سيداتي وسادتي:
لست أدري كيف أشكر السيد الكريم عطا عفيفي رئيس جمعية الفنون الجميلة وكيف أشكر له كلمته الرقيقة وتحيته التي لا أستحقها وثناءه علي مع أني لم أصنع شيئا أستحق عليه الثناء. وأحب قبل كل شئ أن أعتذر اليكم من هذا الحديث الذي تورطت فيه, والمورط الأكبر لي في هذا الحديث هو الأستاذ الكريم عطا عفيفي حين تفضل بزيارتي للمرة الأولي ومعه الأستاذ همام وكلماني في هذا, فاستحييت ولم أستطع أن أتخلص من هذه الدعوة الكريمة التي قدماها لي.
واذ كنت أعتذر اليكم من هذا الحديث فلأني أعلم علم اليقين بأني لست من الفنون الجميلة في شئ, ولست من أصحابها, ولست أعرف عنها قليلا ولا كثيرا, فأنا معتذر اليكم من اقحام نفسي بينكم, واذا أطعت نفسي لما وجدتموني بينكم لأصنع شيئا لم تألفه نفسي, وهو الادعاء, وأقحم نفسي في أشياء لا أحسنها, والقول فيما لا علم لي به.
ولكن للضرورة حكمها, وأية ضرورة أكثر من أن يزورني الأستاذ الكريم عطا عفيفي ثم أضطر الي ألا أرفض له دعوة, وانما هي الضرورات والتورطات التي يتعرض لها الانسان بين وقت وآخر.
والحديث عن الفنون معقد لا ينقضي, ولا ينفذ منه الا أصحاب الفنون الجميلة أنفسهم, ومن أجل ذلك أرجو أيضا أن تقبلوا معذرتي اذا رأيتموني أتحدث اليكم عن أشياء ربما كانت ألصق بالأدب ـ الذي أعرف عنه شيئا ـ منها بالفنون الجميلة التي لا أعرفها, لكن الأدب علي كل حال أحد هذه الفنون.
كل ما هناك من فروق بين الفن والأدب والفنون الجميلة الأخري هو أن الأدب مظهر الجمال عن طريق التعبير, التعبير بالألفاظ وباللغة, في حين تعبر الفنون الجميلة المختلفة بوسائلها الخاصة بالتصوير أو بالنحت أو بالعمارة أو باللحن الموسيقي إلي آخر ماتعرفون من شئون الفنون الجميلة.
والشرط الأول عندي و,الأساسي لكل فن من الفنون الجميلة مهما تكن وسيلته في التعبير, ومهما تكن وسيلته في اظهار الجمال وتمكين الجمال من أن يصل الي نفوس الناس فيملكها ويسيطر عليها ويسخرها لما يريد, الشرط الأول عندي لكل فن من الفنون الجميلة, انما هو حرية صاحب هذا الفن, فأنا لا أتصور, ولا يمكنني أن أقبل, أن يحاول انسان أن يتعلم أولا وينتج ثانيا في فن من الفنون الجميلة دون أن يكون حرا في تعلمه لهذا الفن, وحرا في تأديته لهذا الفن, وفي انتاجه له, ولا معقب علي حريته, ولا مسير له في شئ مما يريد.
ومن هنا كنت دائما أقول: ان النظام الذي تعودت وزارات التربية والتعليم عندنا أن تفرضه علي دروس الفنون الجميلة وتعليمها, ونظام الامتحانات ونظام الساعات المعينة التي تفرض فيها الدروس فرضا, والأعوام المعينة التي تجب للبقاء في الكلية أو في المدرسة لاتمام الدراسة, والشهادات التي تعطي في آخر هذه الدراسة, كل هذه الاشياء كنت أحدث نفسي بأنها معارضة أشد المعارضة لما ينبغي من الحرية الكاملة لتعليم الفن ولانتاج الفن.
وذلك أن الفن لا يستقيم مع القيود بحال من الأحوال, ولا يمكن أن يلقي فيه الدرس بالقيود التي تفرض من الكليات علي القاء الدرس, ويبدأ الدرس في الساعة العاشرة وينتهي قبل الحادية عشرة, كل هذه الأشياء اذا كانت تصلح للدراسة في الجامعات وفي المدارس فهي مع الفن لا تستقيم بحال من الأحوال.
وأخيرا, هو أن الفنان أو صاحب الفن, حينما يحاول أن ينتج شيئا من الفن الذي يحسنه لا ينبغي أن يكون خاضعا لشيء الا لذوقه هو الخاص به, فليست القوانين هي التي تستطيع أن توجه صاحب الفن الي أن ينتج هذا الأثر الفني أو ذاك, وليست القوانين هي التي يمكن أن توجه صاحب الفن الي هذا النحو من الانتاج الفني أو غيره من أنحاء الانتاج الفني, وانما الذوق شيء ينشأ مع الانسان اذا نشأ ونما بالدرس والمثابرة والمعاناة, ويجب أن تترك حريته فيما يحب وما يكره, وفيما يقبل عليه وما ينصرف عنه, وفيما ينتجه ومالا ينتجه, فاذا حاول سلطان أو دولة أو حكومة أن توجه أصحاب الفن الي غرض بعينه, أو أن تكلفهم شيئا معينا لا يميلون اليه ولا تدعوهم اليه دواعي الفن نفسه, فأنا مطمئن الي أن الذي سينتجه صاحب الفن لن يكون هو الفن بالمعني الدقيق لهذه الكلمة.
وانما الفن الصحيح هو الذي يقبل عليه صاحب الفن لأنه أحس الحاجة اليه الي أن ينتج, وأحس مع هذه الحاجة القدرة علي أن يحاول وينتج, ومن الحمق والسخف أن يقال لصاحب الفن: أريد منك صورة لكذا يجب أن تنتجها في وقت أحدده لك, وهو من اليوم الي اليوم الذي أعينه. واذا قال قائل هذا لرجل من أصحاب الفن فإنما يقول حماقة ويقول سخفا! ذلك لأن صاحب الفن يقبل علي عمله حين يحس الحاجة التي تدفعه الي هذا الفن, وينصرف عنه حين يسأمه ليستريح منه شيئا ثم يعود اليه, وربما أقبل صاحب الفن علي عمله فأحبه, وهو كلما تقدم في هذا العمل ازداد له حبا فلا يتركه حتي يتمه ويفرغ منه.
ينبغي اذن أن يكون صاحب الفن حرا فيما يقبل عليه وفيما ينصرف عنه, وحرا في الوقت الذي يختاره وينتج فيه, لا يفرض عليه قيد, واذا فرضت عليه القيود فقد أفسدته إفسادا كاملا.
