منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، حرص على عدم العمل في مسارح وزارة الثقافة الرسمية لعدم مرونتها من وجهة نظره مع أفكاره، كما حرص في نفس الوقت علي العمل بالمسرح التجاري (الخاص) بشروطه هو، وهى شروط تحترم المتلقي ابن الطبقة المتوسطة، دون أن تساير معايير المسرح التجاري السائدة، فسار عكس التيار، منتهجا نهجا جادا جريئا يلامس العصب العاري في المجتمع، منتقدا بسخرية أوضاعه وتغيراته، دون أن يشذ بنقده، أو يسف في سخريته، أو يتعالى بها على جمهوره العائلي، بل حرص على أن يشارك المتلقي سخريته من أوضاع مجتمعه، وأن يجعل من مسرحه فضاء للنقد المجتمعي.
أنه مسرح محمد صبحي، الذي صار مقترنا اسمه بمسرحه، ومقترنا مسرحه بالجدية دون اغتراب، والفكاهة دون هبوط أخلاقي، والتقط من التيارات العالمية ما يفيده في مناقشة قضاياه، وإثارة وعي المشاهد طوال الوقت بها، لا يهمه الاندماج في إيهاب الشخصية حتى التماهي، ولا الإيهام بواقعية ما يحدث بفضاء المسرح، لأن أحداث الواقع ماثلة بالفعل على المسرح، يحاور جمهوره، ويظل طوال الوقت ساعيا للحفاظ على عقله مستيقظا، لا تهمه المباشرة ولا المونولوجات الطويلة الموجهة لجمهوره، فمسرحه هو مسرح الإيقاظ الذهني، الكوميديا فيه فعل عقلاني ينقد الواقع دون هجاء أو هبوط أخلاقي وفني، والغاية المستقاة منه تتسق ووعيه بأن للمثقف دور في مجتمعه يطلب منه الارتقاء بذائقته الجمالية، ويتضمن رسائل يبثها عبر عروضه المسرحية، فالفن لديه ليس للفن ولا للعب أو الإنكباب على الذات الممزقة، والكوميديا عنده ليست هزلا مسفا، بل حضورا يكشف عن عبقرية الإنسان المصري الساخر بوعي مما آل إليه واقعه، وهو المشارك مع مجتمعه في صياغته، ولذا لا ينفصل الفنان لحظة عن هموم مجتمعه، ولا يتصور أبدا أنه في برج عاجي يُملى على الناس أفكاره، مقهقها من تخلفهم .
يقدم لنا “محمد صبحي” في أحدث عروضه، العائد به بعد سنوات من التوقف، وتحت شعار (المسرح للجميع)، نصا كتبه في السنوات الأولى من القرن الحالي، شحنه بكل ما جد في حياتنا خلال السنوات الأخيرة، وحمل في البدء اسم (خيبتنا)، في إشارة واضحة إلى أن ما نعانيه من أزمات التقهقر والتخلف والردة الفكرية هو نتاج فعلنا، وعلينا جميعا أن نتحمل مسئوليته، صحيح أن ثمة أنظمة وفئات وإيديولوجيات كانت ومازالت السبب الرئيسي في جرنا للخلف مئات السنين، خلال نصف القرن الأخير من الزمان، وعرقلت مسيرتنا النهضوية والتقدمية التي كنا بدأناها في العقود السبع الأولى من القرن الفائت، لكن الصحيح أيضا أننا كجمهور عام شاركنا في هذه المأساة، بالصمت أو بالصبر الكاذب أو حتى بالتواطؤ ونقل ثقافة الغير المتخلفة، فلم نكتف بلبس ثوب الحضارة و”الروح جاهلية” على حد تعبير “نزار قباني” عقب نكسة 67 ، بل رحنا نتفاخر بلبس ثوب الجاهلية وروحها معا، واكتفينا ب”البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” أمس واليوم، ولعق جراح الإحباط، وهجاء الوطن وتمزيق علمه ونبذ نشيده الوطني بعد أن أنفصل عن ذواتنا، ورحنا نقدم عروض الهزيمة والفشل والإحباط والمطالبة بالعودة لأزمنة فاسدة خلت.
