجتماعيا مؤثرا ومتأثرا بما يحيط به. إن هذا المنظور يتيح, حسب لوكاتش, تعرية اللحظة المعاشة, ويمكن الكاتب من سبر أغوارها. وذلك من خلال استبطان الأعماق الداخلية الغنية للعالم وللإنسان. ومن هنا فإن ما يشغل منظور الواقعية النقدية ويشكل مادتها, هو تعمق الصراعات التي تتزايد حدتها بتعقد الأوضاع المجتمعية وتعقد الاستجابات الإنسانية تجاهها. فهذا المنظور, حسب لوكاتش, يقوم على تحديد المواضع .. "التي تصل فيها هذه الصراعات إلى أكثف درجات شدتها وأكثرها نمطية, وأن يعبر عنها تعبيرا ملائما, وغالبا ما يتضمن التفصيل الواقعي الجيد حكما على هذه الصراعات."(38)
وذلك بالارتكاز على مصطلحين مرتبطين يقترحهما لوكاتش هما: (المعيار) و (التشويه) حيث على الكاتب لكي يصف (التشويه) الحادث في المجتمع والمنصب على الإنسان الذي يحياه فإن عليه أن يستخدم (معيارا) معينا لقياسه عليه, ورغم أن لوكاتش لا يفصل القول في هذا الشأن, وقد مر عليه مرورا سريعا, إلا أنني استطيع أن استنتج أن هذا المعيار إنما هو اليوتوبيا البديلة التي يمكن أن تتمثل في "الاشتراكية", حسبما يراها جورج لوكاتش, وهو يركد ذلك في موضع آخر قائلاً:
"إن رفض الاشتراكية كظاهرة ممكنة الحدوث يعني أن يغمض المرء عينيه عن المستقبل, وعندئذ يقبل الفرد القلق والفوضى كوضع دائم." (39)
ومن هنا فإن منظور الواقعية النقدية لا يقوم على مجرد تصوير الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يبرزها المجتمع المعاصر. لكن أيضا تصويرها في إطار الكل المجتمعي, باعتبارها ظاهرة تمتلك أسبابها الكامنة في المرحلة التاريخية المحددة, وفي الوضع الاجتماعي المحدد, وإن كان هذا المنظور لا يعالج, بصورة مباشرة, تلك الحالة اليوتيوبية البديلة.
ولعل فيما قاله (ابسن) و (تشيكوف) وأورده لوكاتش موافقا عليه, ما يؤكد ذلك, يقول إبسن: "إن مهمتي أن أضع الأسئلة لا أن أقدم الإجابات" وأعلن تشيكوف أنه "لابد أن يكون السؤال (فقط) الذي يضعه الكاتب معقولا, والإجابات في حالة كثيرة حتى عند تولستوي ليست معقولة, لكن هذا لا يبطل العمل طالما أنه يقوم على سؤال معقول." (40)
أما الاتجاه الرابع الذي يورده لوكاتش فهو ما يمكن أن يشكل تطويرا وامتدادا للاتجاه الواقعي النقدي, أو قل إجابة عن أسئلته (المعقولة), وذلك هو اتجاه "الواقعية الاشتراكية". الذي لا يكتفي بمجرد طرح أسئلة ابسن وتشيكوف, بل ينشغل بعوامل التغيير الاجتماعي ذاتها, حيث يقوم على ما يسميه لوكاتش (بالوصف من الداخل) أي طرح واكتشاف عوامل التغيير الكامنة داخل الأفراد والمجتمعات, وذلك في مقابل ما تكتفي به الواقعية النقدية من التعامل مع هذه العوامل, دون التوقف عندها. وموقف الواقعية النقدية, هنا, هو ما يمكن أن يعني (الوصف من الخارج), وعن طريق هذا (الوصف من الخارج) يصل الكاتب إلى طرح نماذج الأفراد وصراعاتهم الشخصية, محاولا الوصول إلى دلالة اجتماعية أوسع. أما (الوصف من الداخل) فانه, يقول لوكاتش, "يقوم على اكتشاف نقطة التفجير في التناقضات الاجتماعية القائمة, ثم يقيم بناءه الفني في علاقاته بهذه النقطة"(41) ويدخل في هذا الإطار وصف دخائل الأفراد الذين يعملون لهذا المستقبل من خلال التركيز على العناصر (الجوهرية) الحاملة لإمكانية التغيير فيهم وفي مجتمعهم.
