أبدأ مقالي هذا بتساؤل هو التالي: ما الذي يجمع بين فرويد وابن سيرين أو بين فرويد وعبد الغني النابلسي؟ طبعاً، لا الزمان يجمعهم، ولا المكان، ولا اللسان، ولكن ثمّة ما هو بمثابة خيط خفيّ يجمع بينهم، خيط لغويّ من خيوط " اللغة المنسية" وهو التعبير الذي أطلقه اريك فروم على لغة المنامات. لا يمكن لأحد ان يدّعي ان ابن سيرين لغويّ من طراز سيبويه او ابن جنّي، أو انّ عبد الغني النابلسي من طراز الخليل بن احمد الفراهيدي، كما لا يمكن لأحد ان يدّعي ايضا أنّ فرويد عالم لغويّ من طراز ده سوسير أو تشومسكي. ومع هذا فثمة جامع بينهم وهو طريقتهم في فكّ شيفرة المنامات، فلفرويد كتاب بعنوان " تفسير الاحلام "، ولابن سيرين كتاب أيضا بعنوان "تفسير الاحلام"، ولعبد الغني النابلسيّ كتاب "تعطير الانام في تعبير المنام". وسيتبين الشبه بينهم من خلال الكلام عن شيئين، فرويد تكلّم على دلالات البنفسج في منام فتاة، وابن سيرين تكلم على دلالة خاتم من نحاس في المنام العربيّ. في الظاهر لا شيء يجمع بين البنفسج والنحاس، من حيث الظاهر، والظاهر مراوغ كبير لا بدّ من التعامل معه بحذر وحيطة شديدين!
يروي فرويد حكاية فتاة رأت في منامها البنفسج والأزهار. قد يظنّ البعض ان الدلالة ذات عطر فوّاح! ولكن كلمة " بنفسج" لم تربطها الفتاة بالبراءة وإنّما بالاغتصاب. ما الذي دفع الفتاة إلى تكوين صورة سيئة السمعة عن البنفسج؟ وما الجريمة التي ارتكبها البنفسج ليتّهم بالاغتصاب؟ لا بدّ من البحث هنا عن اللغة، إنّ اسم البنفسج الإنكليزيّ هو.violet هذه التسمية هي التي أنبتت المعنى المناميّ المُغتصِب، والسبب هو القرب الصوتيّ بين اسم البنفسج الانكليزيّ وكلمة أخرى تحمل معنى الاغتصاب وهي violate . طبعاً، لا يمكن نسيان أنّ الفتاة التي رأت المنام كانت على وشك الزواج كما تقول لفرويد، بمعنى أنّ سياق المنام الزمنيّ جزء من التفسير، فهي عذراء خائفة من " ليلة الدخلة " أي ليلة فضّ البكارة. وثمّة تجانس صوتيّ على غير صعيد بين المنام وبين ما ينتظر الفتاة . لماذا الخوف يعبر عنه بالأزهار؟ فهي رأت مجموعة من الأزهار في منامها ليس لأنّها أزهار وإنّما لأنّ الزهر الانكليزيّ شبيه من حيث الاسم بكلمة " فضّ البكارة ". بين " flowers " و" defloration " تشابه صوتيّ كان كفيلاً بترجمة مخاوفها من المرحلة الجديدة من حياتها. الحقّ، هنا، على الجناس الذي لعب بدلالات مفردات المنام. من يتحكّم بالمدلول هنا؟ إنّه، فيما يبدو، " الدالّ" أي الكلمة، واختلاف الدوالّ في اللغات يعني أنّ المنام الواحد لا يملك مقوّمات العالميّة لأنّه أسير أبجديته؟ المنام محكوم، كما نرى في تفسير فرويد، بلغة الرائي. وهل كان البنفسج سيحمل هذا التفسير لو لم يكن له هذا الاسم باللغة الإنكليزية؟
ثم ان المنام محكوم، أيضاً، بجنس الرائي. هذا المنام لا يملك هذا التفسير إلاّ لأنّ من رآه فتاة عذراء وليس امرأة متزوجة، ولأنّ من رآه فتاة وليس صبياً او رجلاً.
