قراءة في بعض أعمال المُنَظِّر العراقي ماجد الغرباوي
في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" و ما قدمته من أفكار و رؤى حول الإنسان في تقدمه تارة و تأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، و ماهي عوامل تراجعه عن مواكبة العصر و الحداثة، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية و الفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي و ما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية و السياسية و الثقافية، فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري و تحريره من القيود عن طريق الحوار مع الآخر و ممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي و الرأي المخالف/ المختلف، و بالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي، و من جهة أخرى حول مسألة الطائفية، و في كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا و الآخر، الثابت و المتغير، المقدس و الغير مقدس، يراجع فيها المفاهيم و الأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ و يُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت و قوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة.
و قد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية و الثقافية العربية، و رغم ان اسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه لا يعتمد أحيانا على الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين، فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره و رؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" و التحدي من أجل كشف الحقيقة و رفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الإرتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتابه الذي ناقش فيه "إشكاليات التجديد"، و "جدلية العنف و التسامح " خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، و في كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون و ينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، و قد يتأخر لظروف إجتماعية تؤثر عليه و محيطه و البيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي و ما تحويه نظرياته من أطروحات.
التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟
فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن اسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي اسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين و المفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع و أبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بانجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، وكما جاء في الصفحة رقم 11 من الكتاب يرى ماجد الغرباوي ان التبعية إحدى مظاهر التخلف لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة ، و مكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية، و يشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الإستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي و قمع المعارضة و تلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الإعتقالات.
و يربط ماجد الغرباوي الإستبداد الديني في العالم العربي و الإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة و هذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن و تأويلاته و الفتاوي التي أباحت قتل الآخر، و هتك عرضه و حرمته، و مما زاد في تفافم الحالة تعدد الخطابات ، بين الدينية، الطائفية و القومية، و لا ينفك ماجد الغرباوي ان يقحم المرأة في أطروحاته، كما جاء في الصفحة 19 ، عندما اعتبر المرأة مقياس تطور المجتمع، و قمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة و الإختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق و الواجبات، و لذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء ، الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية ، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف و الإتهام و الطعن في الأعراض.
و التجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعادة و وضع آخر في مكانه، و إنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج و نظريات حديثة خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين و مقاصده و غاياته ..الخ، في ضوء تكون وعي الإنسان، و هذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت و الفكر و الثقافة ، رفع الجمود على النص و تقليد السلف، و الإنتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس و ممارسات ( التطبير مثلا) تمتص طاقتنا و لا تساهم في إثراء النهضة، للإشارة أن كتاب إشكاليات التجديد طبع مرتين، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة و الثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، و هذه الطبعة الثالثة، مع مقدمة بعنوان: التجديد و الفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي و الفكري.
و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، و قارن بين الثقافة المنغلقة و الثقافة النقدية الجادة ( المنفتحة) ، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، و ينتقد ماجد الغرباوي الحكم الأموي الذي مارس تزييف الوعي ، إذ اتخد بعض علماء السوء بطانة تزور الحقائق و تضلل الأمّة التي هي بحاجة إلى وعي رسالي، و يشير ماجد الغرباوي في الصفحة 24 كيف واكبت الدراسات سير الرجال و الإهتمام بأئمة أهل البيت في مكافحة الغلو و التطرف الفكري، في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث و الدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث و لا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، و الثالث ( التائب) عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في اعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي، و لذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، و الوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع و تشخيص أخطائه، و إعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني ، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا و في تجديد هويته الثقافية.
تحديات العنف
و تشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، و لا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال ارهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا، ما يلاحظ أن ما داء في هذا لكتاب عبارة عن تقرير، تحدث فيه تحدث ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.
