....
قبل ثوانٍ فقط كنت أجلس قرب بائعة الشاي، إمرأة في أواخر الخميس، سوداء، نحيلة وهزيلة، شفتها السفلى زرقاء من الوشم. بشرتها شاحبة رغم لمعانها جراء دهنها بشحم البقر المحروق. كانت تنكب على الكانون، تحرك مروحة القش لتؤجج نيران الفحم..فيطقطق الفحم، ثم ينشر شرره على جلد يديها ووجهها. الشرر يتطاير، لأن الفحم فحم خشب المسكيت الرخيص. أما فحم الطلح فغالٍ جداً على امرأة فقيرة مثلها. ترفع إبريق الشاي الحديدي المتسخ بالسواد بيدها اليمنى وتبدأ في الصب على الكوب الذي يسمونه باسم مطرب يدعى عثمان حسين، تلك الأكواب الزجاجية الملساء تكون بغير يد يمكن حملها منه، بل يجب أن تتحمل أصابعك الجافة لسعات حرارتها. تظل المرأة ساهمة، وهناك أناْ فقط. وأنا أرى تمدُّدَ مساحة الشمس الصباحية الحارقة...أنتقل إلى الجانب الآخر حين أشعر بسخونة الشمس، هناك على الجهة المقابلة لبائعة الشاي، أضع "البنبر" الحديدي المجدول بحبال البلاستيك الملونة تحت شريحة ظل صغيرة لجدار قديم، فبعد قليل سألتقي بأحد الوسطاء للحصول على تأشيرة عمل في الخليج. سيجرحني، أدرك ذلك، سيمتصني ويبتزني حتى يحصل على أكبر قدر من المال. ولكنني لا أملك بديلاً. صديقي هرب إلى ليبيا ومن ليبيا ركب البحر ثم استوطنه إلى الأبد. ودول الخليج أصبحت تضيِّق الخناق على العمال البسطاء بالرسوم المستمرة، رغم أنها لا تحتاج لتلك الأموال القليلة. ورغم ذلك فلا زال هناك من يشيد البنوك عندنا. يا ترى ماذا يفعلون داخل تلك المباني الضخمة، الباردة دوماً، والمبطنة بأكملها بالرخام؟ ماذا تنتج هذه الدولة، لتشيد مئات البنوك. صوت الوسيط بارد كعادة السماسرة من أبناء السوق، صوت عدائي، مشبع بشعور مزيف بالعظمة. هكذا يزيف الوضيعون حياتهم. أخبرته بالمكان، وكنت أرى انزلاق الكتلة الأسمنتية. سألني الوسيط عن مصدر صوت الفرقعة الذي سمعه. فغمغمت: لقد سقطت كتلة أسمنت من الرافعة على بائعة الشاي. فقد صوت السمسار استقراره، تعرج في الخروج كذيل حرباء مبتور، وتآكلت الحروف، كان فزعاً رغم أن المشهد لم يقع أمام بصره. تَخَالَطَ كلامه بين أدعية دينية وخطاب يائس فزع. قلت له: لا بأس، هدئ من روعك..، سألني بفزع "هل ماتت بائعة الشاي؟"، أجبته "لا أحد يعرف..ولكن يبدو أنها انسحقت تحت كتلة الأسمنت كما يحدث في أفلام الكارتون"..زاده كلامي اضطراباً، فقلت "ازدحم المكان، لذا لا تأتني فيه، سآتي أنا إليك". أحسسته يبتلع لسانه..فتحركت إليه دون ان أنتظر إجابته..لكنه صاح "لا..لا تأتِ.." كانت جملته حاسمة
....
كانت الجماهير تحاول مع الشرطة رفع الكتلة الأسمنتية، وبعد فشل مستمر، وعطب بالرافعة، جاءوا بدبابة، وقد ربطوا الكتلة بالجنازير ثم سحبتها الدبابة فسحقت ما تبقى من عظام بائعة الشاي، وخلفت سطحا من الدم المخلوط بقطع اللحم الصغيرة البيضاء.
