هل ما نسمعه اليوم من أغاني على مختلف مشاربها: الأغنية الكناوية- الغيوانية- العيوط- العصرية- الهيب الهوب- الراي- الأمازيغية- الطقطوقة... وغيرها ... تعتبر كلماتها زجلا؟... وقصائدها عامية؟...
هل هناك علاقة ما بين الزجل والأدب الشعبي؟...
هل القصيدة الزجلية (العامية) تهتم بالشعرية والفنية والجمالية؟..
هل يعتمد الزجال المغربي بعض الاستراتيجيات اللغوية ، والصوتية، والتركيبية في زجلياته؟..
إن العالم اليوم يتطور ن وبسرعة خارقة... وهذا التطور واكبه تطور الإنسان أيضا..وجراء هذا التطور ، اتسعت علاقاته، واتصالاته... فتنوعت وسائل تعبيره.
والإنسان المغربي اليوم يعرف تحولا هائلا في جميع مستوياته وبناه... وتطلعاته.. وهذا التحول رافقه أدب متنوع شفاهي وكتابي.
صحيح ، إن الثقافة كمفهوم.. هي واسعة جدا.. لأنها موجودة في كل مكان.. وفي كل ميدان ونشاط.. إن الثقافة في بعض وجوهها هي:"مجمل نشاط الإنسان الخلاق تميزا لها عن ظاهرات الطبيعة"[1]...
فالنشاط الإنساني ذو أبعاد مختلفة... ومن ثمة نجد أنه :"في المجتمع تجري عملية دائمة لا تقتصر على إبداع الثقافة، بل تشتمل كذلك تذويت الثقافة. فالتذويت إضفاء الذاتية ، مظهر ضروري من مظاهر التفاعل بين الثقافة والإنسان، وشرط ضروري من نشاط المجتمع وتطوره؟"[2].
ويؤكد الأستاذ إدريس كرم في كتابه (الأدب الشعبي بالمغرب، الأدوار والعلاقات في ظل العصرنة)، أن الإنسان أسير للثقافة... وبالتالي جعلها قيده.. عوض أن يجعل منها وسيلة للتحرر والانعتاق، والسير إلى الأمام.. وهذا هو الذي يبين لنا ما يروج في العالم العربي منذ مدة طويلة ، وإلى اليوم حول التراث والمعاصرة.. وماذا نأخذ وماذا نبقي من ثقافتنا؟...
وقد ساهم الغرب والاتصال به في انتشار هذه الغربة في ثقافتنا العربية... الشيء الذي جعل الإنسان العربي يعيش منقسما "ثقافتين متداخلتين.. واحد تقني عصري غربي، وآخر زراعي تقليدي"...[3]. ومن ثم تعالى النداء إما بالعودة إلى الماضي، والالتصاق بهذا التراث القديم.. أو الانسلاخ عنه، دون أن ندري أن الانسلاخ عن التراث دون إحيائه ، وتجديده وتطويره.. والتشبث بالاغتراب أدى بالأمة العربية إلى هزائم كثيرة.. وكبيرة...
ولكل ثقافة فلكلورها الذي هو:"حكمة الشعب وأدبه الذي لم يتعلمه من الكتب(...)... وهو العلم الشعبي المأثور والشعر الشعبي"[4]...
وترى أرمين فوجلين ، أن الفولكلور ، لا " يشمل المادة الشعرية والنثرية الشفاهية فحسب، ولكنه يشمل أيضا كل الفنون المعقولة المأثورة أيضا. بالإضافة إلى الصناعات الفنية المأثورة، والتقليدية، وجزءا كبيرا من المعتقدات الدينية والاجتماعية والعادات مما يصنفه الأنثربولوجيون عادة تحت المصطلح العام اثنوغرافيا"[5]...
ويعرفه الأستاذ إدريس كرم بأن ،الفلكلور هو الثقافة الشعبية، هذه الثقافة التي تتنوع حسب حامليها والمحمولة إليهم، والتي تعيش في تجدد يوازي ديناميكية الجماعة التي تعبر عنها[6]...