يطرح الغرباوي مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور و التفاقم؟ و هل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة و الإنتروبولوجيين ، مستعينا بحوار الإنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي و ذكر رد هذا الأخير في الصفحة 96 ، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك و حضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال و من ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث في الصفحة 32 عن حادثة ابني آدام ( قابيل و هابيل) التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، و هذا يعني كما يقول الغرباوي أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، كما يقدم الغرباوي صورة واضحة لفكرة "الجهاد" إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية باسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية.
يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها و التنقيب عنها في اعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، اذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ذلك يكون عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة الارهاب المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الاخيرة مرجعية يرتكز اليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، و يقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ و يرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها و تدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.
جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي
هل الغرباوي رجل إصلاح؟ و من ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي و محمد عبده و جمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحدثد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري و له قيمة فوق تجريدية و هو مرتبط بالتجديد، حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا و أردفه بالتجديد و في جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح و العكس، كما أن جل رجال الإصلاح من المشرق العربي إلى المغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد و الإصلاح و التسامح و التعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات و التهم، و هذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، و لذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني ، إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي و كان مجددارغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين.
أما مسألة النهضة فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء و بعث الدين بلا انحرافات، و الثانية ربط السياسة و الأفكار بالعقائد، كما يرى الغرباوي أن شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الإستراتيجية، فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، و يلاحظ أن الغرباوي كما جاء في القراءة التي أجراها الدكتور صالح الرزوق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح و الإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين و منهم باقر الصدر و روح الله الخميني و أفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا ، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، و لذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الإجتهاد حتى في الثوابت، و من هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي و عقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية ، و مطلب ديني و حاجة غريزية.
علجية عيش
ماجد الغرباوي قامة إعلامية و إبداعية في ساحة الفكر و الثقافة العربية دون منازع، فقد استطاع بفكره أن يخصص له مساحة واسعة لنشر أفكاره و المتتبع لكتاباته يقف على أن الغرباوي مفكرا، مُنَظِّرًا و ناقدًا في نفس الوقت فقد ارتكزت ابحاثه على الخطاب الديني و تحرير العقل البشري، مسلطا الضوء على كثير من القضايا التي نالت حظا من النقاش لدى النخبة المثقفة متخذا في ذلك مسارا جديدا في عالم الفكر و الإستبصار، كما تناول قضايا تتعلق بمرجعيات الفكر الديني، حاول من خلالها إبراز سبب إخفاق الوعي الديني و لماذا انتصر الآخر علينا، كما تناول قضايا المرأة من وجهة نظر فلسفية تحررية، و ما يمكن تقديمه من حلول مخاطبا في ذلك النخبة المثقفة من أجل فهم متجدد للدين، كشرط أساس لأيّ نهوض حضاري، و يمكن القول أن ماجد الغرباوي قد أشبع طرحا مستفيضا في كتبه و أبحاثه متتبعا الواقع الراهن
في هذه الورقة المتواضعة نقف على "النظرية الغرباوية" و ما قدمته من أفكار و رؤى حول الإنسان في تقدمه تارة و تأخره تارة أخرى وفق ما تقتضيه الظروف، و ماهي عوامل تراجعه عن مواكبة العصر و الحداثة، فكتاباته تأتي لتدعم جميع توجهاته في المجالات السياسية و الفكرية، لامس من خلالها الوضع العربي و ما يعانيه من مشاكل تعيق ازدهار الحركة الفكرية و السياسية و الثقافية، فجل كتابات الغرباوي تدعو إلى تنوير العقل البشري و تحريره من القيود عن طريق الحوار مع الآخر و ممارسة النقد بأسلوب عقلاني حضاري، من أجل تقارب الأفكار بين الرأي و الرأي المخالف/ المختلف، و بالأخص الصراع الدائر حاليا من جهة بين الحركات الإسلامية التي تبنت العنف كحل سياسي، و من جهة أخرى حول مسألة الطائفية، و في كل إصدار له نجده يغوص في إشكالية الأنا و الآخر، الثابت و المتغير، المقدس و الغير مقدس، يراجع فيها المفاهيم و الأفكار حتى لا يُعَرِّضَ الوعي للإخفاق، خاصة حين ينفعل الوعي بالعالم الخارجي فيحوله ويُكَيِّفُهُ و يُغَيِّرُهُ، جعله ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أبعد منها، إلى أن وصل إلى المرحلة الراهنة التي لم يستطع تعدّيها أو تجاوزها، لأن الأنظمة تغيرت و قوانين النظام الإجتماعي لم تعد ثابتة.
