وجدت الحياة ووجـد الإنسان من أجل أن يتصارعـا صراعا فيه وحـدة وانسجام وتآلف، حتى لا يكون هناك على الأرض غالب أو مغلوب، لان معنـى الحياة أن يوجـد إنسان يتنفس هواء الحريـة لينتصر على نفسه وعلى الجهل والكراهيـة والحقد والغضب، وهي أعـداء الإنسان الأولى، ومعنـى أن تقوم على الأرض حيـاة حرة موفورة الكرامـة، تمنح للإنسان حقـه في الإيمـان والإرادة والاختبار والطمـوح، وتتيح له فرصـة التطور والارتقـاء إلى ما هـو أفضل له ولنوعـه وللحياة جميعا، ولا معنى لحيـاة بلا صراع شريف، ولا معنى للإنسان بلا إرادة مؤمنـة مبدعـة.
وبعد ملايين السنين من الوجـود ، ما تنفك الحيـاة نصيرا وظهيرا للإنسان المؤمـن الخلاق لكي ينجـز حلمه ويحقق إرادتـه، وما فتئ الإنسـان متعطشا إلى الحياة ومتمسكا بأنفاسها، ولو شابتهـا الآلام والمـرارة وخيبة الأمـل، فالأمـل أقوى وفسحته أوسـع، وكلمـا انتصر الإنسان وانتصرت معه أفكـاره وأحلامـه ورؤاه، ازدادت الحيـاة بهجة وزهـوا، وتعاظـم فخـر الإنسان وإقبالـه على مزيـد من التحدي والثبات.
فالحيـاة إذا ميدان مفتوح لصراع التصورات والأحـلام والهواجـس، والكوابين البشريـة، وحلية واسعـة يتقاتـل فيها النبل والمروءة والقذارة والسمو والفضائـل والرذائل، ومن خـلال هذا الصراع والتقاتـل تكبر نفس الإنسان أو تنحدر إلى التحضيض بحسب قدرتها على تمثـل الجيد والطيب من المبادئ والأفكـار، ولأن طبيعـة الأشياء ترفض أن يكون هناك سكـون وسكوت في العلاقات الإنسانيـة وتفاعلهـا وتصادمها، ولأن طبيعـة الأمور والقضايا تأبـى أن يقف الفكـر الإنسـاني موقفا ميتـا جامـدا لا اثر للحيـاة فيه، فإن الصراع والصـدام ، حتى فيما بين أدنـى الكائنـات، ضروريان والأزمان لكي لا تتعطل قدرة الكائـن على التقدم والترقي، ولكـي لا تشمل طاقـته الروحيـة والمعنويـة على التغيير الذي هـو حتمية مرتبطـة بالإنسان وبالحياة وبالوجـود معا.
ومما يتنافى ويتناقـض مـع وجود الفكر ووجـود الإنسان ووجـود الحياة في وحـدة متنافسـة متآلفة، أن نتصور قيم الفكـر والإنسان والحيـاة والوجـود قيمـا مجردة من الترابط والتلاحـم فيما بينها، أي قيمـا مبنية على هويـة ذاتية فارغـة من أي محور أو معنى يربطهـا بالحاضر وبالماضـي وبالمستقبـل، وبالمكان الذي تتكيف فيه على نحـو خاص ومعين، وبالقدرة على النمـو، والنضج والاكتمال والانحلال.
والفكـر في جميع أحوله وظروف نشأته ورقيـه، لا ينبت من فـراغ، ولا يأتي من اللاشيء الذي هـو العدم، وإنمـا هو إنتاج علاقـات واجتهادات روحيـة واجتماعيـة واقتصاديـة وعمرانية وثقافيـة متنوعـة ومترابطـة ومتشعبـة، وهو وليد وعى بالذات والتاريـخ والواقع والآخرين، أي أنه أشبه ما يكـون بكائن يمتص من كل هذه الأوعية والقنوات جرعـة ملائمة ـ في الزمان والمكان ـ يتمثلها ثم يفرزهـا لنا أفكارا ونظريـات علمية منسقة، أو رؤى وأحلامـا يبدو عليها من خارج التنافـر وعـدم الانسجام، ولكنها من داخـل متحدة منسجمة، كأكمـل ما يكـون التوحيد والانسجام.
