في عامه الأخير ، كان محمود درويش يدرك أن مواجهته الحاسمة مع الموت قد دنت .
وفي عامه الأخير ، كان محمود درويش يواصل مراوغة الموت. كان كمن يريد تأجيل مواجهة يشعر أنها قد تكون نهائية وقد تكون خاسرة ، أو كان كمن يريد أن يستعد لهذه المواجهة وهو مدجج بمزيد من الشعر والأغنيات.
في عامه الأخير ، وفي ما ربما كان جزءاً من تكتيك المراوغة ، طاف محمود درويش أصقاع الارض ، وقبل دعوات كثيرة كما لم يفعل من قبل ، فتنقل بين فرنسا وايطاليا وكوريا الجنوبية والبوسنة ولبنان وسورية والمغرب وتونس والاردن وفلسطين. يقرأ اشعاره في امسيات حاشدة لحضور منبهرين ينتمون لجنسيات وثقافات ولغات متعددة ، يتسلم جوائز وأوسمة ، يوقع اصدارات جديدة له بلغات متعددة ، يجري مقابلات صحافية وتلفزيونية ، وربما كان يواصل ما جاء في مناشدته للحياة: ÷على مهلك ، انتظريني إلى أن تجف الثمالة في قدحيَ ، وربما كان يتلفت حوله بين الحين والآخر ليرى إن كان نجح في تضليل الموت ، وفي نفس الوقت وفي كل الاوقات كان محمود درويش يواصل ، وبتكثيف استثنائي ، ممارسة مهنته الوحيدة ، وهوايته الاثيرة: كتابة القصائد.ومنذ أن اجمعت مراجعات طبية عديدة في بيروت وباريس خلال العام الماضي على حرج حالته الصحية ، ودرويش يدرك انه أمام خيارات صعبة. فقبل عشر سنوات خضع لعملية جراحية كبرى في باريس بعد أن عانى انتفاخا وتمددا في القسم الاسفل من الشريان الابهر( الاورطي). وأجرى الطبيب جان ميشيل كورمييه ، أكبر جراحي الشرايين في فرنسا ، وطاقمه بنجاح عملية لازالة الجزء المصاب واستبداله ، ولكن وبعد العملية وخلال فترة استيقاظ محمود من التخدير حدثت مضاعفات تناثر خلالها ( الكولسترول) ، الموجود بنسب عالية وغير عادية على جدران شرايين محمود ، نحو الساقين محدثا عدة جلطات. فلجأ الاطباء إلى وقف عملية الاستيقاظ ، وإلى تنويم محمود اصطناعيا وجعل الرئة والكلى تعمل على اجهزة لعدة أيام ، عملوا خلالها على مراقبة والحد من تأثير الجلطات إلى أن استعاد محمود عافيته.
وكانت توصية كورمييه لمريضه ، الذي احتاج شهرا من النقاهة بعد العملية، أن يقوم بفحص كل ستة شهور لشرايينه.
وفي مراجعات صيف 2007، أكد الطبيب الفرنسي لدرويش حرج وضعه الصحي، كان هناك انتفاخ وتمدد في القسم العلوي من الشريان الابهر ، وكانت الأرقام مقلقة للغاية وتقترب من الخطوط الحمر .. خطوط الموت. وحذر الطبيب الفرنسي مريضه الشاعر ، وقد نمت بينهما علاقة صداقة ومودة ، بانه يحمل في صدره لغماً قد ينفجر في أي لحظة. كان يتحدث عن خطر حقيقي يبدو قريباً ، ولكن ليس وشيكاً.
هل تؤبًّنونَنًي حياً؟
وفي عامه الأخير كانت مجموعة ضيقة من اصدقاء محمود تدرك حرج وضعه الصحي. لذلك لم يكن صدفة أن يصدر الرئيس محمود عباس في خريف العام الماضي مرسوماً بمنح محمود درويش أرفع الاوسمة الفلسطينية ، لتضاف إلى أوسمة وجوائز اخرى قدمتها له الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية والعديد من دول العالم ، ولم يكن صدفة أن تقر الحكومة ، وفي نفس الفترة ، اقتراحات لرئيسها سلام فياض بإصدار طابع بريدي يحمل صورة الشاعر والبدء باعداد كتاب يتضمن مختارات من اشعاره ليكون جزءا من منهاج المدارس ، وأن تقرر بلدية رام الله ، التي يسكن الشاعر ويعمل فيها منذ أواسط التسعينيات ، اطلاق اسمه على ميدان رئيسي وجميل من ميادينها. وكان ذلك ينطلق من رغبة في أن يرى الشاعر بنفسه تكريم شعبه له.
وكان محمود درويش يتقبل هذه المبادرات بابتسامات مقتضبة ويعلق ساخرا: هل تؤبنونني حيا؟
قال ذلك عدة مرات ، كان منها عندما شارك قبل شهرين في اعلان نتائج مسابقة اختيار المكتب الهندسي الفائز بتصميم الميدان الذي سيحمل اسمه في رام الله ، وكررها عندما سلمه سلام فياض قبل اسبوع من سفره إلى هيوستن مجموعة من الطوابع البريدية التي اصدرتها السلطة والتي تحمل صورته.
ولكنه ، وفي اعماقه ، كان يشعر بسعادة ما ، وباعتزاز لم يكن ينفيه ، وبارتياح لم يكن يخفيه.
الشعر .. المغامرة المستمرة
وربما كان محمود درويش واحداً من قلة نادرة أتيح لها أن تشهد في حياتها تكريس منجزها ودورها في التاريخ. ورحل وهو مطمئن وواثق أنه حفر موقعه المخلد كشاعر كبير في الذاكرة الفلسطينية والعربية والانسانية.
وإذ أدرك محمود هذه الحقيقة منذ سنوات عديدة، فان ذلك لم يدفعه إلى الاسترخاء، فبالنسبة له كان الشعر مهنته الوحيدة، وفرحه الوحيد، وهمه الوحيد، وعزاءه الوحيد، وصديقه الوحيد، وبالنسبة إليه فإن منجزه الشعري بقي ، وحتى اللحظة الاخيرة قصيدة غير مكتملة قابلة للحذف والاضافة والتطوير، واقتراحا فنيا متجددا، ونصا مفتوحا قابلا للمزيد من المغامرة الفنية المتجددة المستمرة.
وإذ كان محمود درويش يدرك منذ سنوات طويلة تكرسه كرمز وطني لفلسطين ، فانه وإن كان يعتز بالطبع بهذا التحقق ، فقد رفض بعناد أن يصبح اسيرا له. كان يدرك ويعتز بأنه منشد الشعب الفلسطيني وراويته المعتمد وعنوانه الثقافي المكرس ، لكنه لم يقبل بان يختزل في سياق واطار ورمزية نمطية تقيده ، وتحد من مغامرته الفنية وتملي عليه شروطها ، كان يريد أن يكون التصفيق للشعر وليس للقضية.
وكانت مغامرته تتمثل في أن يطور قصيدته باستمرار. ونجح ، حيث حاول كثيرون دون نجاح ، في أن يجعل الشعر ، وهو ديوان العرب الاثير ، ممارسة اصغاء لدى القارئ والمستمع ، اصغاء يتطلب ما هو نقيض الممارسة التقليدية. فالاصغاء عملية تتطلب من المتلقي انتباها ويقظة وإعمالا لملكات العقل ، وتحضه على الدخول إلى جو القصيدة ومناخاتها ، فيخرج من التجربة مسكونا في اعماقه بمداراتها ، بدلا من البقاء أسيرا لاستخدام حاسة السمع في تلقي قصائد الحماسة والمديح والهجاء والغزل التي تثير حواس المستمع ، وتدفعه إلى التصفيق الذي يختتم عملية تفقد مفاعيلها شيئا فشيئا بعد الخروج من ÷سوق عكاظَ القصيدة.
وقصيدة فقصيدة، وديوانا فديوانا، وعاما فعاما كان درويش يطور، بدأب وعناد، الذائقة الفنية لدى جمهور الشعر العربي ، وكان يشعر بالسعادة ومغامرته الصعبة والجسورة والمكلفة واقتراحاته الفنية المدهشة تنجح أمسية حاشدة بعد أخرى فتثبت جدارتهاَ الجماهيرية باستقطاب الالاف ، ونموذج حداثته المتفرد يتكرس قصيدة إثر قصيدة.
وفي سنواته الاخيرة التي كثف فيها انتاجه ، ابتداءً بـ "جداريةَ" التي نشرها العام 99 بعد عمليته الجراحية في باريس.
كان درويش يبلغ في شعره وبشعره ذرى لم يبلغها أحد من قبل ، ويرتاد آفاقا لم تلامسها كلمات قصائد من قبل. كان يطرح أسئلة الوجود والحياة والموت ، كان يدير عبر قصائده حوارا متواصلا وعميقا مع الموت ، لكن هذه القصائد كانت في الوقت نفسه أناشيد عذبة في مديح الحياة. وفي غمار الاسئلة الفلسفية الصعبة كان يوشح ملاحمه الشعرية ، وبرفق ، بالسؤال الفلسطيني مانحا هذا السؤال الدرامي بعدا انسانيا وكونيا ، كل ذلك دون أن يتنازل عن سر الشعر: موسيقاه في البنى والفضاءات المتعددة للقصيدة. وكان يصهر كل هذا المزيج في قصيدة تتكثف وتتنقى وتصفو وترق وتشف فتشع كماسة نادرة ، وتنجح في الوقت نفسه في بناء علاقة حميمة مع المتلقي الذي عمل دوريش ، في عملية ذات بعد تفاعلي متبادل وعلى مر عقود ، على تطوير ذائقته الفنية ترافقا مع تطور القصيدة الدرويشية.
