محمود الصباغ - إسماعيل فهد إسماعيل* في ذكراه الثانية: على سبيل الرثاء. من سيدفع الثمن؟

الإنسان. الإنسان, هذا الكائن الغريب العجيب لا يمكنه العيش دون حكاية يفكك من خلالها ما استغلق من مبهمات الوجود وتابوهات اللاوعي الذاتية الفظة وركام الأساطير والنصوص المقدسة, لابد من حكاية وإلا سوف يموت و يخرج منها -أي الدنيا- خالي الوفاض, فهي غلاف ذاته في وجوده, تحفظه من البدد وتضمن له كينونة وخلوداً بطريقة ما, سواء كانت عن بطل ينطلق من مركز وجوده -أي الذات- ليسطو على سر الخلود, أم عن لص ينطلق من مركز وجوده -أي التمرد-ليسطو على بيوت الناس.
إن السرقة بوصفها انتقام وثأر وتعويض ينبغي أن لا يعاقب مرتكبها كما يتخيل كاظم عبيد ومن قبله سعيد مهران, فلماذا يعاقب القانون على السرقة ولا يعاقب على الخيانة (ليس خيانة الأوطان قطعاً). وعلى قدر ما هو هام وعميق هذا التساؤل, على قدر ما هو ساذج وسطحي, إن لم يكن متبوعاّ باستنتاج يرى أن المحكمة -أي محكمة- مهمتها الأولى تطبيق القانون وليس تحقيق العدالة. على الأغلب هكذا فهم كاظم عبيد في رواية "الحبل" لإسماعيل فهد إسماعيل وقبله سعيد مهران في "اللص و الكلاب" لنجيب محفوظ. فالقانون -وليس العدالة- هو المعيار الظاهري لأن الأخيرة مصطلح مطاط قابل للتجاذب والاستنسابية, وإذا كان سعيد مهران لم يبدِ أي اعتراض لتطبيق القانون عليه باعتباره لصاً, فكاظم عبيد لا يرى ذلك, بل يصور نفسه كبطل تراجيدي في زمن صعب, مثل إله إغريقي مهزوم, وهو مثل سعيد مهران يمقت, بل يحارب الخيانة والغدر. لكن انتقام سعيد مهران لا يصيب -للأسف - سوى الأبرياء فتتحول حياته إلى جحيم وكوابيس تثقل كاهله فيستسلم, بينما يستطيع كاظم عبيد الظفر بنسمة هواء تملء رئتيه لينسى أنه ثوري فاشل ومهزوم وليستعيض عن ذلك بإقناع نفسه بالسرقة كسلوك شريف, ففي "الظلام تضيع الأبعاد".
وهل من صديق للسارق سوى الظلام ؟
يركز إسماعيل في مقترحه السردي على تفكيك ترسيمة الطاغية بأشكالها المختلفة, من الصورة الخارجية -الحاكم والشرطي والأب والرب والعرف والقانون...إلخ- إلى الصورة الداخلية: الطاغية الجاثم في عقلنا الباطني الذي يتحين فرصة الظهور والانقضاض على مفاصل حياتنا في أي لحظة ضعف تراودنا.
يخرج كاظم عبيد ليلاً متخفياً وبعيداً عن الأعين بهدف السرقة (ومثله مثل سعيد مهران, لا يسرق الفقراء) يتجه نحو منزل موظفة في دائرة الموانئ, يتسلل بخفة إلى داخل البيت مستخدماً حبل غسيل كان قد أحضره معه [هو شديد التعلق بالحبل, فالحبل ليس رمزية جامدة, بل أداة تواصل بين ماضيه, وحاضره, بين طفولته وذكرياته مع أبيه من جهة وواقعه الحالي من جهة أخرى. يتحول الحبل إلى هاجس يطارده منذ أن كان طفلاً ورأى طرزان يتسلقه ومنذ أن أدمى يديه وهو يحاول تقليده.. والحبل في الأخير وسيلة (سلاحه؟) لاستعادة بعض من حقوقه التي سلبتها منه السلطة, فهو لم ينس بعد وجه الضابط بملامحه القصديرية القاسية الذي سلبه عشرين ديناراً وزجاجة عطرٍ وخمس علب سجائر كان قد كسبها من عمله الشاق في الكويت حين سلم نفسه للشرطة كي تعيده إلى البصرة. لقد سرق الضابط ثروة العمر والكد كله، فبغض جميع رجال الشرطة وقرر الانتقام منهم, ومهما يحاول أن يبرر "إدمانه" على السرقة ومهما يحاول أن يقول أنه غير مقتنع بالسرقة كحل أو كأحد الحلول, إلا أنه يجد نفسه يقوم بها على سبيل البحث عن توازن داخلي لذاته المعذبة من أجل أن "أجد التبرير في أني أثأر لنفسي، وأجد التبرير في أني لا أسرق أيا كان" كما يقول. فهو مازال يتذكر باعتزاز مسيرته السابقة وقصيدته التي سجن من أجلها ولكنه في ذات الوقت يتذكر إحباطه بسبب إجباره على التنكر لمواقفه كمساومة مبتذلة تقوم بها السلطة مقابل خروجه من السجن ].
