السؤال حركة. والسؤال الإجمالي هو كل الحركة وحركة الكل. ونحن نحس بانفتاح الكلام المتسائل في مجرد البنية النحوية للاستفهام؛ هناك طلب شيء آخر.. إن الكلام المتسائل، بما هو كلام ناقص، فهو يؤكد بسؤاله أنه ليس إلا جزءا. على هذا النحو فالسؤال، على عكس ما أكدناه منذ قليل، جزئي في جوهره. السؤال هو الفضاء الذي يقدم فيه الكلام نفسه ناقصا غير مكتمل. ماذا تعني، والحالة هاته، عبارة السؤال الإجمالي اللهم إلا التأكيد على أن الكل الموحد ينطوي على خصوصية كل شيء وجزئيته.
إذا كان السؤال كلاما ناقصا غير مكتمل، فهو يقوم على النقص والعوز. ليس السؤال ناقصا بما هو سؤال. إنه على العكس من ذلك، هو الكلام الذي يكتمل عندما يفصح عن نقصه وعدم اكتماله. إن السؤال يضع الإثبات الممتلئ في الفراغ فيكسبه غنى وثراء بفضل هذا الفراغ. عن طريق السؤال نعطي لأنفسنا الشيء كما نمنحها الفراغ الذي يمكننا من ألا نتملكه، أو لا نتملكه إلا كرغبة، السؤال هو رغبة الفكر.
لنأخذ هاتين العبارتين: "السماء زرقاء"، "هل السماء زرقاء؟ نعم" لا يتطلب إدراك الفرق بين هاتين العبارتين ذكاء خارقا. فالنعم لا تعيد البتة إلى الإثبات المباشر بساطته. في السؤال أخلت زرقة السماء مكانها للفراغ. ومع ذلك فالزرقة لم تختف وتمح، بل إنها، على العكس من ذلك، ارتقت حتى بلغت إمكانيتها وتجاوزت وجودها فانتثرت بقوة في هذا الفضاء الجديد الذي لم يبلغ من الزرقة قط هذا القدر، وذلك في علاقة أكثر صميمية مع السماء، في هاته اللحظة، اللحظة التي يتوقف فيها كل شيء. ما أن ينطق بالنعم، وبمجرد أن تثبت زرقة السماء حتى نتبين ما هذا الذي ضاع. عندما تتحول اللحظة إلى مجرد إمكانية، فإن الوضع لا يعود على ما كان عليه. والنعم المطلقة عاجزة أن ترجع هذا الذي لم يكن لحظة إلا مجرد إمكانية. والأدهى من ذلك أنها تحرمنا غنى الإمكانية وثراءها ما دامت تؤكد الآن ما هو كائن. إلا أنها إذ تضع التأكيد في الجواب، فإنها لا تثبته إلا بصفة غير مباشرة. وهكذا فنحن نفقد في النعم التي يعطيها الجواب المعطى المباشر، ونفقد انفتاح الإمكانية وثراءها. الجواب شقاء السؤال.
يعني هذا أنه يكشف عن الشقاء الذي يضم السؤال. ذلك هو الوجه السيء في الجواب. ليس الجواب شقيا في ذاته. إنه واثق من ذاته، وهو يتميز بنوع من السمو. المجيب أكثر سموا من السائل. نقول عن الطفل الذي ينسى وضعه كطفل: إنه يجيب. الجواب إذن هو نضج السؤال.
ومع ذلك فالسؤال يتطلب جوابا. صحيح أن السؤال ينطوي على نقص يريد أن يكتمل. غير أن هذا النقص غريب من نوعه. فليس هو بصلابة السلب والنفي. فهو لا يعدم ولا ينفي ولا يرفض. وإذا كان قوة يتم فيها شيء سلبي، فإن هاته القوة تتدارك نفسها في مرحلة لا يكون فيها هذا النفي قد بلغ تحديده السلبي التام.
السماء زرقاء. هل السماء زرقاء؟ لا تحذف الجملة الثانية من الأولى أي شيء. أو قل إن الحذف هنا نوع من الانزياح شبيه بحركة الباب وهو يدور حول محوره. وحتى فعل الكون الذي يربط في اللغة الفرنسية السماء والزرقة لا ينسحب في التعبير الفرنسي للعبارة الثانية، وإنما يدخل عليه شيء من التخفيف، فيغدو أكثر شفافية، وتفتح في وجهه آفاق جديدة. وفي لغات أخرى يخصص السؤال بوضع الفعل في صدر العبارة:
Is the sky blue?
