وقفنا ببابِ القـــــيروانِ كأنّنَا قِفَا نبكِ من ذِكرى حبيبٍ ومنزِلِ
حيث المكانُ جزيرةُ العربِ القُدامى
والزمان هنا زمانٌ لولبيٌّ،
نحنُ عوّدنا أصابعنا على أن تخرُقَ البلّورَ في الصحراءْ
وتوقّعَ الأحجارَ والأشجارَ،
علّمنا الأصابع أن تَشِيمَ البرق في نجدٍ.. وتمسكَ ضوءَهُ المبلولَ؛
علّمنا الأصابعَ أن تكون الماءْ
***
لكأنّنا أسلافُنا إذْ نلتقي أسلافَنا،
وَكَأنْ هُمُو جاؤوا إلينا من وراء البحرِ،
أو خرجوا إلينا من وراء الأرضِ؛
حيثُ الضوءُ أزمنةٌ بها مجدولةٌ
لكأنّنا في البدءِ.. لا عدمٌ ولا موتٌ،
ولا ليلٌ يرينُ ولا نهارٌ يستبينُ بها.. لنا
تمتدُّ أيديهمْ إلينا من خلالِ عيونهمْ وبريقِها،
متردّدينَ جميعنا:
"هلْ نحنُ أنتمْ أيّها الأسلافُ؟ أمْ؟"
هذا أبي قد لوّحتهُ الشمسُ مثلي..الريحُ تسخنُ والضبابُ يلفُّ أحمرَ، كلَّ شيءٍ حولنا:
عينانِ سوداوانِ قاتِمتانِ مثل حصانهِ،
عيناهُ من عينيهِ،وادِعتانِ:
"منْ هذا الغريبُ شبيهُنا؟"
ويمدُّ لي خُرْجًا مليئا بالصحائف والزعانفِ والعِظامِ
***
الليلُ يقبلُ.. تسبُتُ الصحراءُ حُمرةَ جمرةٍ وسَوادَ حبرٍ،
في بساتينِ النخيلِ..الرملُ تبرٌ عائمٌ من تحتنــا
والليلُ ضوءٌ عالقٌ بسمائهِ.. الحيوانُ يرقدُ آمناً في ظلّه..
ضوءٌ بطيءٌ ناعسٌ كانتْ ترقّطهُ الظلالُ..شموعُ دُهْنٍ.. والهواءُ يرنُّ،
و"السّرواتُ" أبعدَ ترفع الأرض الخفيضةَ كالشراعِ
إلى السماءِ..
على حَواشي عشبة نِمْـنَا
وَظَلَّ أبي يقلّبُ خُرْجَهُ كالطفلِ،والأصدافُ بين يديهِ
من بيْضِ النّعامِ
***
لكنْ شميمُ عرار نجدٍ لم يزلْ فينا يهمهمُ ناعماً،
ويدورُ من ريحٍ إلى ريحٍ بنا..
أجراسُ مَاعِزِهمْ تَرَدَّدُ منْ قَصِيِّ جبالهمْ فينا..
قطيعٌ هادرٌ مُتـشَمّمًا أحلامنا،
يمشي على خيطٍ كنسْجِ العنكبوتِ؛
وفي صُدوعِ قصيدةٍ وظلالها
يجري عميقًا،
والنسيمُ ينامُ في أشجارهِ..
غسقٌ هنالك زئبقيٌّ..بعضُ غيمٍ يشبهُ امرأةً بثديٍ واحدٍ.. هذي الغيومُ السابحاتُ
كأنّهنّ مُحارِباتُ الآمَزُونِ وَثبْنَ..
يكتبهنَّ ماءُ الليل في لوحٍ أمامي
***
لكأنّني في قصّة"البيت الذي فوق الشجرْ"
صوتٌ سماويٌّ وآخرُ من حَجَرْ
وأبي يقول عليك تهجيةُ الظلامِ
***
اللّيلُ كان ظلالَ غيمٍ شاردٍ..