يدخل كاظم عبيد إلى البيت ويصل إلى مكان المجوهرات, فيجمعها و يأخذ معها مبلغ من المال وقنينة عطر , وما إن يحاول الخروج حتى تستيقظ ابنة الموظفة ,فتظنه أمها فتعانقه لتغفو من جديد، وبعد أن يتأكد من نومها يحملها ليضعها من جديد في سريرها. تنام الصغيرة بهدوء وسكينة, يتأمل وجهها "هذا الجمال وهذه البراءة ".. لا يمكن أن يكونا من نسل تلك الموظفة الشرطية, ثم يهم بالخروج. وفجأة يتوقف, يغمره شعور لا يقاوم بمدى غبائه, للحظة ما أحس أنه مغفل.. مغفل حقيقي وليس مجازاً, إذ كيف له أن يترك مثل هذه الثروة ويمضي؟ يتوقف, يلهث, يخطو خطوة أو اثنتين للوراء, يقترب من السرير كأنه نسي شيء ما، يقترب أكثر, يتناول عشرين دينارا من على الوسادة حيث ترك مسروقاته ويخرج مسرعاً ليفتح رئتيه على اتساعهما لنسيم الفجر الذي يخترق كل خلايا جسده, يشعر بالارتياح, والزهو.
شعور أقرب للانتقام حتى بدى كأنه استرد بعض من كرامته، ومن حياته السابقة التي سلبت منه؛ فعلى الأوغاد أن يدفعوا الثمن, لابد من أن يدفع أحدهم الثمن, فدنانير تلك السيدة هي ذاتها الدنانير -مع قنينة العطر-(أو لا تختلف ضمناً و إن اختلفت شكلاً) التي سرقهما منه ضابط الحدود بين العراق والكويت ذات يوم بعد أن أشبعه ضرباً إثر تسليمه للسلطات العراقية التي كان قد هرب إليها سابقاً مع خمسة عراقيين وفلسطيني و10 ايرانيين، وعمل هناك في حفر المجاري .
لا توبة هنا ولا مغفرة, بل صراع بين الذات والعادة حيث تتحول رغبة الانتقام إلى عمل شخصي كأنه يقول لنا أن هذا اليسار الذي آمن به ذات يوم والذي ظهر بمطامح عامة قد انتهى بحلول شخصية مثله مثل الأفكار "العظيمة" الفاشلة.
....................
*كاتب وروائي كويتي ( 1\ 1\ 1941 – 25 \9\ 2018 ), من أهم الروائيين العرب والمؤسس الحقيقي للرواية في الكويت, بل شيخ الروائيين فيها, ومفلّق الثقافة الكويتية الحديثة، قيل عنه أنه رائد فن القصة والرواية في الكويت، أو الأب الشرعي لها، وقيل عنه بطل من أبطال المقاومة الكويتية، وقائد لها، وأنه مَن كتب وأعلن بيان تحرير الكويت، وقيل أنه صاحب أكبر رواية عربية ["إحداثيات زمن العزلة"]، التي تناولت مرحلة الغزو العراقي، كما قيل عنه أنه نبي المحرومين والمهمَّشين يرفع رايتهم و يدافع عنهم وهو الذي لقبه الشاعر البحراني قاسم حداد بالإنسان المتجاوز للزمن و"العابر للأجيال"،
أول أعماله المنشورة رواية "كانت السماء زرقاء" 1970 ,و سبقها مجموعة قصصية بعنوان "البقعة الداكنة" 1965, من أشهر أعماله : "المستنقعات الضوئية" 1971, "الحبل" 1972,"النيل يجري شمالا " (جزئين : البدايات 1983, النواطير 1984) , "سماء نائية" 2000, " الظهر الثاني لابن لعبون" 2015 ..وغيرها نحو أربعين عملا بين رواية و قصص قصيرة و دراسة.
وبعد.. فلاشيء يقال في حضرة الموت, فـ " خير الكلام ما لم يُقلْ" كما كان يردد إسماعيل فهد إسماعيل

.........

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى