لم أستغرب أبداً أن يفوز القاص السوداني الدكتور محمد حسن النحات بجائزة محمّد سعيد ناود للقصة القصيرة التي تمنحها سنوياً مكتبة أغوردات العامة بأريتريا. فقد عرفت النحات منذ بواكير قصصه القصيرة. كنت قد التقيت النحات في فعالية مناقشة رواية (في قلبي أنثى عبرية) بنادي الكتاب السوداني. بعد نهاية الفعالية اقترب مني الشاب باستحياء وسألني بصوت خافت إن كان من الممكن أن (اقرأ) مجموعة قصص قصيرة قال إنه (متردد) في نشرها ولا يعرف إن كانت تصلح للنشر أساساً
بعد أيام جاءني يحمل على استحياء مجموعته القصصية في مكتب (محاور) للإنتاج الفني الذي كان الفنان التشكيلي لقمان عبد الله يستضيفني فيه مع عددٍ من المبدعين (المتشردين) الذين كانوا يتخذون منه مقراً لممارسة الكتابة أو الرسم أو التصميم. طلبت منه مراجعتي بعد أسبوع. عندما زارني النحات للمرة الثانية قلت له عبارة واحدة (توكل على الله وانشر فهذه القصص القصيرة أفضل من ثمانين بالمائة مما ينشر عندنا).
تتميز كتابة النحات في أغلب نصوصه السردية بتلاعبه بالمزج (المبدع) بين نواة (حقيقية) لقصته القصيرة – غالباً ما تكون مستقاة من خبرته الحقيقية كطبيب مبتدئ - و(المتخيل الغرائبي) بحيث يتوه المتلقي في البحث عن الخط الفاصل بين (الواقعي) و(الفانتازي). وهذا (التوهان) الجميل هو سر تميز كتاباته السردية الأولى التي تشرفت بقراءتها قبل النشر.
بعدها اشتهر النحات وموافي يوسف وعثمان الشيخ – بفضل كتاباتهم الناضجة المتطورة والمتميزة- كقناصي جوائز أدبية لا يشق لهم غبار حتى أنني كتبت مرة مقالاً (ساخراً) أطالب فيه (بحظر) مشاركتهم في أي مسابقة لجائزة أدبية سردية.
قصة (باحة بروكا) التي فازت بجائزة محمّد سعيد ناود للقصّة القصيرة لهذا العام في نظري تتويج مرحلي طبيعي لتطور الكتابة السردية عند النحات. تندرج القصة تحت راية (الرواية عن الرواية) أو (القصة عن القصة) التي يعتبر ميخائيل بولغاكوف أكبر روادها على مستوى العالم في روايته الموسومة (المعلم ومارغريتا) أو (الشيطان يزور موسكو) كما سار في دروبها يوسف زيدان في روايته (عزازيل).
تتميز قصة (باحة بروكا) بثلاث (مستويات) من التخييل. الأول منها حكاية الراوي عن محاولته الكتابة - في غرفته ثم في المقهى - والذي استخدمه النحات كجملة افتتاحية (جاذبة) يتواصل بعدها السرد الممتع.
(وضعتُ أمامي أوراقاً بيضاء، مَحبرَة نحاسية، ريشةً اختلستُهَا من بطة جيراني، أشعلتُ شمعةً وأحكمتُ تثبيتها على منتصفِ المنضدةِ، ألصقتُ أطرافَ أصابع يدي وأسندتُ مرفقي على حافةِ الطاولةِ، كنت عارياً تماماً. تنزلق حُبيباتُ عرقي من أسفل عنقي إلى مُفترق مؤخرتي وعندها يختفي إحساسي بسريانها لتبدأَ حُبيبات أخرى الرحلة من محطة العنق. كتمتُ أنفاسي مترقباً هُبوط الوحي...) أ هـ
ويواصل سرد تجربة الراوي / المؤلف في المقهى حتى يصل بنا للمستوى الثاني من التخييل. وهو مستوىً (غرائبي) متمثل في الظهور العجائبي (لبت مجذوب) وزوجها (استبيان)، القادمين على التوالي من صفحات روايتي (موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح و(أجمل رجل غريق) لغابرييل غارثيا ماركيث.