ذئبُ الحطيئةِ وَهْوَ يعوي أو يمدُّ لسانهُ الناريَّ من جوعٍ
حصانٌ يستطيلُ ..يهفّ
ـ والصحراءُ لونُ المشمِشِ المصفرِّ في فجْر الحَمامِ ـ
ـ مِنْ أيِّ بيتٍ هفّ؟
ـ مِنْ بيتٍ لعنترةَ بن شدّادٍ(وأعني جيّدا بيتَ القصيدةِ لا خباءً في مضاربهمْ)
حوافرُ في الفضاءِ.. ولا لجامَ له..ولا رِسْنٌ؛
كأنّ حصانَهُ القرْبانَ، من لحْم الغمامِ
..وهُوَ المدى والبرقُ
قلْ:
منْ كوّةٍ فيها(وأعني جيّدا هذي القصيدةَ) نسمعُ الدنيا وأَهْلِيها
نرانا:
في عيون ذبابةٍ قُزحيّةٍ كانت تحكّ ذراعَها بذراعِها،
في الريحِ جاءتْ من أقاصي الأرضِ، من بئرٍ هناكَ،
بعيدةِ المَهْوى،إلينا؛ وهيَ تحملُ جَرْسَ موتاهمْ
كهجْسِ العشبِ..
في رُقُمٍ لهم كانت تكلّمنا
وفي صُوَرٍ نعيدُ طِلاءَها
حيث القصيدهْ
كَـفَنًا تكونُ لنا وشرنقةً.. وصَحْراءً حديقهْ
***
من كوّة أخرى نرى عمرو بن كَلثومٍ
يطوّحُ في الطريق إلى دمشقَ وقَاصَرينا.. النومُ باعدَ بيننا
والحُلـمُ غربالُ الحقيقهْ
***
وَلأدْخُلنْ كالظلّ دارةَ جلجلٍ،
من بيتها العشرين( أعني جيّدا بيت القصيدهْ)
وأراه مختطفا ثياب المستحمّاتِ المرايا الساحباتِ على فُضول وِسادنا،من ليلهنّ،حريرَهُ،
والواهباتِ لنا وِسادًا خافقا أبدا؛فما نِمْنا عليهِ ولا إليهِ ولا صَحَوْنا.
كانَ للضلّيل عاداتٌ،
ويعرفُ كيف في دُهْن الشموع يفكُّ أردانَ القميصِ،
وكيف تشتعلُ الورودُ،
وكيف يهبطُ كالنّدى،
متدثّرا بهوائهِ المبلولِ..حتّى النّبْعْ.
يَخرجنَ في بللٍ..حليبٌ فاغمٌ مُصَّاعِدٌ كالنسغ في أثدائهنَّ
وكان يلمعُ في العيونِ الدّمْعْ.
يُبْصِرْنَهُ بثيابهنَّ..
وَيُردِفُ الضّلّيلُ أنثاهُ سنامَ بعيرهِ.. القدمانِ في كلّ النواحي تضربانِ..
وكان يعرف أنّ للمِرآةِ ذاكرةً، وتعرفُ مثلهُ؛
لكنّها ملساءْ
فلأغلقنَّ الباَبَ..ذَا سرْبٌ من الغزلانِ
جاءَ الآنَ يحرسُ نومها..وذواتُ أظلافٍ..
وكان الزيتُ ينفدُ في مصابيحِ الخيامِ
***
بجلودها تتظلّلُ الأشجارُ.. كان لها قبابٌ..وهي تحت بياضها المزرقِّ
مثل سحابة صيفيّةٍ،
وبمنجل الصوّان كان الشنفرى في سلّم الأحجار يبري قوسهُ ونِشابَهُ،
متواطئا والشمسَ أو هوَ يستظلُّ برأسِ أفعى حذوه؛
تتنفّسُ العينان فيها..النخلُ أبعدُ ما يكونُ..
ولا ظلالَ هنا لِيـَغـْذوهَا سواها في غبار الشمس، أو في قِرمز الصحراءْ
ـ هل أنت تنحتُ؟ قلْ
ـ أنا عربيّتي
ـ هل أنت تعني هذه الفصحى الحجرْ؟
ـ حجري الكريمُ.. ولي أنا إزميلهُ
وأقولُ: ما الصحراءُ؟
ـ ماءٌ دافقٌ
ويقولُ لي: لتعلّمنّكَ شمسُ هذا الصيف ما الصحراءْ
ولَـتَجْعَـلَنّكَ أنتَ نحّاتَ الهواءْ
***
جملٌ يغـذّ ُ السيرَ حتّى آخر الصحراءِ.. لا تعبٌ يَحيفُ.. ولا وَنًى
منهُ.. فيبركُ فجأةً.. بين الّرعاهْ
هلْ كان يلعبُ أم يموتُ؟
تُراهُ أدركَ أنّها طرَفُ الحياهْ؟
عيناهُ لونُ رمادها البنّيِ.. لونُ الموتِ
والماءُ الذي يخضرُّ فيهِ قد نفدْ
***
قُضبانُ برقٍ أمْ زجاجٌ ؟ أمْ ضبابٌ من رمالٍ؟ أمْ سِتارٌ أسدلتهُ الريحُ؟
قـلْ:
إذْ تمطرُ الصحراءُ يشتعلُ الجسدْ
مستوطنًا هذا الأبدْ
الرّملُ أسودُ مرّةً.. والّرملُ أصفرُ تارةً
والرّملُ أشهبُ مرّةً.. والّرملُ أخضرُ تارةً
ونُحِبُّ حدَّ الرقصِ: نحْلٌ صاخبٌ في ظلّه المعسولْ
برقٌ يرقُّ.. وضوؤهُ المبلولْ
بين الأصابع.. حيث
ليلُكَ لا يَـبِينُ ولا يُحَدْ
أقدامنا في الأرضِ تخبطُ... والقصيدةُ تحجبُ الشعرَ القصيدةُ تحجبُ الكلماتِ،
والصحراءُ عالمُنا الذي يحوي القبائلَ والشعوبَ،
ويحضنُ الغاباتِ والحيوانَ والأهْلونَ والأنهارَ والأرَضُونَ
ثورٌ قافزٌ.. من أيّ بيتٍ..أيّ قافيةٍ إذن؟
لكأنّهُ الثورُ المجنّحُ في مراعي نَينَوَى..