ولم يعد الكثيرون يشكون من صعوبة فهم بعض قصائد درويش ، كما في مرحلة سابقة في السبعينيات ، وأصبح الآلاف يصغون باستمتاع في الأمسيات إلى ÷جداريةَ ، التي مثّلت أعلى قمم القصيدة الدرويشية ، والتي أفصح الشاعر في مناسبات عديدة ، كانت آخرها في أمسية عشائه الاخير في هيوستن ، إلى أنه يعتبرها أهم قصائده. ولم يكن غريبا أن تصل قصيدة درويش المترجمة بسهولة إلى اصحاب ثقافات أخرى. وأن تسجل دواوينه الاثنا عشر ، التي ترجمها صديقه الياس صنبر باقتدار إلى اللغة الفرنسية ، ارقاما عالية في التوزيع في مجال الاصدارات الشعرية في فرنسا. وعندما ذهب الشاعر إلى مدينة ايطالية في حزيران الماضي لأمسية دعي اليها منذ شهور ، فوجىء بان موعدها يتزامن مع موعد مباراة كرة قدم للمنتخب الايطالي في بطولة كأس الامم الاوروبية. وعندما حاول اقناع منظمي الامسية بتأجيلها قالوا له إن القاعة محجوزة والتذاكر مباعة. غير أن درويش عندما ذهب إلى امسيته فوجىء وسر بقاعة مزدحمة على آخرها بحضور ايطاليين فخاطبهم، وهو عاشق كرة القدم المتحمس: ما الذي أتى بكم؟ لو كنت مكانكم لفضلت مشاهدة المباراة ، قبل أن يبدأ أمسية ناجحة. و عندما توجه إلى أمسية أخرى في المسرح الروماني في مدينة ارل الفرنسية قبل اسبوعين من سفره إلى هيوستن ، كان الفا شخص بانتظاره وبينهم كتاب عالميون بارزون. وتجاوب الحضور مع شعره وهو يلقيه بالعربية ، في حين يقوم ممثل فرنسي مشهور بقراءته باللغة الفرنسية مرفوقا باعواد ثلاثي جبران.
كان الشاعر يؤكد ويتأكد أن رهانه الشعري نجح في أن يخترق اللغات والثقافات والتجارب المختلفة وأن قصيدته تأنسنتَ وتكوننتَ دون أن تفقد تلك الفتنة الغامضة وذلك السحر الخفي للشعر ودون أن تفقد قدرتها على الوصول والتفاعل الحي مع قطاعات واسعة في عصر غير شاعري على الاطلاق.
.. والدور المباشر
ولأن الشعر هو وطنه البديل في غياب تحقق الوطن ، ومنفاه الطوعي في متاهات المنافي القاتلة وأندلسهَ وجليلهَ المفقودان في الغربة الرمادية ، فقد كان ، وهو الخجول بطبعه ، صارما وحادا في الدفاع عن حقه في كتابة الشعر. وكان اصدقاؤه المقربون يحترمون خصوصياته فيدركون انه يتوجب عدم الاتصال به في اوقات معينة لانه ، وهو القارئ النهم ، منكب على القراءات المتعددة ، أو على كتابة قصائد ديوان جديد.
غير أن إخلاص محمود درويش وتكريس جل وقته لمشروعه الشعري ، وهو المشروع الذي يشكل بصورة أو باخرى راية من رايات النضال الوطني ، لم يكن يعني انقطاعا عن ممارسة دور فاعل ومباشر في الحياة السياسية الفلسطينية. لقد كان يؤمن بالمشروع الوطني الفلسطيني بملامحه التقدمية والديمقراطية كما جسدته الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وظل كذلك حتى اللحظة الاخيرة من حياته. وكان حاضرا في اللحظات التاريخية والمنعطفات الخطرة للدفاع عن هذا المشروع بقلمه وصوته ، كما انه لم يكن يتردد في معارضة ونقد ما كان يراه خطأ من مواقف أو ممارسات أو سياسات.
وكان في جوهر مواقفه وعلاقته مع السلطة يعتمد على استقلاليته عن مختلف الفصائل ، وعلى سطوة منجزه الثقافي الذي كرسه منشداً للشعب وقضيته ، ومنحه سلطة معنوية كبيرة ، وايضاً على تعففه الدائم وحتى اللحظة الأخيرة عن قبول المناصب ، حيث اختير في إحدى دورات المجلس الوطني عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة دون أن يكون حاضراً ، وكان العمل الذي يرتاح إليه أغلب سنوات حياته هو تحرير مجلة الكرملَ الفصلية الثقافية التي أرادها منبراً ومختبراً للتعريف بثقافات أخرى ولتطوير الكتابات النقدية.
وأذكر أنه في ربيع 1994 كنت ومحمود ضمن أعضاء وفد رافق الرئيس الراحل ياسر عرفات في زيارة إلى جنوب افريقيا للاحتفال بنهاية الحكم العنصري وتنصيب نيلسون مانديلا رئيسا للبلاد. وخلال الرحلة استدعاني الرئيس إلى حيث كان يجلس في الطائرة الكبيرة لمناقشة تشكيل أول حكومة فلسطينية ، فقد كان استحقاق العودة إلى الوطن يقترب ، وكان مطلوباً وفق الاتفاقات أن تبدأ منظمة التحرير بتسمية الوزراء الذين سيتسلمون الحقائب المختلفة ، وبعد مناقشة مجموعة من الاسماء بادرني أبو عمار: طبعاً محمود درويش يستلم (وزارة) الثقافة.
ترددت للحظات قبل أن أُجيب: أخ أبو عمار ، في التاريخ الحديث لشعبنا رمزان أنت ومحمود درويش ، أنت الرمز الوطني والسياسي وهو الرمز الثقافي ، محمود سيعود إلى الوطن ، وربما كان من الأفضل أن يواصل إنجازه الثقافي بعيداً عن تعقيدات المرحلة القادمة.
لم يناقش أبو عمار كثيراً ، على غير عادته ، لكنه ، كعادته ، لم يستسلم على الفور وقال في النهاية: لنسأل محمود.
وكان الاعتذار هو رد محمود
ولم يؤثر ذلك على الإطلاق على العلاقة الوثيقة بين أبو عمار ومحمود الذي كان استقال قبل شهور من تلك الرحلة من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسجلاً علناً انتقاداته وملاحظاته على اتفاق أوسلو. غير أن هذه الانتقادات ، التي ثبتت صحتها ، لم تجعل محمود درويش يتردد لحظة في أن يحزم حقائبه في المنفى الباريسي كي يعود إلى ما هو متاح من أرض الوطن.
دون إضافة أو حذف كلمة واحدة
وفي سنوات عديدة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات كنت أحضر خلالها اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، بصفتي أمين سر اللجنة العليا للانتفاضة ، أُتيح لي أن أُراقب عن كثب محمود درويش وهو يشارك في النقاشات ، كان سياسياً بامتياز ، وكانت مداخلاته ، وهو أحد الأعضاء المستقلين في اللجنة ، تتعلق بالشأن الوطني العام دون الانجرار لهموم وحسابات الفصائل التي كانت تجمع على احترامه. وأيضاً كان لدرويش إسهامه في صياغة الفكر السياسي الفلسطيني ، خاصة عَبر صياغته ÷وثيقة الاستقلالَ .
وأذكر أنه عندما قدم قانونيون إلى القيادة الفلسطينية ، قبيل عقد دورة المجلس الوطني في العام 1988 ، مسودة أولى لصيغةَ اعلان الاستقلالَ تم رفضها على الفور ، فقد كانت مطالعة قانونية جافة لا ترتقي إلى تاريخية اللحظة ومتطلباتها ، فكان أن كلفت اللجنة التنفيذية والامناء العامون للفصائل الشاعر بصياغة الاعلان ، فباشر العمل دون توجيهات أو تحديدات معينة من اللجنة.
وأذكر عندما حضر محمود من باريس إلى تونس ذات يوم في خريف ذلك العام وهو يحمل مُسوّدة إعلان الاستقلال ، وتوجه من المطار إلى بيت الصديق احمد عبد الرحمن حيث كنا بانتظاره لتناول طعام الغداء. وعندما قرأ لنا نصه المدهش والمتوهج ، التقطنا أنفاسنا ثم بدأنا نتمازح ونُناكف محمود: كم سيكون حجم التغيير الذي سيجريه أبو عمار على هذا النص الذي تحتشد فيه المواقف والرؤى؟ كم سيعمل قلمه الأحمر به؟ هل يقبل به الأمناء العامون للفصائل دون تغيير؟.
وعندما تقدم ياسر عرفات في الدقائق الاولى من فجر يوم 15 تشرين الثاني 1988 إلى منصة الخطابة في قاعة قصر الامم في العاصمة الجزائرية ليتلو ÷اعلان الاستقلالَ التاريخي فقد قرأ نص محمود درويش كما كتبه الشاعر دون إضافة أو حذف كلمة واحدة.