(ثم أخذتِ الأمورُ منحى خطيراً عندما دلفَ إلى المقهى عملاقٌ ضخمٌ استطاعَ بمشقةٍ العبور من البابِ، وبالكاد بعدت رأسه بوصات قليلةٍ عن السقف، وفي صحبته عجوزٌ ذات صوتٍ عالٍ وضحكة خشنة رجولية، تجاهلا أعين الجميع وتوقفا فقط عند طاولتي! أجلستْ المرأةُ الرجلَ الضخمَ في مقعدين تحملا بمشقةٍ وزنه، بينما سحبتْ كرسياً في مواجهتي ويدها اليُسرى تتمشى على فخذ رَجُلِهَا وباليُمنى أشعلتْ سيجاراً. بللتُ لساني بريقي؛ لأقولَ: منْ أنتما؟ وبصوتٍ رنان أجابت: أنا بت مجذوب وهذا “استبيان"... بحلقتُ فيهما ببلاهة!) ... أ هـ
يتواصل السرد في هذا المستوى ليصعد بنا لمستوى ثالث من (الفانتازيا) يسرد فيها النحات (على لسان بت مجذوب) قصة حياتها الثانية مع استبيان بعد (خروجهما) من صفحات الروايتين
(تجرعَ " استبيان " كوبه في جُرعةٍ واحدةٍ، بينما شفطتْ بت مجذوب الشاي مُحْدثةً جلبةً عاليةً.
_ من أنتما ؟ وماذا تريدان؟
ردتْ بت مجذوب: ألستَ كاتباً؟ ألم تعرفنا؟! أنا بت مجذوب من عوالم " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح. وهذا استبيان من قصة " أجملُ رجلٍ غريق في العالم " لماركيث.
فغرتُ فاهي دهشةً، قرصتُ فخذي تحتَ الطاولةِ؛ لأتأكد أنني لا أحلمُ!
_ يا رجل أَزَل عنك هذهِ الدهشة الغبية، علي الطلاق ما أقوله كله صدق، كُنتُ حبيسة مثلك بين دفتي كتاب لكنني بحيلة ما استطعت الفِكاكَ من براثن الحبرِ و الورقِ، و طوفتُ كل أنحاءِ العالمِ ، تعرفتُ على العديد من الرجالِ، إلى أن قابلتُ حبيبي "استبيان" فأنساني أزواجي الثمانية، ومغامراتي الطائشة... لديه شيءٌ أمتن من الوتد و أَمضى من .... الخ. كانتْ امرأةٌ فاجرةٌ كما قرأتُ عنها وكما تخيلتها، ثرثارةٌ بصورةٍ مزعجةٍ. بينما اكتفى "استبيان" بالنظرِ بوداعةٍ إلى يديهِ.
قاطعتها: وماذا تريدين مني؟
_ أثناء تجوالي مررتُ بعالمك؛ فأشفقتُ عليكَ يا عزيزي! أنتَ حبيسُ قصةٍ ركيكةٍ لكاتبٍ مغمورٍ، أنت مثلنا شخصية من بناتِ أفكار كاتبٍ لكن لسوء حظك كاتبك شاب لا صيت له ولن يقرأ قصتك أحدٌ؛ أخرج من سجنك هذا... العالم بالخارج فسيحٌ وستجدُ ما يسعدكَ كما وجدتُ أنا حبيبي هذا.) أ هـ
من خلال هذه اللعبة السردية البارعة يتنقل بنا النحات بين عوالم (الراوي) المتخيلة ومن خلالها نتذوق ونحس (بالقلق الخلاق) للكاتب وهو (يستحلب) نصه من فكرة عابرة وعوالم (بت مجذوب واستبيان) الغرائبية في مهجعهما داخل (الرواية) وعوالمهما الفانتازية بعد تمردهما وخروجهما من صفحات الروايتين.
أعتقد أن قصة (باحة بروكا) لمحمد حسن النحات قد انتقلت بنشيده السردي لآفاق جديدة نأمل أن يتوغل فيها لمزيد من الإمتاع وضمنت له مكاناً بارزاً في ديوان السرد العربي المعاصر.