غير أننا في موضوعنا هذا لا نهدف إلى جانب واحد وهو الأدب الشعبي، والذي يعتبر دعامة من دعائم التراث.. ويعبر عن مقومات الوطنية والجماعية...
وقد قسم الدكتور عباس الجراري[7] الأدب الشعبي إلى خمسة أنواع، هي:(الأمثال.- الأحاجي- القصص- الأشعار- المرددات)..
كما قسم الأشعار إلى أربعة فنون، هي:
- الملحون ، أو ما سماه بقصيدة الزجل.
- الأغنية
- العروبي.
- الموال.
كما أنه قسم الزجل إلى نوعين:
1- نوع يعرف منشئه وهو القصيدة الزجلية.
2- نوع ثان لا يعرف منشئهن ويضم (البرولة- العروبي- المزوكي- الموال- السلامات- العيطة- الطقطوقة- أعيوع- الدقة- غيوان بن يازغة- الحكمة)...
والنوع الأخير(الحكمة)، قال فيه عباس الجراري:"إن هناك نوعا آخر من الزجل خاصا في شكله، وموضوعه، يعرف منشئه ولكنه بعيد عن القصيدة، وعن كل الأنواع الأخرى، ولا يغنى به، وهو الحكمة"[8]...
من هذا المنظور، نطرح سؤالا: ماذا يعني الزجل؟... وهل عندنا زجل مغربي بمقدوره أن ينافس الزجل أو القصيدة العامية المشرقية؟ .. أو يقوم ندا للشعر النبطي الخليجي؟...
الزجل لغة، يعني: درجة معينة من درجات شدة الصوت.. وكان يراد به أيضا السحاب.. خاصة إذا كان به رعد.. وكان يطلق – أيضا- على صوت الحديد، والأحجار، والجماد...
وأصبحت كلمة(زجل) تدل على اللعب، والجلبة، والصياح، ثم انتقل معناها إلى الصوت المرنم.. كما تدل على صوت الحمام... ثم على الصوت الطروب، المطرب.
واصطلاحا، تدل على نظم بالعامية.. واعتبره الأندلسيون فنا من فنون الشعر الملحون...
إن الزجل جنس إبداعي مكتوب بالدارجة العامية، والكتابة بالعامية من أصعب العمليات مما يتصور.. لأن من الصعب جدا تحويل كلام عادي يدخل في اليومي، والحياتي إلى نص إبداعي، يمتاز بالجمالية، والفنية.. ويصبح له حضور وازن في الساحة الإبداعية والثقافية... أي يصبح هذا الكلام العامي شعرا عاميا يخضع لمقاييس الشعر.
هذا ما دفع بالزجال المغربي أحمد لمسيح إلى القول:"هل تسعفنا مقاييس غير ذوقية بين زجل فيه كلمة تَجْبَذ خَتْها، وزجل ينقب فيه الشاعر ، مستعينا بفراسته في منجم الكلام عن قطعة صغيرة من الكلام الذهب وسط جبل من الكلام التراب؟"[9]...
ويربط الدكتور عباس الجراري فن الزجل بالموشحات.. ويرده في نشأته إلى الأندلس.. ولكن عندما نعود إلى وضع الزجل نجد أن كل العالم العربي له قصيدتان: فصيحة ، وعامية... فهل نقول بأن الشعر الفصيح كان شعر النخبة، وأنيس جلسات علية القوم؟... وأن الشعر العامي كان للعامة الناس وبسطائهم؟.. وأنه حلية جلسات العامة في الأسواق والمقاهي، والساحات العامة؟...
هل يجوز لنا أن نقول بأن الزجل خرج من أطراح المقامة، والحكاية الشعبية(السيرة) لما تتطلبه أحيانا من شعر يضيف إلى السرد نكهة الإدهاش والإمتاع ، والمؤانسة، والإثارة؟... وانه لم يجد الاعتراف به إلا بانتقاله من الشرق إلى الأندلس، ومن الأندلس إلى ربوع الأطلس المغربي؟... وأن مصطلح (زجل) أطلق على كل ما يقال أو يكتب من شعر بالعامية؟...