تركتُ الجماهير خلفي، وتحركت جنوباً، كانت الشمس قد أرهقت الأرض بنارها، فجلست بسرعة قرب النافذة داخل حافلة متهالكة، وحين بدأت الناقلة في الحركة؛ التفت جميع الركاب إلى صوت صياح. كانت حشود ضخمة تلاحق مثليَّيَن في سن المراهقة. رجموهما بالحجارة فحاول المثليان الإختباء داخل الحافلة. المثلي الأول إستطاع القفز إلى داخل الحافلة المتحركة ثم اختبأ تحت أقدامي بسرعة. ولم ينجُ الآخر إذ لم يتمكن من اللحاق بها، ورأيت الجماهير تتجمهر حوله وتنبح كالكلاب، والشاب فزع، ثم بدأوا في تعريته من ملابسه وجلده بالقباقب والأحذية وهو يصرخ وسمعت فيما بعد أنهم حشوا فتحة شرجه بالشطة الحارقة. إنطلق سائق حافلتنا مسرعاً حتى لا تتأذى حافلته، وهو يصيح لمحصل الأجرة "اقفل الباب جيداً، وأنتم اسدلوا ستائر النافذة، فالتأمين لا يغطي الأضرار الناشئة عن الشغب". كان المثلي تحتَ قدميَّ يبكي بصوت خفيض كأرنب فزع..
....
ضغطتُّ على شفتيَّ لأتمكن من الحديث، وحين خرج صوتي بصعوبة استيقظت من النوم، نظرت للسقف المظلم، والمروحة قد شاخت فوهن دورانها رغم أنها في أقصى حدود سرعتها. أخذت أتذكر الحديث الذي خرج من فمي، "إنها أمُّك". قلت ذلك، يبدو أنني كنت اتحدث للمثلي، فعلى نحو ما، شعرت في الحلم بأن بائعة الشاي هي أم المثلي. كنت أتساءل في الحلم عن كيفية نقل خبر انسحاق أمه تحت كتلة الأسمنت له. لكن الحلم تبخر عندما نطقت أول كلمة في الخبر :"إنها أمك".
...
إلتقيت بالسمسار، الذي عاد لتصرفاته السابقة، التضخيم المستمر للذات والأكاذيب ذات التفاصيل المعقدة لمنحها مصداقية، "إنه مجنون" قلت لنفسي، لكنني -وأثناء ثرثرته- بدا لي أن كل من عرفتهم كانوا مجانين، مجانين بنسب متفاوتة، أو فلأقل كان بهم نقص في ملكات الوعي، إنهم جميعا يكذبون على أنفسهم قبل غيرهم، ويبدو أنهم لا يؤمنون بفكرة الصدق كعلاج من الأزمات. الصدق وحده هو الذي يحتاجه البشر، لتكون علاقاتهم جيدة مع انفسهم وليكونوا واقعيين أكثر، بل وأكثر تقبلاً للحياة. ولكنهم جميعا يرون عكس ما أرى. إن ما يحدث غريب جداً، فالعقد النفسية هي التي تُمنذج هؤلاء البشر، وتحدد لهم معايير حكمهم على الأشياء. العقد النفسية هي الأصل، وليست إستثناء كما يظن علماء النفس. نقدته ثلاثة آلاف جنيه، وتعمدت عدم إكمال المبلغ له، حتى لا يظن بأنني سهل الدفع. نعم؛ فعلينا أن نتعامل مع التواضع العقلي لهؤلاء بذات مستواهم. إن هذه الشعوب الجائعة لا ترحم الضعفاء أبداً، ولا تؤمن بحقوق الآخر، إن كل سلوك مضاد للأخلاق هو الأصل عندهم بل هو معيار الذكاء، وأهم سلوكين هما الكذب والسرقة، الكذب في كل شيء تقريباً، وسرقة كل شيء تقريباً.
.....
إبنة أخي، وهي في الخامسة عشر، تربي دجاجاتها، وتعتني بهم. وقد بنى لها أخي خُناً صغيراً. وأقول بنى لها، لأنها كانت تقبع داخله أكثر من الدجاجات الثمانِ.تنظفه باستمرار، وتعقمه، ثم تفرشه بالرمل، وتنظف الأزيار المكسورة، وتفرشها كذلك بالرمل، ثم تغسل أواني العلف والماء، وتطهرها، وتخلط الماء بالفيتاميمات والأدوية الخاصة، وتفعل ذات الشيء عند إطعامهم، إذ تشتري العلف كل اسبوع، وتطعم الدجاجات الثمانية، وتجلس لتبقبق معهم. والغريب أن الدجاجات كن يبقبقن معها بدورهم. لقد إعتقدن أنها أمهن، وربما اعتقدت هي ذلك أيضاً. لقد تمكَّنَتْ من تجاوز مرض التوحد الذي ولدت به بفضل تلك الدجاجات. وكان ذلك أشبه بالسحر أو المعجزة.