صلاح محمد الحسن القويضي
ناقد ومترجم - السودان
17 سبتمبر 2020م
بعد أيام جاءني يحمل على استحياء مجموعته القصصية في مكتب (محاور) للإنتاج الفني الذي كان الفنان التشكيلي لقمان عبد الله يستضيفني فيه مع عددٍ من المبدعين (المتشردين) الذين كانوا يتخذون منه مقراً لممارسة الكتابة أو الرسم أو التصميم. طلبت منه مراجعتي بعد أسبوع. عندما زارني النحات للمرة الثانية قلت له عبارة واحدة (توكل على الله وانشر فهذه القصص القصيرة أفضل من ثمانين بالمائة مما ينشر عندنا).
تتميز كتابة النحات في أغلب نصوصه السردية بتلاعبه بالمزج (المبدع) بين نواة (حقيقية) لقصته القصيرة – غالباً ما تكون مستقاة من خبرته الحقيقية كطبيب مبتدئ - و(المتخيل الغرائبي) بحيث يتوه المتلقي في البحث عن الخط الفاصل بين (الواقعي) و(الفانتازي). وهذا (التوهان) الجميل هو سر تميز كتاباته السردية الأولى التي تشرفت بقراءتها قبل النشر.
بعدها اشتهر النحات وموافي يوسف وعثمان الشيخ – بفضل كتاباتهم الناضجة المتطورة والمتميزة- كقناصي جوائز أدبية لا يشق لهم غبار حتى أنني كتبت مرة مقالاً (ساخراً) أطالب فيه (بحظر) مشاركتهم في أي مسابقة لجائزة أدبية سردية.
قصة (باحة بروكا) التي فازت بجائزة محمّد سعيد ناود للقصّة القصيرة لهذا العام في نظري تتويج مرحلي طبيعي لتطور الكتابة السردية عند النحات. تندرج القصة تحت راية (الرواية عن الرواية) أو (القصة عن القصة) التي يعتبر ميخائيل بولغاكوف أكبر روادها على مستوى العالم في روايته الموسومة (المعلم ومارغريتا) أو (الشيطان يزور موسكو) كما سار في دروبها يوسف زيدان في روايته (عزازيل).
تتميز قصة (باحة بروكا) بثلاث (مستويات) من التخييل. الأول منها حكاية الراوي عن محاولته الكتابة - في غرفته ثم في المقهى - والذي استخدمه النحات كجملة افتتاحية (جاذبة) يتواصل بعدها السرد الممتع.
(وضعتُ أمامي أوراقاً بيضاء، مَحبرَة نحاسية، ريشةً اختلستُهَا من بطة جيراني، أشعلتُ شمعةً وأحكمتُ تثبيتها على منتصفِ المنضدةِ، ألصقتُ أطرافَ أصابع يدي وأسندتُ مرفقي على حافةِ الطاولةِ، كنت عارياً تماماً. تنزلق حُبيباتُ عرقي من أسفل عنقي إلى مُفترق مؤخرتي وعندها يختفي إحساسي بسريانها لتبدأَ حُبيبات أخرى الرحلة من محطة العنق. كتمتُ أنفاسي مترقباً هُبوط الوحي...) أ هـ
ويواصل سرد تجربة الراوي / المؤلف في المقهى حتى يصل بنا للمستوى الثاني من التخييل. وهو مستوىً (غرائبي) متمثل في الظهور العجائبي (لبت مجذوب) وزوجها (استبيان)، القادمين على التوالي من صفحات روايتي (موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح و(أجمل رجل غريق) لغابرييل غارثيا ماركيث.