هذه واحدة, وشئ آخر ليس بد من الاشارة اليه أيضا, وهو أنني أعتقد أن الفن شئ لا يمكن أن يجمد ويستقر علي صورة معينة, وانما الفن شئ ينتج عن طبيعة صاحبه وعن ذوقه وعن مزاجه وعن مقدار حظه من الثقافة التي تنشئ الذوق وتصفيه, والتي تهذب العقل, والتي تجعل القلب دقيق الشعور رقيق الحس, واذن فمن حق صاحب الفن أن يبتكر في فنه ما يخالف الصورة المألوفة, وليس من الضروري بحال من الأحوال أن يفرض علي الفنان أن يذهب مذهب اليونان في فنهم, أو مذهب الايطاليين, أو مذهب هذا أو ذاك من أصحاب الفنون علي اختلاف أزمانهم وعصورهم, لأن الفن لا ينبغي أن يكون له نموذج معين, يجب علي صاحب الفن أن يلتزمه دائما. وانما الفن هو ما تنتجه طبيعة صاحب الفن إذا أكملت له أداة الفن حقها, وكان قد جمع إلي صفاء الذوق ورقة الشعور ودقة الحس وصفاء القلب, كل هذه القدرة في انتاجه, مهما يكن الفن الذي يتجه اليه.
فإذا قلت لشاعر من الشعراء: أريد منك قصيدة في هذا الموضوع بعينه, ويجب أن تكون هذه القصيدة كاملة في أيام ثلاثة أو خمسة أو ستة أو ما شئتم من أيام, وجاء الشاعر بهذه القصيدة, فمن المحقق أن تكون هذه القصيدة التي تصدر عن غير طبيعة صاحب الفن لا تمثل في قليل أو كثير الفن الذي ينبغي أن يكون الشعر عليه في هذا الموضوع ينشيء أو غيره من الموضوعات.
ومن أجل هذا كنا نعيب علي كثير من شعرائنا في العصور التي مضت بعض القصائد التي ينشدونها لأن يوم كذا سيكون العيد لميلاد جلالة الملك أو لارتقاء جلالة الملك علي العرش, وينفق في هذه القصيدة أياما تطول أو تقل, ثم يأتي بها ـ بهذا الشعر ـ من شعر منظم قلما يكون ملائما لما ينبغي للشاعر من الاجادة والاتقان, لأنه لم يصدر عن هذه الطبيعة في فنه, ولا عن استجابة الشاعر الفنية, وانما صدر لأنه يجب عليه أن يهنيء الملك بهذا العيد أو ذاك, ومن أجل هذا كان مكلفا أن يمهد فيه بما ينبغي للملك من الاجلال والتكريم, والثناء عليه, والاطراء له, والاسراف في المدح, إلي آخرما تعرفون من التملق.
وكل الشعر الذي ينظم في المناسبات ـ مهما تكن هذه المناسبات ـ اذا لم يكن نشأ عن تأثر صاحب الفن بهذا الذي سيكون والذي يجب أن يقول فيه الشعر, وانما نشأ لأن القصيدة طلبت إليه, أو لأن أحدا كلفه انشائها, أو لأن أحدا أغراه بالمال أن ينشئ هذه القصيدة. كل هذه الأنواع من الشعر ليست ذات قيمة.
ومن الشعراء القدماء من كانوا ينشئون الشعر لأنهم يريدون أن يمدحوا هذا الملك أو ذاك أو هذا الأمير أو الوزير ليأخذوا منه المال, وهذا النوع لم يكن الملوك يطلبونه من الشعراء مطلقا في تلك العصور القديمة, وانما كان مذهبا من مذاهب الشعر القديم الذي نشأ مع نشأة الشعر نفسه.
فنحن نعرف أن الأمة العربية ـ مثلا ـ في عصرها الأول قبل الاسلام نشأ فيها شعراء مدحوا شخصا من الأشخاص لأنه عمل عملا يستحق أن يقدر عليه, وعمل شيئا أرضاهم, فأثنوا عليه في شئ من شعرهم لأنهم أعجبوا بعمله ورضوا عنه, وأثنوا عليه من أجله. وأحب الناس هذا النوع من الشعر الذي يثني فيه علي انسان لأنه عمل شيئا يستحق الثناء عليه, فكلف الناس به ورغبوا فيه لا لأن المدح طلب اليهم, ولكن لأنهم أنفسهم ألفوا هذا الفن وعدوه فنا من فنون الشعر وبابا من أبوابه, وهو بعد ذلك وسيلة من وسائلهم إلي الحياة.
فمثلا شاعر مثل زهير بن دراس رأي رجلين قد نظرا إلي قبيلتهما, فاذا هما تتحاربان منذ وقت طويل جدا ومنذ سنين متصلة حتي كانت كل قبيلة منهما أن تفني صاحبها, فأصلحا بين القبيلتين وتحملا ما يجب من دية القتلي, وأديا لهذه القبيلة دية من قتل منها للأخري, وأصلحا بين القبيلتين, وأقرأ السلام مكان الحرب, رأي زهير هذين السعيدين قد أصلحا بين القبيلتين وحملاهما علي السلام وحسن الجوار وحسن المصاحبة والعشرة, فأثني عليهما في قصيدة مشهورة, ورضينا عن الثناء كل الرضا, وأحبا هذا النوع وكافآ هذا الشاعر فكان الشاعر من وقت إلي وقت يثني عليهما أعطياه شيئا حتي استحي منهما الشاعر, وأقسم ألا يمر علي أحدهما حتي لا يعطيه, فكان يتجنبه اذا لقيه, وربما مر بقوم كان منهم هذا الرجل أو ذاك, فيقول السلام عليكم الا فلانا, وخيركم استثنيت.
نشأ فن المدح, وجعل الشعراء يعدونه فنا لا يطلبه اليهم أحد ولا يكلفهم إياه أحد, وانما ينشئونه من عند أنفسهم ويتقدمون به إلي الملوك, فيأخذون به الجوائز, وقد استحبوا هذا النوع من الفن الشعري. حتي انتهي الأمر ـ إلي إفساد هذا النوع من الشعر ـ إلي أن أصبح الشعر وسيلة من وسائل العيش, ووسيلة من وسائل الضحك علي الملوك والعبث بهم, ويأتي شاعر من الشعراء فيمدح ملكا بما ليس فيه من الخصال, ويثني عليه بالشجاعة, ويثني عليه بالكرم, مع أنه لم يعط منه شيئا, وفي آخر الأمر يأخذ منه بعض المال, وينصرف وهو فيما بينه وبين نفسه محتقر لهذا الملك الذي كان يثني عليه, لأنه لم يثن عليه لايمانه به, وانما أثني عليه ليأخذ منه المال الذي هو في حاجة إليه.
وكل هذا نشأ من هذا الفن ـ فن الشعر الذي نشأ عن المدح ـ نشأ طبيعيا في أول الأمر دون تكليف من أحد, ودون أن يفرض علي أحد, ولكن الملوك ألفوه فيما جاء بعد ذلك من العصور, وأصبح الشعراء يحسون أنه من وسائل كسبهم للمال, ومن وسائل العيش المترف والنعيم, أن يعبثوا بهؤلاء الملوك في الأشعار, فيجدون أحيانا ولكنهم يأخذون منهم المال في كل مرة.
فحرية الفن اذن شرط أساسي, حريته من حيث الانتاج, ومن حيث وقت الانتاج, ومن حيث الغرض الذي يطلبه الفنان وينتج من أجله, ولا ينبغي لأحد أن يفرض علي الفنان شيئا. ثم حريته من أجل التطور أيضا, فليس للفنان نموذج مفروض ملتزم لايصلح ان يخرج عنه, وإذا فرض الفن نموذج معين لا ينبغي الانحراف عنه, فقد جمال الفن, وأصبح شيئا مكروها مملولا.
وهناك فرق بين شيء يأتي علي ذوق الفنان وطبيعته الفنية وآخر يخالف ذوقه ويضطر إليه اضطرارا, لأن الذوق العام في عصر من العصور يفرض نفسه علي أصحاب الفنون, فإذا هم ينشئون آثارهم الفنية ملائمة للذوق العام, لأن الفنان قد أرضي ذوقه, وبعد أن أرضي ذوقه هو أرضي الذوق العام للبيئة التي يعيش فيها.
فمثلا عندما ينظر إلي الفن الذي كان ينشأ في عصر من العصور الكلاسيكية, وفي العصر اليوناني, وعندما ننظر إلي الفن الذي كان ينتج في القرن الخامس قبل المسيحية في أيام فدياس وغيره من أصحاب الفنون, عندما ننظر إلي ذلك الوقت أن الذوق العام في مدينة أثينا خاصة ـ وكانت في ذلك الوقت هي المدينة التي تتحكم في الذوق العام للأمة اليونانية كلها, وهي مصدر الذوق, وهي مصدر الفلسفة, وهي مصدر العلوم, ومصدر الآداب في الأمة اليونانية كلها, ثم فرضت نفسها بعد ذلك علي الأمم التي ليس بينها وبين اليونان أية صلة, ولكنها أمم قوية, شرقية أو غربية في ذلك الوقت لها من الذوق اليوناني العام ما يقتضي أن يكون الأدب اليوناني علي هذا النحو أو ذاك.
وعلي هذا النحو الكلاسيكي الذي عرفاه عند الشعراء الذين أنشأوا القصص التمثيلي, وعند الشعراء الذين أنشأوا القصص الغنائي, وعند المثالين الذين أنشأوا التماثيل الرائعة, وأصحاب العمارة اليونانية, كان هناك ذوق عام يفرض نفسه علي هذا الشعب الانساني, ونشأ عن هذا الذوق أن أصحاب الفن كانت أذواقهم ملائمة لهذا الذوق. فأنشأوا ما أنشأوا من الفنون, لا ليضحكوا علي هذا الفرد أو ذاك, ولا لأن أحدا طلب منهم هذا الانتاج أو ذاك, ولكن لأن ذوقهم ألهمهم هذا الانتاج فأنتجوه, وإذا عصر كلاموس عند اليونان, فالعصر لايذكر لأن بريكلكس كان يحب تشجيع أصحاب الفن ويشجعهم, ويحسن تشجيعهم, ويحثهم علي الانتاج ككل من يحب الفن ويشجع عليه.
ولكنه لم يكن يحاول أن يملي علي صاحب الفن كيف ينتج آثاره الفنية, أو كيف يصفها علي نحو كذا, وانما كان يشجع الفن من حيث هو الفن.
ومثل هذا يقال في الفنون التي نشأت في العصور الأوروبية المتأخرة, لم يفرض أحد علي( مايكل أنجلو) مثلا أن ينشئ هذا الأثر أو ذاك, أو أن ينشئه علي النحو الذي أنشأه له, وانما يمكن أن يكون قد طلب إلي( مايكل انجلو) أن ينشئ تمثالا أو صورة, وكلكم يعلم أن( مايكل انجلو) كان بارعا هائلا في العمارة براعته في صناعة التماثيل, وبراعته في التصوير أيضا, وكان يحسن كل هذه الفنون, وهو في الوقت نفسه كان صاحب مشاركة في الأدب, وتستطيعون أن تلاحظوا هذا أيضا عند بعض أصحاب الفنون في عصور القرون الوسطي إلي النهضة الأوروبية.
وهولاء الفنانون لم يكن أحد يفرض عليهم شرطا لما ينشئون من الآثار, وانما كانوا يطلبون إليهم أثرا من الآثار الفنية, ويتركون لهم الحرية الكاملة, والذوق الكامل في انشاء هذا الأثر الذي يحتاج إلي انشاء.
وكل صاحب فن يقدر نفسه, ويقدر فنه, ويأبي علي نفسه أن يكون تابعا أو خاضعا لفرد من الأفراد مهما يكن, لايقبل بحال من الأحوال أن يشترط عليه شرط من الشروط, أو يملي عليه أي توجيه بعينه حين يراد منه أثر فني.
فليس إذن من المعقول بالقياس إلي الفن أن يفقد الحرية, وليس من المعقول بالقياس إلي الفن أن يفرض علي نفسه نموذجا معينا يلتزمه ولا ينحرف عنه, ومن هنا وجدنا في هذا العصر الذين ينكرون الفنون التي يلتزم أصحابها ناحية من النواحي المعينة, وأن كبار الفنانين في أول القرن التاسع عشر أو في الثامن عشر كانوا ينشئون آثارهم الفنية علي هذا النحو, فالفن ككل شيء في الحياة يجب أن يتطور بتطور حياة الناس, وبتطور عقولهم وقلوبهم وأذواقهم.
ومن الطبيعي ألا يكون شعور الناس في هذا القرن الذي نعيش فيه الآن والذي ارتقت فيه الحضارة الانسانية ارتقاء باهرا, والذي بلغت فيه العلوم من الرقي ما تعرفون, والذي يحاول الانسان فيه أن يتجاوز الأرض التي يعيش عليها, ويصل إلي الكواكب الأخري التي لم يكن يخطر للناس أنه يمكن أن يعرفوا عنها أكثر مما استطاع أصحاب الفلك أن يعرفوه, ليس غريبا أن تتطور أذواق الناس حيث أصبحت الآن.
في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر لم تكن هناك الأشياء الغريبة التي ألفناها نحن, ولم تكن هناك القطارات ولا السيارات ولا الطائرات ولا الآلات الهائلة التي غيرت وجه الحياة, وأنتجت للناس كل ما أمكنها من الترف ووسائل العيش المختلفة, وقربت المسافات بين الأمم, بل ألغتها الغاء, فنحن نستطيع اليوم في أية لحظة من اللحظات أن نسمع صوت أمريكا, ونستطيع في ساعات قليلة أن نصل إلي أمريكا أو إلي روسيا, أو إلي ما شئتم في أي مكان علي الأرض. فإذا تطورت الحياة علي هذا النحو وأصبحت مختلفة أشد الاختلاف بالقياس إلي الحياة في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر, فليس غريبا أن تتطور أذواقنا, وأن تتطور عقولنا وقلوبنا وأمزجتنا, وليس غريبا أن يتطور الفن بتطور هذا كله, وأن يتحول شيئا كثيرا أو قليلا عن الفنون والنماذج التي كانت مألوفة في عصر من العصور إلي فنون جديدة تلائم العصر الذي نعيش فيه.
اذن فتطور الفن شيء طبيعي لا معني للجدل فيه, ولا معني لمناقشته, وبالطبع صاحب الفن حر في انتاجه, وهو كغيره من الناس حر في أن يرضي أو لايرضي لأن صاحب الفن انما يجيب ذوقه وطبعه ولا يجيب شيئا غيره, لأن ذوقه ملائم للذوق العام, ويستطيع أن ينتج آثارا ترضي هذا الذوق العام, وإن كان له ذوق خاص يشذ عن الذوق العام قليلا او كثيرا, وينتج أثرا قد لايرضي عنه كثير من الناس, فليس علي صاحب الفن اعتراض او غبار او لوم, وانما اللوم علي الذين يجمدون أنفسهم ولا يتطورون مع الحياة.
وفي الشعر مثلا اذا طلب الي شاعر يعيش في هذا العصر الذي نحن فيه أن ينشيء شعرا كما كان الفنانون القدماء ينشئون الأشعار, او كما كان امرؤ القيس او زهير ينتج الشعر في العصر الجاهلي, او كما كان ابو تمام الرجل الذي وثب في الشعر وثبة هائلة وباعد بين شعره وبين من سبقه من الشعراء, اذا أرادوا من الشعراء هذا المعني كان هذا شططا وتكليفا للشعراء, واشياء لا تلائم الذوق ولا تلائم العصر الذي نعيش فيه.
ويجب أن نحترم اللغة العربية, وليس في هذا من شك, ولكن اللغة يجب أن تجاري العصر وأن تتطور معه, اذن فآداب اللغة نفسها يجب أن تتطور مع اللغة وأن تجاري العصر الذي تعيش فيه, فليست اللغة مقدسة ولم تنزل من السماء, وانما هي شيء انسانئ, والانسان بطبيعته متطور, فيجب أن يتطور معه اللغة, ويجب أن يتطور معه الأدب: شعره ونثره, ويجب أن يتطور معه الفن أيضا.
ومن المحقق أنه لابد من أن يجد صاحب الفن ملاءمة لذوقه, بشرط أن يكون ذواقا لفنه رقيقا صافيا, وأن لا يكون صاحب الفن دعيا في حقه, يزعم أنه صاحب فن وهو ليس من الفن في شيء, ويجب أن يكون صاحب الفن يحس فنه ويحسنه, لأن ذوقه مرهف صاف رقيق دقيق, فاذا جاء أي انسان وزعم أنه يستطيع أن ينتج صورة رائعة انتج سخفا من السخافات, فليس من بأس علي كل انسان أن يقول له: لست من هذا الفن في شيء فدعه والتمس حياتك ووجه حياتك وجهة أخري.
ومن هنا لم يكن بد لصاحب الفن من أن يكون مثقفا, ثقافة واسعة جدا, ثقافة عامة أولا, ملما بالناحية التي يحياها الناس من حوله وبما تمتاز به هذه الناحية, وبما تطورت اليه هذه الحياة, وبما ينتج في هذه الحياة من العلوم والآداب وما اليها, ولا أقول انه يجب أن يكون متخصصا في كل هذا, ولكن يجب أن يكون عارفا بهذا كله ملما به, ويجب أن يكون بعد ذلك مثقفا فنية, والثقافة الفنية هي أبسط جدا مما نظن.
فالفن لاينشأ من لاشيء, وانما يجب أن يكون صاحب الفن محيطا بفنون الذين سبقوه, ويجب أن يكون قد تثقف الثقافة الفنية الكاملة, وعرف تاريخ الفن الجميل الذي يمارسه ان كان التصوير او النحت او ما شئتم من الفنون, ويجب أن يعلم بأن له سابقين, وأن له أئمة في الفن قد سبقوه, وأن يكون عالما بعلمهم علما دقيقا, وأن يكون ذائقا له, وليس مهما أن ينتج مثله, ولكن المهم أن يكون قد فهمه وتذوقه وعرف خصائصه ومميزاته.
فاذا وجدت هذه الثقافة العامة أولا, والثقافة الفنية ثانيا, وصفا ذوق صاحب الفن ورق طبعه, فهو صاحب الفن الذي يستطيع أن ينتج فنه مستجيبا لطبعه وذوقه, ولا عليه أن يرضي عنه هذا او ذاك من الناس.
سيداتي سادتي:
مع أني لست من أصحاب الفنون الجميلة, ومع أني اعتبر نفسي دعيا أيضا, دخلت في حديث هذه الفنون, برغم هذا كله, فإني استطيع أن أقول لحضراتكم إنه لا معني للفن مع الجهل, ولا معني للفن مع الجمود, ولا معني للفن مع غلظة الذوق, ولابد لصاحب الفن من أن يكون مثقفا, ومن أن يكون فاهما للحياة كلها من حوله, ومن أن يكون ملما بدقائق الفن الذي يريد أن يعني به, وملما بفنون الذين سبقوه وانتجوا في الفنون من قبله, ويجب أن يكون هذا محققا أولا, وله بعد ذلك أن ينتج اذا انتج ويستجيب لذوقه الصافي وطبعه المهذب, فليس عليه بأس أن يرضي عنه هذا او ذاك.
وأظنني قد اطلت عليكم واكثرت في الاطالة, ولكن أحب أن أقول الآن كما قلت في أول هذا الحديث: إن الفن لايتم إلا بشرطين اساسين احدهما الحرية الكاملة, والآخر الثقافة الواسعة العميقة في الحياة والفنون, ومن غير هذين الشرطين لايمكن أن يوجد الفن الجميل بالمعني الدقيق, وادرسوا تاريخ من شئتم من اصحاب الفنون الجميلة فسترونه لم ينتج ما انتجه إلا لأنه كان حرا خاليا من القيود والشروط, وكان يعرف تاريخ الفن الذي عناه, وكان مثقفا ثقافة معينة, ولم يكن جاهلا, ولم يكن مقيدا.
فللفن عدوان القيد والجهل فاذا استطعنا أن نجنب شبابنا الجهل والخضوع للقيود علي اختلاف انواعها, واذا استطعنا أن نجنب شبابنا هذين الأمرين, فنحن نستطيع أن نأمل ونأمل كثيرا, وأن ننتظر من شبابنا, اذا تعلموا الفنون احرارا, أن ينتجوا انتاجا رائعا يمكن وطنهم من أن يتذكر قديمه, غير مستخز من نفسه, ويمكن الوطن أيضا من أن يذكر انتاج أبنائه, ويذكر الي جانبه انتاج الأمم المختلفة فلا يستحي ولا يستخذي.
ومن هنا كان من أهم الأشياء التي حاولتها دائما وأرجو أن تحاولها الحكومة أن تمكن اصحاب الفن من الخروج عن وطنهم, ومن السياحة في الأرض, ورؤية الآثار الفنية المختلفة, ليتحقق هذا الشرط الذي ذكرته, ألا وهو شرط الثقافة الفنية, ولابد لاصحاب الفن عندنا من أن يرو الي جانب الفن المصري القديم الفنون الاسلامية التي عرفها المسلمون, ومن أن يروا الي جانبهم الفنون المختلفة التي انتجتها الأمم في عصورها المختلفة, فهذا هو أحسن سبيل لتقوية ثقافتهم وتصفية أذواقهم.
وأنا أرجو أن التقي بكم مرة أخري مستمعا لامتحدثا ولامحاضرا
لست أدري كيف أشكر السيد الكريم عطا عفيفي رئيس جمعية الفنون الجميلة وكيف أشكر له كلمته الرقيقة وتحيته التي لا أستحقها وثناءه علي مع أني لم أصنع شيئا أستحق عليه الثناء. وأحب قبل كل شئ أن أعتذر اليكم من هذا الحديث الذي تورطت فيه, والمورط الأكبر لي في هذا الحديث هو الأستاذ الكريم عطا عفيفي حين تفضل بزيارتي للمرة الأولي ومعه الأستاذ همام وكلماني في هذا, فاستحييت ولم أستطع أن أتخلص من هذه الدعوة الكريمة التي قدماها لي.
واذ كنت أعتذر اليكم من هذا الحديث فلأني أعلم علم اليقين بأني لست من الفنون الجميلة في شئ, ولست من أصحابها, ولست أعرف عنها قليلا ولا كثيرا, فأنا معتذر اليكم من اقحام نفسي بينكم, واذا أطعت نفسي لما وجدتموني بينكم لأصنع شيئا لم تألفه نفسي, وهو الادعاء, وأقحم نفسي في أشياء لا أحسنها, والقول فيما لا علم لي به.
ولكن للضرورة حكمها, وأية ضرورة أكثر من أن يزورني الأستاذ الكريم عطا عفيفي ثم أضطر الي ألا أرفض له دعوة, وانما هي الضرورات والتورطات التي يتعرض لها الانسان بين وقت وآخر.
والحديث عن الفنون معقد لا ينقضي, ولا ينفذ منه الا أصحاب الفنون الجميلة أنفسهم, ومن أجل ذلك أرجو أيضا أن تقبلوا معذرتي اذا رأيتموني أتحدث اليكم عن أشياء ربما كانت ألصق بالأدب ـ الذي أعرف عنه شيئا ـ منها بالفنون الجميلة التي لا أعرفها, لكن الأدب علي كل حال أحد هذه الفنون.
كل ما هناك من فروق بين الفن والأدب والفنون الجميلة الأخري هو أن الأدب مظهر الجمال عن طريق التعبير, التعبير بالألفاظ وباللغة, في حين تعبر الفنون الجميلة المختلفة بوسائلها الخاصة بالتصوير أو بالنحت أو بالعمارة أو باللحن الموسيقي إلي آخر ماتعرفون من شئون الفنون الجميلة.
والشرط الأول عندي و,الأساسي لكل فن من الفنون الجميلة مهما تكن وسيلته في التعبير, ومهما تكن وسيلته في اظهار الجمال وتمكين الجمال من أن يصل الي نفوس الناس فيملكها ويسيطر عليها ويسخرها لما يريد, الشرط الأول عندي لكل فن من الفنون الجميلة, انما هو حرية صاحب هذا الفن, فأنا لا أتصور, ولا يمكنني أن أقبل, أن يحاول انسان أن يتعلم أولا وينتج ثانيا في فن من الفنون الجميلة دون أن يكون حرا في تعلمه لهذا الفن, وحرا في تأديته لهذا الفن, وفي انتاجه له, ولا معقب علي حريته, ولا مسير له في شئ مما يريد.
ومن هنا كنت دائما أقول: ان النظام الذي تعودت وزارات التربية والتعليم عندنا أن تفرضه علي دروس الفنون الجميلة وتعليمها, ونظام الامتحانات ونظام الساعات المعينة التي تفرض فيها الدروس فرضا, والأعوام المعينة التي تجب للبقاء في الكلية أو في المدرسة لاتمام الدراسة, والشهادات التي تعطي في آخر هذه الدراسة, كل هذه الاشياء كنت أحدث نفسي بأنها معارضة أشد المعارضة لما ينبغي من الحرية الكاملة لتعليم الفن ولانتاج الفن.
وذلك أن الفن لا يستقيم مع القيود بحال من الأحوال, ولا يمكن أن يلقي فيه الدرس بالقيود التي تفرض من الكليات علي القاء الدرس, ويبدأ الدرس في الساعة العاشرة وينتهي قبل الحادية عشرة, كل هذه الأشياء اذا كانت تصلح للدراسة في الجامعات وفي المدارس فهي مع الفن لا تستقيم بحال من الأحوال.
وأخيرا, هو أن الفنان أو صاحب الفن, حينما يحاول أن ينتج شيئا من الفن الذي يحسنه لا ينبغي أن يكون خاضعا لشيء الا لذوقه هو الخاص به, فليست القوانين هي التي تستطيع أن توجه صاحب الفن الي أن ينتج هذا الأثر الفني أو ذاك, وليست القوانين هي التي يمكن أن توجه صاحب الفن الي هذا النحو من الانتاج الفني أو غيره من أنحاء الانتاج الفني, وانما الذوق شيء ينشأ مع الانسان اذا نشأ ونما بالدرس والمثابرة والمعاناة, ويجب أن تترك حريته فيما يحب وما يكره, وفيما يقبل عليه وما ينصرف عنه, وفيما ينتجه ومالا ينتجه, فاذا حاول سلطان أو دولة أو حكومة أن توجه أصحاب الفن الي غرض بعينه, أو أن تكلفهم شيئا معينا لا يميلون اليه ولا تدعوهم اليه دواعي الفن نفسه, فأنا مطمئن الي أن الذي سينتجه صاحب الفن لن يكون هو الفن بالمعني الدقيق لهذه الكلمة.
وانما الفن الصحيح هو الذي يقبل عليه صاحب الفن لأنه أحس الحاجة اليه الي أن ينتج, وأحس مع هذه الحاجة القدرة علي أن يحاول وينتج, ومن الحمق والسخف أن يقال لصاحب الفن: أريد منك صورة لكذا يجب أن تنتجها في وقت أحدده لك, وهو من اليوم الي اليوم الذي أعينه. واذا قال قائل هذا لرجل من أصحاب الفن فإنما يقول حماقة ويقول سخفا! ذلك لأن صاحب الفن يقبل علي عمله حين يحس الحاجة التي تدفعه الي هذا الفن, وينصرف عنه حين يسأمه ليستريح منه شيئا ثم يعود اليه, وربما أقبل صاحب الفن علي عمله فأحبه, وهو كلما تقدم في هذا العمل ازداد له حبا فلا يتركه حتي يتمه ويفرغ منه.
ينبغي اذن أن يكون صاحب الفن حرا فيما يقبل عليه وفيما ينصرف عنه, وحرا في الوقت الذي يختاره وينتج فيه, لا يفرض عليه قيد, واذا فرضت عليه القيود فقد أفسدته إفسادا كاملا.