ولربمـا كان من البديهي أن تلك العلاقـات هي التي تفرض ـ إلا في حالات خاصة ـ على الإنسان نوعية محددة من الأفكـار والتصورات التي تتحول، بعـد أن تخوض معركـة الحياة والبقاء والوجـود، إلى سلوك معين، ثم إلى تقاليـد ثابتة الجـذور في الأرض، وربمـا انتهت إلى أن تأخـذ شكل حقوق حاضـرة الوجـود لا تناقش ولا يجـادل فيها وفي أصولهـا وفروعها وأدواتها وغـاياتها.. ولكن تلك الأفكـار والتصورات سرعان ما تفقـد مع مرور الوقت صلاحيتها للنـاس وقيمتها في وجدانهـم العام، ليولـد من باطنها واقع جديد وعلاقـات أخرى، أفكـار وتصورات وتقاليـد وحقوق أخرى توافـق حياة الناس وأمزجته وأذواقهـم، ولكنها ليست أفكارا وحقوقا ثابتـة، بمعنى أنها سوف تتفاعـل من جديد وسوف تتصارع وتتقاتل ليولد منها ما يتمشـى مع الحياة والأمـزجة والأذواق المستجدة للناس.
ومن هنــا، فإننا لا نقع في الخطأ حينمـا نقول إن هناك في حياة الأمة فكرا قديما وفكرا جديدا، ولكـن يجب التعامـل مع هـذه الحقيقة ـ وهي تكاد تكـون مسلمة لا تقبل النقاش ـ من حيث تطورها هي نفسها، أي من خلال خضوع هـذه الحقيقة نفسها لنفس ما تخضع له الحقائـق الأخرى، كذلك لا يجب أن نقبـل بهذه الفرضية وكأنها حكم نهائي لا يقبل الاستناف، وإنمـا الصواب أن نقول أن الفكـر«القديم» للأمة هو ذلك الوعـاء الذي تتمثل فيه قيـم الأمة ومبادئها وتصوراتها وحقوقهـا وواجباتها التي لا تتغير مع تغيـر الزمن، ولا تتقلـب بنفس السرعـة التي يتقلب بها.
فالحريـة والكرامـة والشرف والحق والنبـل والفضيلة وسوى ذلك مما يؤمـن به الإنسان ويعمل من أجله ويسعى إلى تحقيقه، خـط مستقيم قويم في حيـاة الأفراد والجماعات، وهـذا الخط لا ينحرف ولا ينحرف بداع من الدواعـي الطارئـة التي تفرضهـا أساليب وأنمـاط الحياة اليومية للأفراد والجماعات. فإذا طـرأ عليه نصيب قليل أو كثيـر من الانحراف والتحريف، خرج الخط عن استقامتـه وأصبحت الأهداف والمبادئ الثابتـة ذات شأن آخـر في الحياة البشرية، فالسلام على سبيل المثال، لا يعني شيئـا آخر غير السلام، صحيح أن اصطناع الأدوات المؤديـة إليه وتعديـل السبل والمناهج المفضية إليه، قد يختلفان من نمـط تكفيري معيـن إلى نمط آخر بحسب القدرة على الابتكـار والاجتهاد لاختصار الطريـق إلى الغايـة المرسومة، إلا أن النقطة النهائيـة في الخـط تظل محتفظـة برسوخها وأصالتها مهما تعددت السبل وتنوعت الوسائل واختلفت المناهج.
أما الفكـر «الجديد» ، فهـو ما يولد من البيئـة الروحية والثقافيـة والعمرانية للإنسان، وينبثق مـن تفاعـل وصـدام العلاقات والتقاليـد البشريـة، ويصدر عن رغبـة الإنسان في التطـور وإيمانه بالأفضـل وثقته في المستقبل، من غيـر أن يلحق المبادئ الأساسية مساس بأصالتها وعمقهـا وقوة تعبيرهـا عن روح الجماعـة وضميرها العام.
إن الفكر الذي يتمخـض عن البيئة البشريـة وعن عناصرهـا الأولى، التي تشكلها وتكونها، ليس في حقيقـة الأمر سوى المحرك الرئيسي الذي يديـر ويسوس مختلف جوانب الحياة الإنسانية، وما عـداه ، فروع من الأصل، تستمـد منه حجمها وثقلهـا ووزنها وقيمتهـا في حياة الإنسان، وفي سعيه الدائـم إلى التطور والتقدم ونشدان مدارج السمـو والارتقاء بهذه الحيـاة وبهذا الإنسان.
وأن الأمم الواعيـة بجسامـة وخطورة المسؤوليـة التاريخية والأخلاقية والحضاريـة والإنسانية الملقاة على عاتقها، في أي ظـرف من الظروف ومهما كانت أشكـال وضروب التحديـات والمخاطر التي تحـدق بها والتي تتعبأ بكل قواهـا لتجاوزها وتذليلهـا، لتدرك جيـدا أن اليقظـة الفكرية، وتوقد العقـل الفعال والمتطور، هما دعامتـا التطور، والارتقاء، وبدونهمـا لا يمكن إقامة أي بناء سليـم القواعـد والأسس، ولا يمكـن للأمـة بدونهما أن تنهض نهوضـا سليمـا وقويما يستند إلى جـذور ضاربة في العمق والجوهـر.