في وجه هذا التيار من عروض التلذذ بتعذيب الذات، يقف “محمد صبحي” وحده، ليناقش معنا أسباب (خيبتنا) سواء التي نتوهم أنها (فارقتنا)، وفقا لما أضيف إلى عنوان العرض الحالي بقرار رقابي أو غيره، أو سواء مازلنا نعيشها وفق العرض ذاته، مفتتحا وقائعه في فضاء شيده مصمم السينوجرافيا نجم الأوبرا “محمد الغرباوى” كمعبد فرعوني ضخم، نحت تكويناته المجسدة د. “عبد المجيد إسماعيل”، محتويا رموزا إغريقية ورومانية وصينية وعربية، تتجلي أيضا على ملابس الممثلين، التي شارك في صياغتها وصياغة كل أزياء العرض ثلاثة من المصممين “محمود عنتر” و”هاني البحيري” و”مريام عدلي”، وذلك تأكيدا على قدرة الحضارة المصرية القديمة على استيعاب كل الحضارات المتعاقبة عليه، وتأصيلا لوجود أسرة المسرحية في قلب الحضارة المصرية، وتجذرها ثقافيا في ما طرحته هذه الحضارة من منجزات مازال التاريخ – لا نحن – فرحا بها، وليست مجرد أرث ماضوي سالب للحياة الراهنة، ولا “حضارة عفن” كما يرى السلفيون المتخلفون، وهى قيمة إيجابية يطرحها العرض بالصور المرئية، يدعمها بنشيد كتبه وباقي أغاني العرض “عبد الله حسن”، ولحنه بقوة وباقي ألحان العرض “عاطف صبحي”، تتغنى فيه بحضارتنا العظيمة، وقدرتها الفذة على مد الحضارات المتعاقبة بزاد ثقافي، كان أحد أبرز أسس بنائها وتعاقبها .
فجأة يخرج علينا مؤلف ومخرج ونجم العرض “محمد صبحي”، بعد أن صار الطفل الصغير رجلا، وحل بزمننا الراهن، معلنا إلغاء عرض (خيبتنا) الليلة، فثمة مشاكل وقعت مع الحكومة والبرلمان حول النص من عنوانه، ولكن ما دام الجمهور قد حضر، فله احترامه، وعلى الفرقة أن تقدم لنا عرضا، وليكن مرتجلا، منطلقا من ذات الشخصيات القابعة على المقاهي تنعي حظها، ممثلة في شخصية يائس من الحياة، يقدمه لنا الطفل الذي هو صورة الرجل في طفولته، شاخصا أمامنا كاتبا لمذكرات الأسرة قبل اللحظة الراهنة، والتي تستدعي نصا تقنية الفلاش باك، ليعود بنا لزمن فات من حياة هذه الأسرة، مستخدما العرض تقنية الفيديو الذي يعرض الشخصيات في طفولتها، كي تتحول أمامنا إلى شخصيات العرض الحالي، صاغها سينمائيا المخرج الشاب “شادي الحكيم” بذكاء وحرفية عالية، سامحا للشخصيات الموجودة على الشاشة بالخروج المادي لفضاء المسرح تدهش المشاهد وتجذبه لمتابعة حياة هذه الأسرة القافزة من التاريخ، بما فيه التاريخ المصري القديم المنتصر للحاضر المأزوم، ثم تاركا المسرح بطبيعته الحوارية والمتقدمة في الزمن للوصول إلى واقع حال هذه الأسرة، الممثلة للغالبية الممزقة اليوم في المجتمع، طارحا عبرها ما حدث لها ولنا، وما نحدثه نحن معها بأنفسنا.
تقنيات عديدة يستخدمها العرض لتحويل المسرح لفضاء حوار يثير المتعة العقلية، تتقدمها تقنية المناقشة وأسلوب السخرية وآليات الارتجال التي تسمح بالتوجه نحو الجمهور الماثل في الصالة، وقطع عمليات الاندماج التمثيلي الكلاسيكي، يدخل بها العرض لواقع أسرة تنتمي للشرائح الصغرى والمتوسطة من البورجوازية التي يتآكل وجودها اليوم، لهبوط الدخول وارتفاع الأسعار واختلال المعايير، أسرة مصرية بسيطة: الباحث المصري “بائس” خريج كلية العلوم، وحاصل على الماجستير والدكتوراه في الجينات والاستنساخ، لكنه لم يجد عملا في بلده يناسب تخصصه إلا مساعد عالم أمريكي في معمله الخاص، غافله وحصل على نتيجة بحثه في استنساخ البشر ، إلا أن صاحبنا يستطيع استرجاع اكتشافه، ويعمل بالفعل على استنساخ عربا كثر ، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، يتصور أنه بذلك قد جعلهم الغالبية هناك مما يدفع بالدولة المتغطرسة لمعاملتنا ب (أخوة) !! ، لكنه يخطأ في اختيار العينات العربية الموجه, لامريكا ، فقد اختار العينات الأقل ذكاء، فتحولت الدولة الأقوى لدولة متخلفة قاتلة لأبنائها ومفتتة لشعوبها .
