أمل الكردفاني - اللوحة المسروقة - قصة قصيرة

إذا كنت هذه الأيام أحاول إختراق فن صعب كالرسم، فلا بد أن أقتحم بيئته بكلياتي، لكن قصة دخولي لهذا العالم (الذي لن أمضي فيه أكثر من بضعة اسابيع وأهجره كالعادة)، كانت غريية، ذلك أنني التقيت بالفتى اليانع وهو يتكئ على حائط متعفن في السوق، فكما هناك حائط للمبكى عند اليهود، فعندنا أيضاً آلاف الحوائط للتبول والبكاء في نفس الوقت. رأيته يضع جبهته على الحائط المسود بالبول والبصاق والمخاط، وهو يجهش بالبكاء، كانت يداه مسدلتين على جنبيه، كطفل في السابعة من عمره. كان الصيف قائظ، والرائحة كريهة، ولذلك لم يهتم لبكائه أحد، بالرغم من أنني أحسست أن هذا المراهق يحتاج لمن يحدثه. إنحنيت إنحناءة طفيفة ودخلت بين جبهته ورقبته، فاستقبلتني دمعتين على أرنبة أنفي.
لماذا تبكي؟
إزداد بكاءه، فربت على كتفه وقدته لأقرب محل عصير ليمون، وعندما جلس مطأطأً راسه، وقال من بين دموعه، بأن لصاً ما قد سرق لوحته. قلت "ارسم واحدة أخرى" ، فتوقف عن البكاء ونظر لي بعينين غاضبتين وصاح " أنت لا تفهم..الفن يترك ولا ينجز". أصررت بغباء "لم افهم ولكن أعتقد أنك تقول بأنك لا تستطيع تكرار رسمة ما أكثر من مرة، بالرغم من أن من يزيفون العملات والشيكات يستطيعون فعل ذلك عشرات المرات" صاح "الرسمة روح وليست جودة، انا لا أمارس التزييف، انا أمارس الرسم أجسد احاسيسي وعواطفي"، ثم واصل بكاءه، فأخفيت ضحكاتي. فهذا المراهق، يشعر بأن هناك كارثة لأن رسمته سُرقت، والعالم تسرق فيه الأرواح والأوطان والأعراض. ولم أعرف هل أشفق عليه أم لا. "ماذا تعمل؟" سألني بغير إكتراث، قلت بجدية "رسَّام".. نظر إليَّ بدهشة، فجرعت من كوب الليمون جرعة باردة حتى أنها نزلت إلى معدتي فأصابت رأسي بصداع حاد تبدد بعد ثوانٍ. قال الفتى "أنت لستَ فناناً، أنت لا تصلح للفن"، وبالرغم من صدق حديثه إلا أنني شعرت بالغضب فقلت "أؤكد لك أنني رسام، إنك لا زلت طفلاً ولا تستطيع الحكم على الأشياء بعمق". لكنه ورطني بسرعة "أرِني أي مدرسة فنية تتبع؟ وأي نوع من الألوان تفضل، وما هو أفضل ورق؟". قلت "هاا.. أنت تعتقد أنني رسام أكاديمي؟ لا يا سيد، أنا أرسم بكل شيء، حتى أنني استطيع الرسم ببصاقي، إن الفنان لا يحتاج لمعرفة أنواع الورق، لأن عالمه كله ورق، وعالمه كله ألوان..إستيقظ أيها الرسام الغر الصغير المتعجرف، فيبدو أنك تعلمت كلمتين أكاديميتين ففرحت، واعتقدت انك دافنشي، لا يا سيد، تعلم التواضع قليلاً". وبعد هذه المرافعة القصيرة التي وردت خاطري بسرعة، أحسست بأن الفتى قد اقتنع بكلامي، بل لاحظت لمعان عينيه اغتباطاً، لقد إنتابني لأول مرة ذلك الشعور بأنني قادر على إقناع الآخرين بالاكاذيب، لكنني خفت من التورط في ذلك الشعور، فأمتهن السياسة. قال الفتى "أين مرسمك؟"