Ist des Hummet blau?
يسلط الضوء هنا على الوجود الذي "يوضع موضع سؤال"، والذي يسلط نور السؤال عن طريقه على كل ما تبقى. شأن ذلك شأن تلك النجوم التي يشتد ضياؤها ويحتد كي تنطفئ. إن القوة المضيئة التي تعلو بالوجود نحو الصدارة والتي يظهر الوجود عن طريقها بعد اختفاء وتحجب، هي في الوقت نفسه ما يهدد الوجود بالاختفاء. السؤال هو تلك الحركة التي يغير فيها الوجود مجراه فيظهر كإمكانية مرهونة بدورة الزمان.
ذاك هو مصدر الصمت الذي يطبع الجمل الاستفهامية. فكأن الوجود، عندما يضع نفسه موضع سؤال، (فعل الكون الذي يطبع العبارات الاستفهامية في اللغات الأوروبية) كأنه يتخلى عن صخب انبثاقه، وحسم نفيه، ليكشف عن نفسه وينفتح، ويفتح الجملة على آفاق جديدة، بحيث تغدو الجملة بذلك الانفتاح فاقدة لمركزها الذاتي الذي يصبح خارجا عنها مقيما في المحايد.
قد يعترض علينا بأن هاته حال كل جملة. فكل جملة تجد تتمتها واستمرارها في أخرى. بيد أن السؤال لا يجد تتمته واستمراره في الجواب. إنه، على العكس من ذلك، ينتهي وينغلق بفضل الجواب. ليقيم السؤال نوعا من العلاقة التي تتميز بالانفتاح والحركة الحرة. وما يحدده ردا واستجابة هو بالضبط ما يوقف مد الحركة ويسد أمامها الأبواب. يتلهف السؤال إلى الجواب وينتظره، لكن الجواب لا يهدئ من روع السؤال. وحتى إن هو قضى عليه وأوقفه فإنه لا يقضي على الانتظار الذي هو سؤال السؤال. السؤال والجواب، بين هذين الطرفين مواجهة وعلاقة غريبة، من حيث إن السؤال يتوخى من الجواب ما هو غريب عنه، كما يريد في الوقت نفسه أن يظل قائما في الجواب كحركة يريد الجواب إيقافها ليخلد إلى الراحة. غير أن على الجواب، عندما يجيب، أن يستعيد ماهية السؤال التي لا يذيبها ما يجيب عنه.
M.Blanchot, L’entretien infini, Gallimard, pp. 13-16
إذا كان السؤال كلاما ناقصا غير مكتمل، فهو يقوم على النقص والعوز. ليس السؤال ناقصا بما هو سؤال. إنه على العكس من ذلك، هو الكلام الذي يكتمل عندما يفصح عن نقصه وعدم اكتماله. إن السؤال يضع الإثبات الممتلئ في الفراغ فيكسبه غنى وثراء بفضل هذا الفراغ. عن طريق السؤال نعطي لأنفسنا الشيء كما نمنحها الفراغ الذي يمكننا من ألا نتملكه، أو لا نتملكه إلا كرغبة، السؤال هو رغبة الفكر.
لنأخذ هاتين العبارتين: "السماء زرقاء"، "هل السماء زرقاء؟ نعم" لا يتطلب إدراك الفرق بين هاتين العبارتين ذكاء خارقا. فالنعم لا تعيد البتة إلى الإثبات المباشر بساطته. في السؤال أخلت زرقة السماء مكانها للفراغ. ومع ذلك فالزرقة لم تختف وتمح، بل إنها، على العكس من ذلك، ارتقت حتى بلغت إمكانيتها وتجاوزت وجودها فانتثرت بقوة في هذا الفضاء الجديد الذي لم يبلغ من الزرقة قط هذا القدر، وذلك في علاقة أكثر صميمية مع السماء، في هاته اللحظة، اللحظة التي يتوقف فيها كل شيء. ما أن ينطق بالنعم، وبمجرد أن تثبت زرقة السماء حتى نتبين ما هذا الذي ضاع. عندما تتحول اللحظة إلى مجرد إمكانية، فإن الوضع لا يعود على ما كان عليه. والنعم المطلقة عاجزة أن ترجع هذا الذي لم يكن لحظة إلا مجرد إمكانية. والأدهى من ذلك أنها تحرمنا غنى الإمكانية وثراءها ما دامت تؤكد الآن ما هو كائن. إلا أنها إذ تضع التأكيد في الجواب، فإنها لا تثبته إلا بصفة غير مباشرة. وهكذا فنحن نفقد في النعم التي يعطيها الجواب المعطى المباشر، ونفقد انفتاح الإمكانية وثراءها. الجواب شقاء السؤال.