تفسير منام في محلات كثيرة لا يختلف عن تفسير نصّ، لا مفرّ من الحصول على اكبر قدر ممكن من المعطيات اللغويّة والسياقية لمعرفة المعنى المناميّ المندسّ في أصوات اللغة.
من يتأمّل دلالات البنفسج في اللغة العربيّة، يجد اختلافات، فالاغتصاب يتوارى عن الأنظار، وإن ظلّت المرأة بيّنة الظهور. فابن سيرين يقول إنّ من رأى البنفسج، في منامه، فهذا يعني: " جارية ورعة، والتقاطها تقبيلها"، والحديث عن القبلة لا يغيّب ورع الجارية. أمّا النابلسيّ فيقول ان البنفسج معناه " جارية بارعة"، والبراعة هي الكلمة الوحيدة التي يضيفها النابلسيّ على تفسير ابن سيرين.
هناك أشياء غير مستحبّ رؤيتها في المنام، والسبب لغويّ لا غير كما رأينا في البنفسج الإنكليزيّ. وحين أقول إنّ السبب لغويّ فهذا يعني أنّ تفسير المنام خاضع للغة المتكلّم أو، في الأقل، للغة يعرفها. فالمنام أسير اللغة، أسير الأصوات والدلالات والاستعمالات. وهنا سأستعين بدلالة النحاس العربيّ، لأنّ دلالة النحاس في منام لغة أخرى يحمل دلالة أخرى قد تكون على نقيض ما يحمله في العربية، فلا ننسى أنّ العالم يعجّ بأصوات أكثر من خمسة آلاف لغة، اي انه نظريّا يمكن ان يكون للمنام الواحد ما لا يقلّ عن خمسة آلاف دلالة. النحاس في العربية معدن غير محبوب وغير مشكور رؤيته في المنام، فرؤيته في المنام لا تبشّر بالخير. ليس لأنّه معدن غير نفيس أو لأنّ مكوّناته شديدة السوء، فالنفاسة لا تنقذه من مصيره الأسود، كما لم يتشّفع للذهب في المنام العربيّ كونه ينتسب للمعادن النفيسة، وانما لأن اسمه مغضوب عليه بسبب الجناس، والجناس وسواس خنّاس، يوسوس في صدور الدلالات ويغيّر مجرى تفسيرها. إنّ قرب النحاس الصوتي من النحس جعل مصير دلالته المناميّة مرتبط بالنحس، فالنحس والنحاس في العربية من مصدر واحد. وهذا الاشتراك في الجذر كان سبباً في ان يشتركا في مصير دلاليّ واحد. في لغات أخرى النحاس لا يحمل أيّ دلالة سلبية لأنّه غير مقرون، جذريّاً، بالنحس كما في العربية.
لا يختلف أمر الذهب عن أمر النحاس .والكلام هنا من سيد مفسرّي المنامات في التراث العربي وأقصد ابن سيرين، ويمكن مراجعة ذلك في كتابه: " تفسير الأحلام الكبير" حين يتناول رؤية الخاتم وكيف انّ من يتحكّم بدلالة الخاتم هو معدنه. يقول ابن سيرين:" وإمّا إن كان ( اي الخاتم) ذهباً فلا خير فيه( هنا نفاسة المعدن لا قيمة لها لأنّ الذهب والذهاب من جذر لغويّ واحد) وكذلك إن كان حديداً لأنّه حلية أهل النار، أو نحاساً لما في اسمه من لفظ النحس، وما يصنع منها من خواتيم الجنّ، نعوذ بالله من الشرّ كلّه". فدلالة الخاتم، هنا، هي بنت معدنه، وهذا واضح في كلام ابن سيرين، وهي أي الدلالة مقرونة، أيضاً، بختم سليمان النحاسيّ، وبيّن، أيضاً، ربط الدلالة النحاسيّة بالشرّ، فهو معدن شرّير ويجلب النحس، ورائيه يرتكب المعاصي على حسب ما قاله ابن سيرين في عبارته التالية:" فمن رأى كأنّ فخذيه نحاس فإنّ عشيرته تكون جريئة على المعاصي". والمعصية هنا، ليست معصية فردية وإنّما جماعية وموصوفة بالجرأة. أمّا النابلسي فيضيف تلوينات على المعنى، فيقول: "من رأى في يده شيئاً منه فليحذر أناساً يعادونه، ومن رأى نحاساً فإنّه يُرمى بكذب وبهتان ويشتم".