هل يمكن اعتبار الزجل قصيدة مضادة للقصيدة الفصيحة؟...وأنه ثورة على القصيدة الشرقية كانوذج معياري ما دامت الموسيقى الأندلسية الزريابية ثورة مضادة لموسيقى المشرق الموصلية التي وضع أسسها إبراهيم الموصلي؟...
لقد أصبحت كلمة(زجل) ، تطلق على كل ما يقال، أو يكتب بالعامية، وأصبحت مقابلا، أو مرادفا لكلمة (ملحون) ، أي المكسور من اللغة الفصحى...(ما دخلها اللحن نطقا أو كتابة).. وهذا الفن العامي أخذ شرعيته ورسميته بالأندلس، حيث أطلقوه على كل ما ينظم بالعامية.
وهذه الشرعية والرسمية، دفعت ببعض مؤرخي الأدب العربي ونقاده إلى أن يفردوا له مؤلفات ... فنجد أبا المحاسن تقي الدين أبا بكر الحموي القادري، أفرد له كتابا سماه:(بلوغ الأمل في فن الزجل).. وكذلك فعل أبو الفضل عبد العزيز بن سريا بن علي الحلي في كتابه ( العاطل الحالي والمرخص الغالي).
ويعرف الحموي الزجل بقوله:"إن الزجل في اللغة هو الصوت. يقال سحاب زجل: إذا كان فيه الرعد. ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضا صوت وزجل...وأنه سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يلت ذبه. وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت"[10]...
وعندما نقف إلى الجملة التالية: (حتى يغنى به ويصوت)، والتي نسطر تحتها بخط عريض... يتبادر إلى ذهننا سؤال عميق: هل الغناء والتصويت لازمان لفن الزجل؟... هل الغناء والتصويت هما اللذان يبرزان جماليات ، وفنيات الزجل؟...
هذا يذكرنا بشيء هامين:
الأول: ما نراه في بعض فلكلورنا الغنائي مثل : الهيت وأحواش وأحيدوس،وعبيدات الرمى وغيرها والتي ترافق فيها الزجل غناء ورقصات وحركات متنوعة.
الثانية: نتذكر موقف بشار بن برد، حيث قال في امرأة كانت تمده دائما بالبيض المقلي:
ربابة ربة البيت**** تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات**** وديك حسن الصوت
أليس هذان البيتان من عامية تلك الحقبة العباسية الأولى؟..
إذن ، الغناء والتصويت شرطان لازمان في فن الزجل، ما دامت لفظة الزجل تعني في بعض مدلولاتها اللغوية: التطريب، والطرب، والغناء.
ويؤكد الدكتور عباس الجراري، أن القصيدة الزجلية من أهم ألوان الغناء الشعبي.. ويقوم إنشادها على نوبات الموسيقى الأندلسية، وميازينها، والتي حصرها في إحدى عشر نوبة، وهي: رمل الماية- الأصبهاني- الماية- رصد الذيل- الاستهلال- الرصد- غريبة الحسين- الحجاز الكبير- الحجاز الشرقي- عراق العجم- العشاق...
هذه النوبات ، تخضع لميازين خمسة، هي: ابسيط- القائم ونصف- البطايحي- القدام- الدرج...
وتستعمل آلات موسيقية تسمى (لماعن)، وهي:
- آلات النفخ (الني- السبس- المزمار- النفير).
- الآلات الوترية (الرباب الفاسي- الرباب السوسي- الكمان- العود – القانون).
- الآلات الإيقاعية(البندير- الدف- الطر- الطبل- الطبلة- التعريجة).
كما تتوفر على مقومات إنشادية ، منها:
- السرابة: وهي قطعة قصيرة تؤدي مع غيرها ما تؤدى به القصيدة. ومنها ( المزلوك- الكباحي- الحضاري- السماوي)...
- الموال: والغالب أن يكون في لغة معربة.
- التمويلة: فلكل قصيدة تمويلة تكون على قالبها وميزانها.
لكن كل هذه المعطيات تتعلق بالموسيقى الأندلسية، وقصائدها المغناة.