، قلت "ليس لدي مرسم، أنا لا أؤمن بكل هذه الخزعبلات، وكما قلت لك فإن مرسمي هو كل هذا الكون" لكن الفتى أصر "ولكن أين تعرض رسوماتك". قلت "إنني اعرضها في مكب النفايات". صاح بدهشة بريئة "ماذا؟" قلت بجدية "نعم.. ألقي بها في الشارع وفي مكب النفايات، لأن هناك عامل نفايات سيجدها وينظر لها بدهشة، ويشعر بأن العالم لا زال ينبض بالحياة.. إذ لم يكن الفن دواء من الإحباط الإنساني فلا فائدة منه، إنني لا أفخر برسمة حد البكاء على ضياعها، بل على العكس، إنني أفخر بضياع رسمتي، وأشعر في تلك اللحظة أنها تؤدي وظيفتها كدواء للمحرومين". قال الفتى بفزع "يااااه..كم ..كم...لا.. لا أعرف ماذا أقول.." ثم انخرط في بكاء جديد. الولد حساس جداً ويبدو أنني رفعت الجرعة أكثر مما ينبغي، فحاولت تهدأته "ما رسمتك التي سُرقت، صفها لي؟". قال الفتى بعد صمت تأمل فيه الأفق بحسرة "كانت فتاة.. فتاة جميلة..وضعت في عينيها كل روحي وقلبي".. سألته "فتاة حقيقية؟". تورد وجهه، فأدركت أنها حقيقية، وإنني لأتذكر ذلك الشعور جيداً، فنحن لم نخرج من أرحام أمهاتنا إلى سن الخامسة والأربعين مباشرة. سألته "هل لا زلت تحبها؟" طاطأ راسه، فقلت "رسمتك لم تكن جيدة". قال بحنق "كيف عرفت؟".. قلت "لأنك لا زلت تحبها، لو كانت رسمتك استنزفت مشاعرك تجاه الفتاة لاقتنعت بأنها رسمة جيدة". قال الفتى "هذا جنون..لقد كانت رسمة عظيمة.." أصررت "بل رسمة تافهة نابعة من شغف جنسي وليس حباً حقيقياً" قال الفتى بغضب "أنت تهذي..أنت مجنون".. قلت "بل أنا اقول الحقيقة..اذهب الآن وارسمها بكل شغاف روحك وقلبك، استنزف كل عاطفتك، ولا تتوقف عن رسمها إلا في تلك اللحظة التي تتأكد فيها أنك لم تعد تحبها..هيا..هيا".. قفز الفتى كما لو لسعته عقرب، واختفى من أمامي..
سرت في الحر، لقد بعت سيارتي الكهنة، بعد تدهور الوضع الإقتصادي للدولة، وانخفضت اسعار العقارات، وقل العرض والطلب عليها. كان ذلك رد فعل غريب على إرتفاع سعر العملات الصعبة، فقبل بضع سنوات فقط كان بإمكاني الحصول على عمولة لا تقل عن خمسين ألف دولار مقابل بيع منزل بمليوني دولار. قلت ذلك لزميلي في مهنة السمسرة العقارية، الذي بكى وهو يقول "ثلاثة أشهر بلا دخل..هل هذه حالة يا عبد الحميد؟ حالنا يصعب على الكافر، وأبنائي، أبنائي يا عبد الحميد توقفوا عن الذهاب إلى المدرسة والكبير لم يعد يذهب للجامعة، لأنني لا أستطيع دفع نفقاتهم اليومية، لكن الله حباني بمهاجرية، زوجة صالحة، وصبورة، ولكنني بت أستحي من النظر في عينيها بسبب العطالة يا عبد الحميد". طاطأ رأسه، فقلت "لا بأس بالبحث عن عمل جديد" قال "أي عمل يا عبد الحميد، لا يكسب المال اليوم سوى غسالو السيارات والسياسيون، فهل أعمل غسال سيارات لافضح أبنائي..أما السياسة فلا أعرف عنها شيئاً؟". قلت "سيتحسن الوضع فامضغ الصبر ولا تكن جزوعاً" قال بغيظ "لأنك غير متزوج، نعم..لو كنت تتحمل مسؤوليات بشرٍ آخرين لشعرت بي، لذلك أنت لا تأخذ شيئاً على محمل الجد"، قلت "ليس الأمر كذلك..ولكنني وجدت بالفعل عملاً آخر". انكمش كلبؤة تتربص بغزالة بريئة وقال بصوت خفيض "أي عمل؟". قلت "رسام".. قال بدهشة "ماذا؟".. قلت وانا أرشف كوب الشاي المعبق برائحة القرنفل "نعم..رسام..رسااام". نسي حزنه وأخذ يقهقه فقلت بغضب مفتعل "لماذا تضحك؟".. قال "انت..رسام؟.. مستحيل.." قلت "وما المانع؟" قال "يا عبد الحميد أنت لا تمتلك أي علاقة بالآدميين، أنت حيوان، أعذرني ولكنك حيوان وحيوان مفترس، أنت لا تصلح لأن تكون بشراً بل تاجراً، رأسمالياً فاسداً، سياسياً كذاباً، مغتصب أطفال ولكن ليس رساماً". شعرت بالراحة عندما وصفني بذلك وقلت "ومع ذلك سأكون رساماً". ثم أضفت "وأنت أيضاً ستعمل معي" قال بدهشة "ماذا ساعمل معك؟".. قلت "سمساراً..نعم ستنقلب من التسويق العقاري للتسويق الفني..أنا أرسم وأنت تسوق" وحين رايت اتساع عينيه وضحت له الأمر أكثر "المسألة ليست سوى معايير يا صديقي، الفن معايير، سنأخذ الأمر بجدية فقط، نعم.. لا تنظر لي ببله هكذا وركز معي فهذا كلام جدي، سنشتري بضعة مؤلفات عن فن الرسم، وبعض الصور العالمية، وندرس المعايير العالمية، وسننفذ عشرين لوحة كما يقول الكتاب بالضبط، بغض النظر عن الجودة الموضوعية، نحن سماسرة ونمتلك خيالاً خصباً لإقناع العميل بأن منزلاً من غرفتين هو قصر منيف، وهذا ما سنفعله، سنقنعهم بأن ما رسمته أعظم من أعمال الفنانين الكبار، سيكون التسويق مهمتك، في الصحف، في وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكنك الإتصال بعليش لأنه يجيد اللغة الأنجليزية، وهكذا بعد جهد ستة أشهر سنبيع لوحة واحدة على الأقل بعشرين ألف دولار، نقتسمها النصف بالنصف، ونوسع أعمالنا الفنية، نحن أفضل المسوقين العقاريين، ولن يصعب علينا تسويق بضع رسمات تافهة..اليس كذلك؟".
كان يحدق داخل عيني بصمت ثم قال "أنت اتفه إنسان أقابله في حياتي".. شعرت بالصدمة فأضاف "فلنشرع فوراً في العمل أيها الشيطان الخبيث".
وهكذا استدنت بعض المال، واشتريت كتباً في الفن المعاصر، والواناً متنوعة، ودخلت في عالم الرسم.