يعني هذا أنه يكشف عن الشقاء الذي يضم السؤال. ذلك هو الوجه السيء في الجواب. ليس الجواب شقيا في ذاته. إنه واثق من ذاته، وهو يتميز بنوع من السمو. المجيب أكثر سموا من السائل. نقول عن الطفل الذي ينسى وضعه كطفل: إنه يجيب. الجواب إذن هو نضج السؤال.
ومع ذلك فالسؤال يتطلب جوابا. صحيح أن السؤال ينطوي على نقص يريد أن يكتمل. غير أن هذا النقص غريب من نوعه. فليس هو بصلابة السلب والنفي. فهو لا يعدم ولا ينفي ولا يرفض. وإذا كان قوة يتم فيها شيء سلبي، فإن هاته القوة تتدارك نفسها في مرحلة لا يكون فيها هذا النفي قد بلغ تحديده السلبي التام.
السماء زرقاء. هل السماء زرقاء؟ لا تحذف الجملة الثانية من الأولى أي شيء. أو قل إن الحذف هنا نوع من الانزياح شبيه بحركة الباب وهو يدور حول محوره. وحتى فعل الكون الذي يربط في اللغة الفرنسية السماء والزرقة لا ينسحب في التعبير الفرنسي للعبارة الثانية، وإنما يدخل عليه شيء من التخفيف، فيغدو أكثر شفافية، وتفتح في وجهه آفاق جديدة. وفي لغات أخرى يخصص السؤال بوضع الفعل في صدر العبارة:
Is the sky blue?
Ist des Hummet blau?
يسلط الضوء هنا على الوجود الذي "يوضع موضع سؤال"، والذي يسلط نور السؤال عن طريقه على كل ما تبقى. شأن ذلك شأن تلك النجوم التي يشتد ضياؤها ويحتد كي تنطفئ. إن القوة المضيئة التي تعلو بالوجود نحو الصدارة والتي يظهر الوجود عن طريقها بعد اختفاء وتحجب، هي في الوقت نفسه ما يهدد الوجود بالاختفاء. السؤال هو تلك الحركة التي يغير فيها الوجود مجراه فيظهر كإمكانية مرهونة بدورة الزمان.
ذاك هو مصدر الصمت الذي يطبع الجمل الاستفهامية. فكأن الوجود، عندما يضع نفسه موضع سؤال، (فعل الكون الذي يطبع العبارات الاستفهامية في اللغات الأوروبية) كأنه يتخلى عن صخب انبثاقه، وحسم نفيه، ليكشف عن نفسه وينفتح، ويفتح الجملة على آفاق جديدة، بحيث تغدو الجملة بذلك الانفتاح فاقدة لمركزها الذاتي الذي يصبح خارجا عنها مقيما في المحايد.
قد يعترض علينا بأن هاته حال كل جملة. فكل جملة تجد تتمتها واستمرارها في أخرى. بيد أن السؤال لا يجد تتمته واستمراره في الجواب. إنه، على العكس من ذلك، ينتهي وينغلق بفضل الجواب. ليقيم السؤال نوعا من العلاقة التي تتميز بالانفتاح والحركة الحرة. وما يحدده ردا واستجابة هو بالضبط ما يوقف مد الحركة ويسد أمامها الأبواب. يتلهف السؤال إلى الجواب وينتظره، لكن الجواب لا يهدئ من روع السؤال. وحتى إن هو قضى عليه وأوقفه فإنه لا يقضي على الانتظار الذي هو سؤال السؤال. السؤال والجواب، بين هذين الطرفين مواجهة وعلاقة غريبة، من حيث إن السؤال يتوخى من الجواب ما هو غريب عنه، كما يريد في الوقت نفسه أن يظل قائما في الجواب كحركة يريد الجواب إيقافها ليخلد إلى الراحة. غير أن على الجواب، عندما يجيب، أن يستعيد ماهية السؤال التي لا يذيبها ما يجيب عنه.
M.Blanchot, L’entretien infini, Gallimard, pp. 13-16