وفي بعض دلالتها اللغوية، واستعمالاتها نجد أن (زجل) تفيد القتل. فهل الزجل هو قتل للغة الفصحى؟.. أو قتل لانفراديتها بالتطريب والإمتاع؟..
كما تفيد (الدفع بالشيء)، فهل الزجل دفع بمقام القصيدة الفصيحة.. والخروج عن التفرد والنخبوية؟...
ويؤكد الدكتور عباس الجراري، أن بداية كلمة الزجل في معناها الاصطلاحي مرتبطة بظهور هذا الفن على يد ابن قزمان... ويورد حكاية من كتاب لابن أحمد الرباط (العقيدة الأدبية في السبعة فنون المعنوية)، تقول:"أن أول من تناشد به الشيخ أبو بكر بن قزمان المغربي، وقيل لما أنه كان في الكتاب ، وكان مراهق السن، فدخل على شيخه الفقيه غلام جميل الصورة، حسن الوجه ، حلو الجانب، فنده عليه ابن قزمان وأجلسه بجواره، ثم صار يحييه بالسلام ن ويوادده بالحديث. فبص الفقيه، ففهم وعرف ما في ضمير أبي بكر من الحب للغلام. فعبس الفقيه في وجه أبي بكر وأمر إلى العريف بضربه. فضرب العريف ابن قزمان. فلما فرغ العريف من ضربه، أخذ أبو بكر لوحا ومسك القلم وقد كتب هذا الوزن، وهو أول أوزان الزجل:
الملاح أولاد أماره***** والوحاش أولاد نصاره
ابن قزمان جا يغفر****** ما قبل له الشيخ غفاره
فقال الفقيه: هجيتنا يا ابن قزمان بكلام مزجول" ، أي مقطع... فسموه زجلا.
ويجمع صفي الدين الحلي خصائص الزجل ، ومميزاته في قوله:"هي الفنون التي إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، وحلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها استقام"...
والقصيدة العامية المغربية المغربية تنقسم إلى قسمين: قصيدة عامية كلاسيكية... وقصيدة عامية حداثية...
والقصيدة التقليدية هي التي عرفها الشعر العامي في بداية نشأته وازدهاره..وكان أثرا لفن الموشح، وازدهاره في الأندلس وبلاد المغرب...
فهذا ابن خلدون يقول في مقدمته:"ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلامته وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منوالهن ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزوا فيه إعرابا واستحدثوا فنا سموه بالزجل"[11]...
هكذا نرى بأن الزجل محاولة لتقليد الموشحة، ولكنه شعر العامة وبلسانهم. ولذلك اعتبر الزجل الإعراب نوعا من القبح، حيث يعتبر ابن قزمان:"الإعراب أقبح ما يكون في الزجل وأثقل من إقبال الأجل"..
[1] - كوفالسوف،(كيلله)، دراسة في نظرية المجتمع الماركسي، ترجمة ، إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ط2، (د. ت)، ص:14
[2] - كرم، (إدريس)، الأدب الشعبي بالمغرب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1،2004، ص:10
[3] - المرجع نفسه، ص: 11
[4] - د. مرسي، (أحمد)، مقدمة الفولكلور، دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة، 1976، ص:5
[5] - إدريس كرم، المرجع نفسه، ص:21
[6] - المرجع نفسه، ص: 22
[7] - د. الجراري، (عباس)، من وحي التراث، الرباط، 1971، ص: 31
[8] - الدكتور وزاع، (المصطفى)، الكلام المكمول لسيدي محمد البهلول، منشورات الزمن،المغرب، سلسلة شرفات، يناير 2008، عدد 21، ص: 51
[9] - لمسيح،(أحمد)، مقدمة عتبة السالك، مجلة آفاق، محور الحديث بالمغرب، العدد 3/4، 1992، ص:9
[10] - ابن حجة الحموي، بلوغ الأمل في فن الزجل، تحقيق ، د. رضا محسن القريشي، ود. عبد العزيز الأهواني، مطبعة وزارة الثقافة، دمشق، 1974
[11] - عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص:524
هل هناك علاقة ما بين الزجل والأدب الشعبي؟...
هل القصيدة الزجلية (العامية) تهتم بالشعرية والفنية والجمالية؟..
هل يعتمد الزجال المغربي بعض الاستراتيجيات اللغوية ، والصوتية، والتركيبية في زجلياته؟..
إن العالم اليوم يتطور ن وبسرعة خارقة... وهذا التطور واكبه تطور الإنسان أيضا..وجراء هذا التطور ، اتسعت علاقاته، واتصالاته... فتنوعت وسائل تعبيره.
والإنسان المغربي اليوم يعرف تحولا هائلا في جميع مستوياته وبناه... وتطلعاته.. وهذا التحول رافقه أدب متنوع شفاهي وكتابي.
صحيح ، إن الثقافة كمفهوم.. هي واسعة جدا.. لأنها موجودة في كل مكان.. وفي كل ميدان ونشاط.. إن الثقافة في بعض وجوهها هي:"مجمل نشاط الإنسان الخلاق تميزا لها عن ظاهرات الطبيعة"[1]...
فالنشاط الإنساني ذو أبعاد مختلفة... ومن ثمة نجد أنه :"في المجتمع تجري عملية دائمة لا تقتصر على إبداع الثقافة، بل تشتمل كذلك تذويت الثقافة. فالتذويت إضفاء الذاتية ، مظهر ضروري من مظاهر التفاعل بين الثقافة والإنسان، وشرط ضروري من نشاط المجتمع وتطوره؟"[2].
ويؤكد الأستاذ إدريس كرم في كتابه (الأدب الشعبي بالمغرب، الأدوار والعلاقات في ظل العصرنة)، أن الإنسان أسير للثقافة... وبالتالي جعلها قيده.. عوض أن يجعل منها وسيلة للتحرر والانعتاق، والسير إلى الأمام.. وهذا هو الذي يبين لنا ما يروج في العالم العربي منذ مدة طويلة ، وإلى اليوم حول التراث والمعاصرة.. وماذا نأخذ وماذا نبقي من ثقافتنا؟...
وقد ساهم الغرب والاتصال به في انتشار هذه الغربة في ثقافتنا العربية... الشيء الذي جعل الإنسان العربي يعيش منقسما "ثقافتين متداخلتين.. واحد تقني عصري غربي، وآخر زراعي تقليدي"...[3]. ومن ثم تعالى النداء إما بالعودة إلى الماضي، والالتصاق بهذا التراث القديم.. أو الانسلاخ عنه، دون أن ندري أن الانسلاخ عن التراث دون إحيائه ، وتجديده وتطويره.. والتشبث بالاغتراب أدى بالأمة العربية إلى هزائم كثيرة.. وكبيرة...
ولكل ثقافة فلكلورها الذي هو:"حكمة الشعب وأدبه الذي لم يتعلمه من الكتب(...)... وهو العلم الشعبي المأثور والشعر الشعبي"[4]...
وترى أرمين فوجلين ، أن الفولكلور ، لا " يشمل المادة الشعرية والنثرية الشفاهية فحسب، ولكنه يشمل أيضا كل الفنون المعقولة المأثورة أيضا. بالإضافة إلى الصناعات الفنية المأثورة، والتقليدية، وجزءا كبيرا من المعتقدات الدينية والاجتماعية والعادات مما يصنفه الأنثربولوجيون عادة تحت المصطلح العام اثنوغرافيا"[5]...
ويعرفه الأستاذ إدريس كرم بأن ،الفلكلور هو الثقافة الشعبية، هذه الثقافة التي تتنوع حسب حامليها والمحمولة إليهم، والتي تعيش في تجدد يوازي ديناميكية الجماعة التي تعبر عنها[6]...
غير أننا في موضوعنا هذا لا نهدف إلى جانب واحد وهو الأدب الشعبي، والذي يعتبر دعامة من دعائم التراث.. ويعبر عن مقومات الوطنية والجماعية...
وقد قسم الدكتور عباس الجراري[7] الأدب الشعبي إلى خمسة أنواع، هي:(الأمثال.- الأحاجي- القصص- الأشعار- المرددات)..