المسألة ليست حكراً على العربيّة، فأنت تجد، لهذه اللعنة اللغويّة التي تلحق بالمنام، مثيلات في الأنكليزية والألمانية والفرنسية والصينيّة وغيرها من لغات العالمين.
.
يروي فرويد حكاية فتاة رأت في منامها البنفسج والأزهار. قد يظنّ البعض ان الدلالة ذات عطر فوّاح! ولكن كلمة " بنفسج" لم تربطها الفتاة بالبراءة وإنّما بالاغتصاب. ما الذي دفع الفتاة إلى تكوين صورة سيئة السمعة عن البنفسج؟ وما الجريمة التي ارتكبها البنفسج ليتّهم بالاغتصاب؟ لا بدّ من البحث هنا عن اللغة، إنّ اسم البنفسج الإنكليزيّ هو.violet هذه التسمية هي التي أنبتت المعنى المناميّ المُغتصِب، والسبب هو القرب الصوتيّ بين اسم البنفسج الانكليزيّ وكلمة أخرى تحمل معنى الاغتصاب وهي violate . طبعاً، لا يمكن نسيان أنّ الفتاة التي رأت المنام كانت على وشك الزواج كما تقول لفرويد، بمعنى أنّ سياق المنام الزمنيّ جزء من التفسير، فهي عذراء خائفة من " ليلة الدخلة " أي ليلة فضّ البكارة. وثمّة تجانس صوتيّ على غير صعيد بين المنام وبين ما ينتظر الفتاة . لماذا الخوف يعبر عنه بالأزهار؟ فهي رأت مجموعة من الأزهار في منامها ليس لأنّها أزهار وإنّما لأنّ الزهر الانكليزيّ شبيه من حيث الاسم بكلمة " فضّ البكارة ". بين " flowers " و" defloration " تشابه صوتيّ كان كفيلاً بترجمة مخاوفها من المرحلة الجديدة من حياتها. الحقّ، هنا، على الجناس الذي لعب بدلالات مفردات المنام. من يتحكّم بالمدلول هنا؟ إنّه، فيما يبدو، " الدالّ" أي الكلمة، واختلاف الدوالّ في اللغات يعني أنّ المنام الواحد لا يملك مقوّمات العالميّة لأنّه أسير أبجديته؟ المنام محكوم، كما نرى في تفسير فرويد، بلغة الرائي. وهل كان البنفسج سيحمل هذا التفسير لو لم يكن له هذا الاسم باللغة الإنكليزية؟
ثم ان المنام محكوم، أيضاً، بجنس الرائي. هذا المنام لا يملك هذا التفسير إلاّ لأنّ من رآه فتاة عذراء وليس امرأة متزوجة، ولأنّ من رآه فتاة وليس صبياً او رجلاً.
تفسير منام في محلات كثيرة لا يختلف عن تفسير نصّ، لا مفرّ من الحصول على اكبر قدر ممكن من المعطيات اللغويّة والسياقية لمعرفة المعنى المناميّ المندسّ في أصوات اللغة.
من يتأمّل دلالات البنفسج في اللغة العربيّة، يجد اختلافات، فالاغتصاب يتوارى عن الأنظار، وإن ظلّت المرأة بيّنة الظهور. فابن سيرين يقول إنّ من رأى البنفسج، في منامه، فهذا يعني: " جارية ورعة، والتقاطها تقبيلها"، والحديث عن القبلة لا يغيّب ورع الجارية. أمّا النابلسيّ فيقول ان البنفسج معناه " جارية بارعة"، والبراعة هي الكلمة الوحيدة التي يضيفها النابلسيّ على تفسير ابن سيرين.