الطريق إلى هيوستن
كان محمود درويش يُدرك أن المراوغة مع الموت لا يمكن أن تطول ، فقد كان يحمل في صدره لغماً قابلاً للانفجار في أي لحظة. كان عليه أن يختار بين انتظار انفجار اللغم أو الذهاب إلى جراحة خطرة.
لم يكن يتوقع أن يصغي الموت إلى مناشدته إياه في الجدارية ÷لا تحدق يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف الاخيرةَ ، ولم يكن يتوقع أن يستجيب الموت له فيكون ÷صديقاً طيباًَ و÷شفافاً بريداً واضحاً للغيبَ و÷قوياً ، ناصع الفولاذَ و÷فروسياً ، بهياً ، كامل الضرباتَ وأن يكون ÷صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبعَ وأن ينتظره ÷ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمانَ.
وفي أوائل حزيران الماضي ذهب الشاعر إلى طبيبه الفرنسي مرة أخرى وكانت معه ليلى شهيد ، الصديقة الذهبية والملاك الحارس واليقظ والصارم لمحمود خلال عمليته الاولى العام 1998 وخلال مراجعاته الطبية المتعددة في باريس.
كان الطبيب قرأ جميع نتائج الصور والتحاليل الطبية ، وتلفّت في بداية اللقاء نحو ليلى شهيد وسألها بالفرنسية: هل أقول له كل شيء؟.
فردّت ليلى بسرعة: بالطبع. ثم تلفّتت نحو محمود وأبلغته: سألني إن كان يجب إخبارك بكل شيء فقلت له: نعم.
واستمع الشاعر من طبيبه إلى تقديرات وخيارات مفزعة.
كان الطبيب يشعر بالقلق الشديد من سرعة انتفاخ وتمدد الشريان بأرقام تجعل من مجرد بقاء محمود حياً حتى تلك اللحظة معجزة من المعجزات ، وتحدث عن احتمال انفجار الشريان في أية لحظة ، كما تحدث عن مخاطر أي عملية جراحية يمكن إجراؤها. وأجاب بتفصيل مفزع عن أسئلة محمود التفصيلية ، قال له إن الوضع في كلتا الحالتين سيئ وخطر. فهناك خطر انفجار الشريان الذي قد يؤدي إلى الموت أو إلى الإصابة بالشلل ، كما أن للعملية مخاطرها ، فقد يجد الجراحون أنه لا يمكن تغيير الجزء المصاب بسبب حجم الانتفاخ وطول التمدد ، وقد يتناثر الكولسترول كما حدث العام 1998 ولكن ، ولأن الخلل في القسم العلوي من الشريان الأبهر ، فسيتناثر نحو منطقة النخاع الشوكي هذه المرة مسبباً الموت خلال ساعتين من الالم الشديد.. أو مسبباً الإصابة بالشلل.
سأله محمود: بماذا تنصحني؟
فأجاب الطبيب المخضرم: انا لا أستطيع إجراء هذا النوع من العمليات ، القرار يعود إليك. الجنرال ديغول عانى من نفس الحالة ، وفضل ألا يجري جراحة فتوفي نتيجة انفجار الشريان ، ولكن القرار يعود لك وحدك.
وعندما ألحّ محمود في السؤال ، رد كورمييه محاولاً انتقاء كلماته وهو يدرك مكانة درويش ويكنُّ له مودة فائقة: إنها حياتك ، أنت وحدك القادر على اتخاذ القرار حول إجراء العملية ، أنت وحدك تقرر.. ما هو الشيء الأكثر اهمية في حياتك الآن؟
فرد محمود: أن أنجز الديوان الذي أعمل عليه.
وقال له الطبيب: لذلك أقول لك: أنت وحدك من يستطيع اتخاذ القرار.
وخلال الحوار قال له: إذا قررت إجراء العملية هناك جرّاح وحيد في العالم انصحك بالذهاب اليه ، إنه طبيب عراقي في أميركا ، هو الدكتور حازم صافي في هيوستن. إنه الأفضل في العالم.
وفي الأسابيع التي تلت كان اسم حازم صافي يتردد على ألسنة أطباء آخرين تحادث معهم محمود في عمان وبيروت وأميركا وأجمعوا على أن هيوستن وصافي هما الخيار الأفضل. وفي تلك الأسابيع كان قلق أصدقائه المقربين يتصاعد ، وكان كثيرون منهم يحثون محمود على استنفاد كل السبل الطبية فيما كان آخرون يشددون على المخاوف من إجراء العملية. وإذ كان كثيرون يشعرون بالحرج أحيانا في مناقشة الموضوع بالتفصيل مع محمود بكل ما يعنيه من احتمالات ، فقد كان يدرك تماما ما يدور في أنفسهم من هواجس ومخاوف عليه. وعندما أخذ صديقه غانم زريقات يُكثر ويُبكّر من اتصاله الصباحي بمحمود في عمان ، رد عليه مرة ضاحكاً: اطّمَن ، لساني عايش.
كان هاجس محمود وخوفه الأساسي أن يصاب بالشلل نتيجة العملية ، وربما كان يخشى أن تعجز يده عن امتشاق قلمه لكتابة قصائده ، وهو بالمناسبة لا يكتب إلا بقلم حبر سائل. وأسرّ لي ذات يوم في تموز الماضي: صرت كلما استيقظت في الصباح أشعر للحظات أنني مصاب بالشلل ، وأنني عاجز عن إنزال قدميّ على الأرض.
وبدأ محمود مراوغة جديدة ، بدأ يتحدث عن الذهاب إلى هيوستن لاجراء فحوصات فقط: ربما يكتشف الاطباء أن قلبي لا يتحمل اجراء هذه الجراحة ، ربما حددوا موعداً للعملية بعد شهرين ، ربما اكتشفوا أن لا فائدة ترجى من اجراء الجراحة.
وبدأ يقنع نفسه ويقنعنا بذلك: العملية ليست حتمية. لكن التواطؤ الصامت بيننا على قبول تفسيراته واحتمالاته كان يبدو فاضحاً وهشّاً أمام عينيه وعيونناَ.
كان واضحا أنه قرر أن يستنفد الفرصة الطبية الاخيرة لتفادي الموت بدلا من ان ينتظره.
وقد كانت 2008 سنة صعبة لمحمود توجه خلالها عدة مرات إلى الجديدة وقضى هناك مدداً طويلة ، فقد خضع شقيقه الاكبر لجراحة في الشرايين أيضاً وبعده جاء دور شقيقه زكي ليجري جراحة مماثلة َ فقد ورثت عن عائلتي خللاً في الشرايين وضغط دم مرتفعَ ، ثم جاء دور حورية أشهر الأمهات العربيات لتدخل المستشفى. وقال لي ونحن نتأهب للسفر إلى هيوستن: كانت سنة سيئة ، أحمد ثم زكي ثم أمي .. والآن جاء دوري.
في أواخر شهر حزيران كان محمود درويش قد اتخذ قراره: الذهاب إلى هيوستن. وكان عدد من الاصدقاء يجمعون له المعلومات اللازمة ، وبدأت الاجراءات العملية للسفر.
كان أن تفاهمنا أن أصحبه أنا وعلي حليلة ، إلى هيوستون ، وعلي ، الإنسان الحسّاس ، والمهندس والمقاول الناجح المقيم في عمّان ، يرتبط بصداقة قديمة مع محمود ، وتعمّقت مع اقامة محمود فترات طويلة في عمان خلال السنوات الاخيرة.
حدّد محمود المواعيد ، اتفق على مراجعات مع الدكتور حازم صافي وطاقمه في 22 تموز. وقدم إلى رام الله في أوائل حزيران ليقدم طلب تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة. ووفق قوانين تم تفعيلها مع إنشاء وزارة الامن الداخلي في الولايات المتحدة بعد «غزوات» أسامة بن لادن في مانهاتن وفرجينيا ، فقد تم تشديد إجراءات منح التأشيرة لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ، حيث تحظر قوانين اعتمدت سابقاً دخولهم الاراضي الاميركية إلا باستثناء خاص. وحث ابو مازن الأميركيين ، وكذلك فعل سلام فياض ، على سرعة اصدار التاشيرة ، ووعدت وزارة الخارجية الاميركية ، مؤكدة انها تعرف مكانة درويش كـ "أيقونة" للشعب الفلسطيني ، ببذل كل جهد لدى وزارة الامن الداخلي لتسريع الاجراءات.
كانت خطة محمود ، وقد جاء ثانية إلى رام الله في أواخر حزيران لحضور امسيته الشعرية في أول تموز في قصر الثقافة ، معلنا انطلاق احتفال المدينة بمئوية إنشاء بلديتها ، أن يبقى فيها حتى العاشر من تموز حيث يكون قد حصل على التأشيرة فيسافر إلى فرنسا في 12 من الشهر نفسه لحضور أمسية في مدينة ارل ثم ينتظرني لألتحق به في باريس في 19 تموز لنتوجه بعدها بيوم إلى هيوستن حيث سيكون علي بانتظارنا.