يتوازي مع خط (تيمة) الصعود العلمي للباحث المصري د. “يائس” وتعثراته العملية، (تيمة) المستوى الاجتماعي والاقتصادي له ولأسرته المكونة في البدء من سبعة أفراد، تزداد لتسعة بعودة شقيقتي زوجته من ليبيا ومن سوريا، بعد أن دُمّرت الدولتين، فعادتا خاويتي الوفاض، لتزداد الأعباء المادية على الأسرة، وتتعقد المواجهات مع متغيرات الواقع، وهو ما يكشف في المسرحية عن أن أي تقدم علمي يمتلكه العقل المصري لابد وأن تشل حركته بالهبوط الاقتصادي الذي يستتبعه بالضرورة هبوطا اجتماعيا وأخلاقيا، مما يؤكد بالتالي على أن أي تقدم عمراني ومبان راقية ومؤتمرات اقتصادية نظرية غير مجد دون إنجازات فعلية تحمي الأسرة المصرية من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وإنقاذها من براثن الفقر ودعمها تعليميا وثقافيا، كما يؤكد على أن أية محاولة للوقيعة بين الأجيال، وإحداث قطيعة معرفية بينها ، هو تدمير لعقول متقدة وخبرات متراكمة وشباب يلمع ذكاء .
مع خبرتها الطويلة والعميقة مع الأعمال الدرامية الجادة، التي كانت تنسب مسرحيا لفرقة (المسرح القومي)، فنقول هذا أبن القومي، وهذه ابنة القومي، دلالة على الجدية والرصانة وامتلاك الحرفة بعمق، التي لا تسمح له بهز هذه الرصانة، غير أن الفنانة المخضرمة “سميرة عبد العزيز” برصانتها الرفيعة نجحت في أن تحقق حضورا لافتا في عرض (خيبتنا) الكوميدي الجاد، وأن تتفاعل حركة وأداء وإنشادا وتمثيلا متميزا في العرض المليء بالحركة، كانت أم أسرة زوجة د. “يائس” الحنون المحتضنة الكل في شقتها الصغيرة، الواعية بالفروقات الفردية بين أبناء أسرتها، المتحملة في صبر ما يحل على هذه الأسرة من نوائب الأنظمة. تقف إلى جانبها فنانة أكاديمية جادة ومتمرسة ومدرس مساعد بمعهد المسرح هى “سماح السعيد”، والتي لمعت بقوة في برنامج “صبحي” التليفزيوني الانتقادي الساخر (ما فيش مشكلة خالص)، إلى جانب أعمال أخرى كثيرة، أبرزها تجسيدها لدور “ابتئاس” زوجة د. “يائس” في عرضنا هذا، مثال للزوجة المصرية المتعاونة مع زوجها، المؤمنة بقدراته العلمية، والساندة له في مسيرته العلمية، دون أن تختزل ذاتها فيه، أو تقصر في حق وجودها الذاتي، وتجتمع في العرض إلي جانبهما مجموعة من دارسي المسرح المتخصصين والموهوبين، منهم “ندى ماهر” الابنة أمل الضائعة والمغنية بصوت طروب (معهد السينما) مع أثنين من معهد المسرح بأكاديمية الفنون هما “بوسي الهواري” و”حازم القاضي”، وممثل من قسم علوم المسرح بآداب حلوان هو “مايكل وليم”، ومجموعة متميزة من الموهوبين يتقدمهم “شوقي طنطاوي” و”عبير فاروق” و”مرنا ذكى” و”سارة إبراهيم” و”محمد سعيد” و”وليد هاني” والطفل ” عبد الرحمن محمود” .
وسط هذه الأسرة المتألفة، وبين هذه المجموعة من المواهب التي تحتضن بعضها البعض، يتألق حضور و(كاريزما) “محمد صبحي” نجما حاضرا طوال العرض، نجح في التوفيق بين الجدية الراقية والكوميديا الساخرة، جادا في سخريته وساخرا في جديته، ونجح في صناعة مسرح لا تخجل منه العائلة التي تشاهده مجتمعة، ونجح في أن يفتح نوافذ مسرحه على قضايانا العربية ويناقشها بجديته الساخرة، ونجح في أن يستمر حتى الآن يفتح مسرحه لجمهوره، قادرا على إسعاده وإثارة عقله بقضايا مجتمعه، فكان ومازال هو النموذج الحي للفنان الواعي المتصدي للانحراف في واقعه، والمطالب دوما بحرية المبدع والمجتمع معا، فكلاهما مؤثر في الآخر ، ودافع لاستمراره .