و قد شهد فكره الكثير من الباحثين الأكديميين الذين أشادوا بمشروعه الفكري الذي أثرى الساحة الفكرية و الثقافية العربية، و رغم ان اسلوبه يتميز أحيانا بالتعقيد، لأنه لا يعتمد أحيانا على الخطاب المباشر أي المصارحة، إلا أن أفكاره تتفق في مجملها مع الكثير من المفكرين التنويريين، فقد حرص الغرباوي على تقديم أفكاره و رؤاه وفق معطيات منطقية لامس فيها روح الواقع بنظرة علمية متفتحة، ما يعني قدرته على "المناظرة" و التحدي من أجل كشف الحقيقة و رفع اللبس عن القضايا المعقدة، في سبيل الإرتقاء بمشروعه الفكري، كما نرى ذلك في كتابه الذي ناقش فيه "إشكاليات التجديد"، و "جدلية العنف و التسامح " خاطب فيها الإنسان، هذا الإنسان الذي تطور في تمثله حركة العالم، بحيث ينظر إليه نظرة تاريخية، باعتبار أن التاريخ مادة متحولة متحركة، و في كل حركة تاريخية يتحرك معها الإنسان، يظهر ذلك في عمله الجماعي، يتكون و ينمو، فيضفي على نفسه صفة الواعي المدرك لمسؤوليته في العالم المعاصر، و قد يتأخر لظروف إجتماعية تؤثر عليه و محيطه و البيئة التي يعيش فيها، فتجده يمشي بخطى مترددة كما أنه يتأهب لخوض معركة مريبة الخاتمة، فمن خلال ما وقفنا عليه من إصدارات آلينا أن نقرأ الغرباوي و ما تحويه نظرياته من أطروحات.
التجديد عند الغرباوي هل هو ضرورة حضارية؟
فكتاب "إشكالية التجديد" كان عبارة عن اسئلة طرحها ماجد الغرباوي، هي اسئلة فرضتها حالة التخلّف والانحطاط الذي بلغته البشرية، فكانت موضع اهتمام الدارسين و المفكرين رفدت أقلامهم الوعي بكل جديد، من أجل نهضة حضارية تعيد للمسلمين مجدهم الضائع و أبقتهم في دوامة السؤال والبحث كمنتج فكري عن سبل كفيلة بانجاز نهضة تمثل هويتهم، وتجسّد قيمهم ومبادئهم، وكما جاء في الصفحة رقم 11 من الكتاب يرى ماجد الغرباوي ان التبعية إحدى مظاهر التخلف لأننا نعتمد على الغرب في كل ما نحتاجه، حتى ثرواتنا التي يحتاجها الغرب يصعب علينا فرض شروطنا عليه إلا بصعوبة ، و مكمن الخطر أن الشعوب لا تعي مخاطر التبعية، و يشير ماجد الغرباوي إلى ما تعانيه الشعوب من استبداد سياسي صعب عليها تقرير مصيرها بنفسها، سواء التي تعيش تحت نير الإستعمار، أو التي تمارس حكوماتها التسيير الإستبدادي الدكتاتوري، من خلال مصادرة الرأي و قمع المعارضة و تلجأ إلى تكميم الأفواه عن طريق الإعتقالات.