وفي مساء اليوم نفسه الذي وصل فيه إلى عمان قادماً من رام الله بعد أن تأخرت الفيزا تلقى اتصالا بانها أصبحت جاهزة. ولما كانت العودة إلى رام الله صعبة عليه ، فقد أجّل مواعيد هيوستن إلى 30 تموز وقرر أن يعود إلى رام الله بعد أمسيته الفرنسية ليحصل على التاشيرة فنسافر معا من عمان إلى باريس في 28 تموز ومنها في 29 إلى هيوستن حيث سيكون علي قد عدل برنامجه ليكون بانتظارنا في الموعد الجديد. وعندما طلبت موظفة شركة الطيران في رام الله ولاغراض إصدار التذاكر أن نحدد موعدا افتراضيا ما لعودتنا من هيوستن يمكن تغييره في ما بعد اختار محمود تاريخ العاشر من آب ... الذي سيصادف ، بعد ذلك ، اليوم التالي لرحيله.
وفي يوم ذهب في زيارة سريعة إلى الجديدة لوداع عائلته قبل أن يسافر إلى عمان وليبلغ أمه أنه ذاهب للعلاج في أميركا ، حيث قد يجري جراحة« بسيطة» ، تساءلت حورية اليقظة اللمّاحة رغم تقدم سنوات العمر: إذا كانت بسيطة ، لماذا تعملها في اميركا؟.
ولم يقل لي محمود ماذا كان جوابه.
القصيدة الاخيرة
وفي يوم من أواخر أيام حزيران اتصل محمود من عمّان: هل تريد قصيدة جديدة لنشرها في «الأيام»؟ .. سأجيء غداً.
وفي مساء اليوم التالي كان يسلمني مسوّدة قصيدته الأخيرة "لاعب النرد"، وكان واضحاً انه يعتزّ بها كثيراً، وفي حين بدأت بقراءتها قراءة أولى كان محمود منشغلاً بقراءة قصاصات صحف على مكتبي ليبادرني بالسؤال:
ها .. ما رأيك؟
أصابتني القصيدة بالجزع ، بَدت لي إعلانا عن توقع الموت وقبوله ونحن نتأهب للسفر إلى هيوستن ، حاولت إعطاء انطباعات عامة ، تحدثت عن ملحمية القصيدة. وتحدثت عن سطور ومقاطع قلت إنني أعتقد أنها ستصبح معروفة ومتداولة مثل «والوحي حظ المهارة إذ تجتهد» و «لا أقول السماء رمادية ـ بل أُطيل التفرُّس في وردة ـ وأقول لها: يا له من نهار،» و «السراب كتاب المسافر في البيد ـ لولاه ، لولا السراب لما واصل السير بحثا عن الماء» ، وطرحت اسئلة حول مقاطع اخرى ، ثم قلت ان القصيدة تحتاج لقراءة معمقة.
عندما كرّر سؤالي هاتفياً صباح اليوم التالي، راوغته بالحديث مجدداً عن البنية الملحمية للقصيدة ثم جرؤت أن أقول له: ما الذي يحدث؟ ، إنها «انتي» (نقيض وضد) الجدارية. في «الجدارية» قلت: هزمتك يا موت الفنون جميعها ، وفي "لاعب النرد" تختتم بـ: من أنا لأخيب ظن العدم.
رد محمود سريعاً: لا أحد يستطيع قهر الموت.
أضفت بتردد: هل كتب محمود الشاعر «الجدارية» ، وتولّى محمود الإنسان كتابة «لاعب النرد»؟
فردّ: يبدو كذلك.
وفي مساء اليوم نفسه والذي سبق موعد أمسيته في رام الله كان في "الأيام" ، يُدقق، وهو الشاعر الكبير، القصيدة بعد أن تمّت طباعتها تمهيداً لنشرها في "أيام الثقافة"، ويُحدّثني والزميل غسان زقطان عن برنامج أمسيته. فمحمود درويش، وككل المبدعين الحقيقيين الكبار، يبقى حتى آخر لحظة يتهيّب أية أمسية ويتعامل معها وكأنه يواجه الجمهور لأول مرة. فكان يريد ترتيب موعد مع ثلاثي جبران للاتفاق حول تفاصيل مرافقتهم الموسيقية لقصائده، وكان مهتماً بمحاولة تدبير تذاكر لأشخاص اتصلوا به بعد أن نفدت البطاقات خلال ساعة من طرحها، وكان مهتماً بإيصال بطاقة لشاب يدير متجراً يتعامل معه في رام الله.
وكان يتحدث عن برنامج الامسية عندما قال: سأختتم بـ "لاعب النرد"، فاعترضت وغسان، وقلنا : "حرام" أن يخرج الجمهور في أجواء حزينة كتلك التي ستولدها القصيدة. وناكفته ضاحكاً: لماذا لا تختتم بـ "سجّل أنا عربي" الجديدة؟، فابتسم ووافق على قراءة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ولكن ليس في الختام الذي خصّصه لـ "غيتارتان".
في أمسيته الأخيرة في فلسطين بدا متوهجاً، استقبله جمهور حاشد متحمس بالتصفيق وقوفاً لدقيقتين. وبعد الامسية بدا منتشياً وراضياً.
"انتصار" تفاوضي صغير
وعندما توجهت إلى عمان في 27 حزيران للالتحاق به والتوجه معاً إلى باريس ، كان لا بد لتفاصيل من سريالية الحالة الفلسطينية أن تقترح نفسها ، فعلى الجسر أبلغني الجنود الاسرائيليون أنني لا استطيع السفر لأن تاريخ ميلادي المسجل في بطاقة هويتي وجواز سفري يختلف عن التاريخ المحفوظ لديهم في جهاز الكمبيوتر. وعندما أكدت لهم أنني أعرف تاريخ ميلادي جيداً وأحتفل به كل عام وأنني سافرت ، بتاريخ الميلاد نفسه ، عشرات المرات خلال السنوات الماضية اصطدمت بردّْ واحد: غير ممكن. وبدأ مسؤولو الارتباط الفلسطيني اتصالاتهم دون بارقة أمل ، وكان محمود ، الذي ينتظرني للغداء مع الصديقين ياسر عبد ربه وصبيح المصري يتصل بين وقت وآخر ليطمئن ، أخذت الساعات تمر وبدأت أشعر بالقلق من احتمال عدم تمكني من الوصول إلى عمان لركوب الطائرة التي تغادر فجر اليوم التالي. وكان هناك خيار غرائبي آخر.. أن أستصدر بطاقة هوية من دائرة الداخلية في أريحا بتاريخ الميلاد المسجل لدى الإسرائيليين لأتمكن من العبور ثم أقوم بتصحيح الخطأ وتثبيت التاريخ الحقيقي بعد عودتي.
ولكن وبعد ثلاث ساعات ونصف ، وافق الاسرائيليون على أن أعبر هذه المرة «فقط» بتاريخ ميلادي المسجل في بطاقة الهوية وجواز السفر ، وكانت الساعة تجاوزت الثانية والنصف عندما كنت أعبر الجسر وأبلغ محمود عَبر الجوال: لقد حققت إنجازاً تفاوضياً ، وافق الإسرائيليون على الاعتراف بتاريخ ميلادي.
ولكن الوقت كان متأخراً لألحق بموعد الغداء.
في نهاية النهار الذي قضيناه في باريس ، التقينا صبحي حديدي الكاتب الناقد، والصديق المقرب لمحمود لتناول العشاء على رصيف مطعم قرب الفندق الصغير الذي اعتاد محمود النزول فيه في حي سان جيرمان، واحتل موضوع العملية حيزاً كبيراً من الحديث.
وإذ كان محمود معروفاً بدقته الشديدة في ترتيب الأمور وإنجازها ، فإن طبيعة رحلتنا هذه المرة جعلته يدقق بصورة أشد، فقد أصر، رغم نصائحي والإشارة لخبراتي، على أن نذهب إلى المطار في ساعة مبكرة جداً حتى لا تعيقنا أية إجراءات للتفتيش. فكان أن وصلنا إلى المطار في الساعة السابعة صباحاً، وكان أن وجدنا جميع الإجراءات تتم بسرعة قياسية ، فنظرت إليه شامتاً وحانقاً وهو يبتسم عندما كنا نجلس في إحدى الصالات، وقد أنجزنا كل ما هو مطلوب من إجراءات ، كي ننتظر إقلاع الطائرة بعد ثلاث ساعات كاملة.
وتأهّبنا في الطائرة الفرنسية المتجهة مباشرة إلى هيوستن لرحلة طويلة تستمر عشر ساعات في وقت غير مناسب للنوم. أخرجت رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر من حقيبتي وبدأت قراءتها. فتطلع محمود وأشاد بالرواية ثم انشغل بتقليب صفحات عدد من مجلة «وجهات نظر». ولكني لاحظت انه يتجنب قراءات عميقة فلم يخرج أياً من عدة روايات مترجمة كان يحملها في حقيبة يده واكتفى بقراءة صحيفة "الهيرالد تريبيون".
كان موعد المواجهة يقترب.
خلال ساعات الرحلة الطويلة، وفي الأوقات التي لم نتمكن فيها من النوم، تحادثنا حول أشياء كثيرة، عن مشاقّ السفر، عن تعثّر المفاوضات، عن أمسية رام الله، عن مغنّيه الأثير: محمد عبد الوهاب، عن حر ورطوبة هيوستن، عن شرائح اللحم ( الستيك) التي تشتهر بها ولاية تكساس، وقمنا بـ "النميمة" الضاحكة على أصدقاء مشتركين. كنت أريد تجنب أي حديث عن العملية واحتمالاتها، وكنت أصدّ الموضوع برفق كلما أثير. هناك شيئان مؤكدان .. ستكون في أفضل مستشفى في العالم، وفي رعاية أفضل أطباء في العالم.