أنه مسرح محمد صبحي، الذي صار مقترنا اسمه بمسرحه، ومقترنا مسرحه بالجدية دون اغتراب، والفكاهة دون هبوط أخلاقي، والتقط من التيارات العالمية ما يفيده في مناقشة قضاياه، وإثارة وعي المشاهد طوال الوقت بها، لا يهمه الاندماج في إيهاب الشخصية حتى التماهي، ولا الإيهام بواقعية ما يحدث بفضاء المسرح، لأن أحداث الواقع ماثلة بالفعل على المسرح، يحاور جمهوره، ويظل طوال الوقت ساعيا للحفاظ على عقله مستيقظا، لا تهمه المباشرة ولا المونولوجات الطويلة الموجهة لجمهوره، فمسرحه هو مسرح الإيقاظ الذهني، الكوميديا فيه فعل عقلاني ينقد الواقع دون هجاء أو هبوط أخلاقي وفني، والغاية المستقاة منه تتسق ووعيه بأن للمثقف دور في مجتمعه يطلب منه الارتقاء بذائقته الجمالية، ويتضمن رسائل يبثها عبر عروضه المسرحية، فالفن لديه ليس للفن ولا للعب أو الإنكباب على الذات الممزقة، والكوميديا عنده ليست هزلا مسفا، بل حضورا يكشف عن عبقرية الإنسان المصري الساخر بوعي مما آل إليه واقعه، وهو المشارك مع مجتمعه في صياغته، ولذا لا ينفصل الفنان لحظة عن هموم مجتمعه، ولا يتصور أبدا أنه في برج عاجي يُملى على الناس أفكاره، مقهقها من تخلفهم .
يقدم لنا “محمد صبحي” في أحدث عروضه، العائد به بعد سنوات من التوقف، وتحت شعار (المسرح للجميع)، نصا كتبه في السنوات الأولى من القرن الحالي، شحنه بكل ما جد في حياتنا خلال السنوات الأخيرة، وحمل في البدء اسم (خيبتنا)، في إشارة واضحة إلى أن ما نعانيه من أزمات التقهقر والتخلف والردة الفكرية هو نتاج فعلنا، وعلينا جميعا أن نتحمل مسئوليته، صحيح أن ثمة أنظمة وفئات وإيديولوجيات كانت ومازالت السبب الرئيسي في جرنا للخلف مئات السنين، خلال نصف القرن الأخير من الزمان، وعرقلت مسيرتنا النهضوية والتقدمية التي كنا بدأناها في العقود السبع الأولى من القرن الفائت، لكن الصحيح أيضا أننا كجمهور عام شاركنا في هذه المأساة، بالصمت أو بالصبر الكاذب أو حتى بالتواطؤ ونقل ثقافة الغير المتخلفة، فلم نكتف بلبس ثوب الحضارة و”الروح جاهلية” على حد تعبير “نزار قباني” عقب نكسة 67 ، بل رحنا نتفاخر بلبس ثوب الجاهلية وروحها معا، واكتفينا ب”البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” أمس واليوم، ولعق جراح الإحباط، وهجاء الوطن وتمزيق علمه ونبذ نشيده الوطني بعد أن أنفصل عن ذواتنا، ورحنا نقدم عروض الهزيمة والفشل والإحباط والمطالبة بالعودة لأزمنة فاسدة خلت.