و يربط ماجد الغرباوي الإستبداد الديني في العالم العربي و الإسلامي بانتشار الفكر التكفيري، الذي قادته حركات إسلامية متطرفة و هذا بسبب القراءات الخاطئة للقرآن و تأويلاته و الفتاوي التي أباحت قتل الآخر، و هتك عرضه و حرمته، و مما زاد في تفافم الحالة تعدد الخطابات ، بين الدينية، الطائفية و القومية، و لا ينفك ماجد الغرباوي ان يقحم المرأة في أطروحاته، كما جاء في الصفحة 19 ، عندما اعتبر المرأة مقياس تطور المجتمع، و قمعها يعتبر أحد علامات تخلفه، حيث تعيش المرأة مسلوبة الإرادة و الإختيار، بينما تعيش المرأة في الغرب إنسانا كاملا في الحقوق و الواجبات، و لذا يرى ماجد الغرباوي أن التجديد ضرورة حضارية، منبثقة عن حركة الأشياء ، الملاحظ أن الغرباوي يربط التجديد بالحداثة التي باتت ضرورة حضارية ، رغم الهجوم الكاسح ضد المجددين، وصل إلى حد القذف و الإتهام و الطعن في الأعراض.
و التجديد في نظر الغرباوي لا يعني إلغاء الآخر أو إبعادة و وضع آخر في مكانه، و إنما يعني به تحديث أدوات التفكير عبر مناهج و نظريات حديثة خاصة في المسائل الدينية من أجل فهم الدين و مقاصده و غاياته ..الخ، في ضوء تكون وعي الإنسان، و هذا يحتاج إلى مراجعة الثوابت و الفكر و الثقافة ، رفع الجمود على النص و تقليد السلف، و الإنتقال من أسلوب التلقي الأعمى إلى البحث فلا يجب ان ننساق وراء حمايات لا نعرف عنها شيئا، أو نشارك من حيث لا نشعر بطقوس و ممارسات ( التطبير مثلا) تمتص طاقتنا و لا تساهم في إثراء النهضة، للإشارة أن كتاب إشكاليات التجديد طبع مرتين، الأولى في سنة 2000 ضمن سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة و الثانية سنة 2001 ضمن نفس السلسلة في بيروت، و هذه الطبعة الثالثة، مع مقدمة بعنوان: التجديد و الفعل الحضاري في ضوء التحول الثقافي و الفكري.
و قد تحدث ماجد الغرباوي عن دور الثقافة في تحديد اتجاه الوعي، و قارن بين الثقافة المنغلقة و الثقافة النقدية الجادة ( المنفتحة) ، الأولى كما يقول هو تفضي إلى واقع سلبي يغيب الوعي، و ينتقد ماجد الغرباوي الحكم الأموي الذي مارس تزييف الوعي ، إذ اتخد بعض علماء السوء بطانة تزور الحقائق و تضلل الأمّة التي هي بحاجة إلى وعي رسالي، و يشير ماجد الغرباوي في الصفحة 24 كيف واكبت الدراسات سير الرجال و الإهتمام بأئمة أهل البيت في مكافحة الغلو و التطرف الفكري، في إطار مبني على منهج صحيح بعيدا عن الخطابات التحريضية من أي جهة صدرت ما دامت المسألة قابلة للبحث و الدراسة، من وجهة نظر غرباوية فإن تخلف المسلمين سببه انقسامهم أمام النهوض الحضاري، الأول منبهر بالغرب وصل به الأمر إلى حد التبعية، الثاني أصولي متعصب للتراث و لا يرى غيره رافضا معطيات الحضارة الحديثة، و الثالث ( التائب) عاد لمراجعة التراث يستنطقه دون التغلغل في اعماق الوسط الإجتماعي مهملا الجانب المعرفي، و لذا ترى النظرية الغرباوية أن الوعي يشكل نقطة انطلاق في مهام التجديد، و الوعي عند الغرباوي يعني إدراك الواقع و تشخيص أخطائه، و إعادة النظر في إشكالية الحوار مع الآخر المختلف وفق مبدأ قرآني ، دون أن ينسى دور المثقف في تكوين بنية المجتمع فكريا و في تجديد هويته الثقافية.