الدخول إلى صحراء هيوستن
وقد أثمرت توصية السلطة الفلسطينية فتم تسهيل وتسريع إجراءات الدخول في مطار هيوستن التي كنا نحسب لها كثيراً، واستقبلتنا لفحات الهواء الساخن اللزج ونحن ننطلق وعلي حليلة الذي كان بانتظارنا إلى الفندق في هذه المدينة الصحراوية مترامية الأطراف.
نزلنا في فندق يقع في شارع فانين ، وبدأنا نكتشف أننا نقيم وسط منطقة واسعة تضم عدة شوارع تسمى المركز الطبي وتضم عشرات المستشفيات والعيادات ، وكان منظراً عادياً أن نجد خلال سيرنا في الشوارع المحيطة بالفندق أطباء وممرضين بأرديتهم المميزة يتنقلون من مبنى إلى آخر ومن شارع إلى آخر إن لم يستخدموا جسوراً علوية مغطاة تصل بين عديد المراكز الطبية ، وكنا نجد العديدين منهم وقد خرجوا إلى الشوارع لتدخين السجائر في مدينة ، كبقية المدن الأميركية، تحظر التدخين في المباني والفنادق والمقاهي والمطاعم.
وعلمنا أن "صناعة" الطب في هيوستن. وهي من أهم مدن ولاية تكساس وتمتد على مساحات شاسعة وتعد بملايينها الاربعة رابع أكبر المدن الأميركية ، تشغل 70 ألف شخص وتجذب لمستشفيات المدينة آلاف الباحثين عن العلاج من مختلف دول العالم. وكان الفندق الذي أقمنا فيه تابعاً لشبكة ماريوت الشهيرة ويحمل اسم «ماريوت المركز الطبي» وتؤدي إحدى طرقاته الداخلية إلى مستشفى مجاور ، في حين يقودك جسر مغطى كي يحميك من الحر والرطوبة إلى مركز طبي آخر.
وكنا نرى الكثيرين من المرضى العرب والأوروبيين والآسيويين في ردهات فندقنا الذي تؤدي إحدى طرقاته الداخلية إلى أحد المستشفيات.
وعلمنا أن الفضل الكبير في نمو وتطور «صناعة» الطب والعلاج في المدينة يعود إلى طبيب القلب الشهير مايكل دبغي اللبناني الاصل ، وأن حازم صافي هو أحد تلاميذ دبغي الذي توفي قبل ثلاثة شهور عن 99 عاماً.
وبما تتطلبه وتنميه الهندسة من ملكات ، كان علي قد استكشف المحيط وابلغنا أن المستشفى الذي ستجري المراجعات الطبية فيه يبعد عن الفندق مسيرة خمس دقائق على الأقدام. وإذ حلّ محمود في الغرفة رقم 1118 متوسطاً غرفتينا ، فقد توجهنا مساءً لتناول شرائح من ستيك تكساس الشهير.
وفي ظهيرة يوم الاربعاء قادنا علي سيراً على الأقدام إلى مستشفى ميموريال هيرمان ، وكان لقاؤنا الأول مع منسّقة الفريق الطبي للدكتور صافي. ووجدنا انفسنا أمام منى غزال وهي سيدة لبنانية درست الطب ولم تمارسه وتثير انطباعات قوية لدى محاوريها بدقتها وكفاءتها. ولم تضيع منى دقيقة واحدة فبدأت بالحديث بالتفصيل عن وضع الشاعر الصحي من خلال التقارير التي كان بعثها. وتحدثت عن العملية المرتقبة ، وأبلغت محمود بأن موعد إجرائها تحدد يوم الاثنين القادم. كان محمود يبتلع المفاجأة وهو يعلق: بهذه السرعة ، وعندما ذهب ومنى للقاء قصير مع الدكتور صافي كان موعد العملية قد ثبت .. يوم الاثنين القادم ( 4 - 8).
وعندما كانت منى تزودنا بالتفاصيل ، اكتشفنا ان طاقم الاطباء المشرف بجانب الدكتور صافي ، الذي اجرى نحو ثلاثة آلاف عملية ناجحة في الشرايين. يضم مازن غانم وهو طبيب فلسطيني لامع هاجر وهو في السادسة مع عائلته من رام الله إلى هيوستن قبل أكثر من اربعين عاما ، وأن مسؤول العناية المكثفة طبيب سوري ونائبه لبناني أما طبيب الاعصاب فعراقي.
وهتف محمود: ألا يوجد أميركيون في هذا المستشفى؟
وفي عامه الأخير ، كان محمود درويش يواصل مراوغة الموت. كان كمن يريد تأجيل مواجهة يشعر أنها قد تكون نهائية وقد تكون خاسرة ، أو كان كمن يريد أن يستعد لهذه المواجهة وهو مدجج بمزيد من الشعر والأغنيات.
في عامه الأخير ، وفي ما ربما كان جزءاً من تكتيك المراوغة ، طاف محمود درويش أصقاع الارض ، وقبل دعوات كثيرة كما لم يفعل من قبل ، فتنقل بين فرنسا وايطاليا وكوريا الجنوبية والبوسنة ولبنان وسورية والمغرب وتونس والاردن وفلسطين. يقرأ اشعاره في امسيات حاشدة لحضور منبهرين ينتمون لجنسيات وثقافات ولغات متعددة ، يتسلم جوائز وأوسمة ، يوقع اصدارات جديدة له بلغات متعددة ، يجري مقابلات صحافية وتلفزيونية ، وربما كان يواصل ما جاء في مناشدته للحياة: ÷على مهلك ، انتظريني إلى أن تجف الثمالة في قدحيَ ، وربما كان يتلفت حوله بين الحين والآخر ليرى إن كان نجح في تضليل الموت ، وفي نفس الوقت وفي كل الاوقات كان محمود درويش يواصل ، وبتكثيف استثنائي ، ممارسة مهنته الوحيدة ، وهوايته الاثيرة: كتابة القصائد.ومنذ أن اجمعت مراجعات طبية عديدة في بيروت وباريس خلال العام الماضي على حرج حالته الصحية ، ودرويش يدرك انه أمام خيارات صعبة. فقبل عشر سنوات خضع لعملية جراحية كبرى في باريس بعد أن عانى انتفاخا وتمددا في القسم الاسفل من الشريان الابهر( الاورطي). وأجرى الطبيب جان ميشيل كورمييه ، أكبر جراحي الشرايين في فرنسا ، وطاقمه بنجاح عملية لازالة الجزء المصاب واستبداله ، ولكن وبعد العملية وخلال فترة استيقاظ محمود من التخدير حدثت مضاعفات تناثر خلالها ( الكولسترول) ، الموجود بنسب عالية وغير عادية على جدران شرايين محمود ، نحو الساقين محدثا عدة جلطات. فلجأ الاطباء إلى وقف عملية الاستيقاظ ، وإلى تنويم محمود اصطناعيا وجعل الرئة والكلى تعمل على اجهزة لعدة أيام ، عملوا خلالها على مراقبة والحد من تأثير الجلطات إلى أن استعاد محمود عافيته.
وكانت توصية كورمييه لمريضه ، الذي احتاج شهرا من النقاهة بعد العملية، أن يقوم بفحص كل ستة شهور لشرايينه.
وفي مراجعات صيف 2007، أكد الطبيب الفرنسي لدرويش حرج وضعه الصحي، كان هناك انتفاخ وتمدد في القسم العلوي من الشريان الابهر ، وكانت الأرقام مقلقة للغاية وتقترب من الخطوط الحمر .. خطوط الموت. وحذر الطبيب الفرنسي مريضه الشاعر ، وقد نمت بينهما علاقة صداقة ومودة ، بانه يحمل في صدره لغماً قد ينفجر في أي لحظة. كان يتحدث عن خطر حقيقي يبدو قريباً ، ولكن ليس وشيكاً.
هل تؤبًّنونَنًي حياً؟
وفي عامه الأخير كانت مجموعة ضيقة من اصدقاء محمود تدرك حرج وضعه الصحي. لذلك لم يكن صدفة أن يصدر الرئيس محمود عباس في خريف العام الماضي مرسوماً بمنح محمود درويش أرفع الاوسمة الفلسطينية ، لتضاف إلى أوسمة وجوائز اخرى قدمتها له الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية والعديد من دول العالم ، ولم يكن صدفة أن تقر الحكومة ، وفي نفس الفترة ، اقتراحات لرئيسها سلام فياض بإصدار طابع بريدي يحمل صورة الشاعر والبدء باعداد كتاب يتضمن مختارات من اشعاره ليكون جزءا من منهاج المدارس ، وأن تقرر بلدية رام الله ، التي يسكن الشاعر ويعمل فيها منذ أواسط التسعينيات ، اطلاق اسمه على ميدان رئيسي وجميل من ميادينها. وكان ذلك ينطلق من رغبة في أن يرى الشاعر بنفسه تكريم شعبه له.