وانطلاقاً من مفهوم (الجوهري) هذا, يصل (تيودور أدورنو) إلى نتائج مغايرة, حيث يطرح ما يتصوره مأزقا للرواية الحديثة. ويتمثل هذا المأزق في أن تدفق المعلومات والتقدم العلمي, وبخاصة فى أثرهما على معرفة خبايا النفس والتاريخ.. الخ, قد حرم الرواية من إمكانيات تصويرية وتعبيرية هائلة, تماما مثلما فعل اختراع آلة التصوير بالنسبة لفن الرسم. ومن هنا يدعو إلى أن تنقطع الرواية عن كل هذه الموضوعات التقليدية التي غطتها العلوم الجديدة, وأن .. "تكرس نفسها لتشخيص الجوهري وما ليس جوهريا."(42) حيث إن تحولات المجتمع تزداد كثافة وتلاحقا وتداخلا وهو ما يؤدي إلى خفاء الحقيقة المجتمعية والإنسانية واستتارها خلف حجب كثيفة.
ومن هنا تأتي أهمية الرواية التي تستطيع أن تغوص إلى ما خلف هذه الأستار والتعقيدات لا أن تعيد إنتاج ما هو سطحي لأنها في هذه الحالة ستكون "متواطئة مع الكذب", على حد قول أدورنو. وعلى هذا فإنه يرى ضرورة أن تتخلى الرواية عن صيغة الفعل الماضي (هكذا كان). وإذا كان لوكاتش قد تساءل عن احتمال أن تكون روايات ديستويفسكي حجر الأساس لملاحقة المستقبل, فإن أدورنو يرى أن الرواية المعاصرة التي تتحول فيها الذاتية العارمة إلى نفي للذاتية نفسها, نتيجة لمشكلتها الخاصة إزاء مجتمع يلفظها, هذه الرواية, بذاتها, تشبه الملاحم لكنها, كما يقول, "ملاحم سالبة". من حيث إنها تشهد على حالة يقوم فيها الفرد بتصفية نفسه بنفسه. ويلتقي الفرد, عبر ذلك, بما هو سابق عن الفردي (من وحدة بدائية مع الجماعة), والذي كان يبدو, فى الماضى ضمانة لوجود عالم مليء بالمعنى.
إن ما يجعل الرواية كذلك, إنما هو ذلك الموقف الملتبس, المتمثل في التساؤل حول ما إذا كان الاتجاه التاريخي الذي تتعامل معه الرواية يمثل عودة إلى البربرية أم يتجه نحو تحقيق الإنسانية ؟؟.
بيد أن بعض هذه الروايات في رأيه يستعذب أو يفضل حسم هذا الأمر بوضع تلك الرحلة برمتها داخل إطار البربرية.(43)
ومن هنا فعلى العكس من لوكاتش, يعتبر أدورنو أنه لا يوجد عمل فني, له بعض القيمة, لا يتجه نحو النشاز أو الخروج الفني على السائد من تقاليد تشكيلية. لأن هذه الأعمال بذلك إنما تخدم قضية الحرية بشهادتها على ما يتحمله الفرد مرغما في العصر الحديث أو "العصر الليبرالي" حسب تسميته.
وإذا كان لوكاتش قد هاجم أدب "الطليعة" لأنه يؤدي, في رأيه, إلى إجداب الواقع وإمحال الحقيقة الإنسانية ويؤدي إلى تحلل الشخصية وتفسخ الشكل الفني (كما سبق ذكره), فإن أدورنو يرى أن إدخال التغريب الجمالي والاستسلام أمام الواقع المعاصر العاتي, إنما هو أمر يفرضه الاتجاه الخاص بطبيعة الشكل الروائي ذاته, فيقول: "إن إدخال المسافة الاستطيقية إلى الرواية الحديثة, وفي الوقت نفسه استسلامها أمام الواقع البالغ القوة الذي لا يمكن, بعد, تغييره بطريقة ملموسة وليس عن طريق نقله إلى الصورة, هو مقتضى يفرضه الاتجاه الخاص بالشكل الروائي ذاته" (44)
ولا يبرهن أدورنو على صحة زعمه هذا, كما أنه لا يربط هذا الاستنتاج الأخير بدعوته السابق إيرادها حول ضرورة أن يكرس الفن الروائي نفسه لاكتشاف (ما هو جوهري وما هو غير جوهري).