تحديات العنف
و تشكل ثقافة العنف عند الغرباوي تحديات خطيرا لوجود الانسان منذ القدم، و لا يزال العنف من أخطر التحديات وأكثرها تعقيدا، وبات من الصعب العثور على طريقة تهدي إلى تشخيص الحلول الناجحة لتسوية الازمات، التي تفاقمت في العقود الاخيرة من القرن المنصرم وهذا القرن حتى تحول العنف الى سلسلة أعمال ارهابية وموجة تفجيرات وعمليات انتحارية طالت مناطق واسعة من العالم، اتهمت الرسالة السماوية بالدموية، حتى بات العنف علامة فارقة تتصف بها الحركات الإسلامية جميعا، ما يلاحظ أن ما داء في هذا لكتاب عبارة عن تقرير، تحدث فيه تحدث ماجد الغرباوي عن التكثيف الاعلامي المضاد لوسائل الاتصال الحديثة، بطريقة متهورة أحيانا، ليست أقل خطر من الأعمال الإرهابية ذاتها التي يرتكبها البعض باسم الدين، بل بات المسلم في نظر هذه الشعوب حيوانا مفترسا لا يستحق الحياة، بعد تجرد الإرهابيين من قيمهم الإنسانية وارتكابهم أعمالا مخزية ضد البشرية، أو ضد التطور الحضاري، فصار العنف يشكل تحديا كبيرا للمشروع الإسلامي الحضاري.
يطرح الغرباوي مسألة العنف من وجهة نظر فلسفية، هل هو حقيقة أم هو استعداد قابل للتطور و التفاقم؟ و هل هو حاجة غريزية؟ أو فعل إرادي يمكن السيطرة عليه؟ أم أمرا عارضا على الإنسان يمكن التخلي عنه؟، يقول الغرباوي أنه صعب الإجابة على هذه الأسئلة، لأن هناك اختلاف في الرؤى والتصورات بين الفلاسفة و الإنتروبولوجيين ، مستعينا بحوار الإنتربولوجي المغربي عبد الله حمودي و ذكر رد هذا الأخير في الصفحة 96 ، إذ يؤكد في الصفحة الموالية للكتاب أن مشكل العنف مشكل شائك و حضوره قائم، بمعنى أنه لن يكون مآله الزوال و من ثمّ القضاء عليه مستحيل، في البداية انطلق الغرباوي من تاريخ نشأة العنف عندما تحدث في الصفحة 32 عن حادثة ابني آدام ( قابيل و هابيل) التي عكست طبيعة العلاقات التي مر بها الإنسان خلال مراحل حياته، و هذا يعني كما يقول الغرباوي أن تاريخ البشرية بدأ بالعنف في أول خطواته، كما يقدم الغرباوي صورة واضحة لفكرة "الجهاد" إن كانت تعني قتل الأبرياء الذين يختلفون معهم دينيا أو مذهبيا أو تعني تفجير الساحات العامة والمباني والمؤسسات ومحطات النقل؟ وهل من الجهاد قتل الذين يمارسون شعائرهم الدينية باسلوب انساني مسالم؟ وهل من الاخلاق قتل النساء والاطفال وذبح الاسير، من الوريد الى الوريد؟ انها أعمال لا انسانية فكيف يرتضيها دين الاخلاق والقيم الانسانية.