وكان محمود درويش يتقبل هذه المبادرات بابتسامات مقتضبة ويعلق ساخرا: هل تؤبنونني حيا؟
قال ذلك عدة مرات ، كان منها عندما شارك قبل شهرين في اعلان نتائج مسابقة اختيار المكتب الهندسي الفائز بتصميم الميدان الذي سيحمل اسمه في رام الله ، وكررها عندما سلمه سلام فياض قبل اسبوع من سفره إلى هيوستن مجموعة من الطوابع البريدية التي اصدرتها السلطة والتي تحمل صورته.
ولكنه ، وفي اعماقه ، كان يشعر بسعادة ما ، وباعتزاز لم يكن ينفيه ، وبارتياح لم يكن يخفيه.
الشعر .. المغامرة المستمرة
وربما كان محمود درويش واحداً من قلة نادرة أتيح لها أن تشهد في حياتها تكريس منجزها ودورها في التاريخ. ورحل وهو مطمئن وواثق أنه حفر موقعه المخلد كشاعر كبير في الذاكرة الفلسطينية والعربية والانسانية.
وإذ أدرك محمود هذه الحقيقة منذ سنوات عديدة، فان ذلك لم يدفعه إلى الاسترخاء، فبالنسبة له كان الشعر مهنته الوحيدة، وفرحه الوحيد، وهمه الوحيد، وعزاءه الوحيد، وصديقه الوحيد، وبالنسبة إليه فإن منجزه الشعري بقي ، وحتى اللحظة الاخيرة قصيدة غير مكتملة قابلة للحذف والاضافة والتطوير، واقتراحا فنيا متجددا، ونصا مفتوحا قابلا للمزيد من المغامرة الفنية المتجددة المستمرة.
وإذ كان محمود درويش يدرك منذ سنوات طويلة تكرسه كرمز وطني لفلسطين ، فانه وإن كان يعتز بالطبع بهذا التحقق ، فقد رفض بعناد أن يصبح اسيرا له. كان يدرك ويعتز بأنه منشد الشعب الفلسطيني وراويته المعتمد وعنوانه الثقافي المكرس ، لكنه لم يقبل بان يختزل في سياق واطار ورمزية نمطية تقيده ، وتحد من مغامرته الفنية وتملي عليه شروطها ، كان يريد أن يكون التصفيق للشعر وليس للقضية.
وكانت مغامرته تتمثل في أن يطور قصيدته باستمرار. ونجح ، حيث حاول كثيرون دون نجاح ، في أن يجعل الشعر ، وهو ديوان العرب الاثير ، ممارسة اصغاء لدى القارئ والمستمع ، اصغاء يتطلب ما هو نقيض الممارسة التقليدية. فالاصغاء عملية تتطلب من المتلقي انتباها ويقظة وإعمالا لملكات العقل ، وتحضه على الدخول إلى جو القصيدة ومناخاتها ، فيخرج من التجربة مسكونا في اعماقه بمداراتها ، بدلا من البقاء أسيرا لاستخدام حاسة السمع في تلقي قصائد الحماسة والمديح والهجاء والغزل التي تثير حواس المستمع ، وتدفعه إلى التصفيق الذي يختتم عملية تفقد مفاعيلها شيئا فشيئا بعد الخروج من ÷سوق عكاظَ القصيدة.
وقصيدة فقصيدة، وديوانا فديوانا، وعاما فعاما كان درويش يطور، بدأب وعناد، الذائقة الفنية لدى جمهور الشعر العربي ، وكان يشعر بالسعادة ومغامرته الصعبة والجسورة والمكلفة واقتراحاته الفنية المدهشة تنجح أمسية حاشدة بعد أخرى فتثبت جدارتهاَ الجماهيرية باستقطاب الالاف ، ونموذج حداثته المتفرد يتكرس قصيدة إثر قصيدة.
وفي سنواته الاخيرة التي كثف فيها انتاجه ، ابتداءً بـ "جداريةَ" التي نشرها العام 99 بعد عمليته الجراحية في باريس.
كان درويش يبلغ في شعره وبشعره ذرى لم يبلغها أحد من قبل ، ويرتاد آفاقا لم تلامسها كلمات قصائد من قبل. كان يطرح أسئلة الوجود والحياة والموت ، كان يدير عبر قصائده حوارا متواصلا وعميقا مع الموت ، لكن هذه القصائد كانت في الوقت نفسه أناشيد عذبة في مديح الحياة. وفي غمار الاسئلة الفلسفية الصعبة كان يوشح ملاحمه الشعرية ، وبرفق ، بالسؤال الفلسطيني مانحا هذا السؤال الدرامي بعدا انسانيا وكونيا ، كل ذلك دون أن يتنازل عن سر الشعر: موسيقاه في البنى والفضاءات المتعددة للقصيدة. وكان يصهر كل هذا المزيج في قصيدة تتكثف وتتنقى وتصفو وترق وتشف فتشع كماسة نادرة ، وتنجح في الوقت نفسه في بناء علاقة حميمة مع المتلقي الذي عمل دوريش ، في عملية ذات بعد تفاعلي متبادل وعلى مر عقود ، على تطوير ذائقته الفنية ترافقا مع تطور القصيدة الدرويشية.
ولم يعد الكثيرون يشكون من صعوبة فهم بعض قصائد درويش ، كما في مرحلة سابقة في السبعينيات ، وأصبح الآلاف يصغون باستمتاع في الأمسيات إلى ÷جداريةَ ، التي مثّلت أعلى قمم القصيدة الدرويشية ، والتي أفصح الشاعر في مناسبات عديدة ، كانت آخرها في أمسية عشائه الاخير في هيوستن ، إلى أنه يعتبرها أهم قصائده. ولم يكن غريبا أن تصل قصيدة درويش المترجمة بسهولة إلى اصحاب ثقافات أخرى. وأن تسجل دواوينه الاثنا عشر ، التي ترجمها صديقه الياس صنبر باقتدار إلى اللغة الفرنسية ، ارقاما عالية في التوزيع في مجال الاصدارات الشعرية في فرنسا. وعندما ذهب الشاعر إلى مدينة ايطالية في حزيران الماضي لأمسية دعي اليها منذ شهور ، فوجىء بان موعدها يتزامن مع موعد مباراة كرة قدم للمنتخب الايطالي في بطولة كأس الامم الاوروبية. وعندما حاول اقناع منظمي الامسية بتأجيلها قالوا له إن القاعة محجوزة والتذاكر مباعة. غير أن درويش عندما ذهب إلى امسيته فوجىء وسر بقاعة مزدحمة على آخرها بحضور ايطاليين فخاطبهم، وهو عاشق كرة القدم المتحمس: ما الذي أتى بكم؟ لو كنت مكانكم لفضلت مشاهدة المباراة ، قبل أن يبدأ أمسية ناجحة. و عندما توجه إلى أمسية أخرى في المسرح الروماني في مدينة ارل الفرنسية قبل اسبوعين من سفره إلى هيوستن ، كان الفا شخص بانتظاره وبينهم كتاب عالميون بارزون. وتجاوب الحضور مع شعره وهو يلقيه بالعربية ، في حين يقوم ممثل فرنسي مشهور بقراءته باللغة الفرنسية مرفوقا باعواد ثلاثي جبران.
كان الشاعر يؤكد ويتأكد أن رهانه الشعري نجح في أن يخترق اللغات والثقافات والتجارب المختلفة وأن قصيدته تأنسنتَ وتكوننتَ دون أن تفقد تلك الفتنة الغامضة وذلك السحر الخفي للشعر ودون أن تفقد قدرتها على الوصول والتفاعل الحي مع قطاعات واسعة في عصر غير شاعري على الاطلاق.
.. والدور المباشر
ولأن الشعر هو وطنه البديل في غياب تحقق الوطن ، ومنفاه الطوعي في متاهات المنافي القاتلة وأندلسهَ وجليلهَ المفقودان في الغربة الرمادية ، فقد كان ، وهو الخجول بطبعه ، صارما وحادا في الدفاع عن حقه في كتابة الشعر. وكان اصدقاؤه المقربون يحترمون خصوصياته فيدركون انه يتوجب عدم الاتصال به في اوقات معينة لانه ، وهو القارئ النهم ، منكب على القراءات المتعددة ، أو على كتابة قصائد ديوان جديد.
غير أن إخلاص محمود درويش وتكريس جل وقته لمشروعه الشعري ، وهو المشروع الذي يشكل بصورة أو باخرى راية من رايات النضال الوطني ، لم يكن يعني انقطاعا عن ممارسة دور فاعل ومباشر في الحياة السياسية الفلسطينية. لقد كان يؤمن بالمشروع الوطني الفلسطيني بملامحه التقدمية والديمقراطية كما جسدته الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وظل كذلك حتى اللحظة الاخيرة من حياته. وكان حاضرا في اللحظات التاريخية والمنعطفات الخطرة للدفاع عن هذا المشروع بقلمه وصوته ، كما انه لم يكن يتردد في معارضة ونقد ما كان يراه خطأ من مواقف أو ممارسات أو سياسات.