....
مررت بذات المكان، ونظرت إلى مكانها الخالي إلا من بقية من بقع الدماء الجافة. ورأيت الرافعة في مكانها، وقد تعلقت بها كتلة أسمنية أخرى. كان البدائيون ينتقمون من الجمادات التي تحدث موتاً، كانوا يحطمونها أو يغرقونها في البحر، وبالتالي تسكن أرواح الموتى في سلام. ولا زالت بقية من تلك المفاهيم البدائية عالقة هنا، فقد نقلوا الكتلة الأسمنتية وفجروها، ولكنهم بالتأكيد لم يفعلوا ذات الشيء بالرافعة الضخمة التي أفللتتها. سألت صاحب طبلية سجائر عما حدث فأخبرني بأنه لم يحدث شيء سوى أنهم حملو بقايا اللحم ودفنوه. سألته عن أهلها، فقال بأن الشرطة لم تتوصل إليهم. ولم يتم التبليغ عن غياب امرأة بذات المواصفات، قال ذلك ثم أضاف:"لم تأتِ إلى هذا المكان إلا قبل يومين من وفاتها...أنظر كيف كتب لها القدر هذه النهاية". القيت نظرة أخيرة ومضيت في طريق عودتي إلى المنزل. "القدر".. قلت لنفسي، يبدو أن الناس لا يرغبون في الإعتراف بالفوضى. إنهم دوماً يحاولون وضع نتائج الفوضى داخل قانون. وهم يعلمون تماماً بأن إمرأة أخرى أو أي إنسان آخر كان ليموت لو وضع في نفس ظرفي الزمان والمكان للفقيدة.
....
فتحت الباب، وتفاجأت بالدجاج خارج الخن. وأمامه كانت هنالك جثة قط بري ضخم ومرقط. أجريت اتصالاً بأخي، الذي أخبرني من بين بكائه بأنه في المستشفى.
....
رأت الصغيرة القط يخترق الخن من فتحة صغيرة تحت بابه، فحملت سكينة وهرولت نحوه، ثم فتحت الباب ووضعت القط أمام الأمر الواقع، حيث لا مفر أمامه إلا الهجوم عليها. صاحت: "لن تقتل بناتي".. فكشر عن أنيابه ثم قفز عليها، وبلطمة واحدة فقأ عينها اليسرى. غير أن الصغيرة عاجلته بطعنة سريعة في بطنه، فصرخ بدوره ولطمها في عينها اليمنى ففقأها. وفي ظلمة العمى احتضنته وسقطت معه أرضاً وعاجلته بطعنات قاتلة وهي تصرخ "لن تقتل بناتي"..
لقد انتصرت عليه، وفقدت عينيها إلى الأبد...لقد خاضت معركتها مبكراً جداً كما يفعل بقية البشر. المعركة التي لا يعرفون إن كانوا قد انتصروا فيها بالفعل، أم انهزموا فيها هزيمة نكراء.
.....
قال السمسار "عشرة آلاف أخرى ستدفعها عند الإستلام بعد أسبوع"، كانت تلك آخر دفعة مال سيبتزها مني بحسب كلامه، كنت انظر إلى وجهه الذي يشبه المهبل غير المختون وأفكر، "إن الرجل ما أن يدخل إلى السوق حتى يتحول لخنزير". خرجت من عنده وعبرت بمكان بائعة الشاي، وحين اقتربت من بقع الدماء الجافة، جثوت وتشممت الرائحة، رائحة شحم البقر، كان شحم البقر في جلدها أكثر من جلدها نفسه. ومع ذلك لم يُجْدِ ذلك نفعاً. وعندما شرعت في رفع أنفي لمحت شريحة هاتف ملقاة على مقربة، قلت "ربما تكون شريحة هاتفها". أدخلت الشريحة في جوالي، وأجريت اتصالاً بالرقم الوحيد المسجل فيها. فتلقت صوتاً أنثوياً، "ألو ماما أين أنتِ؟!". قلت "أنتِ ابنة بائعة الشاي" بدا صوتها فزعاً حين قالت "أنا ابنها الوحيد، من انت وأين ماما". قلت "ابنها" يبدو انه صبي،"ألا يوجد شخص كبير يمكنني التحدث إليه" قال "أنا في التاسعة عشر، أين ماما، ماذا حدث لها؟!".. تذكرت صوته، لقد كان ذلك المثلي بالفعل. همست "أمك توفيت"..ندت منه شهقة وسمعت صوت سقوط الهاتف من يده، ثم سقوطه هو نفسه. قررت حينئذٍ تقديم الشريحة للشرطة.