(ثم أخذتِ الأمورُ منحى خطيراً عندما دلفَ إلى المقهى عملاقٌ ضخمٌ استطاعَ بمشقةٍ العبور من البابِ، وبالكاد بعدت رأسه بوصات قليلةٍ عن السقف، وفي صحبته عجوزٌ ذات صوتٍ عالٍ وضحكة خشنة رجولية، تجاهلا أعين الجميع وتوقفا فقط عند طاولتي! أجلستْ المرأةُ الرجلَ الضخمَ في مقعدين تحملا بمشقةٍ وزنه، بينما سحبتْ كرسياً في مواجهتي ويدها اليُسرى تتمشى على فخذ رَجُلِهَا وباليُمنى أشعلتْ سيجاراً. بللتُ لساني بريقي؛ لأقولَ: منْ أنتما؟ وبصوتٍ رنان أجابت: أنا بت مجذوب وهذا “استبيان"... بحلقتُ فيهما ببلاهة!) ... أ هـ
يتواصل السرد في هذا المستوى ليصعد بنا لمستوى ثالث من (الفانتازيا) يسرد فيها النحات (على لسان بت مجذوب) قصة حياتها الثانية مع استبيان بعد (خروجهما) من صفحات الروايتين
(تجرعَ " استبيان " كوبه في جُرعةٍ واحدةٍ، بينما شفطتْ بت مجذوب الشاي مُحْدثةً جلبةً عاليةً.
_ من أنتما ؟ وماذا تريدان؟
ردتْ بت مجذوب: ألستَ كاتباً؟ ألم تعرفنا؟! أنا بت مجذوب من عوالم " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح. وهذا استبيان من قصة " أجملُ رجلٍ غريق في العالم " لماركيث.
فغرتُ فاهي دهشةً، قرصتُ فخذي تحتَ الطاولةِ؛ لأتأكد أنني لا أحلمُ!
_ يا رجل أَزَل عنك هذهِ الدهشة الغبية، علي الطلاق ما أقوله كله صدق، كُنتُ حبيسة مثلك بين دفتي كتاب لكنني بحيلة ما استطعت الفِكاكَ من براثن الحبرِ و الورقِ، و طوفتُ كل أنحاءِ العالمِ ، تعرفتُ على العديد من الرجالِ، إلى أن قابلتُ حبيبي "استبيان" فأنساني أزواجي الثمانية، ومغامراتي الطائشة... لديه شيءٌ أمتن من الوتد و أَمضى من .... الخ. كانتْ امرأةٌ فاجرةٌ كما قرأتُ عنها وكما تخيلتها، ثرثارةٌ بصورةٍ مزعجةٍ. بينما اكتفى "استبيان" بالنظرِ بوداعةٍ إلى يديهِ.
قاطعتها: وماذا تريدين مني؟
_ أثناء تجوالي مررتُ بعالمك؛ فأشفقتُ عليكَ يا عزيزي! أنتَ حبيسُ قصةٍ ركيكةٍ لكاتبٍ مغمورٍ، أنت مثلنا شخصية من بناتِ أفكار كاتبٍ لكن لسوء حظك كاتبك شاب لا صيت له ولن يقرأ قصتك أحدٌ؛ أخرج من سجنك هذا... العالم بالخارج فسيحٌ وستجدُ ما يسعدكَ كما وجدتُ أنا حبيبي هذا.) أ هـ
من خلال هذه اللعبة السردية البارعة يتنقل بنا النحات بين عوالم (الراوي) المتخيلة ومن خلالها نتذوق ونحس (بالقلق الخلاق) للكاتب وهو (يستحلب) نصه من فكرة عابرة وعوالم (بت مجذوب واستبيان) الغرائبية في مهجعهما داخل (الرواية) وعوالمهما الفانتازية بعد تمردهما وخروجهما من صفحات الروايتين.
أعتقد أن قصة (باحة بروكا) لمحمد حسن النحات قد انتقلت بنشيده السردي لآفاق جديدة نأمل أن يتوغل فيها لمزيد من الإمتاع وضمنت له مكاناً بارزاً في ديوان السرد العربي المعاصر.
صلاح محمد الحسن القويضي
ناقد ومترجم - السودان
17 سبتمبر 2020م
Facebook Gruppen
مكتبة أغردات العامة ( APL ) hat 9.791 Mitglieder. * محاولة لإيجاد حلول مبتكرة، بتضافرنا جميعاً، بالطبع، لأزمة القراءة المتفاقمة في بلادنا. * الآلية : أن يقوم/ تقوم، كل عضو/ عضوة بتحميل ما...
www.facebook.com