وكان في جوهر مواقفه وعلاقته مع السلطة يعتمد على استقلاليته عن مختلف الفصائل ، وعلى سطوة منجزه الثقافي الذي كرسه منشداً للشعب وقضيته ، ومنحه سلطة معنوية كبيرة ، وايضاً على تعففه الدائم وحتى اللحظة الأخيرة عن قبول المناصب ، حيث اختير في إحدى دورات المجلس الوطني عضوا في اللجنة التنفيذية للمنظمة دون أن يكون حاضراً ، وكان العمل الذي يرتاح إليه أغلب سنوات حياته هو تحرير مجلة الكرملَ الفصلية الثقافية التي أرادها منبراً ومختبراً للتعريف بثقافات أخرى ولتطوير الكتابات النقدية.
وأذكر أنه في ربيع 1994 كنت ومحمود ضمن أعضاء وفد رافق الرئيس الراحل ياسر عرفات في زيارة إلى جنوب افريقيا للاحتفال بنهاية الحكم العنصري وتنصيب نيلسون مانديلا رئيسا للبلاد. وخلال الرحلة استدعاني الرئيس إلى حيث كان يجلس في الطائرة الكبيرة لمناقشة تشكيل أول حكومة فلسطينية ، فقد كان استحقاق العودة إلى الوطن يقترب ، وكان مطلوباً وفق الاتفاقات أن تبدأ منظمة التحرير بتسمية الوزراء الذين سيتسلمون الحقائب المختلفة ، وبعد مناقشة مجموعة من الاسماء بادرني أبو عمار: طبعاً محمود درويش يستلم (وزارة) الثقافة.
ترددت للحظات قبل أن أُجيب: أخ أبو عمار ، في التاريخ الحديث لشعبنا رمزان أنت ومحمود درويش ، أنت الرمز الوطني والسياسي وهو الرمز الثقافي ، محمود سيعود إلى الوطن ، وربما كان من الأفضل أن يواصل إنجازه الثقافي بعيداً عن تعقيدات المرحلة القادمة.
لم يناقش أبو عمار كثيراً ، على غير عادته ، لكنه ، كعادته ، لم يستسلم على الفور وقال في النهاية: لنسأل محمود.
وكان الاعتذار هو رد محمود
ولم يؤثر ذلك على الإطلاق على العلاقة الوثيقة بين أبو عمار ومحمود الذي كان استقال قبل شهور من تلك الرحلة من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مسجلاً علناً انتقاداته وملاحظاته على اتفاق أوسلو. غير أن هذه الانتقادات ، التي ثبتت صحتها ، لم تجعل محمود درويش يتردد لحظة في أن يحزم حقائبه في المنفى الباريسي كي يعود إلى ما هو متاح من أرض الوطن.
دون إضافة أو حذف كلمة واحدة
وفي سنوات عديدة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات كنت أحضر خلالها اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ، بصفتي أمين سر اللجنة العليا للانتفاضة ، أُتيح لي أن أُراقب عن كثب محمود درويش وهو يشارك في النقاشات ، كان سياسياً بامتياز ، وكانت مداخلاته ، وهو أحد الأعضاء المستقلين في اللجنة ، تتعلق بالشأن الوطني العام دون الانجرار لهموم وحسابات الفصائل التي كانت تجمع على احترامه. وأيضاً كان لدرويش إسهامه في صياغة الفكر السياسي الفلسطيني ، خاصة عَبر صياغته ÷وثيقة الاستقلالَ .
وأذكر أنه عندما قدم قانونيون إلى القيادة الفلسطينية ، قبيل عقد دورة المجلس الوطني في العام 1988 ، مسودة أولى لصيغةَ اعلان الاستقلالَ تم رفضها على الفور ، فقد كانت مطالعة قانونية جافة لا ترتقي إلى تاريخية اللحظة ومتطلباتها ، فكان أن كلفت اللجنة التنفيذية والامناء العامون للفصائل الشاعر بصياغة الاعلان ، فباشر العمل دون توجيهات أو تحديدات معينة من اللجنة.
وأذكر عندما حضر محمود من باريس إلى تونس ذات يوم في خريف ذلك العام وهو يحمل مُسوّدة إعلان الاستقلال ، وتوجه من المطار إلى بيت الصديق احمد عبد الرحمن حيث كنا بانتظاره لتناول طعام الغداء. وعندما قرأ لنا نصه المدهش والمتوهج ، التقطنا أنفاسنا ثم بدأنا نتمازح ونُناكف محمود: كم سيكون حجم التغيير الذي سيجريه أبو عمار على هذا النص الذي تحتشد فيه المواقف والرؤى؟ كم سيعمل قلمه الأحمر به؟ هل يقبل به الأمناء العامون للفصائل دون تغيير؟.
وعندما تقدم ياسر عرفات في الدقائق الاولى من فجر يوم 15 تشرين الثاني 1988 إلى منصة الخطابة في قاعة قصر الامم في العاصمة الجزائرية ليتلو ÷اعلان الاستقلالَ التاريخي فقد قرأ نص محمود درويش كما كتبه الشاعر دون إضافة أو حذف كلمة واحدة.
الطريق إلى هيوستن
كان محمود درويش يُدرك أن المراوغة مع الموت لا يمكن أن تطول ، فقد كان يحمل في صدره لغماً قابلاً للانفجار في أي لحظة. كان عليه أن يختار بين انتظار انفجار اللغم أو الذهاب إلى جراحة خطرة.
لم يكن يتوقع أن يصغي الموت إلى مناشدته إياه في الجدارية ÷لا تحدق يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف الاخيرةَ ، ولم يكن يتوقع أن يستجيب الموت له فيكون ÷صديقاً طيباًَ و÷شفافاً بريداً واضحاً للغيبَ و÷قوياً ، ناصع الفولاذَ و÷فروسياً ، بهياً ، كامل الضرباتَ وأن يكون ÷صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبعَ وأن ينتظره ÷ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمانَ.
وفي أوائل حزيران الماضي ذهب الشاعر إلى طبيبه الفرنسي مرة أخرى وكانت معه ليلى شهيد ، الصديقة الذهبية والملاك الحارس واليقظ والصارم لمحمود خلال عمليته الاولى العام 1998 وخلال مراجعاته الطبية المتعددة في باريس.
كان الطبيب قرأ جميع نتائج الصور والتحاليل الطبية ، وتلفّت في بداية اللقاء نحو ليلى شهيد وسألها بالفرنسية: هل أقول له كل شيء؟.
فردّت ليلى بسرعة: بالطبع. ثم تلفّتت نحو محمود وأبلغته: سألني إن كان يجب إخبارك بكل شيء فقلت له: نعم.
واستمع الشاعر من طبيبه إلى تقديرات وخيارات مفزعة.
كان الطبيب يشعر بالقلق الشديد من سرعة انتفاخ وتمدد الشريان بأرقام تجعل من مجرد بقاء محمود حياً حتى تلك اللحظة معجزة من المعجزات ، وتحدث عن احتمال انفجار الشريان في أية لحظة ، كما تحدث عن مخاطر أي عملية جراحية يمكن إجراؤها. وأجاب بتفصيل مفزع عن أسئلة محمود التفصيلية ، قال له إن الوضع في كلتا الحالتين سيئ وخطر. فهناك خطر انفجار الشريان الذي قد يؤدي إلى الموت أو إلى الإصابة بالشلل ، كما أن للعملية مخاطرها ، فقد يجد الجراحون أنه لا يمكن تغيير الجزء المصاب بسبب حجم الانتفاخ وطول التمدد ، وقد يتناثر الكولسترول كما حدث العام 1998 ولكن ، ولأن الخلل في القسم العلوي من الشريان الأبهر ، فسيتناثر نحو منطقة النخاع الشوكي هذه المرة مسبباً الموت خلال ساعتين من الالم الشديد.. أو مسبباً الإصابة بالشلل.
سأله محمود: بماذا تنصحني؟
فأجاب الطبيب المخضرم: انا لا أستطيع إجراء هذا النوع من العمليات ، القرار يعود إليك. الجنرال ديغول عانى من نفس الحالة ، وفضل ألا يجري جراحة فتوفي نتيجة انفجار الشريان ، ولكن القرار يعود لك وحدك.
وعندما ألحّ محمود في السؤال ، رد كورمييه محاولاً انتقاء كلماته وهو يدرك مكانة درويش ويكنُّ له مودة فائقة: إنها حياتك ، أنت وحدك القادر على اتخاذ القرار حول إجراء العملية ، أنت وحدك تقرر.. ما هو الشيء الأكثر اهمية في حياتك الآن؟
فرد محمود: أن أنجز الديوان الذي أعمل عليه.
وقال له الطبيب: لذلك أقول لك: أنت وحدك من يستطيع اتخاذ القرار.
وخلال الحوار قال له: إذا قررت إجراء العملية هناك جرّاح وحيد في العالم انصحك بالذهاب اليه ، إنه طبيب عراقي في أميركا ، هو الدكتور حازم صافي في هيوستن. إنه الأفضل في العالم.
وفي الأسابيع التي تلت كان اسم حازم صافي يتردد على ألسنة أطباء آخرين تحادث معهم محمود في عمان وبيروت وأميركا وأجمعوا على أن هيوستن وصافي هما الخيار الأفضل. وفي تلك الأسابيع كان قلق أصدقائه المقربين يتصاعد ، وكان كثيرون منهم يحثون محمود على استنفاد كل السبل الطبية فيما كان آخرون يشددون على المخاوف من إجراء العملية. وإذ كان كثيرون يشعرون بالحرج أحيانا في مناقشة الموضوع بالتفصيل مع محمود بكل ما يعنيه من احتمالات ، فقد كان يدرك تماما ما يدور في أنفسهم من هواجس ومخاوف عليه. وعندما أخذ صديقه غانم زريقات يُكثر ويُبكّر من اتصاله الصباحي بمحمود في عمان ، رد عليه مرة ضاحكاً: اطّمَن ، لساني عايش.