وأمتنا العربية في ظروفهـا المعقدة الراهنـة، تخوض صراعا حـادا ومعركـة مريرة وشاقـة ضد أعدائها الذين هـم في الداخـل وضد أعدائها الذين هم في الخـارج، فهي تحارب إذا في جبهات مختلفة ندعوهـا بالاصطلاح المعاصـر بالجبهات السياسية والعسكريـة والاجتماعيـة والاقتصاديـة والثقافية والعقائدية وغيرها.
وحينمـا نريد أن نعبر عن صراع الأمة ومعركتهـا في الجانب الاجتماعي مثلا، فإننا نقـول أنها تخوض صراعا اجتماعيا بحتـا ، أي صراعا ذا طابـع اجتماعي خـاص، له وسائلـه وأدواته، وله أهدافه مراميه، وله خططـه وبرامجه، وله ملامحـه ومظاهـره، وله كذلك سلاحـه وعتاده، فالصراع الاجتماعي من هـذا المنظور يقتصر ـ حتى في تعدد وتنـوع جوانبه وجهاته ـ على ضمـان الوسائل والأدوات التي تكفـل استمرار الحيـاة الاجتماعية للنـاس في ظروف حسنة، لا عوائـق فيها ولا تخلخل ولا اضطراب.
وحينما ننظـر إلـى الصراع الاجتماعي من هـذا الجانب، فإننا نحصـر مشاكله وقضاياه في نطـاق ضيق الحدود من الوجهـة الفكرية والحضارية معها، وهو نطاق يدل دلالـة واضحة وعميقة على أننا إنمـا رأينا ظاهـر المشكل ولم ننفذ إلى عمقه ولبه، وإننـا لم نعط للفكر ـ في هـذا الصراع المخيف ـ قيمته الجوهرية التي يستحقهـا في معركتنا الشاملة، وإننا ـ أخيرا ـ آثرنـا أن نعالج ظاهـرة شكلية واحدة من ظواهـر هذه المعركة الشاملة التي تعد الأساس والقاعـدة.
إن التاريخ الإنساني ـ بجميع أطواره ومراحله ـ يعلمنـا فيما يعلم، أن التحولات والتغيرات الجذرية فيه لـم تأت عن طريق المصادفـة، ولم تأت عن طريق الحرب والمواجهـة العسكرية ومعاركها فيها، وإنمـا جاءت أساسا نتيجة لصراع فكري ظاهـر أو خفي بين مبدأ وآخـر، وبين عقيدة وأخرى، أي بين فكـرة معينة كانت تبحث عن ذاتهـا ووجودها وتدافـع بكل الوسائل المتاحـة لها عن هويتها الجديدة، وفكـرة أخرى سائـدة تحاول أن تدرأ عن نفسها الخطـر الملحق الذي يتهدد وجودهـا وكيانها.
وفي ظل تحـول الأفكار والتصورات، فإن الصراع الحضاري لا يتجمـد في قالب معين، وإنمـا يأخـذ أشكالا سياسية، واقتصاديـة واجتماعيـة وعمرانية وثقافيـة وغير ذلك، بحكم أن الفكـر الإنساني ليس عملية تجريدية، لا يكمـن مجالها الحيوي إلا في نطاق العقل والذهـن والتفكير فقط، بل هـو انعكاس طبيعي وحتمـي لظروف وعلاقـات وتفاعلات يقيمها الإنسان باختياره أو باضطراره مع ذاتـه ومع المجتمع والحيـاة والكون والطبيعـة والوجـود جميعا.
فالصورة الأصلية لذلك الصراع، أي الوجـه الحقيقي له، لا يتمثـل إلا في صورة الفكر نفسه في صراعـه وصامه وتفاعلـه واحتكاكـه، وصورته في تحولـه، وتجدده وانتقالـه من طور راق إلى طـور أكثر رقيـا، أو من طور منحـط إلى طور أكثر منه انحطاطا.
أمـا الأشكـال والأنماط الباقية للصراع، فليست سوى ظلال وألـوان، وخطوط تتقارب أو تتباعـد حسب حـدة الصراع أو خفوته، فالصـورة الحقيقية للصراع إذا، هـي صورة الفكر، ولا شيء آخـر سوى الفكر.
لقـد تصدى الإسـلام في أول عهده لإمبراطوريـتين عظيمتين كانتا تقتسمـان العالم المعـروف آنذاك وهمـا الإمبراطورية الفارسيـة والإمبراطورية الرومانية. فمن أية جبهـة تصدى الإسلام لهمـا حتى اكتسح الحدود الشاسعـة وبلغ إلى المناطـق النائية والأرجاء الفسيحة التي لـم تكن معروفة لا بالنسبة للرومـان ولا بالنسبة للفرس؟.
