إدريس على بابكر - الرسم لا يعرف شهادة الزور.. قصة قصيرة

فقد عقله بسبب عشقه الخرافي لانسة تخلت عنه في منتصف الأحلام، كان وفيآ لها خذلته فامتطي صهوة الجنون يجوب الشوارع و الأسواق و محطات المسافرين، وجه مألوف لدى الجميع يجيد الرسم على الجدران و الأوراق، ليعبر عن حزنه المكبوت بلوحات زاهية تعبر مشاوير الخيال البعيدة، بعد الرسم يضع ريشته جانبآ يصرخ و يضرب يده كف بكف ثم يطلق ضحكة هسترية تايهة يردد أسم محبوبته الخاينة ليلي.
قائلاً : ليلي يا ليلى ريدك جمرة حية؟
يرمي عليها كل العتاب و اللوم يصمت لثواني ثم يضع يده على رأسه و يجهش بالبكاء حضرة الافندي عطوف لهذا الشاب لدرجة الشفقة، حالته يرثى لها يلعن الحب و الظروف و تبآ للحبيبة التي تركته وحيدآ تايه تلتهمه قسوة الأيام.
الافندي لا يملك حل و لا سحرآ لينشله من واقعه المازؤم، و لكن يقدم له بعض المساعدات الإنسانية يعطيه ملابس قديمة ليستبدل ثيابه المهترئ، و أحيانآ يجلب له بعض الطعام و المياه المعدنية و لكن عندما يحاول أن يعطيه بعض المال، يرفضه المجنون بشدة و يظهر غضبه و استنكاره لهذا الفعل.
قائلاً : لو انت صاحبي بالجد الفصول البايخة دي خليها.
للافندي قصة حب أخرى مشابهة لقصة هذا الفتى المجنون، أحب فتاة جميلة من زمن مضى كان متيم بها خلعت دبلة الخطوبة جاهرا قذفتها في وجه بكل إهانة، ثم قالت : البينا إنتهى و الجواي كمل خلاص؟
حاول استنطاقها ليعرف سبب الخلاف العابر بينهما لكنها اؤصدت كل أبواب العشم، مضت في حال سبيلها و تركته يعضي بنان الندم، صارت النهاية الحزينة لعز لم يستطيع أن يفك شفراتها فشل بجميع المعادلات و اللوغرثيمات، أدرك الحب لا علاقة له بالمسائل الرياضية، هو شعور إنساني مثل الغيمة قد تهطل هنا أو تسوقه الرياح و تهطل في بستان آخر.
حبيبة من ذاكرة الزمان اجهضت أحلام الافندية، تركته غارقآ في أحزانه تلطمه أمواج الخيبة و الخزلان، غادر البلد مكرهآ لم يعود إليه إلا بعد عشرة سنوات.
من ذاق طعم الصدمات و طعن غدر العشق يرق قلبه إلى كل عاشق مهزوم أو مجنون، يعرف قيمة الحب و الدموع، الصدفة وحدها كشفت له أبواب و عوالم هذا الرسام الفريد المشبع بالجمال، الإستماع إليه دهشة و الحوار معه متعة و لذة، يهدم كل الكآبة و يكسر الملل ليمنح الروح نشوة و ارتياح، كل لقاء معه يعني قرأءة رسم جديد بفكر أعمق حروفه الأنيقة يتدفق منه حديث عذب بطعم الشهد،
في هذه البلاد الخوف من الماضي و الحاضر تسد أفق الأمل ما أظلم الليل إلا نامت المدينة بلا أحلام، الشروق لا تعني الأمل بل الحضور في طوابير الرتابة، مسارات الضئ الضئيلة التي تصدر من المبدعين تغسل وجه المدينة الحزينة ليذوب الجمود في نهر الرجاء، حذروه الآخرين ربما يكون هذا الرسام المجنون مخبر سري، لكن الافندي على يقين و ثقة أن العنف و الجمال خطان لا يلتقيان، مهما تواضع الفن لا يخرج منه إلا الالق و البهاء، انسان فنان مرهف مسكون بالإبداع كلما وقف الافندي على حواف هذا الإبداع، سري في روحه الاطمئنان و الأمان.
أخبر زوجته عن عشقه لمجنون في وسط المدينة بريشته البديعة، يصنع منها سحر دفاق يرسم على الحيطان و الأوراق صور و خطوط مدهشة و عميقة، نصحته أن يبتعد من عالم المجانين هم مهما يقدموا لنا من دهشة و سرور، أفعالهم لا أمان لها إبداعاتهم انعكاسات لعالمهم المهزوز المضطرب، الأسرار الخفية التي تظهر في فنونهم نابعة من صدمات مجهولة ربما ينقلب سحره إلى أذية، يغير مجرى شريان الدماء أو يدفعه قوة غير مرئية لحصد روح عزيزة في غفلة من الزمن، لذا طلبت منه الانسحاب من حياته و يلتفت إلى عمله و حياته وسط الناس العاديين.
المشغولين بهموم الحياة البسيطة،
حديثها عنده لم يجد الانصياع لا يعرف سببآ واحدآ لماذا معظم النساء يكرهن عالم المجانين بلا سبب ؟. هل نابع من خوفهن ام انعكاسات الماضي لغدرهن بعشق الرجال المجانين.
صديقه المجنون يرسم بريشته الملهمة على الجدار ألوان متداخلة، إعلان عن حالة مخاض يوحي في ظاهرها الجمال و الخوف و الهزيمة في باطنها، مثل صرخة طفل حديث الولادة.
الافندي يقف خلفه عندما بدأ يرسم لوحته الزاهية، تبدو إنها لشابة من شعرها القصير بتسريحتها المميزة، الريشة تتحرك بخفة و رشاقة بلا عثرات الرسم يضئ شيئآ فشيئاً، بدآت الصورة شبيهة لكونزاليزا رايس حينما اقتربت ملامح الصورة الحقيقية، رفع حضرة الافندي حاجب الدهشة الصورة أصدق اللغات لا تعرف شهادة الزور في كتب التاريخ، اذنان كأن سمعت منه الحانآ شجية، خدود ندية كأنها طبعت فيها قبلته السكري، و عيون عدت عبرها الآمال، عندما إنتهى الرسام المجنون من رسم الشفتين ثم أضافة لها لمساته الجمالية أضاءت الصورة اشراقآ و بهاء، أنها زوجة الافندي ليلي.
تحدث الرسام انها الجانب المظلم من حياته، ثم إشارة إلى اللوحة حزينآ أنها خاينة و كذابة تخلت عنه في منتصف الأحلام، أدرك حضرة الافندي الجانب المظلم من حياة الرسام هو الجانب المشرق في حياته، هي زوجته التي اختارتها أمه و هو في عالم الاغتراب ريشة رسام عرت الحقيقة بلا تزيف، انسحب الافندي بصمت لم يخبر الرسام عن حاضره كان هذا اخر لقاء بينهما، لم يجذبه الهام آخر إلى عالم فنونه، لم يخبر شريكة حياته عن ماضيها.
كل ما تشرق شمس الصباح تطارده كوابيس الماضي في اغنية فنان أو مقطع شعر أو في شتئ ضروب الفنون، قد يكون الحاضر جميلآ و لكن الماضي لا يحترق سيبقى بكل تفاصيله.
(تمت)
إدريس على بابكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...