هذه واحدة, وشئ آخر ليس بد من الاشارة اليه أيضا, وهو أنني أعتقد أن الفن شئ لا يمكن أن يجمد ويستقر علي صورة معينة, وانما الفن شئ ينتج عن طبيعة صاحبه وعن ذوقه وعن مزاجه وعن مقدار حظه من الثقافة التي تنشئ الذوق وتصفيه, والتي تهذب العقل, والتي تجعل القلب دقيق الشعور رقيق الحس, واذن فمن حق صاحب الفن أن يبتكر في فنه ما يخالف الصورة المألوفة, وليس من الضروري بحال من الأحوال أن يفرض علي الفنان أن يذهب مذهب اليونان في فنهم, أو مذهب الايطاليين, أو مذهب هذا أو ذاك من أصحاب الفنون علي اختلاف أزمانهم وعصورهم, لأن الفن لا ينبغي أن يكون له نموذج معين, يجب علي صاحب الفن أن يلتزمه دائما. وانما الفن هو ما تنتجه طبيعة صاحب الفن إذا أكملت له أداة الفن حقها, وكان قد جمع إلي صفاء الذوق ورقة الشعور ودقة الحس وصفاء القلب, كل هذه القدرة في انتاجه, مهما يكن الفن الذي يتجه اليه.
فإذا قلت لشاعر من الشعراء: أريد منك قصيدة في هذا الموضوع بعينه, ويجب أن تكون هذه القصيدة كاملة في أيام ثلاثة أو خمسة أو ستة أو ما شئتم من أيام, وجاء الشاعر بهذه القصيدة, فمن المحقق أن تكون هذه القصيدة التي تصدر عن غير طبيعة صاحب الفن لا تمثل في قليل أو كثير الفن الذي ينبغي أن يكون الشعر عليه في هذا الموضوع ينشيء أو غيره من الموضوعات.
ومن أجل هذا كنا نعيب علي كثير من شعرائنا في العصور التي مضت بعض القصائد التي ينشدونها لأن يوم كذا سيكون العيد لميلاد جلالة الملك أو لارتقاء جلالة الملك علي العرش, وينفق في هذه القصيدة أياما تطول أو تقل, ثم يأتي بها ـ بهذا الشعر ـ من شعر منظم قلما يكون ملائما لما ينبغي للشاعر من الاجادة والاتقان, لأنه لم يصدر عن هذه الطبيعة في فنه, ولا عن استجابة الشاعر الفنية, وانما صدر لأنه يجب عليه أن يهنيء الملك بهذا العيد أو ذاك, ومن أجل هذا كان مكلفا أن يمهد فيه بما ينبغي للملك من الاجلال والتكريم, والثناء عليه, والاطراء له, والاسراف في المدح, إلي آخرما تعرفون من التملق.
وكل الشعر الذي ينظم في المناسبات ـ مهما تكن هذه المناسبات ـ اذا لم يكن نشأ عن تأثر صاحب الفن بهذا الذي سيكون والذي يجب أن يقول فيه الشعر, وانما نشأ لأن القصيدة طلبت إليه, أو لأن أحدا كلفه انشائها, أو لأن أحدا أغراه بالمال أن ينشئ هذه القصيدة. كل هذه الأنواع من الشعر ليست ذات قيمة.
ومن الشعراء القدماء من كانوا ينشئون الشعر لأنهم يريدون أن يمدحوا هذا الملك أو ذاك أو هذا الأمير أو الوزير ليأخذوا منه المال, وهذا النوع لم يكن الملوك يطلبونه من الشعراء مطلقا في تلك العصور القديمة, وانما كان مذهبا من مذاهب الشعر القديم الذي نشأ مع نشأة الشعر نفسه.
فنحن نعرف أن الأمة العربية ـ مثلا ـ في عصرها الأول قبل الاسلام نشأ فيها شعراء مدحوا شخصا من الأشخاص لأنه عمل عملا يستحق أن يقدر عليه, وعمل شيئا أرضاهم, فأثنوا عليه في شئ من شعرهم لأنهم أعجبوا بعمله ورضوا عنه, وأثنوا عليه من أجله. وأحب الناس هذا النوع من الشعر الذي يثني فيه علي انسان لأنه عمل شيئا يستحق الثناء عليه, فكلف الناس به ورغبوا فيه لا لأن المدح طلب اليهم, ولكن لأنهم أنفسهم ألفوا هذا الفن وعدوه فنا من فنون الشعر وبابا من أبوابه, وهو بعد ذلك وسيلة من وسائلهم إلي الحياة.
فمثلا شاعر مثل زهير بن دراس رأي رجلين قد نظرا إلي قبيلتهما, فاذا هما تتحاربان منذ وقت طويل جدا ومنذ سنين متصلة حتي كانت كل قبيلة منهما أن تفني صاحبها, فأصلحا بين القبيلتين وتحملا ما يجب من دية القتلي, وأديا لهذه القبيلة دية من قتل منها للأخري, وأصلحا بين القبيلتين, وأقرأ السلام مكان الحرب, رأي زهير هذين السعيدين قد أصلحا بين القبيلتين وحملاهما علي السلام وحسن الجوار وحسن المصاحبة والعشرة, فأثني عليهما في قصيدة مشهورة, ورضينا عن الثناء كل الرضا, وأحبا هذا النوع وكافآ هذا الشاعر فكان الشاعر من وقت إلي وقت يثني عليهما أعطياه شيئا حتي استحي منهما الشاعر, وأقسم ألا يمر علي أحدهما حتي لا يعطيه, فكان يتجنبه اذا لقيه, وربما مر بقوم كان منهم هذا الرجل أو ذاك, فيقول السلام عليكم الا فلانا, وخيركم استثنيت.
نشأ فن المدح, وجعل الشعراء يعدونه فنا لا يطلبه اليهم أحد ولا يكلفهم إياه أحد, وانما ينشئونه من عند أنفسهم ويتقدمون به إلي الملوك, فيأخذون به الجوائز, وقد استحبوا هذا النوع من الفن الشعري. حتي انتهي الأمر ـ إلي إفساد هذا النوع من الشعر ـ إلي أن أصبح الشعر وسيلة من وسائل العيش, ووسيلة من وسائل الضحك علي الملوك والعبث بهم, ويأتي شاعر من الشعراء فيمدح ملكا بما ليس فيه من الخصال, ويثني عليه بالشجاعة, ويثني عليه بالكرم, مع أنه لم يعط منه شيئا, وفي آخر الأمر يأخذ منه بعض المال, وينصرف وهو فيما بينه وبين نفسه محتقر لهذا الملك الذي كان يثني عليه, لأنه لم يثن عليه لايمانه به, وانما أثني عليه ليأخذ منه المال الذي هو في حاجة إليه.
وكل هذا نشأ من هذا الفن ـ فن الشعر الذي نشأ عن المدح ـ نشأ طبيعيا في أول الأمر دون تكليف من أحد, ودون أن يفرض علي أحد, ولكن الملوك ألفوه فيما جاء بعد ذلك من العصور, وأصبح الشعراء يحسون أنه من وسائل كسبهم للمال, ومن وسائل العيش المترف والنعيم, أن يعبثوا بهؤلاء الملوك في الأشعار, فيجدون أحيانا ولكنهم يأخذون منهم المال في كل مرة.
فحرية الفن اذن شرط أساسي, حريته من حيث الانتاج, ومن حيث وقت الانتاج, ومن حيث الغرض الذي يطلبه الفنان وينتج من أجله, ولا ينبغي لأحد أن يفرض علي الفنان شيئا. ثم حريته من أجل التطور أيضا, فليس للفنان نموذج مفروض ملتزم لايصلح ان يخرج عنه, وإذا فرض الفن نموذج معين لا ينبغي الانحراف عنه, فقد جمال الفن, وأصبح شيئا مكروها مملولا.