....
رأيت وجهها اللطيف مقنَّعٌ بالخدوش والجروح، وعينيها مغطاتين بلفائف الشاش والقطن. وهناك أنبوب أوكسجين يخرج من أنفها، وكلابات صغيرة على سبابتيها، تنقلان النبض إلى جهاز القراءة. جسدها الصغير ممدد ومغطى بمفرش أبيض. سمعت صوتها يقول "عمي". أمسكت بيدها، فاضافت بوهن "لقد قتلتُ الوحش" قلت "لقد انتصرتِ، أنتِ بطلة". "هل رأيت جثته؟" ، "نعم وكانت متعفنة ومنتفخة، ومضحكة، هذا الحيوان لم يعرف من كان يواجه". ضحكت بسعادة، ورأيت أمها تبكي ووالدها يطأطئ رأسه. ما أسهل أسباب نزول الألم..وأصعب اسباب نزول الفرح. "دقيقة واحدة"..طلبت منها الانتظار وخرجت من المبنى إلى حيث صناديق كرتونية صغيرة، ففتحتها وهششت الدجاجات الثمان من داخلها، فخرجت وهي تبقبق، مندفعة مباشرة نحو باب المبنى. وقف الممرضون والأطباء معترضين، لكن الدجاجات لم تأبه لهم، بل واصلت سيرها بحاسة البنوة، ثم دخلت إلى الغرفة وقفزت على صدر الفتاة، التي شهقت من الفرح واحتضنتهن.
"ما هذا يا رجل؟!..الدجاج يمكن أن ينقل لها الامراض وهو غير مسموح به هنا"، قال مدير المستشفى بحيرة، أشرت له بعينيَّ ناحية الغرفة. فالتفت ورأى الدجاجات على سرير الفتاة الممدة. فخرج من المبنى ودخن سجارة ووجه حائر الملامح.
....
كان مكتب السمسار مغلقاً، وهناك حشود من العملاء تتجمهر أمام بابه، وفشلت كل محاولات الاتصال بهاتفه، فأدركت أنه فر بأموالنا. تذكرت وجهه الجزِع حينما قصصت عليه تفاصيل موت بائعة الشاي. أجفانه تهدلت، ووجنتاه ارتعشتا، وسمعت أسنانه تصطك. كان يخاف الموت، وهو على هذا، كان يحب الحياة. ولذلك كان يجب عليَّ أن أكون أكثر حذراً في التعامل المالي مع بشري يحب الحياة. لكن الأمر وقع، ولا رادَّ له. حتى وكيل النيابة، لم يكترث للبلاغات التي قُدمت له، فالمال إذا خرج فهو كالروح، لا يعود أبداً.
إتجهتُ بعدها إلى حيث الرافعة، ورأيت بائعة شاي أخرى مكانها، فأخبرتها بما حدث لكنها قالت بعدم إكتراث "أعرف القصة، ولكنه المكان الوحيد المسموح به هنا" قلت "ألا تخافين الموت؟". قالت "أخافه طبعاً، ولكن أجل الله لا مرد له". حملت بنبري وكوب الشاي، وجلست تحت الجدار المقابل رغم أنه لم يكن ظليلاً، ثم أخذتُ أنظر إلى الرافعة هائلة الضخامة بنظرات القداسة. كانت السلاسل الحديدية والحبال الفولاذية تمتد حتى كلاباتها القابضة بقسوة على الكتلة الأسمنتية. رفعت كوب الشاي إلى شفتي..وأحسست بأن كل هذا العالم محشور في خن الدجاج بأمر من تلك الرافعة.
(تمت)