قطعانُ ثيرانٍ مرقّطة ِ الجلودِ.. قرونُها أنيابُ فيلٍ..خلفهُ.. وثبتْ
وللكثبانِ ،حيثُ الشمس في سمْتِ السماءْ
أثداءُ أبقارٍ.. وللصحراءِ لونُ رصاصها
***
صحراءُ في الصحراءِ؟ أمْ أسفنجةٌ رمليّةٌ؟ والأرضُ مثل النّهْـرْ
تجري عميقا في عروقِ الصّخْـرْ
***
هذا أنا شفةٌ تعضُّ على الغُبارِ بها وسِحْنَـتِيَ الرّمادُ ..الرّيحُ تطوي الرّمل
طَيَّ قُماشةٍ.. والبيتُ(أعني جيّدا بيت القصيدةِ) ليس أكثر من لقاء مسافرين ورُحّلٍ..
ولعلّني بيتٌ بها.. أو نصفُ بيتٍ يا أبي.
تأتي الجبال من البحار بديهةً صهباءَ مثل مسُوح رهبانٍ؛
ونحن على السفوح..سقوفنا سُعُفُ النخيلِ خضيدةً مجدولةً ،
وترابُها المجبولُ من عشبٍ وماءٍ.. مثلُنا..
سيجيء يومٌ نحن نكشف فيه رِخْوَ جذوعنا.
***
الأرضُ مثل البحر تُطعِمُنا وتأكلنا.. القصيدةُ فلْـكُ نوحٍ..
غير أنّ نبيّها الملاّحَ يا ابنَ العبدِ، لمْ يَقْـشِرْ بها وجهَ المياهِ
صبيحة الطوفانِ.. لم يبلغْ بها دلْمونَ إلاّ
وهي تغطسُ ثمّ تطفو ثمّ تغطسُ ثمّ تطفو.. الحوتُ
من موجٍ إلى موجٍ يُقاذِفها؛
ونحنُ مكدّسونَ هناكَ في صندوقها العوّامِ
لم يبلغْ بها دلمونًها
إلاّ وقد زال النهارُ بها.
وهذي خولةٌ جاءت من البحرينِ يا ابنَ العبدِ،في نشْلٍ كنشْل بناتها
كانتْ تُسائلُ في منازل بُرْقةٍ عن وشمِ ذكرى
والمنازلُ أُخْلِيَتْ لسواكُما
أو ربّما جاءتْ تسومُك أنت.. في الميناءْ
(أنتَ الغريب شبيهنا)
رندا وعاجا..صمْغ طلحٍ.. أو دُمى
سِبْتَ اليمانيِّ الذي أهديْــتَها يوما
وقرطاسَ الشآمي
***
إذْ تنتهي الصحراءُ نَـتَّركُ القوافلَ..ثمّ نَتّبعُ المراكبَ حيثُ كان البحر كالصحراء يسبقنا ويتبعنا..
ونحنُ نقول ما قلناهُ عنها..البحرُ يهدر في محارته.. يَغِنٌّ..البحرُ وحشٌ أخضر القدمينِ،
يُقعي عند مقهًى ساحليٍّ ها هنا في ليلِ إفريقيّةَ الخضراءْ
النورُ أكثر وحشة منّا ومن هذا الظلامِ..الظلُّ قطٌّ مغضبٌ..