والتقيت بجبريل في اليوم التالي وشرعنا في فحص ودراسة ما بين أيدينا من مؤلفات، فقال "أنظر إلى هذه الرسمة..إنها إفريقية وقد نالت جائزة أوروبية قيمتها خمسين ألف دولار" قلت "هذا أول المعايير إذن..الخواجات يحبون الإفريقي، وهذا من حقهم، فنحن حديقة حيواناتهم اللطيفة، ولا بأس".. أضاف جبريل "انظر لهذه الرسمة..هل ترى تلك الألوان الغريبة" نظر نحوي بهلع وقال "لن تستطيع فعل ذلك يا عبد الحميد" قلت بغضب "بل سأستطيع يا جبريل..ولا تنشر طاقتك السلبية حولي رجاء". قال "حسنٌ..ولكن ماذا سترسم يا عبد الحميد؟". تاملت قليلاً وقلت " الشيء الذي يحكم العالم يا جبريل".. قال "وما هو؟".. أجبته "لا أعرف.." قال "لا شيء يحكم العالم يا عبدو سوى الله" قلت "وكيف نرسم الله؟" غمغم بحيرة "لا أعرف" قلت "لا يا سيد جبريل، الأمر لا يتعلق بالحكم الإلهي فهذا مفروغ منه، ولكنني أقصد شيئاً آخر، شيئاً وضعياً تماماً، ذلك الشيء الذي يحرك كل النشاط البشري" قال ساخراً "لا يوجد غير مهبل المرأة"..نهضت وقلت "إنه هو ايها الكلب التافه الصعلوك" نظر نحوي بجزع وقال "حقاً؟" .. قلت "طبعاً.. كل نشاط الرجل تهيمن عليه تلك اللحيمة التافهة ذات الثقب الأسود، وتسيطر على زعماءِ الدول، قواد الجيوش، العلماء، والفنانين، العباقرة، الفقراء المسحوقين، الأغنياء، وحتى المصابين بالبله المنغولي، فماذا بعد كل ذلك". قال جبريل "وماذا ستفعل؟" قلت "سندخل إلى المواقع الإباحية، ونطبع اللقطات الواضحة، ونبدأ في رسم كل أنواع ذلك القندس الشقي، في لوحة واحدة عظيمة، طولها متران وعرضها ثلاثة أمتار. الأحمر والاسود والأشقر والبني، المختون وغير المختون، وذي الأشفار والأملس والمشعر الخ الخ. وأنت عليك ان تبدأ في التسويق الآن..هيا.. أخبرهم بأنك إلتقيت بأعظم فنان في العالم، والذي سيلخص مأساة البشرية عبر التاريخ..هيا هيا...هيا ايها السمسار الصعلوك..بسرعة".
لم اكن أتوقع أن جبريل عبقري في مجال التسويق إلا عندما انتهيت من رسم تلك اللوحة الضخمة، لقد تقاطر المشترون لرؤيتها، فتمنعنا عنهم قليلاً، تحدث الإعلام كله عن الفنان العظيم عبد الحميد، وتحفته الفنية التي لا تقدر بثمن، واستدعانا سفير اوروبي ومنحنا تأشيرة مفتوحة لعرض لوحتنا هناك، وقال هامساً، بأن أميراً خليجياً سيشتري اللوحة، ولكن دون أن يذكر اسمه، وأنه من سهل لنا كل إجراءات السفر والعرض في أوروبا.
خرجنا من السفارة، وصفقت كفي بكف جبريل تعبيراً عن النجاح..."ألم أقل لك يا جبريل، المسألة سهلة جداً، كل مافي الأمر أنني وضعت كل قوتي وعاطفتي وخيالي في تلك اللوحة الضخمة، أما انت فقد بذلت مجهوداً خارقاً وعبقرياً في تسويقها، المستقبل للتسويق يا سيد جبريل، التسويق ولا شيء غير التسويق، ولذلك فبعد بيع اللوحة وقبض الملايين، سنطور من خبرتنا بدراسة التسويق الإلكتروني، والوسائل الحديثة والنظريات، ثم نبدأ شركتنا التسويقية العظيمة مركزين على مجال التسويق الفني".
نظرنا إلى الحائط بعد أن دخلنا إلى المرسم. كان فراغ الحائط يبتسم لنا بسخرية، فلقد سُرقت اللوحة.
قلت لجبريل "أنظر..هنا التقيت بالفتى".. وأشرت للجدار المتعفن في السوق، أخذنا نتأمل الجدار، وطافت أمام عيني صورة الفتى وهو يبكي، فتقدمت نحو الجدار، ووضعت جبهتي عليه، وأخذت أبكي..أبكي بعنف.. بألم...فقال جبريل "ألا يمكنك أن ترسم واحدة أخرى بدلا عنها؟".. غمغمت "أسكت يا جبريل أسكت.. انت لست فناناً ولذلك لن تفهم شيئاً".
(تمت).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...