يقول الغرباوي أنه حان الوقت لمقاربة الاسئلة الممنوعة واستنطاقها و التنقيب عنها في اعماق التراث بحثا عن مكوناته وآليات تكوّنه، اذ ما زال التراث يتحمل القسط الاكبر من مسؤولية التخلف الحضاري للمسلمين ذلك يكون عن طريق فتح حوار مع الذات عن الخلفية التي ينطلق منها الأصولي والمتطرف في ارتكابه ممارسات إرهابية وإقدامه على عمليات انتحارية ضد الناس الأبرياء، فالتمادي في ممارسة الارهاب المسلح دون مناقشات علمية للبنى العقدية القائمة عليها، سيجعل من الاخيرة مرجعية يرتكز اليها كل من يبغي محاربة الآخر ممن يختلف معهم دينيا أو فكريا أو عقديا، و يقارن الغرباوي بين ما تمارسه الجاليات العربية والاسلامية التي تعايشت مع الآخر ونشأت بينهما علاقة مفعمة بالتسامح والاعتراف بالتعدد الثقافي والديني في الوقت الذي مارست فيه بعض شرائح المجتمع، كل أشكال العنف المسلح حتى صار العنف سلوكا يوميا عندها بل تحول إلى ثقافة وفكر وعقل ومنهج في التفكير؟ و يرجع الغرباوي السبب إلى تسلط الأنظمة على شعوبها و تدميرها القيم الانسانية، واستنبات قيم جديدة اعتمدت العنف واستباحت المحرمات الانسانية والدينية.
جدلية العنف والتسامح في المشروع الإصلاحي لماجد الغرباوي
هل الغرباوي رجل إصلاح؟ و من ثم يمكن ضمه إلى قائمة الإصلاحيين مثل الكواكبي و محمد عبده و جمال الدين الأفغاني، هذه الأسئلة تقودنا إلى تحدثد مفهوم الإصلاح عند الغرباوي، فهو يرى أن الإصلاح واقع مادي جوهري و له قيمة فوق تجريدية و هو مرتبط بالتجديد، حتى الذين تابعوا كتاباته أجمعوا على أن ماجد الغرباوي لم يذكر الإصلاح إلا و أردفه بالتجديد و في جميع حواراته، لم يكن يفصل التجديد عن الإصلاح و العكس، كما أن جل رجال الإصلاح من المشرق العربي إلى المغرب العربي ركزوا في دعوتهم على مصطلحات تشمل التجديد و الإصلاح و التسامح و التعايش، اكتسبوا من خلالها درجة من التقديس أبعدت عنهم كل الشبهات و التهم، و هذا الكتاب يعتبر متمما أو مدعما لما سبقه، و لذا اهتم الغرباوي من بين كل الإصلاحيين بالأفغاني ، إذ يرى الأفغاني في إصلاحه أنه إصلاحي نهضوي و كان مجددارغم أن العاطفة الإسلامية تغلبت على انبهاره بالحداثة، يقول الغرباوي ان إسلاميات الأفغاني كانت موضع تشكيك من السلفيين.
أما مسألة النهضة فالغرباوي يعرضها كأطروحة ثابتة تشمل مفهومين: الأولى إحياء و بعث الدين بلا انحرافات، و الثانية ربط السياسة و الأفكار بالعقائد، كما يرى الغرباوي أن شيخ الإصلاح محمد حسن النائيني يشترك مع رواد الإصلاح بنفس الإستراتيجية، فهو مثلا يرفض الجهاد ضد الحاكم المسلم في المقابل يقبل بالأعمال الحربية ضد الإستعمار، و يلاحظ أن الغرباوي كما جاء في القراءة التي أجراها الدكتور صالح الرزوق في مشروع الغرباوي أن هذا الأخير في حديثه عن الإصلاح و الإحياء الديني كان أكثر وعيا بالسياسة عند أئمة الشيعة الإصلاحيين و منهم باقر الصدر و روح الله الخميني و أفرد لهما مساحة خاصة للتدليل على أن الإصلاح هو نهضوي فعلا ، له غاية تتلخص في إحياء الدولة الإسلامية، و لذلك لا يختلف الإصلاح عن التجديد في مفهوم الغرباوي حيث يدعو إلى فتح باب الإجتهاد حتى في الثوابت، و من هنا تنعكس فلسفة الإصلاح عند الغرباوي عن باقي المصلحين أو الإصلاحيين إن صح التعبير، حيث يجعل التسامح في مقدمة أطروحاته، من باب ان التسامح أمر الهي و عقيدة وطنية، إلا أنه يرى ان الحرية شرط أساسي للتسامح فهي ضمان من التخلص من الأبوية ، و مطلب ديني و حاجة غريزية.
علجية عيش