في وجه هذا التيار من عروض التلذذ بتعذيب الذات، يقف “محمد صبحي” وحده، ليناقش معنا أسباب (خيبتنا) سواء التي نتوهم أنها (فارقتنا)، وفقا لما أضيف إلى عنوان العرض الحالي بقرار رقابي أو غيره، أو سواء مازلنا نعيشها وفق العرض ذاته، مفتتحا وقائعه في فضاء شيده مصمم السينوجرافيا نجم الأوبرا “محمد الغرباوى” كمعبد فرعوني ضخم، نحت تكويناته المجسدة د. “عبد المجيد إسماعيل”، محتويا رموزا إغريقية ورومانية وصينية وعربية، تتجلي أيضا على ملابس الممثلين، التي شارك في صياغتها وصياغة كل أزياء العرض ثلاثة من المصممين “محمود عنتر” و”هاني البحيري” و”مريام عدلي”، وذلك تأكيدا على قدرة الحضارة المصرية القديمة على استيعاب كل الحضارات المتعاقبة عليه، وتأصيلا لوجود أسرة المسرحية في قلب الحضارة المصرية، وتجذرها ثقافيا في ما طرحته هذه الحضارة من منجزات مازال التاريخ – لا نحن – فرحا بها، وليست مجرد أرث ماضوي سالب للحياة الراهنة، ولا “حضارة عفن” كما يرى السلفيون المتخلفون، وهى قيمة إيجابية يطرحها العرض بالصور المرئية، يدعمها بنشيد كتبه وباقي أغاني العرض “عبد الله حسن”، ولحنه بقوة وباقي ألحان العرض “عاطف صبحي”، تتغنى فيه بحضارتنا العظيمة، وقدرتها الفذة على مد الحضارات المتعاقبة بزاد ثقافي، كان أحد أبرز أسس بنائها وتعاقبها .
فجأة يخرج علينا مؤلف ومخرج ونجم العرض “محمد صبحي”، بعد أن صار الطفل الصغير رجلا، وحل بزمننا الراهن، معلنا إلغاء عرض (خيبتنا) الليلة، فثمة مشاكل وقعت مع الحكومة والبرلمان حول النص من عنوانه، ولكن ما دام الجمهور قد حضر، فله احترامه، وعلى الفرقة أن تقدم لنا عرضا، وليكن مرتجلا، منطلقا من ذات الشخصيات القابعة على المقاهي تنعي حظها، ممثلة في شخصية يائس من الحياة، يقدمه لنا الطفل الذي هو صورة الرجل في طفولته، شاخصا أمامنا كاتبا لمذكرات الأسرة قبل اللحظة الراهنة، والتي تستدعي نصا تقنية الفلاش باك، ليعود بنا لزمن فات من حياة هذه الأسرة، مستخدما العرض تقنية الفيديو الذي يعرض الشخصيات في طفولتها، كي تتحول أمامنا إلى شخصيات العرض الحالي، صاغها سينمائيا المخرج الشاب “شادي الحكيم” بذكاء وحرفية عالية، سامحا للشخصيات الموجودة على الشاشة بالخروج المادي لفضاء المسرح تدهش المشاهد وتجذبه لمتابعة حياة هذه الأسرة القافزة من التاريخ، بما فيه التاريخ المصري القديم المنتصر للحاضر المأزوم، ثم تاركا المسرح بطبيعته الحوارية والمتقدمة في الزمن للوصول إلى واقع حال هذه الأسرة، الممثلة للغالبية الممزقة اليوم في المجتمع، طارحا عبرها ما حدث لها ولنا، وما نحدثه نحن معها بأنفسنا.
تقنيات عديدة يستخدمها العرض لتحويل المسرح لفضاء حوار يثير المتعة العقلية، تتقدمها تقنية المناقشة وأسلوب السخرية وآليات الارتجال التي تسمح بالتوجه نحو الجمهور الماثل في الصالة، وقطع عمليات الاندماج التمثيلي الكلاسيكي، يدخل بها العرض لواقع أسرة تنتمي للشرائح الصغرى والمتوسطة من البورجوازية التي يتآكل وجودها اليوم، لهبوط الدخول وارتفاع الأسعار واختلال المعايير، أسرة مصرية بسيطة: الباحث المصري “بائس” خريج كلية العلوم، وحاصل على الماجستير والدكتوراه في الجينات والاستنساخ، لكنه لم يجد عملا في بلده يناسب تخصصه إلا مساعد عالم أمريكي في معمله الخاص، غافله وحصل على نتيجة بحثه في استنساخ البشر ، إلا أن صاحبنا يستطيع استرجاع اكتشافه، ويعمل بالفعل على استنساخ عربا كثر ، وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، يتصور أنه بذلك قد جعلهم الغالبية هناك مما يدفع بالدولة المتغطرسة لمعاملتنا ب (أخوة) !! ، لكنه يخطأ في اختيار العينات العربية الموجه, لامريكا ، فقد اختار العينات الأقل ذكاء، فتحولت الدولة الأقوى لدولة متخلفة قاتلة لأبنائها ومفتتة لشعوبها .