إن الدولة الإسلامية الجديدة ، بمـا تأسست عليه من مبـادئ قويمـة وتعاليم سليمة، مستمـدة من القرآن الكريم والسنـة الشريفـة وللرسـول الأعظـم محمد صلى الله عليه وسلم، لم تحـارب الإمبراطوريتين العظيمتين من جبهـة غير جبهة الفكر الجديد الـذي جاءت به العقيـدة الإسلاميـة، أي أنها في تصديهـا وفتوحاتها وغزواتهـا ضد الفرس والرومان، طرحت أمام المجتمع القديم المتهالك بديلا جديــدا يتمثل في المجتمع الإسلامي المبني على الفكر التوحيدي.
ولم يكن بوسـع الفاتحيـن العرب في مشـارق الأرض ومغاربها أن يقتحموا الأسـوار ويدخلوا المـدن من أبوابها الواسعـة، أو لـم يكونوا مزوديـن بفكر جديد ينظم الحيـاة البشرية ويحكم العلاقات الإنسانية التي تنمي وتغذي حس الحضـارة والتمدن في ضمير الإنسان، فكـر عام وشامل يمس حيـاة الفرد وحياة المجتمع ويطورهمـا تطويرا راقيا وساميـا من خـلال القواعـد والأصول والسلـوك والتقاليد الروحيـة والمادية المثلى.
وكذلك الشـأن بالنسبة للحضارة الأوربيـة الحديثة والمعاصرة التي ارتأت لإرساء قواعـد نهضتهـا أن تخوض معركة فكرية شاملـة ضد الجمود والسكـون اللذين كانا يجثمـان عليها نتيجـة للظـلام الفكري الذي كان يسود أوروبـا قبل نهضتها.
وحينما بدأ دبيب الحضـارة الحديثة يدب في شراييـن الجسم العربي والإسلامي في القـرن الثامـن عشر، كانت المعركـة الأساسية التي اقتحمتها الأمـة العربية والإسلاميـة هي معركـة الفكـر والتحرر العقلي والتنويـر الذهني، بعد ما ران عليهـا ظل الجمـود والركود في الاجتهـاد والابتكـار، ولم يكن ليتاح للاستعمار الأوروبي أن تطأ أقدامـه الأرض العربية والإسلاميـة لو لم يصـادف في نفوس أهاليهـا وسكانها، خمولا في التفكير وشللا في الوعـي وانحطاطا في قدرة الإنسان العربي والمسلـم على الاجتهاد وإتباع خطى العلم والحريـة الفكرية التي دعـا إليها الإسلام وحث المسلمين كافة على ضرورة التطويـر والتجدد، ووجـوب التفكير المتحرك مـن قيود العبودية الماديـة والمعنويـة التي لا تصح ولا تجـوز في التصور الإسلامي للنهضـة والرقي إلا للخالـق البارئ عز وجـل.
وبعد، فإن معركتنـا الحضارية الراهنـة التي تخوضها من أجـل التقدم والارتقاء في كـل حقل من حقـول حياتنا، هـي معركـة فكرية قبل أن تكون معركـة سياسيـة أو اقتصاديـة أو اجتماعية أو ما شئت مـن الأسمـاء والاصطلاحـات الشائعـة، وانتصارنـا في هـذه المعركـة المصيريـة، رهيـن بمـا نوفره للفكر من حريـة وانطلاق وتجديد، ورهيـن بما نضمنه للفكـر من سيـادة وقوة وأصالـة ووضوح.
إلا أن ذلك، لا ينبغي أن يعني إهمـال أو إغفال الجوانب الأخرى من المعركـة، ولكن يعني بالدرجـة الأولى أن نطلق للفكـر عنانـه حتى يتحرر العقل العربـي والإسلامي من القيـود والأغلال الدخيلـة والمفتعلـة التي ألصقهـا به الاستعمار والتبعيـة لمظاهـر تقدمـه المادي الزائـف، والتي تشل وتعطـل قدرته على استلهام العقيـدة ومنابعها الصافيـة، وعلى العـودة المتطورة ـ إذا صح التعبير ـ إلى أصالة الأمة ومصـادر نهضتها الأولـى، وبعـد ذلك، نستطيع أن نضمـن النجاح والفوز في معاركنـا الأخرى الباقية، باعتبارهـا معارك جانبيـة موضوعـة على هامش المعركـة الأصلية، وهـي معركة الفكر، فتحرر الإنسان وتقدمـه وانطلاقه إلى مواقـع الرسالة المطوق به ، يبدأ من الفكـر ومن العقل ولا يبدأ من شيء آخـر.