كما قسم الأشعار إلى أربعة فنون، هي:
- الملحون ، أو ما سماه بقصيدة الزجل.
- الأغنية
- العروبي.
- الموال.
كما أنه قسم الزجل إلى نوعين:
1- نوع يعرف منشئه وهو القصيدة الزجلية.
2- نوع ثان لا يعرف منشئهن ويضم (البرولة- العروبي- المزوكي- الموال- السلامات- العيطة- الطقطوقة- أعيوع- الدقة- غيوان بن يازغة- الحكمة)...
والنوع الأخير(الحكمة)، قال فيه عباس الجراري:"إن هناك نوعا آخر من الزجل خاصا في شكله، وموضوعه، يعرف منشئه ولكنه بعيد عن القصيدة، وعن كل الأنواع الأخرى، ولا يغنى به، وهو الحكمة"[8]...
من هذا المنظور، نطرح سؤالا: ماذا يعني الزجل؟... وهل عندنا زجل مغربي بمقدوره أن ينافس الزجل أو القصيدة العامية المشرقية؟ .. أو يقوم ندا للشعر النبطي الخليجي؟...
الزجل لغة، يعني: درجة معينة من درجات شدة الصوت.. وكان يراد به أيضا السحاب.. خاصة إذا كان به رعد.. وكان يطلق – أيضا- على صوت الحديد، والأحجار، والجماد...
وأصبحت كلمة(زجل) تدل على اللعب، والجلبة، والصياح، ثم انتقل معناها إلى الصوت المرنم.. كما تدل على صوت الحمام... ثم على الصوت الطروب، المطرب.
واصطلاحا، تدل على نظم بالعامية.. واعتبره الأندلسيون فنا من فنون الشعر الملحون...
إن الزجل جنس إبداعي مكتوب بالدارجة العامية، والكتابة بالعامية من أصعب العمليات مما يتصور.. لأن من الصعب جدا تحويل كلام عادي يدخل في اليومي، والحياتي إلى نص إبداعي، يمتاز بالجمالية، والفنية.. ويصبح له حضور وازن في الساحة الإبداعية والثقافية... أي يصبح هذا الكلام العامي شعرا عاميا يخضع لمقاييس الشعر.
هذا ما دفع بالزجال المغربي أحمد لمسيح إلى القول:"هل تسعفنا مقاييس غير ذوقية بين زجل فيه كلمة تَجْبَذ خَتْها، وزجل ينقب فيه الشاعر ، مستعينا بفراسته في منجم الكلام عن قطعة صغيرة من الكلام الذهب وسط جبل من الكلام التراب؟"[9]...
ويربط الدكتور عباس الجراري فن الزجل بالموشحات.. ويرده في نشأته إلى الأندلس.. ولكن عندما نعود إلى وضع الزجل نجد أن كل العالم العربي له قصيدتان: فصيحة ، وعامية... فهل نقول بأن الشعر الفصيح كان شعر النخبة، وأنيس جلسات علية القوم؟... وأن الشعر العامي كان للعامة الناس وبسطائهم؟.. وأنه حلية جلسات العامة في الأسواق والمقاهي، والساحات العامة؟...
هل يجوز لنا أن نقول بأن الزجل خرج من أطراح المقامة، والحكاية الشعبية(السيرة) لما تتطلبه أحيانا من شعر يضيف إلى السرد نكهة الإدهاش والإمتاع ، والمؤانسة، والإثارة؟... وانه لم يجد الاعتراف به إلا بانتقاله من الشرق إلى الأندلس، ومن الأندلس إلى ربوع الأطلس المغربي؟... وأن مصطلح (زجل) أطلق على كل ما يقال أو يكتب من شعر بالعامية؟...
هل يمكن اعتبار الزجل قصيدة مضادة للقصيدة الفصيحة؟...وأنه ثورة على القصيدة الشرقية كانوذج معياري ما دامت الموسيقى الأندلسية الزريابية ثورة مضادة لموسيقى المشرق الموصلية التي وضع أسسها إبراهيم الموصلي؟...