يتوازي مع خط (تيمة) الصعود العلمي للباحث المصري د. “يائس” وتعثراته العملية، (تيمة) المستوى الاجتماعي والاقتصادي له ولأسرته المكونة في البدء من سبعة أفراد، تزداد لتسعة بعودة شقيقتي زوجته من ليبيا ومن سوريا، بعد أن دُمّرت الدولتين، فعادتا خاويتي الوفاض، لتزداد الأعباء المادية على الأسرة، وتتعقد المواجهات مع متغيرات الواقع، وهو ما يكشف في المسرحية عن أن أي تقدم علمي يمتلكه العقل المصري لابد وأن تشل حركته بالهبوط الاقتصادي الذي يستتبعه بالضرورة هبوطا اجتماعيا وأخلاقيا، مما يؤكد بالتالي على أن أي تقدم عمراني ومبان راقية ومؤتمرات اقتصادية نظرية غير مجد دون إنجازات فعلية تحمي الأسرة المصرية من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي وإنقاذها من براثن الفقر ودعمها تعليميا وثقافيا، كما يؤكد على أن أية محاولة للوقيعة بين الأجيال، وإحداث قطيعة معرفية بينها ، هو تدمير لعقول متقدة وخبرات متراكمة وشباب يلمع ذكاء .
مع خبرتها الطويلة والعميقة مع الأعمال الدرامية الجادة، التي كانت تنسب مسرحيا لفرقة (المسرح القومي)، فنقول هذا أبن القومي، وهذه ابنة القومي، دلالة على الجدية والرصانة وامتلاك الحرفة بعمق، التي لا تسمح له بهز هذه الرصانة، غير أن الفنانة المخضرمة “سميرة عبد العزيز” برصانتها الرفيعة نجحت في أن تحقق حضورا لافتا في عرض (خيبتنا) الكوميدي الجاد، وأن تتفاعل حركة وأداء وإنشادا وتمثيلا متميزا في العرض المليء بالحركة، كانت أم أسرة زوجة د. “يائس” الحنون المحتضنة الكل في شقتها الصغيرة، الواعية بالفروقات الفردية بين أبناء أسرتها، المتحملة في صبر ما يحل على هذه الأسرة من نوائب الأنظمة. تقف إلى جانبها فنانة أكاديمية جادة ومتمرسة ومدرس مساعد بمعهد المسرح هى “سماح السعيد”، والتي لمعت بقوة في برنامج “صبحي” التليفزيوني الانتقادي الساخر (ما فيش مشكلة خالص)، إلى جانب أعمال أخرى كثيرة، أبرزها تجسيدها لدور “ابتئاس” زوجة د. “يائس” في عرضنا هذا، مثال للزوجة المصرية المتعاونة مع زوجها، المؤمنة بقدراته العلمية، والساندة له في مسيرته العلمية، دون أن تختزل ذاتها فيه، أو تقصر في حق وجودها الذاتي، وتجتمع في العرض إلي جانبهما مجموعة من دارسي المسرح المتخصصين والموهوبين، منهم “ندى ماهر” الابنة أمل الضائعة والمغنية بصوت طروب (معهد السينما) مع أثنين من معهد المسرح بأكاديمية الفنون هما “بوسي الهواري” و”حازم القاضي”، وممثل من قسم علوم المسرح بآداب حلوان هو “مايكل وليم”، ومجموعة متميزة من الموهوبين يتقدمهم “شوقي طنطاوي” و”عبير فاروق” و”مرنا ذكى” و”سارة إبراهيم” و”محمد سعيد” و”وليد هاني” والطفل ” عبد الرحمن محمود” .
وسط هذه الأسرة المتألفة، وبين هذه المجموعة من المواهب التي تحتضن بعضها البعض، يتألق حضور و(كاريزما) “محمد صبحي” نجما حاضرا طوال العرض، نجح في التوفيق بين الجدية الراقية والكوميديا الساخرة، جادا في سخريته وساخرا في جديته، ونجح في صناعة مسرح لا تخجل منه العائلة التي تشاهده مجتمعة، ونجح في أن يفتح نوافذ مسرحه على قضايانا العربية ويناقشها بجديته الساخرة، ونجح في أن يستمر حتى الآن يفتح مسرحه لجمهوره، قادرا على إسعاده وإثارة عقله بقضايا مجتمعه، فكان ومازال هو النموذج الحي للفنان الواعي المتصدي للانحراف في واقعه، والمطالب دوما بحرية المبدع والمجتمع معا، فكلاهما مؤثر في الآخر ، ودافع لاستمراره .