أحمد تسوكي
العدد 231 ذو الحجة-محرم 1403-1404/ شتنبر-أكتوبر 1983
www.habous.gov.ma
وبعد ملايين السنين من الوجـود ، ما تنفك الحيـاة نصيرا وظهيرا للإنسان المؤمـن الخلاق لكي ينجـز حلمه ويحقق إرادتـه، وما فتئ الإنسـان متعطشا إلى الحياة ومتمسكا بأنفاسها، ولو شابتهـا الآلام والمـرارة وخيبة الأمـل، فالأمـل أقوى وفسحته أوسـع، وكلمـا انتصر الإنسان وانتصرت معه أفكـاره وأحلامـه ورؤاه، ازدادت الحيـاة بهجة وزهـوا، وتعاظـم فخـر الإنسان وإقبالـه على مزيـد من التحدي والثبات.
فالحيـاة إذا ميدان مفتوح لصراع التصورات والأحـلام والهواجـس، والكوابين البشريـة، وحلية واسعـة يتقاتـل فيها النبل والمروءة والقذارة والسمو والفضائـل والرذائل، ومن خـلال هذا الصراع والتقاتـل تكبر نفس الإنسان أو تنحدر إلى التحضيض بحسب قدرتها على تمثـل الجيد والطيب من المبادئ والأفكـار، ولأن طبيعـة الأشياء ترفض أن يكون هناك سكـون وسكوت في العلاقات الإنسانيـة وتفاعلهـا وتصادمها، ولأن طبيعـة الأمور والقضايا تأبـى أن يقف الفكـر الإنسـاني موقفا ميتـا جامـدا لا اثر للحيـاة فيه، فإن الصراع والصـدام ، حتى فيما بين أدنـى الكائنـات، ضروريان والأزمان لكي لا تتعطل قدرة الكائـن على التقدم والترقي، ولكـي لا تشمل طاقـته الروحيـة والمعنويـة على التغيير الذي هـو حتمية مرتبطـة بالإنسان وبالحياة وبالوجـود معا.
ومما يتنافى ويتناقـض مـع وجود الفكر ووجـود الإنسان ووجـود الحياة في وحـدة متنافسـة متآلفة، أن نتصور قيم الفكـر والإنسان والحيـاة والوجـود قيمـا مجردة من الترابط والتلاحـم فيما بينها، أي قيمـا مبنية على هويـة ذاتية فارغـة من أي محور أو معنى يربطهـا بالحاضر وبالماضـي وبالمستقبـل، وبالمكان الذي تتكيف فيه على نحـو خاص ومعين، وبالقدرة على النمـو، والنضج والاكتمال والانحلال.
والفكـر في جميع أحوله وظروف نشأته ورقيـه، لا ينبت من فـراغ، ولا يأتي من اللاشيء الذي هـو العدم، وإنمـا هو إنتاج علاقـات واجتهادات روحيـة واجتماعيـة واقتصاديـة وعمرانية وثقافيـة متنوعـة ومترابطـة ومتشعبـة، وهو وليد وعى بالذات والتاريـخ والواقع والآخرين، أي أنه أشبه ما يكـون بكائن يمتص من كل هذه الأوعية والقنوات جرعـة ملائمة ـ في الزمان والمكان ـ يتمثلها ثم يفرزهـا لنا أفكارا ونظريـات علمية منسقة، أو رؤى وأحلامـا يبدو عليها من خارج التنافـر وعـدم الانسجام، ولكنها من داخـل متحدة منسجمة، كأكمـل ما يكـون التوحيد والانسجام.
ولربمـا كان من البديهي أن تلك العلاقـات هي التي تفرض ـ إلا في حالات خاصة ـ على الإنسان نوعية محددة من الأفكـار والتصورات التي تتحول، بعـد أن تخوض معركـة الحياة والبقاء والوجـود، إلى سلوك معين، ثم إلى تقاليـد ثابتة الجـذور في الأرض، وربمـا انتهت إلى أن تأخـذ شكل حقوق حاضـرة الوجـود لا تناقش ولا يجـادل فيها وفي أصولهـا وفروعها وأدواتها وغـاياتها.. ولكن تلك الأفكـار والتصورات سرعان ما تفقـد مع مرور الوقت صلاحيتها للنـاس وقيمتها في وجدانهـم العام، ليولـد من باطنها واقع جديد وعلاقـات أخرى، أفكـار وتصورات وتقاليـد وحقوق أخرى توافـق حياة الناس وأمزجته وأذواقهـم، ولكنها ليست أفكارا وحقوقا ثابتـة، بمعنى أنها سوف تتفاعـل من جديد وسوف تتصارع وتتقاتل ليولد منها ما يتمشـى مع الحياة والأمـزجة والأذواق المستجدة للناس.
