محمد فيض خالد - الطّحان.. قصة قصيرة

ترمقه عيون الصّبايا ، ونساء القرية بإعجابٍ وزهو ، يقف شامخا في ثيابهِ المغبرة بالدقيقِ ، لا يخلو مكانه من تزاحمِ الجميلات ، اللاتي رأين في لطفهِ وحلاوةِ منطقهِ، وعذب حديثه، ودماثةِ خلقهِ ، وشبابه الفتي الغضّ ؛ ما يستحق الحضور خصيصا .
عرف طريق الطاحونة صغيرا ، يعمل مع والدهِ المعلم "حسانين" ، أشهر طحان في الناحيةِ، وبعد موته أصبح خلفا لأبيهِ ، بعد أن أصبحَ ماهرا ، لا يقلّ خبرة عنه، كما أن في فقرهِ المتقعِ ، وأمه التي فقدت بصرها ، ما اجبره على البقاءِ في القريةِ ، كلّما فكرَ في الرحيل ِ.
ارتبطَ " ربيع" بالطاحونةِ أيّما ارتباط ، في الحقيقةِ ارتبط كلاهما بالآخرِ ، سبقته شهرته ، ونبل شخصه ؛ ما جعلَ من قريتهم مقصدا لأهلِ القرى المجاورة ، الذين دأبوا على الترددِ على طاحونةِ " الحاج مندور " الذي اقتنع بهِ ، ووثق في أمانتهِ ونظافةِ يده وإخلاصهِ، اطلق يده في كُلّ شيءٍ ؛ بعد أن اكتشف خيانة " مرعي" الوزان ، و" شحاتة " عامل القادوس ، وكشف تحايلهما في سرقةِ الدقيق وتلاعبهما بالموازينِ.
أصبحت الطاحونة جميعا في عهدتهِ ، يزن الطحين ، ويُحدد للزبائن أدوارهم ، ويباشر بنفسهِ مع صبيهِ " عبدالمحسن " أعمال القادوس .
أحبه الناس لنظامهِ ، وعذب لسانهِ ، وتودده للجميعِ ، كما قدّر له الحاج " مندور" جهده وتفانيه ، بعدما ظنّ أن أمر الطاحونة أصبحَ في خبرِ كان ، ولن يُسمع له صوت .
لكن شعبية الشاب الخلوق ، وحب الأهالي له ، وتحلق العذارى من حولهِ ، وافتتانهم بهِ ، أمرًا أزعجَ" صالح" وريث " مندور " وابنه الوحيد ، وفتى أمه المُدلل ، الذي فشل في دراستهِ وتكرر رسوبه، فاخرج هم الدرس من رأسهِ، معتمدا على ثروةِ والده التي اغرق بهِا، في سفهٍ يصرفها ليل نهار، مع ما تدسه والدته في يدهِ دون علم الرجل .
ففاحت رائحة عربدته ، وشاع أمر غرامياتها في البندرِ ، وليالي مجونه التي أضحت مضرب الأمثال ، وحديث السّامر في القرية وأنديتها .
صالحت " ربيع" الأيام ، انشغل بعملهِ ، في الوقت ِ نفسهِ لم يجد " صالح " من سبيلٍ إلا الطاحونة ، يغرف من مالها ليسد عوزه ويعوض احتياجه ، بعد ما منع عنه والده مصروفه ، فاتخذ لنفسهِ غرفة بجوارِ الميزان ، يراقب منها القادمات من روادِ الطاحونةِ، وعينه تفحص وتدور في أجسادهن دون خجلٍ أو حشمة ، ولا مانع من بعض الكلام البدئ والمعاكسة الفجّة التي لم تألفها بنات الريف ، ولم تعتادها أذان نساءه العفيفات.
كانت تصرفاته الصبيانية كثيرا ما تقابل بالرفضِ والنّفورِ، راقب بعينٍ نهمةٍ لا تعرف للأعراضِ حُرمة ، ما يدور بين " ربيع" وزبائنه، فاكتوى قلبه حقدا وغيرة، وامتلأت نفسه غلا على غريمهِ ، على الفورِ فاتح والده في أمرهِ ، كيف لأجيرٍ مثل هذا " المايع" أن يحظى _ دونه_ بهذهِ الحفاوة ويُخَص بالقبولِ من الصّبايا ، فاغرى الحاج بهِ ، فاختلق القصص ولفّقَ الأكاذيب؛ ليوغر صدره، غير أن " مندور" يعلم من أمرِ " ربيع" مالا يعلمه ابنه، كما أنّه فطنَ لمكيدةِ ذاك المستهتر الخامل.