متقوّسٌ في ركنه العاديِّ..ليلٌ حافلٌ بنهارهِ
والكأسُ تُملأُ ثمّ تُفرغُ..
( كان للأعشى اندفاعُ فراشةٍ ضوئيّةٍ.. والليلُ موسيقى تحلّقُ حوله..)
طيرٌ يمرُّ ووجهَ هذي الأرضِ.. بحرٌ ينحني متباعدا في جزرهِ.. طيرٌ قوادمهُ تكادُ ترفُّ فوقَ الماءِ..
رُبّـتَما انعطفنا والطريقَ إليهِ..رُبّـتما اختبأنا في تلافيف القصيدةِ..خلفَ تلٍّ.. واطئ.. أو نخلةٍ..نتلمّسُ الكلماتِ كالأعشى..
وفي أجراسها نمشي كما تمشي سحابتهُ..فلا ريْثٌ ولا عَجَلُ
واللّيلُ يطفئُ ظِلَّ مَنْ علّوا ومَنْ نهلُوا
***
في شرفة الليل المقابل.. ثمّ سيّدةٌ تمشّطُ شعرها
وكأنّها في قصّة"البيت الذي فوق الشجرْ"
الصّدرُ كان تُويجَ زهرة لَوتَسٍ.. والنورُ ماءٌ دافقٌ فيها..
ضجيجُ البحرِ أزرقُ..كنتُ أنظُمُ منهُ برْدَ سكونها وأقولُ: دوري يا كواكبُ.. يا نجومُ..بها.. ودُوري..
ثمَّ دُوري.. في ظلامي
***
لو أنّ لي بيتًا هنالك في الهواءِ معلّقًا
أو سلّمًا يقتادني صُعُدًا إلى أحلامها
وَلَوَ انَّ... !
***
خطٌّ من طيورِ البحرِ يقطعُ ليلهُ أمْ ندْفُ ثلجٍ؟
صوتُ سيّدةٍ (تُراها خولةٌ أخرى؟ )تقول:" حقيبةٌ جلديّةٌ تكفي.. وبنطالٌ رياضيٌّ.. وعند الضفّة الأخرى
سأولدُ..مرّة أخرى"
يَدٌ في حضن أخْراها تكادُ تنامُ.. والجسمُ المنقّطُ والمرقطُ ،من زبيبِ بناتِ إفريقيّةٍ صيفًا
ومن ريشُ النعامِ
***
ماذا إذنْ سنقولُ للكلماتِ إذْ نمشي بها.. الكلماتِ إذْ تمشي بنا
مشيَ السحابةِ وهْيَ تسألُ عن صغيرِ بذورِها؟
لغةٌ تسيلُ على هوانا أمْ هواها..هذه الفصحى الحجرْ؟
لغةٌ تقولُ بنا ونحنُ بها نقولُ.. البحرُ كالصّحراءِ
سورٌ شاهق حينا ومنخفضٌ كهذا الظلّ حينا
أذكرُ الدّيدان ترعى رمّةً (جملٌ تفسّخَ)..قلتُ.. مثل النخلِ،من صلصالِ آدمَ كانَ؛فهو دمي ولحمي
أذكرُالغربانَ تنهشهُ.. تحوّمُ فوقهُ
والسهلُ في شمس الصباح يطيرُ.. والواحاتُ حفنةُ خضرةٍ ألقى بها مطرٌ شحيحٌ
ما الذي سنقولُ للكلماتِ؟
والكلماتُ كالدّيدانِ تنغلُ في العظامِ
***
عمرو بن كلثومٍ غَفَا..في حانة في باب توما..ربّما
وحصانهُ في قَاصَرِينَا
لمْ يزلْ من ألف عامٍ ينتظرْ
***
لكأنّنا أسلافُنا الآتونَ
نولدُ في زمانٍ لولبيٍّ ..هكذا حكماءَ مكتهلينَ.. في الستّينَ
في أشعارهمْ نمشي
ونصغَرُ.. ثمّ نصغَرُ كلّ يومٍ.. أيّها الأبناءْ
ونكونُ أشبهَ ما نكونُ بحبّة ِ القمحِ الصغيرهْ
ونكونُ أشبهَ ما نكونُ بحصْوةِ الملحِ الصغيرهْ
ويجيءُ يومٌ لن نكونَ به
فلا خوفٌ ولا قلقٌ.. لكلِّ هنيهةٍ أبديّةٌ.. لكنْ
سيبقى بعضُ عطرٍ من شميمِ عَرارِ نجدٍ
شاردًا.. بعد العشيّةِ..في مضاربكمْ
ورائحةٌ تحلّقُ فوقكمْ.. بيضاءْ
حيث المكانُ جزيرةُ العربِ القُدامى
والزمان هنا زمانٌ لولبيٌّ،
نحنُ عوّدنا أصابعنا على أن تخرُقَ البلّورَ في الصحراءْ
وتوقّعَ الأحجارَ والأشجارَ،
علّمنا الأصابع أن تَشِيمَ البرق في نجدٍ.. وتمسكَ ضوءَهُ المبلولَ؛
علّمنا الأصابعَ أن تكون الماءْ
***
لكأنّنا أسلافُنا إذْ نلتقي أسلافَنا،
وَكَأنْ هُمُو جاؤوا إلينا من وراء البحرِ،
أو خرجوا إلينا من وراء الأرضِ؛
حيثُ الضوءُ أزمنةٌ بها مجدولةٌ
لكأنّنا في البدءِ.. لا عدمٌ ولا موتٌ،
ولا ليلٌ يرينُ ولا نهارٌ يستبينُ بها.. لنا
تمتدُّ أيديهمْ إلينا من خلالِ عيونهمْ وبريقِها،
متردّدينَ جميعنا:
"هلْ نحنُ أنتمْ أيّها الأسلافُ؟ أمْ؟"
هذا أبي قد لوّحتهُ الشمسُ مثلي..الريحُ تسخنُ والضبابُ يلفُّ أحمرَ، كلَّ شيءٍ حولنا:
عينانِ سوداوانِ قاتِمتانِ مثل حصانهِ،
عيناهُ من عينيهِ،وادِعتانِ:
"منْ هذا الغريبُ شبيهُنا؟"
ويمدُّ لي خُرْجًا مليئا بالصحائف والزعانفِ والعِظامِ
***
الليلُ يقبلُ.. تسبُتُ الصحراءُ حُمرةَ جمرةٍ وسَوادَ حبرٍ،
في بساتينِ النخيلِ..الرملُ تبرٌ عائمٌ من تحتنــا
والليلُ ضوءٌ عالقٌ بسمائهِ.. الحيوانُ يرقدُ آمناً في ظلّه..
ضوءٌ بطيءٌ ناعسٌ كانتْ ترقّطهُ الظلالُ..شموعُ دُهْنٍ.. والهواءُ يرنُّ،
و"السّرواتُ" أبعدَ ترفع الأرض الخفيضةَ كالشراعِ
إلى السماءِ..
على حَواشي عشبة نِمْـنَا
وَظَلَّ أبي يقلّبُ خُرْجَهُ كالطفلِ،والأصدافُ بين يديهِ
من بيْضِ النّعامِ
***
لكنْ شميمُ عرار نجدٍ لم يزلْ فينا يهمهمُ ناعماً،
ويدورُ من ريحٍ إلى ريحٍ بنا..
أجراسُ مَاعِزِهمْ تَرَدَّدُ منْ قَصِيِّ جبالهمْ فينا..
قطيعٌ هادرٌ مُتـشَمّمًا أحلامنا،
يمشي على خيطٍ كنسْجِ العنكبوتِ؛
وفي صُدوعِ قصيدةٍ وظلالها
يجري عميقًا،
والنسيمُ ينامُ في أشجارهِ..
غسقٌ هنالك زئبقيٌّ..بعضُ غيمٍ يشبهُ امرأةً بثديٍ واحدٍ.. هذي الغيومُ السابحاتُ
كأنّهنّ مُحارِباتُ الآمَزُونِ وَثبْنَ..
يكتبهنَّ ماءُ الليل في لوحٍ أمامي
***
لكأنّني في قصّة"البيت الذي فوق الشجرْ"
صوتٌ سماويٌّ وآخرُ من حَجَرْ
وأبي يقول عليك تهجيةُ الظلامِ
***
اللّيلُ كان ظلالَ غيمٍ شاردٍ..
ذئبُ الحطيئةِ وَهْوَ يعوي أو يمدُّ لسانهُ الناريَّ من جوعٍ
حصانٌ يستطيلُ ..يهفّ
ـ والصحراءُ لونُ المشمِشِ المصفرِّ في فجْر الحَمامِ ـ
ـ مِنْ أيِّ بيتٍ هفّ؟
ـ مِنْ بيتٍ لعنترةَ بن شدّادٍ(وأعني جيّدا بيتَ القصيدةِ لا خباءً في مضاربهمْ)
حوافرُ في الفضاءِ.. ولا لجامَ له..ولا رِسْنٌ؛
كأنّ حصانَهُ القرْبانَ، من لحْم الغمامِ
..وهُوَ المدى والبرقُ
قلْ:
منْ كوّةٍ فيها(وأعني جيّدا هذي القصيدةَ) نسمعُ الدنيا وأَهْلِيها
نرانا:
في عيون ذبابةٍ قُزحيّةٍ كانت تحكّ ذراعَها بذراعِها،
في الريحِ جاءتْ من أقاصي الأرضِ، من بئرٍ هناكَ،
بعيدةِ المَهْوى،إلينا؛ وهيَ تحملُ جَرْسَ موتاهمْ
كهجْسِ العشبِ..