غير أن ما يجمع أدورنو ولوكاتش, رغم ذلك, هو حصرهما مشكلة الشكل السردي الروائي في كونها مشكلة صياغة للرؤية الفنية للعالم. وبتنوع هذه الرؤية تتنوع أساليب السرد أو الصياغة الفنية, ومن هنا يوجد أسلوب السرد الطليعي الذي هاجمه لوكاتش وبرره أدورنو, والأسلوب الطبيعي الذي يعتبره لوكاتش النقيض الملتحم (رغم ذلك) بالأسلوب الطليعي, والأسلوب الواقعي النقدي الذي يعتبر عند لوكاتش الأسلوب الأمثل لطرح رؤية أكثر عمقاً ونفاذا وغنى للإنسان والعالم, وأخيرا الأسلوب الواقعي الاشتراكي الذي ينطلق من منظور الواقعية النقدية, محاولا ولوج مستقبل هذا الواقع وهذا الإنسان باكتشاف وطرح إمكانيات وعوامل التغيير الكامنة داخلهما.
الهوامش
1 – جورج لوكاتش، (بالمجرية), كتابات جمالية، دار كوشوط، بودابست, 1985، ص635
2 – نفسه،ص636
3 –نفسه ،ص637
4 – نفسه،ص 638
5 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية، ترجمة نايف بلوز، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط3،1985،ص5
6 – لوسيان جولدمان، مشكلات علم اجتماع الرواية، ترجمة خيرى دومة، فصول صيف 1992، ص39
7 – محسن جاسم الموسوى، عصر الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، بالاشتراك مع دار الشئون الثقافية، بغداد 1986، ص27
8 – محمود أمين العالم، الرواية بين زمنها وزمانيتها، فصول، ربيع1993، ص14
9 – نفسه، ص15
10 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية الأوربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ،1972، ص270
11 – نفسه، ص27
12 – جورج لوكاتش، معنى الواقعية المعاصرة، مرجع سابق، ص18
13 – نفسه, ص18،19
14 – نفسه, ص21
15 - نفسه، ص23
16 – نفسه، ص24
17 – نفسه، ص26
18 – نفسه، ص28
19 – نفسه، ص29
20 – نفسه، ص30
21 – جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية، مرجع سابق، ص25
22 – نفسه، ص28-29
23 – نفسه، ص29
24 – نفسه، ص29
25 – نفسه، ص30
26 – انظر: جورج لوكاتش، دراسات فى الواقعية الأوربية، مرجع سابق، ص28
27 – لوسيان جولدمان، المادية الجدلية، وتاريخ الأدب، مرجع سابق، ص17
28 – نفسه، ص31
29 – نفسه، ص36
30 – نفسه، ص37
31 – ميخائيل باختين،الخطاب الروائى، ترجمة محمد برادة، دار الفكر، القاهرة، باريس، 1987، ص103
32- نفسه، ص102
33- جوناثان كوللر،شعرية الرواية، ترجمة السيد امام، ابداع سبتمبر1995، ص112
34- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 29
35- نفسه, ص 131 – 132
36- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 82
37- لوكاتش, معنى الواقعية المعاصرة, سابق, ص 39
38- نفسه, ص 66
39- لوكاتش, تاريخ تطور الدراما الحديثة, شركة فرانكلين, بودابست, 1911, الجزء الأول, ص 71 (بالمجرية), Lukas Gyorgy, Amodern drama fejlodesenek Tortente, Frankline Trasulat, Budapest, 1917 , I kotet, VI oldal
40- لوكاتش, دراسات في الواقعية الأوروبية, مرجع سابق, ص 97
41- نفسه, ص 94
42- نفسه, ص 89
43- جورج لوكاتش, أهمية الواقعية النقدية اليوم, دار الآداب, بودابست, 1985, ص 140 (بالمجرية) Lukas Gyorgy, Alritikairealizmus jelentosege ma, szep irodalmi konyvikiado, Budapest, 1985, 130
44- تيودور أدورنو, وضعية السارد في الرواية المعاصرة, ترجمة محمد برادة, فصول صيف 1993, ص 92 .
صلاح السروى - بعض قضايا الرواية عند منظرى النقد الاجتماعى
صلاح السروى - بعض قضايا الرواية عند منظرى النقد الاجتماعى
www.ahewar.org