كانَ حُبا شريفا ندبا ، قد نبتَ بين " ربيع" و" وداد" ابنة " شاكر " شيخ الخفر، كانت الفتاة آية من آيات الحسن والجمال القروي الصّافي ، وجدت في صاحبها القلب الحنون ، وعثرت في نفسهِ الفطرة المُشبعة بالحُبِ الصادق المنزّه، كُلّ هذا جذبها نحوه دون قصدٍ أو ترتيب.
ويوما بعد يومٍ يترعرع هذا الحب ، وتشب جذوته في قلبِ العاشقين ، وهما يرعيانه ويهدهدانه ، حتى باتت " وداد" منية الفتى ، ومطلبه من دنياه، لا يرى للدنيا طعما إلا في حضرتها ، ولا يركن إلا لأنسِ جوارها.
لاحظ " صالح " هذا الانجذاب ، فازداد تصميمه على منافسةِ صاحبه وقطع الطريق أمامه ، وكسب جولة في معركتهِ معه ، سريعا فاتحَ والدته في أمرِ زواجه من الفتاةِ، لم تجد المرأة بدا من اقناع والده ، الذي رحبَ كثيرا ، عسى أن يكون السبيلَ الذي تستقر معه طباع ابنه ، وينصلح حاله، ويصبح من جملةِ الصالحين .
وعلى الفورِ ذهب لخطبتها ، وأمام ثروةِ " مندور" واغراءاتهِ وافق والدها على عجلٍ ، وحُدّد يوم الزفاف سريعا ، أمّا" ربيع" فقد انشغل بعملهِ وهو لا يدري ما يُحاك له، وفي صبيحةِ أحد الأيام ،تقدّم صاحبنا من " ربيع" والشماتة تقطر من عينيهِ ، قائلا : مش تبارك لصاحبك يا ربيع ..؟!
تململ " ربيع" وهو يدلق " زكيبة" الغلة في القادوس ، وقال مرتبكا : الف مبروك ، يا سيدي بس على إيه .؟!
تمطّع وهو يعدِّل ياقة جِلبابهِ الحريري ، ويحك خاتمه الذهبي في صدره ، وقال دفعة واحدة : مش فرحنا أنا وواد بعد أسبوع .
نزل كلامه كالصّاعقة على أذنِ المسكين ، سقطت "الزكيبة" من بين يديهِ ، امتلأت الأرض بالغلةِ ، ترنّحَ قليلا في مكانهِ ، وهو يحملق في وجهِ " صالح" الذي انبلجت اساريره وهو يرى حاله ، لم ينطق بحرفٍ واحد ، تحاملَ على نفسهِ طويلا ، غير أن الارتياع افقده توازنه ، فلم يقو تحملا، ليخرج من فورهِ ، مهرولا عائدا لبيتهِ.
انزوى اسبوعا متعللا بالارهاقِ، قبل أن يحمل أمه ويهجر القرية دون سابقِ إنذارٍ، سافر بعيدا بحبهِ على أملِ النسيان ، وبعد اسبوعٍ بالتمامِ أُقيم العُرس ، أمّا " وداد" فلا تصدق ما يجري ، غابت في صدمتها ، لكنّها لم تكن بأحسنِ منه حالا ، صمتت عن الكلامِ ، وانقطعت عن الزادِ ، وكرهت الحياة ، حتى انزوى جمالها ، واصفرّ عودها الرّيان ، واختفت طراوة الشباب من جسدها ، كما خفت شعاع الأمل وبريقه من عينيها الحالمتان .
مضت أيام العرس ولياليه في كآبةٍ وكمد، لم يستطع صحبنا أن ينال منها منال الرجل من حليلتهِ ، فهجر البيت وعاد أدراجه إلى سابقِِ عهدهِ ، يُعاقر الرذيلة ويرافق بنات الهوى ، يتخبّط أكثر من ذي قبلٍ في الضّياعِ.
جاهدت " وداد" طويلا كي تقمع نفسها التي لم تهجر التفكير ِ في حبيبها ، لكنّها فشلت ، فانتكست حالتها ، وغابت عافيتها ، لم يجد والدها حلا ، إلا أن يطوف بها المزارات وأعتابِ الأولياء ِ، فشل كُلّ شيء ، كما فشلت يد الطبيب من قبل.
صحا الدار مع نهارٍ جديد ، على صوتها العالي ؛ متوسلة إليهم في رؤية " ربيع " قبل أن تُفارِق الدنيا .
كان "ربيع" قد بدأ حياة جديدة مع " صفية " ابنة المقاول " عبدالبر السوهاجي " الذي اعجب بشهامتهِ ؛ فاتخذه ابنا و صهرا ، ليزوجه ابنته الوحيدة ، وعند المساءِ اسلمت " وداد " الروح لباريها ، في الوقتِ الذي توسّط " ربيع" أصدقائه الذين قدموا ليباركوا ليلة زفافهِ.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...