في رُقُمٍ لهم كانت تكلّمنا
وفي صُوَرٍ نعيدُ طِلاءَها
حيث القصيدهْ
كَـفَنًا تكونُ لنا وشرنقةً.. وصَحْراءً حديقهْ
***
من كوّة أخرى نرى عمرو بن كَلثومٍ
يطوّحُ في الطريق إلى دمشقَ وقَاصَرينا.. النومُ باعدَ بيننا
والحُلـمُ غربالُ الحقيقهْ
***
وَلأدْخُلنْ كالظلّ دارةَ جلجلٍ،
من بيتها العشرين( أعني جيّدا بيت القصيدهْ)
وأراه مختطفا ثياب المستحمّاتِ المرايا الساحباتِ على فُضول وِسادنا،من ليلهنّ،حريرَهُ،
والواهباتِ لنا وِسادًا خافقا أبدا؛فما نِمْنا عليهِ ولا إليهِ ولا صَحَوْنا.
كانَ للضلّيل عاداتٌ،
ويعرفُ كيف في دُهْن الشموع يفكُّ أردانَ القميصِ،
وكيف تشتعلُ الورودُ،
وكيف يهبطُ كالنّدى،
متدثّرا بهوائهِ المبلولِ..حتّى النّبْعْ.
يَخرجنَ في بللٍ..حليبٌ فاغمٌ مُصَّاعِدٌ كالنسغ في أثدائهنَّ
وكان يلمعُ في العيونِ الدّمْعْ.
يُبْصِرْنَهُ بثيابهنَّ..
وَيُردِفُ الضّلّيلُ أنثاهُ سنامَ بعيرهِ.. القدمانِ في كلّ النواحي تضربانِ..
وكان يعرف أنّ للمِرآةِ ذاكرةً، وتعرفُ مثلهُ؛
لكنّها ملساءْ
فلأغلقنَّ الباَبَ..ذَا سرْبٌ من الغزلانِ
جاءَ الآنَ يحرسُ نومها..وذواتُ أظلافٍ..
وكان الزيتُ ينفدُ في مصابيحِ الخيامِ
***
بجلودها تتظلّلُ الأشجارُ.. كان لها قبابٌ..وهي تحت بياضها المزرقِّ
مثل سحابة صيفيّةٍ،
وبمنجل الصوّان كان الشنفرى في سلّم الأحجار يبري قوسهُ ونِشابَهُ،
متواطئا والشمسَ أو هوَ يستظلُّ برأسِ أفعى حذوه؛
تتنفّسُ العينان فيها..النخلُ أبعدُ ما يكونُ..
ولا ظلالَ هنا لِيـَغـْذوهَا سواها في غبار الشمس، أو في قِرمز الصحراءْ
ـ هل أنت تنحتُ؟ قلْ
ـ أنا عربيّتي
ـ هل أنت تعني هذه الفصحى الحجرْ؟
ـ حجري الكريمُ.. ولي أنا إزميلهُ
وأقولُ: ما الصحراءُ؟
ـ ماءٌ دافقٌ
ويقولُ لي: لتعلّمنّكَ شمسُ هذا الصيف ما الصحراءْ
ولَـتَجْعَـلَنّكَ أنتَ نحّاتَ الهواءْ
***
جملٌ يغـذّ ُ السيرَ حتّى آخر الصحراءِ.. لا تعبٌ يَحيفُ.. ولا وَنًى
منهُ.. فيبركُ فجأةً.. بين الّرعاهْ
هلْ كان يلعبُ أم يموتُ؟
تُراهُ أدركَ أنّها طرَفُ الحياهْ؟
عيناهُ لونُ رمادها البنّيِ.. لونُ الموتِ
والماءُ الذي يخضرُّ فيهِ قد نفدْ
***
قُضبانُ برقٍ أمْ زجاجٌ ؟ أمْ ضبابٌ من رمالٍ؟ أمْ سِتارٌ أسدلتهُ الريحُ؟
قـلْ:
إذْ تمطرُ الصحراءُ يشتعلُ الجسدْ
مستوطنًا هذا الأبدْ
الرّملُ أسودُ مرّةً.. والّرملُ أصفرُ تارةً
والرّملُ أشهبُ مرّةً.. والّرملُ أخضرُ تارةً
ونُحِبُّ حدَّ الرقصِ: نحْلٌ صاخبٌ في ظلّه المعسولْ
برقٌ يرقُّ.. وضوؤهُ المبلولْ
بين الأصابع.. حيث
ليلُكَ لا يَـبِينُ ولا يُحَدْ
أقدامنا في الأرضِ تخبطُ... والقصيدةُ تحجبُ الشعرَ القصيدةُ تحجبُ الكلماتِ،
والصحراءُ عالمُنا الذي يحوي القبائلَ والشعوبَ،
ويحضنُ الغاباتِ والحيوانَ والأهْلونَ والأنهارَ والأرَضُونَ
ثورٌ قافزٌ.. من أيّ بيتٍ..أيّ قافيةٍ إذن؟
لكأنّهُ الثورُ المجنّحُ في مراعي نَينَوَى..