وهناك فرق بين شيء يأتي علي ذوق الفنان وطبيعته الفنية وآخر يخالف ذوقه ويضطر إليه اضطرارا, لأن الذوق العام في عصر من العصور يفرض نفسه علي أصحاب الفنون, فإذا هم ينشئون آثارهم الفنية ملائمة للذوق العام, لأن الفنان قد أرضي ذوقه, وبعد أن أرضي ذوقه هو أرضي الذوق العام للبيئة التي يعيش فيها.
فمثلا عندما ينظر إلي الفن الذي كان ينشأ في عصر من العصور الكلاسيكية, وفي العصر اليوناني, وعندما ننظر إلي الفن الذي كان ينتج في القرن الخامس قبل المسيحية في أيام فدياس وغيره من أصحاب الفنون, عندما ننظر إلي ذلك الوقت أن الذوق العام في مدينة أثينا خاصة ـ وكانت في ذلك الوقت هي المدينة التي تتحكم في الذوق العام للأمة اليونانية كلها, وهي مصدر الذوق, وهي مصدر الفلسفة, وهي مصدر العلوم, ومصدر الآداب في الأمة اليونانية كلها, ثم فرضت نفسها بعد ذلك علي الأمم التي ليس بينها وبين اليونان أية صلة, ولكنها أمم قوية, شرقية أو غربية في ذلك الوقت لها من الذوق اليوناني العام ما يقتضي أن يكون الأدب اليوناني علي هذا النحو أو ذاك.
وعلي هذا النحو الكلاسيكي الذي عرفاه عند الشعراء الذين أنشأوا القصص التمثيلي, وعند الشعراء الذين أنشأوا القصص الغنائي, وعند المثالين الذين أنشأوا التماثيل الرائعة, وأصحاب العمارة اليونانية, كان هناك ذوق عام يفرض نفسه علي هذا الشعب الانساني, ونشأ عن هذا الذوق أن أصحاب الفن كانت أذواقهم ملائمة لهذا الذوق. فأنشأوا ما أنشأوا من الفنون, لا ليضحكوا علي هذا الفرد أو ذاك, ولا لأن أحدا طلب منهم هذا الانتاج أو ذاك, ولكن لأن ذوقهم ألهمهم هذا الانتاج فأنتجوه, وإذا عصر كلاموس عند اليونان, فالعصر لايذكر لأن بريكلكس كان يحب تشجيع أصحاب الفن ويشجعهم, ويحسن تشجيعهم, ويحثهم علي الانتاج ككل من يحب الفن ويشجع عليه.
ولكنه لم يكن يحاول أن يملي علي صاحب الفن كيف ينتج آثاره الفنية, أو كيف يصفها علي نحو كذا, وانما كان يشجع الفن من حيث هو الفن.
ومثل هذا يقال في الفنون التي نشأت في العصور الأوروبية المتأخرة, لم يفرض أحد علي( مايكل أنجلو) مثلا أن ينشئ هذا الأثر أو ذاك, أو أن ينشئه علي النحو الذي أنشأه له, وانما يمكن أن يكون قد طلب إلي( مايكل انجلو) أن ينشئ تمثالا أو صورة, وكلكم يعلم أن( مايكل انجلو) كان بارعا هائلا في العمارة براعته في صناعة التماثيل, وبراعته في التصوير أيضا, وكان يحسن كل هذه الفنون, وهو في الوقت نفسه كان صاحب مشاركة في الأدب, وتستطيعون أن تلاحظوا هذا أيضا عند بعض أصحاب الفنون في عصور القرون الوسطي إلي النهضة الأوروبية.
وهولاء الفنانون لم يكن أحد يفرض عليهم شرطا لما ينشئون من الآثار, وانما كانوا يطلبون إليهم أثرا من الآثار الفنية, ويتركون لهم الحرية الكاملة, والذوق الكامل في انشاء هذا الأثر الذي يحتاج إلي انشاء.
وكل صاحب فن يقدر نفسه, ويقدر فنه, ويأبي علي نفسه أن يكون تابعا أو خاضعا لفرد من الأفراد مهما يكن, لايقبل بحال من الأحوال أن يشترط عليه شرط من الشروط, أو يملي عليه أي توجيه بعينه حين يراد منه أثر فني.
فليس إذن من المعقول بالقياس إلي الفن أن يفقد الحرية, وليس من المعقول بالقياس إلي الفن أن يفرض علي نفسه نموذجا معينا يلتزمه ولا ينحرف عنه, ومن هنا وجدنا في هذا العصر الذين ينكرون الفنون التي يلتزم أصحابها ناحية من النواحي المعينة, وأن كبار الفنانين في أول القرن التاسع عشر أو في الثامن عشر كانوا ينشئون آثارهم الفنية علي هذا النحو, فالفن ككل شيء في الحياة يجب أن يتطور بتطور حياة الناس, وبتطور عقولهم وقلوبهم وأذواقهم.
ومن الطبيعي ألا يكون شعور الناس في هذا القرن الذي نعيش فيه الآن والذي ارتقت فيه الحضارة الانسانية ارتقاء باهرا, والذي بلغت فيه العلوم من الرقي ما تعرفون, والذي يحاول الانسان فيه أن يتجاوز الأرض التي يعيش عليها, ويصل إلي الكواكب الأخري التي لم يكن يخطر للناس أنه يمكن أن يعرفوا عنها أكثر مما استطاع أصحاب الفلك أن يعرفوه, ليس غريبا أن تتطور أذواق الناس حيث أصبحت الآن.
في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر لم تكن هناك الأشياء الغريبة التي ألفناها نحن, ولم تكن هناك القطارات ولا السيارات ولا الطائرات ولا الآلات الهائلة التي غيرت وجه الحياة, وأنتجت للناس كل ما أمكنها من الترف ووسائل العيش المختلفة, وقربت المسافات بين الأمم, بل ألغتها الغاء, فنحن نستطيع اليوم في أية لحظة من اللحظات أن نسمع صوت أمريكا, ونستطيع في ساعات قليلة أن نصل إلي أمريكا أو إلي روسيا, أو إلي ما شئتم في أي مكان علي الأرض. فإذا تطورت الحياة علي هذا النحو وأصبحت مختلفة أشد الاختلاف بالقياس إلي الحياة في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر, فليس غريبا أن تتطور أذواقنا, وأن تتطور عقولنا وقلوبنا وأمزجتنا, وليس غريبا أن يتطور الفن بتطور هذا كله, وأن يتحول شيئا كثيرا أو قليلا عن الفنون والنماذج التي كانت مألوفة في عصر من العصور إلي فنون جديدة تلائم العصر الذي نعيش فيه.