لقد أصبحت كلمة(زجل) ، تطلق على كل ما يقال، أو يكتب بالعامية، وأصبحت مقابلا، أو مرادفا لكلمة (ملحون) ، أي المكسور من اللغة الفصحى...(ما دخلها اللحن نطقا أو كتابة).. وهذا الفن العامي أخذ شرعيته ورسميته بالأندلس، حيث أطلقوه على كل ما ينظم بالعامية.
وهذه الشرعية والرسمية، دفعت ببعض مؤرخي الأدب العربي ونقاده إلى أن يفردوا له مؤلفات ... فنجد أبا المحاسن تقي الدين أبا بكر الحموي القادري، أفرد له كتابا سماه:(بلوغ الأمل في فن الزجل).. وكذلك فعل أبو الفضل عبد العزيز بن سريا بن علي الحلي في كتابه ( العاطل الحالي والمرخص الغالي).
ويعرف الحموي الزجل بقوله:"إن الزجل في اللغة هو الصوت. يقال سحاب زجل: إذا كان فيه الرعد. ويقال لصوت الأحجار والحديد والجماد أيضا صوت وزجل...وأنه سمي هذا الفن زجلا لأنه لا يلت ذبه. وتفهم مقاطع أوزانه حتى يغنى به ويصوت"[10]...
وعندما نقف إلى الجملة التالية: (حتى يغنى به ويصوت)، والتي نسطر تحتها بخط عريض... يتبادر إلى ذهننا سؤال عميق: هل الغناء والتصويت لازمان لفن الزجل؟... هل الغناء والتصويت هما اللذان يبرزان جماليات ، وفنيات الزجل؟...
هذا يذكرنا بشيء هامين:
الأول: ما نراه في بعض فلكلورنا الغنائي مثل : الهيت وأحواش وأحيدوس،وعبيدات الرمى وغيرها والتي ترافق فيها الزجل غناء ورقصات وحركات متنوعة.
الثانية: نتذكر موقف بشار بن برد، حيث قال في امرأة كانت تمده دائما بالبيض المقلي:
ربابة ربة البيت**** تصب الخل في الزيت
لها عشر دجاجات**** وديك حسن الصوت
أليس هذان البيتان من عامية تلك الحقبة العباسية الأولى؟..
إذن ، الغناء والتصويت شرطان لازمان في فن الزجل، ما دامت لفظة الزجل تعني في بعض مدلولاتها اللغوية: التطريب، والطرب، والغناء.
ويؤكد الدكتور عباس الجراري، أن القصيدة الزجلية من أهم ألوان الغناء الشعبي.. ويقوم إنشادها على نوبات الموسيقى الأندلسية، وميازينها، والتي حصرها في إحدى عشر نوبة، وهي: رمل الماية- الأصبهاني- الماية- رصد الذيل- الاستهلال- الرصد- غريبة الحسين- الحجاز الكبير- الحجاز الشرقي- عراق العجم- العشاق...
هذه النوبات ، تخضع لميازين خمسة، هي: ابسيط- القائم ونصف- البطايحي- القدام- الدرج...
وتستعمل آلات موسيقية تسمى (لماعن)، وهي:
- آلات النفخ (الني- السبس- المزمار- النفير).
- الآلات الوترية (الرباب الفاسي- الرباب السوسي- الكمان- العود – القانون).
- الآلات الإيقاعية(البندير- الدف- الطر- الطبل- الطبلة- التعريجة).
كما تتوفر على مقومات إنشادية ، منها:
- السرابة: وهي قطعة قصيرة تؤدي مع غيرها ما تؤدى به القصيدة. ومنها ( المزلوك- الكباحي- الحضاري- السماوي)...
- الموال: والغالب أن يكون في لغة معربة.
- التمويلة: فلكل قصيدة تمويلة تكون على قالبها وميزانها.
لكن كل هذه المعطيات تتعلق بالموسيقى الأندلسية، وقصائدها المغناة.