قطعانُ ثيرانٍ مرقّطة ِ الجلودِ.. قرونُها أنيابُ فيلٍ..خلفهُ.. وثبتْ
وللكثبانِ ،حيثُ الشمس في سمْتِ السماءْ
أثداءُ أبقارٍ.. وللصحراءِ لونُ رصاصها
***
صحراءُ في الصحراءِ؟ أمْ أسفنجةٌ رمليّةٌ؟ والأرضُ مثل النّهْـرْ
تجري عميقا في عروقِ الصّخْـرْ
***
هذا أنا شفةٌ تعضُّ على الغُبارِ بها وسِحْنَـتِيَ الرّمادُ ..الرّيحُ تطوي الرّمل
طَيَّ قُماشةٍ.. والبيتُ(أعني جيّدا بيت القصيدةِ) ليس أكثر من لقاء مسافرين ورُحّلٍ..
ولعلّني بيتٌ بها.. أو نصفُ بيتٍ يا أبي.
تأتي الجبال من البحار بديهةً صهباءَ مثل مسُوح رهبانٍ؛
ونحن على السفوح..سقوفنا سُعُفُ النخيلِ خضيدةً مجدولةً ،
وترابُها المجبولُ من عشبٍ وماءٍ.. مثلُنا..
سيجيء يومٌ نحن نكشف فيه رِخْوَ جذوعنا.
***
الأرضُ مثل البحر تُطعِمُنا وتأكلنا.. القصيدةُ فلْـكُ نوحٍ..
غير أنّ نبيّها الملاّحَ يا ابنَ العبدِ، لمْ يَقْـشِرْ بها وجهَ المياهِ
صبيحة الطوفانِ.. لم يبلغْ بها دلْمونَ إلاّ
وهي تغطسُ ثمّ تطفو ثمّ تغطسُ ثمّ تطفو.. الحوتُ
من موجٍ إلى موجٍ يُقاذِفها؛
ونحنُ مكدّسونَ هناكَ في صندوقها العوّامِ
لم يبلغْ بها دلمونًها
إلاّ وقد زال النهارُ بها.
وهذي خولةٌ جاءت من البحرينِ يا ابنَ العبدِ،في نشْلٍ كنشْل بناتها
كانتْ تُسائلُ في منازل بُرْقةٍ عن وشمِ ذكرى
والمنازلُ أُخْلِيَتْ لسواكُما
أو ربّما جاءتْ تسومُك أنت.. في الميناءْ
(أنتَ الغريب شبيهنا)
رندا وعاجا..صمْغ طلحٍ.. أو دُمى
سِبْتَ اليمانيِّ الذي أهديْــتَها يوما
وقرطاسَ الشآمي
***
إذْ تنتهي الصحراءُ نَـتَّركُ القوافلَ..ثمّ نَتّبعُ المراكبَ حيثُ كان البحر كالصحراء يسبقنا ويتبعنا..
ونحنُ نقول ما قلناهُ عنها..البحرُ يهدر في محارته.. يَغِنٌّ..البحرُ وحشٌ أخضر القدمينِ،
يُقعي عند مقهًى ساحليٍّ ها هنا في ليلِ إفريقيّةَ الخضراءْ
النورُ أكثر وحشة منّا ومن هذا الظلامِ..الظلُّ قطٌّ مغضبٌ..
متقوّسٌ في ركنه العاديِّ..ليلٌ حافلٌ بنهارهِ
والكأسُ تُملأُ ثمّ تُفرغُ..