اذن فتطور الفن شيء طبيعي لا معني للجدل فيه, ولا معني لمناقشته, وبالطبع صاحب الفن حر في انتاجه, وهو كغيره من الناس حر في أن يرضي أو لايرضي لأن صاحب الفن انما يجيب ذوقه وطبعه ولا يجيب شيئا غيره, لأن ذوقه ملائم للذوق العام, ويستطيع أن ينتج آثارا ترضي هذا الذوق العام, وإن كان له ذوق خاص يشذ عن الذوق العام قليلا او كثيرا, وينتج أثرا قد لايرضي عنه كثير من الناس, فليس علي صاحب الفن اعتراض او غبار او لوم, وانما اللوم علي الذين يجمدون أنفسهم ولا يتطورون مع الحياة.
وفي الشعر مثلا اذا طلب الي شاعر يعيش في هذا العصر الذي نحن فيه أن ينشيء شعرا كما كان الفنانون القدماء ينشئون الأشعار, او كما كان امرؤ القيس او زهير ينتج الشعر في العصر الجاهلي, او كما كان ابو تمام الرجل الذي وثب في الشعر وثبة هائلة وباعد بين شعره وبين من سبقه من الشعراء, اذا أرادوا من الشعراء هذا المعني كان هذا شططا وتكليفا للشعراء, واشياء لا تلائم الذوق ولا تلائم العصر الذي نعيش فيه.
ويجب أن نحترم اللغة العربية, وليس في هذا من شك, ولكن اللغة يجب أن تجاري العصر وأن تتطور معه, اذن فآداب اللغة نفسها يجب أن تتطور مع اللغة وأن تجاري العصر الذي تعيش فيه, فليست اللغة مقدسة ولم تنزل من السماء, وانما هي شيء انسانئ, والانسان بطبيعته متطور, فيجب أن يتطور معه اللغة, ويجب أن يتطور معه الأدب: شعره ونثره, ويجب أن يتطور معه الفن أيضا.
ومن المحقق أنه لابد من أن يجد صاحب الفن ملاءمة لذوقه, بشرط أن يكون ذواقا لفنه رقيقا صافيا, وأن لا يكون صاحب الفن دعيا في حقه, يزعم أنه صاحب فن وهو ليس من الفن في شيء, ويجب أن يكون صاحب الفن يحس فنه ويحسنه, لأن ذوقه مرهف صاف رقيق دقيق, فاذا جاء أي انسان وزعم أنه يستطيع أن ينتج صورة رائعة انتج سخفا من السخافات, فليس من بأس علي كل انسان أن يقول له: لست من هذا الفن في شيء فدعه والتمس حياتك ووجه حياتك وجهة أخري.
ومن هنا لم يكن بد لصاحب الفن من أن يكون مثقفا, ثقافة واسعة جدا, ثقافة عامة أولا, ملما بالناحية التي يحياها الناس من حوله وبما تمتاز به هذه الناحية, وبما تطورت اليه هذه الحياة, وبما ينتج في هذه الحياة من العلوم والآداب وما اليها, ولا أقول انه يجب أن يكون متخصصا في كل هذا, ولكن يجب أن يكون عارفا بهذا كله ملما به, ويجب أن يكون بعد ذلك مثقفا فنية, والثقافة الفنية هي أبسط جدا مما نظن.
فالفن لاينشأ من لاشيء, وانما يجب أن يكون صاحب الفن محيطا بفنون الذين سبقوه, ويجب أن يكون قد تثقف الثقافة الفنية الكاملة, وعرف تاريخ الفن الجميل الذي يمارسه ان كان التصوير او النحت او ما شئتم من الفنون, ويجب أن يعلم بأن له سابقين, وأن له أئمة في الفن قد سبقوه, وأن يكون عالما بعلمهم علما دقيقا, وأن يكون ذائقا له, وليس مهما أن ينتج مثله, ولكن المهم أن يكون قد فهمه وتذوقه وعرف خصائصه ومميزاته.
فاذا وجدت هذه الثقافة العامة أولا, والثقافة الفنية ثانيا, وصفا ذوق صاحب الفن ورق طبعه, فهو صاحب الفن الذي يستطيع أن ينتج فنه مستجيبا لطبعه وذوقه, ولا عليه أن يرضي عنه هذا او ذاك من الناس.
سيداتي سادتي:
مع أني لست من أصحاب الفنون الجميلة, ومع أني اعتبر نفسي دعيا أيضا, دخلت في حديث هذه الفنون, برغم هذا كله, فإني استطيع أن أقول لحضراتكم إنه لا معني للفن مع الجهل, ولا معني للفن مع الجمود, ولا معني للفن مع غلظة الذوق, ولابد لصاحب الفن من أن يكون مثقفا, ومن أن يكون فاهما للحياة كلها من حوله, ومن أن يكون ملما بدقائق الفن الذي يريد أن يعني به, وملما بفنون الذين سبقوه وانتجوا في الفنون من قبله, ويجب أن يكون هذا محققا أولا, وله بعد ذلك أن ينتج اذا انتج ويستجيب لذوقه الصافي وطبعه المهذب, فليس عليه بأس أن يرضي عنه هذا او ذاك.
وأظنني قد اطلت عليكم واكثرت في الاطالة, ولكن أحب أن أقول الآن كما قلت في أول هذا الحديث: إن الفن لايتم إلا بشرطين اساسين احدهما الحرية الكاملة, والآخر الثقافة الواسعة العميقة في الحياة والفنون, ومن غير هذين الشرطين لايمكن أن يوجد الفن الجميل بالمعني الدقيق, وادرسوا تاريخ من شئتم من اصحاب الفنون الجميلة فسترونه لم ينتج ما انتجه إلا لأنه كان حرا خاليا من القيود والشروط, وكان يعرف تاريخ الفن الذي عناه, وكان مثقفا ثقافة معينة, ولم يكن جاهلا, ولم يكن مقيدا.
فللفن عدوان القيد والجهل فاذا استطعنا أن نجنب شبابنا الجهل والخضوع للقيود علي اختلاف انواعها, واذا استطعنا أن نجنب شبابنا هذين الأمرين, فنحن نستطيع أن نأمل ونأمل كثيرا, وأن ننتظر من شبابنا, اذا تعلموا الفنون احرارا, أن ينتجوا انتاجا رائعا يمكن وطنهم من أن يتذكر قديمه, غير مستخز من نفسه, ويمكن الوطن أيضا من أن يذكر انتاج أبنائه, ويذكر الي جانبه انتاج الأمم المختلفة فلا يستحي ولا يستخذي.
ومن هنا كان من أهم الأشياء التي حاولتها دائما وأرجو أن تحاولها الحكومة أن تمكن اصحاب الفن من الخروج عن وطنهم, ومن السياحة في الأرض, ورؤية الآثار الفنية المختلفة, ليتحقق هذا الشرط الذي ذكرته, ألا وهو شرط الثقافة الفنية, ولابد لاصحاب الفن عندنا من أن يرو الي جانب الفن المصري القديم الفنون الاسلامية التي عرفها المسلمون, ومن أن يروا الي جانبهم الفنون المختلفة التي انتجتها الأمم في عصورها المختلفة, فهذا هو أحسن سبيل لتقوية ثقافتهم وتصفية أذواقهم.
وأنا أرجو أن التقي بكم مرة أخري مستمعا لامتحدثا ولامحاضرا