وفي بعض دلالتها اللغوية، واستعمالاتها نجد أن (زجل) تفيد القتل. فهل الزجل هو قتل للغة الفصحى؟.. أو قتل لانفراديتها بالتطريب والإمتاع؟..
كما تفيد (الدفع بالشيء)، فهل الزجل دفع بمقام القصيدة الفصيحة.. والخروج عن التفرد والنخبوية؟...
ويؤكد الدكتور عباس الجراري، أن بداية كلمة الزجل في معناها الاصطلاحي مرتبطة بظهور هذا الفن على يد ابن قزمان... ويورد حكاية من كتاب لابن أحمد الرباط (العقيدة الأدبية في السبعة فنون المعنوية)، تقول:"أن أول من تناشد به الشيخ أبو بكر بن قزمان المغربي، وقيل لما أنه كان في الكتاب ، وكان مراهق السن، فدخل على شيخه الفقيه غلام جميل الصورة، حسن الوجه ، حلو الجانب، فنده عليه ابن قزمان وأجلسه بجواره، ثم صار يحييه بالسلام ن ويوادده بالحديث. فبص الفقيه، ففهم وعرف ما في ضمير أبي بكر من الحب للغلام. فعبس الفقيه في وجه أبي بكر وأمر إلى العريف بضربه. فضرب العريف ابن قزمان. فلما فرغ العريف من ضربه، أخذ أبو بكر لوحا ومسك القلم وقد كتب هذا الوزن، وهو أول أوزان الزجل:
الملاح أولاد أماره***** والوحاش أولاد نصاره
ابن قزمان جا يغفر****** ما قبل له الشيخ غفاره
فقال الفقيه: هجيتنا يا ابن قزمان بكلام مزجول" ، أي مقطع... فسموه زجلا.
ويجمع صفي الدين الحلي خصائص الزجل ، ومميزاته في قوله:"هي الفنون التي إعرابها لحن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، وحلال الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها استقام"...
والقصيدة العامية المغربية المغربية تنقسم إلى قسمين: قصيدة عامية كلاسيكية... وقصيدة عامية حداثية...
والقصيدة التقليدية هي التي عرفها الشعر العامي في بداية نشأته وازدهاره..وكان أثرا لفن الموشح، وازدهاره في الأندلس وبلاد المغرب...
فهذا ابن خلدون يقول في مقدمته:"ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلامته وتصريع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منوالهن ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزوا فيه إعرابا واستحدثوا فنا سموه بالزجل"[11]...
هكذا نرى بأن الزجل محاولة لتقليد الموشحة، ولكنه شعر العامة وبلسانهم. ولذلك اعتبر الزجل الإعراب نوعا من القبح، حيث يعتبر ابن قزمان:"الإعراب أقبح ما يكون في الزجل وأثقل من إقبال الأجل"..
[1] - كوفالسوف،(كيلله)، دراسة في نظرية المجتمع الماركسي، ترجمة ، إلياس شاهين، دار التقدم، موسكو، ط2، (د. ت)، ص:14
[2] - كرم، (إدريس)، الأدب الشعبي بالمغرب، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط1،2004، ص:10
[3] - المرجع نفسه، ص: 11
[4] - د. مرسي، (أحمد)، مقدمة الفولكلور، دار الثقافة للطباعة والنشر القاهرة، 1976، ص:5
[5] - إدريس كرم، المرجع نفسه، ص:21
[6] - المرجع نفسه، ص: 22
[7] - د. الجراري، (عباس)، من وحي التراث، الرباط، 1971، ص: 31
[8] - الدكتور وزاع، (المصطفى)، الكلام المكمول لسيدي محمد البهلول، منشورات الزمن،المغرب، سلسلة شرفات، يناير 2008، عدد 21، ص: 51
[9] - لمسيح،(أحمد)، مقدمة عتبة السالك، مجلة آفاق، محور الحديث بالمغرب، العدد 3/4، 1992، ص:9
[10] - ابن حجة الحموي، بلوغ الأمل في فن الزجل، تحقيق ، د. رضا محسن القريشي، ود. عبد العزيز الأهواني، مطبعة وزارة الثقافة، دمشق، 1974
[11] - عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص:524