هناك أشياء غير مستحبّ رؤيتها في المنام، والسبب لغويّ لا غير كما رأينا في البنفسج الإنكليزيّ. وحين أقول إنّ السبب لغويّ فهذا يعني أنّ تفسير المنام خاضع للغة المتكلّم أو، في الأقل، للغة يعرفها. فالمنام أسير اللغة، أسير الأصوات والدلالات والاستعمالات. وهنا سأستعين بدلالة النحاس العربيّ، لأنّ دلالة النحاس في منام لغة أخرى يحمل دلالة أخرى قد تكون على نقيض ما يحمله في العربية، فلا ننسى أنّ العالم يعجّ بأصوات أكثر من خمسة آلاف لغة، اي انه نظريّا يمكن ان يكون للمنام الواحد ما لا يقلّ عن خمسة آلاف دلالة. النحاس في العربية معدن غير محبوب وغير مشكور رؤيته في المنام، فرؤيته في المنام لا تبشّر بالخير. ليس لأنّه معدن غير نفيس أو لأنّ مكوّناته شديدة السوء، فالنفاسة لا تنقذه من مصيره الأسود، كما لم يتشّفع للذهب في المنام العربيّ كونه ينتسب للمعادن النفيسة، وانما لأن اسمه مغضوب عليه بسبب الجناس، والجناس وسواس خنّاس، يوسوس في صدور الدلالات ويغيّر مجرى تفسيرها. إنّ قرب النحاس الصوتي من النحس جعل مصير دلالته المناميّة مرتبط بالنحس، فالنحس والنحاس في العربية من مصدر واحد. وهذا الاشتراك في الجذر كان سبباً في ان يشتركا في مصير دلاليّ واحد. في لغات أخرى النحاس لا يحمل أيّ دلالة سلبية لأنّه غير مقرون، جذريّاً، بالنحس كما في العربية.
لا يختلف أمر الذهب عن أمر النحاس .والكلام هنا من سيد مفسرّي المنامات في التراث العربي وأقصد ابن سيرين، ويمكن مراجعة ذلك في كتابه: " تفسير الأحلام الكبير" حين يتناول رؤية الخاتم وكيف انّ من يتحكّم بدلالة الخاتم هو معدنه. يقول ابن سيرين:" وإمّا إن كان ( اي الخاتم) ذهباً فلا خير فيه( هنا نفاسة المعدن لا قيمة لها لأنّ الذهب والذهاب من جذر لغويّ واحد) وكذلك إن كان حديداً لأنّه حلية أهل النار، أو نحاساً لما في اسمه من لفظ النحس، وما يصنع منها من خواتيم الجنّ، نعوذ بالله من الشرّ كلّه". فدلالة الخاتم، هنا، هي بنت معدنه، وهذا واضح في كلام ابن سيرين، وهي أي الدلالة مقرونة، أيضاً، بختم سليمان النحاسيّ، وبيّن، أيضاً، ربط الدلالة النحاسيّة بالشرّ، فهو معدن شرّير ويجلب النحس، ورائيه يرتكب المعاصي على حسب ما قاله ابن سيرين في عبارته التالية:" فمن رأى كأنّ فخذيه نحاس فإنّ عشيرته تكون جريئة على المعاصي". والمعصية هنا، ليست معصية فردية وإنّما جماعية وموصوفة بالجرأة. أمّا النابلسي فيضيف تلوينات على المعنى، فيقول: "من رأى في يده شيئاً منه فليحذر أناساً يعادونه، ومن رأى نحاساً فإنّه يُرمى بكذب وبهتان ويشتم".
المسألة ليست حكراً على العربيّة، فأنت تجد، لهذه اللعنة اللغويّة التي تلحق بالمنام، مثيلات في الأنكليزية والألمانية والفرنسية والصينيّة وغيرها من لغات العالمين.
.