( كان للأعشى اندفاعُ فراشةٍ ضوئيّةٍ.. والليلُ موسيقى تحلّقُ حوله..)
طيرٌ يمرُّ ووجهَ هذي الأرضِ.. بحرٌ ينحني متباعدا في جزرهِ.. طيرٌ قوادمهُ تكادُ ترفُّ فوقَ الماءِ..
رُبّـتَما انعطفنا والطريقَ إليهِ..رُبّـتما اختبأنا في تلافيف القصيدةِ..خلفَ تلٍّ.. واطئ.. أو نخلةٍ..نتلمّسُ الكلماتِ كالأعشى..
وفي أجراسها نمشي كما تمشي سحابتهُ..فلا ريْثٌ ولا عَجَلُ
واللّيلُ يطفئُ ظِلَّ مَنْ علّوا ومَنْ نهلُوا
***
في شرفة الليل المقابل.. ثمّ سيّدةٌ تمشّطُ شعرها
وكأنّها في قصّة"البيت الذي فوق الشجرْ"
الصّدرُ كان تُويجَ زهرة لَوتَسٍ.. والنورُ ماءٌ دافقٌ فيها..
ضجيجُ البحرِ أزرقُ..كنتُ أنظُمُ منهُ برْدَ سكونها وأقولُ: دوري يا كواكبُ.. يا نجومُ..بها.. ودُوري..
ثمَّ دُوري.. في ظلامي
***
لو أنّ لي بيتًا هنالك في الهواءِ معلّقًا
أو سلّمًا يقتادني صُعُدًا إلى أحلامها
وَلَوَ انَّ... !
***
خطٌّ من طيورِ البحرِ يقطعُ ليلهُ أمْ ندْفُ ثلجٍ؟
صوتُ سيّدةٍ (تُراها خولةٌ أخرى؟ )تقول:" حقيبةٌ جلديّةٌ تكفي.. وبنطالٌ رياضيٌّ.. وعند الضفّة الأخرى
سأولدُ..مرّة أخرى"
يَدٌ في حضن أخْراها تكادُ تنامُ.. والجسمُ المنقّطُ والمرقطُ ،من زبيبِ بناتِ إفريقيّةٍ صيفًا
ومن ريشُ النعامِ
***
ماذا إذنْ سنقولُ للكلماتِ إذْ نمشي بها.. الكلماتِ إذْ تمشي بنا
مشيَ السحابةِ وهْيَ تسألُ عن صغيرِ بذورِها؟
لغةٌ تسيلُ على هوانا أمْ هواها..هذه الفصحى الحجرْ؟
لغةٌ تقولُ بنا ونحنُ بها نقولُ.. البحرُ كالصّحراءِ
سورٌ شاهق حينا ومنخفضٌ كهذا الظلّ حينا
أذكرُ الدّيدان ترعى رمّةً (جملٌ تفسّخَ)..قلتُ.. مثل النخلِ،من صلصالِ آدمَ كانَ؛فهو دمي ولحمي
أذكرُالغربانَ تنهشهُ.. تحوّمُ فوقهُ
والسهلُ في شمس الصباح يطيرُ.. والواحاتُ حفنةُ خضرةٍ ألقى بها مطرٌ شحيحٌ
ما الذي سنقولُ للكلماتِ؟
والكلماتُ كالدّيدانِ تنغلُ في العظامِ
***
عمرو بن كلثومٍ غَفَا..في حانة في باب توما..ربّما
وحصانهُ في قَاصَرِينَا
لمْ يزلْ من ألف عامٍ ينتظرْ
***
لكأنّنا أسلافُنا الآتونَ
نولدُ في زمانٍ لولبيٍّ ..هكذا حكماءَ مكتهلينَ.. في الستّينَ
في أشعارهمْ نمشي
ونصغَرُ.. ثمّ نصغَرُ كلّ يومٍ.. أيّها الأبناءْ
ونكونُ أشبهَ ما نكونُ بحبّة ِ القمحِ الصغيرهْ
ونكونُ أشبهَ ما نكونُ بحصْوةِ الملحِ الصغيرهْ
ويجيءُ يومٌ لن نكونَ به
فلا خوفٌ ولا قلقٌ.. لكلِّ هنيهةٍ أبديّةٌ.. لكنْ
سيبقى بعضُ عطرٍ من شميمِ عَرارِ نجدٍ
شاردًا.. بعد العشيّةِ..في مضاربكمْ
ورائحةٌ تحلّقُ فوقكمْ.. بيضاءْ