ومن هنــا، فإننا لا نقع في الخطأ حينمـا نقول إن هناك في حياة الأمة فكرا قديما وفكرا جديدا، ولكـن يجب التعامـل مع هـذه الحقيقة ـ وهي تكاد تكـون مسلمة لا تقبل النقاش ـ من حيث تطورها هي نفسها، أي من خلال خضوع هـذه الحقيقة نفسها لنفس ما تخضع له الحقائـق الأخرى، كذلك لا يجب أن نقبـل بهذه الفرضية وكأنها حكم نهائي لا يقبل الاستناف، وإنمـا الصواب أن نقول أن الفكـر«القديم» للأمة هو ذلك الوعـاء الذي تتمثل فيه قيـم الأمة ومبادئها وتصوراتها وحقوقهـا وواجباتها التي لا تتغير مع تغيـر الزمن، ولا تتقلـب بنفس السرعـة التي يتقلب بها.
فالحريـة والكرامـة والشرف والحق والنبـل والفضيلة وسوى ذلك مما يؤمـن به الإنسان ويعمل من أجله ويسعى إلى تحقيقه، خـط مستقيم قويم في حيـاة الأفراد والجماعات، وهـذا الخط لا ينحرف ولا ينحرف بداع من الدواعـي الطارئـة التي تفرضهـا أساليب وأنمـاط الحياة اليومية للأفراد والجماعات. فإذا طـرأ عليه نصيب قليل أو كثيـر من الانحراف والتحريف، خرج الخط عن استقامتـه وأصبحت الأهداف والمبادئ الثابتـة ذات شأن آخـر في الحياة البشرية، فالسلام على سبيل المثال، لا يعني شيئـا آخر غير السلام، صحيح أن اصطناع الأدوات المؤديـة إليه وتعديـل السبل والمناهج المفضية إليه، قد يختلفان من نمـط تكفيري معيـن إلى نمط آخر بحسب القدرة على الابتكـار والاجتهاد لاختصار الطريـق إلى الغايـة المرسومة، إلا أن النقطة النهائيـة في الخـط تظل محتفظـة برسوخها وأصالتها مهما تعددت السبل وتنوعت الوسائل واختلفت المناهج.
أما الفكـر «الجديد» ، فهـو ما يولد من البيئـة الروحية والثقافيـة والعمرانية للإنسان، وينبثق مـن تفاعـل وصـدام العلاقات والتقاليـد البشريـة، ويصدر عن رغبـة الإنسان في التطـور وإيمانه بالأفضـل وثقته في المستقبل، من غيـر أن يلحق المبادئ الأساسية مساس بأصالتها وعمقهـا وقوة تعبيرهـا عن روح الجماعـة وضميرها العام.
إن الفكر الذي يتمخـض عن البيئة البشريـة وعن عناصرهـا الأولى، التي تشكلها وتكونها، ليس في حقيقـة الأمر سوى المحرك الرئيسي الذي يديـر ويسوس مختلف جوانب الحياة الإنسانية، وما عـداه ، فروع من الأصل، تستمـد منه حجمها وثقلهـا ووزنها وقيمتهـا في حياة الإنسان، وفي سعيه الدائـم إلى التطور والتقدم ونشدان مدارج السمـو والارتقاء بهذه الحيـاة وبهذا الإنسان.
وأن الأمم الواعيـة بجسامـة وخطورة المسؤوليـة التاريخية والأخلاقية والحضاريـة والإنسانية الملقاة على عاتقها، في أي ظـرف من الظروف ومهما كانت أشكـال وضروب التحديـات والمخاطر التي تحـدق بها والتي تتعبأ بكل قواهـا لتجاوزها وتذليلهـا، لتدرك جيـدا أن اليقظـة الفكرية، وتوقد العقـل الفعال والمتطور، هما دعامتـا التطور، والارتقاء، وبدونهمـا لا يمكن إقامة أي بناء سليـم القواعـد والأسس، ولا يمكـن للأمـة بدونهما أن تنهض نهوضـا سليمـا وقويما يستند إلى جـذور ضاربة في العمق والجوهـر.
وأمتنا العربية في ظروفهـا المعقدة الراهنـة، تخوض صراعا حـادا ومعركـة مريرة وشاقـة ضد أعدائها الذين هـم في الداخـل وضد أعدائها الذين هم في الخـارج، فهي تحارب إذا في جبهات مختلفة ندعوهـا بالاصطلاح المعاصـر بالجبهات السياسية والعسكريـة والاجتماعيـة والاقتصاديـة والثقافية والعقائدية وغيرها.
وحينمـا نريد أن نعبر عن صراع الأمة ومعركتهـا في الجانب الاجتماعي مثلا، فإننا نقـول أنها تخوض صراعا اجتماعيا بحتـا ، أي صراعا ذا طابـع اجتماعي خـاص، له وسائلـه وأدواته، وله أهدافه مراميه، وله خططـه وبرامجه، وله ملامحـه ومظاهـره، وله كذلك سلاحـه وعتاده، فالصراع الاجتماعي من هـذا المنظور يقتصر ـ حتى في تعدد وتنـوع جوانبه وجهاته ـ على ضمـان الوسائل والأدوات التي تكفـل استمرار الحيـاة الاجتماعية للنـاس في ظروف حسنة، لا عوائـق فيها ولا تخلخل ولا اضطراب.
وحينما ننظـر إلـى الصراع الاجتماعي من هـذا الجانب، فإننا نحصـر مشاكله وقضاياه في نطـاق ضيق الحدود من الوجهـة الفكرية والحضارية معها، وهو نطاق يدل دلالـة واضحة وعميقة على أننا إنمـا رأينا ظاهـر المشكل ولم ننفذ إلى عمقه ولبه، وإننـا لم نعط للفكر ـ في هـذا الصراع المخيف ـ قيمته الجوهرية التي يستحقهـا في معركتنا الشاملة، وإننا ـ أخيرا ـ آثرنـا أن نعالج ظاهـرة شكلية واحدة من ظواهـر هذه المعركة الشاملة التي تعد الأساس والقاعـدة.
إن التاريخ الإنساني ـ بجميع أطواره ومراحله ـ يعلمنـا فيما يعلم، أن التحولات والتغيرات الجذرية فيه لـم تأت عن طريق المصادفـة، ولم تأت عن طريق الحرب والمواجهـة العسكرية ومعاركها فيها، وإنمـا جاءت أساسا نتيجة لصراع فكري ظاهـر أو خفي بين مبدأ وآخـر، وبين عقيدة وأخرى، أي بين فكـرة معينة كانت تبحث عن ذاتهـا ووجودها وتدافـع بكل الوسائل المتاحـة لها عن هويتها الجديدة، وفكـرة أخرى سائـدة تحاول أن تدرأ عن نفسها الخطـر الملحق الذي يتهدد وجودهـا وكيانها.
وفي ظل تحـول الأفكار والتصورات، فإن الصراع الحضاري لا يتجمـد في قالب معين، وإنمـا يأخـذ أشكالا سياسية، واقتصاديـة واجتماعيـة وعمرانية وثقافيـة وغير ذلك، بحكم أن الفكـر الإنساني ليس عملية تجريدية، لا يكمـن مجالها الحيوي إلا في نطاق العقل والذهـن والتفكير فقط، بل هـو انعكاس طبيعي وحتمـي لظروف وعلاقـات وتفاعلات يقيمها الإنسان باختياره أو باضطراره مع ذاتـه ومع المجتمع والحيـاة والكون والطبيعـة والوجـود جميعا.
فالصورة الأصلية لذلك الصراع، أي الوجـه الحقيقي له، لا يتمثـل إلا في صورة الفكر نفسه في صراعـه وصامه وتفاعلـه واحتكاكـه، وصورته في تحولـه، وتجدده وانتقالـه من طور راق إلى طـور أكثر رقيـا، أو من طور منحـط إلى طور أكثر منه انحطاطا.
أمـا الأشكـال والأنماط الباقية للصراع، فليست سوى ظلال وألـوان، وخطوط تتقارب أو تتباعـد حسب حـدة الصراع أو خفوته، فالصـورة الحقيقية للصراع إذا، هـي صورة الفكر، ولا شيء آخـر سوى الفكر.
لقـد تصدى الإسـلام في أول عهده لإمبراطوريـتين عظيمتين كانتا تقتسمـان العالم المعـروف آنذاك وهمـا الإمبراطورية الفارسيـة والإمبراطورية الرومانية. فمن أية جبهـة تصدى الإسلام لهمـا حتى اكتسح الحدود الشاسعـة وبلغ إلى المناطـق النائية والأرجاء الفسيحة التي لـم تكن معروفة لا بالنسبة للرومـان ولا بالنسبة للفرس؟.
إن الدولة الإسلامية الجديدة ، بمـا تأسست عليه من مبـادئ قويمـة وتعاليم سليمة، مستمـدة من القرآن الكريم والسنـة الشريفـة وللرسـول الأعظـم محمد صلى الله عليه وسلم، لم تحـارب الإمبراطوريتين العظيمتين من جبهـة غير جبهة الفكر الجديد الـذي جاءت به العقيـدة الإسلاميـة، أي أنها في تصديهـا وفتوحاتها وغزواتهـا ضد الفرس والرومان، طرحت أمام المجتمع القديم المتهالك بديلا جديــدا يتمثل في المجتمع الإسلامي المبني على الفكر التوحيدي.
ولم يكن بوسـع الفاتحيـن العرب في مشـارق الأرض ومغاربها أن يقتحموا الأسـوار ويدخلوا المـدن من أبوابها الواسعـة، أو لـم يكونوا مزوديـن بفكر جديد ينظم الحيـاة البشرية ويحكم العلاقات الإنسانية التي تنمي وتغذي حس الحضـارة والتمدن في ضمير الإنسان، فكـر عام وشامل يمس حيـاة الفرد وحياة المجتمع ويطورهمـا تطويرا راقيا وساميـا من خـلال القواعـد والأصول والسلـوك والتقاليد الروحيـة والمادية المثلى.
وكذلك الشـأن بالنسبة للحضارة الأوربيـة الحديثة والمعاصرة التي ارتأت لإرساء قواعـد نهضتهـا أن تخوض معركة فكرية شاملـة ضد الجمود والسكـون اللذين كانا يجثمـان عليها نتيجـة للظـلام الفكري الذي كان يسود أوروبـا قبل نهضتها.
وحينما بدأ دبيب الحضـارة الحديثة يدب في شراييـن الجسم العربي والإسلامي في القـرن الثامـن عشر، كانت المعركـة الأساسية التي اقتحمتها الأمـة العربية والإسلاميـة هي معركـة الفكـر والتحرر العقلي والتنويـر الذهني، بعد ما ران عليهـا ظل الجمـود والركود في الاجتهـاد والابتكـار، ولم يكن ليتاح للاستعمار الأوروبي أن تطأ أقدامـه الأرض العربية والإسلاميـة لو لم يصـادف في نفوس أهاليهـا وسكانها، خمولا في التفكير وشللا في الوعـي وانحطاطا في قدرة الإنسان العربي والمسلـم على الاجتهاد وإتباع خطى العلم والحريـة الفكرية التي دعـا إليها الإسلام وحث المسلمين كافة على ضرورة التطويـر والتجدد، ووجـوب التفكير المتحرك مـن قيود العبودية الماديـة والمعنويـة التي لا تصح ولا تجـوز في التصور الإسلامي للنهضـة والرقي إلا للخالـق البارئ عز وجـل.
وبعد، فإن معركتنـا الحضارية الراهنـة التي تخوضها من أجـل التقدم والارتقاء في كـل حقل من حقـول حياتنا، هـي معركـة فكرية قبل أن تكون معركـة سياسيـة أو اقتصاديـة أو اجتماعية أو ما شئت مـن الأسمـاء والاصطلاحـات الشائعـة، وانتصارنـا في هـذه المعركـة المصيريـة، رهيـن بمـا نوفره للفكر من حريـة وانطلاق وتجديد، ورهيـن بما نضمنه للفكـر من سيـادة وقوة وأصالـة ووضوح.
إلا أن ذلك، لا ينبغي أن يعني إهمـال أو إغفال الجوانب الأخرى من المعركـة، ولكن يعني بالدرجـة الأولى أن نطلق للفكـر عنانـه حتى يتحرر العقل العربـي والإسلامي من القيـود والأغلال الدخيلـة والمفتعلـة التي ألصقهـا به الاستعمار والتبعيـة لمظاهـر تقدمـه المادي الزائـف، والتي تشل وتعطـل قدرته على استلهام العقيـدة ومنابعها الصافيـة، وعلى العـودة المتطورة ـ إذا صح التعبير ـ إلى أصالة الأمة ومصـادر نهضتها الأولـى، وبعـد ذلك، نستطيع أن نضمـن النجاح والفوز في معاركنـا الأخرى الباقية، باعتبارهـا معارك جانبيـة موضوعـة على هامش المعركـة الأصلية، وهـي معركة الفكر، فتحرر الإنسان وتقدمـه وانطلاقه إلى مواقـع الرسالة المطوق به ، يبدأ من الفكـر ومن العقل ولا يبدأ من شيء آخـر.
أحمد تسوكي
العدد 231 ذو الحجة-محرم 1403-1404/ شتنبر-أكتوبر 1983
دعوة الحق - معركتنا فكرية.
وجدت الحياة ووجـد الإنسان من أجل أن يتصارعـا صراعا فيه وحـدة وانسجام وتآلف، حتى لا يكون هناك على الأرض غالب أو مغلوب، لان معنـى الحياة أن يوجـد إنسان...