كان هاجس محمود وخوفه الأساسي أن يصاب بالشلل نتيجة العملية ، وربما كان يخشى أن تعجز يده عن امتشاق قلمه لكتابة قصائده ، وهو بالمناسبة لا يكتب إلا بقلم حبر سائل. وأسرّ لي ذات يوم في تموز الماضي: صرت كلما استيقظت في الصباح أشعر للحظات أنني مصاب بالشلل ، وأنني عاجز عن إنزال قدميّ على الأرض.
وبدأ محمود مراوغة جديدة ، بدأ يتحدث عن الذهاب إلى هيوستن لاجراء فحوصات فقط: ربما يكتشف الاطباء أن قلبي لا يتحمل اجراء هذه الجراحة ، ربما حددوا موعداً للعملية بعد شهرين ، ربما اكتشفوا أن لا فائدة ترجى من اجراء الجراحة.
وبدأ يقنع نفسه ويقنعنا بذلك: العملية ليست حتمية. لكن التواطؤ الصامت بيننا على قبول تفسيراته واحتمالاته كان يبدو فاضحاً وهشّاً أمام عينيه وعيونناَ.
كان واضحا أنه قرر أن يستنفد الفرصة الطبية الاخيرة لتفادي الموت بدلا من ان ينتظره.
وقد كانت 2008 سنة صعبة لمحمود توجه خلالها عدة مرات إلى الجديدة وقضى هناك مدداً طويلة ، فقد خضع شقيقه الاكبر لجراحة في الشرايين أيضاً وبعده جاء دور شقيقه زكي ليجري جراحة مماثلة َ فقد ورثت عن عائلتي خللاً في الشرايين وضغط دم مرتفعَ ، ثم جاء دور حورية أشهر الأمهات العربيات لتدخل المستشفى. وقال لي ونحن نتأهب للسفر إلى هيوستن: كانت سنة سيئة ، أحمد ثم زكي ثم أمي .. والآن جاء دوري.
في أواخر شهر حزيران كان محمود درويش قد اتخذ قراره: الذهاب إلى هيوستن. وكان عدد من الاصدقاء يجمعون له المعلومات اللازمة ، وبدأت الاجراءات العملية للسفر.
كان أن تفاهمنا أن أصحبه أنا وعلي حليلة ، إلى هيوستون ، وعلي ، الإنسان الحسّاس ، والمهندس والمقاول الناجح المقيم في عمّان ، يرتبط بصداقة قديمة مع محمود ، وتعمّقت مع اقامة محمود فترات طويلة في عمان خلال السنوات الاخيرة.
حدّد محمود المواعيد ، اتفق على مراجعات مع الدكتور حازم صافي وطاقمه في 22 تموز. وقدم إلى رام الله في أوائل حزيران ليقدم طلب تأشيرة الدخول إلى الولايات المتحدة. ووفق قوانين تم تفعيلها مع إنشاء وزارة الامن الداخلي في الولايات المتحدة بعد «غزوات» أسامة بن لادن في مانهاتن وفرجينيا ، فقد تم تشديد إجراءات منح التأشيرة لأعضاء منظمة التحرير الفلسطينية ، حيث تحظر قوانين اعتمدت سابقاً دخولهم الاراضي الاميركية إلا باستثناء خاص. وحث ابو مازن الأميركيين ، وكذلك فعل سلام فياض ، على سرعة اصدار التاشيرة ، ووعدت وزارة الخارجية الاميركية ، مؤكدة انها تعرف مكانة درويش كـ "أيقونة" للشعب الفلسطيني ، ببذل كل جهد لدى وزارة الامن الداخلي لتسريع الاجراءات.
كانت خطة محمود ، وقد جاء ثانية إلى رام الله في أواخر حزيران لحضور امسيته الشعرية في أول تموز في قصر الثقافة ، معلنا انطلاق احتفال المدينة بمئوية إنشاء بلديتها ، أن يبقى فيها حتى العاشر من تموز حيث يكون قد حصل على التأشيرة فيسافر إلى فرنسا في 12 من الشهر نفسه لحضور أمسية في مدينة ارل ثم ينتظرني لألتحق به في باريس في 19 تموز لنتوجه بعدها بيوم إلى هيوستن حيث سيكون علي بانتظارنا.
وفي مساء اليوم نفسه الذي وصل فيه إلى عمان قادماً من رام الله بعد أن تأخرت الفيزا تلقى اتصالا بانها أصبحت جاهزة. ولما كانت العودة إلى رام الله صعبة عليه ، فقد أجّل مواعيد هيوستن إلى 30 تموز وقرر أن يعود إلى رام الله بعد أمسيته الفرنسية ليحصل على التاشيرة فنسافر معا من عمان إلى باريس في 28 تموز ومنها في 29 إلى هيوستن حيث سيكون علي قد عدل برنامجه ليكون بانتظارنا في الموعد الجديد. وعندما طلبت موظفة شركة الطيران في رام الله ولاغراض إصدار التذاكر أن نحدد موعدا افتراضيا ما لعودتنا من هيوستن يمكن تغييره في ما بعد اختار محمود تاريخ العاشر من آب ... الذي سيصادف ، بعد ذلك ، اليوم التالي لرحيله.
وفي يوم ذهب في زيارة سريعة إلى الجديدة لوداع عائلته قبل أن يسافر إلى عمان وليبلغ أمه أنه ذاهب للعلاج في أميركا ، حيث قد يجري جراحة« بسيطة» ، تساءلت حورية اليقظة اللمّاحة رغم تقدم سنوات العمر: إذا كانت بسيطة ، لماذا تعملها في اميركا؟.
ولم يقل لي محمود ماذا كان جوابه.
القصيدة الاخيرة
وفي يوم من أواخر أيام حزيران اتصل محمود من عمّان: هل تريد قصيدة جديدة لنشرها في «الأيام»؟ .. سأجيء غداً.
وفي مساء اليوم التالي كان يسلمني مسوّدة قصيدته الأخيرة "لاعب النرد"، وكان واضحاً انه يعتزّ بها كثيراً، وفي حين بدأت بقراءتها قراءة أولى كان محمود منشغلاً بقراءة قصاصات صحف على مكتبي ليبادرني بالسؤال:
ها .. ما رأيك؟
أصابتني القصيدة بالجزع ، بَدت لي إعلانا عن توقع الموت وقبوله ونحن نتأهب للسفر إلى هيوستن ، حاولت إعطاء انطباعات عامة ، تحدثت عن ملحمية القصيدة. وتحدثت عن سطور ومقاطع قلت إنني أعتقد أنها ستصبح معروفة ومتداولة مثل «والوحي حظ المهارة إذ تجتهد» و «لا أقول السماء رمادية ـ بل أُطيل التفرُّس في وردة ـ وأقول لها: يا له من نهار،» و «السراب كتاب المسافر في البيد ـ لولاه ، لولا السراب لما واصل السير بحثا عن الماء» ، وطرحت اسئلة حول مقاطع اخرى ، ثم قلت ان القصيدة تحتاج لقراءة معمقة.
عندما كرّر سؤالي هاتفياً صباح اليوم التالي، راوغته بالحديث مجدداً عن البنية الملحمية للقصيدة ثم جرؤت أن أقول له: ما الذي يحدث؟ ، إنها «انتي» (نقيض وضد) الجدارية. في «الجدارية» قلت: هزمتك يا موت الفنون جميعها ، وفي "لاعب النرد" تختتم بـ: من أنا لأخيب ظن العدم.
رد محمود سريعاً: لا أحد يستطيع قهر الموت.
أضفت بتردد: هل كتب محمود الشاعر «الجدارية» ، وتولّى محمود الإنسان كتابة «لاعب النرد»؟
فردّ: يبدو كذلك.
وفي مساء اليوم نفسه والذي سبق موعد أمسيته في رام الله كان في "الأيام" ، يُدقق، وهو الشاعر الكبير، القصيدة بعد أن تمّت طباعتها تمهيداً لنشرها في "أيام الثقافة"، ويُحدّثني والزميل غسان زقطان عن برنامج أمسيته. فمحمود درويش، وككل المبدعين الحقيقيين الكبار، يبقى حتى آخر لحظة يتهيّب أية أمسية ويتعامل معها وكأنه يواجه الجمهور لأول مرة. فكان يريد ترتيب موعد مع ثلاثي جبران للاتفاق حول تفاصيل مرافقتهم الموسيقية لقصائده، وكان مهتماً بمحاولة تدبير تذاكر لأشخاص اتصلوا به بعد أن نفدت البطاقات خلال ساعة من طرحها، وكان مهتماً بإيصال بطاقة لشاب يدير متجراً يتعامل معه في رام الله.
وكان يتحدث عن برنامج الامسية عندما قال: سأختتم بـ "لاعب النرد"، فاعترضت وغسان، وقلنا : "حرام" أن يخرج الجمهور في أجواء حزينة كتلك التي ستولدها القصيدة. وناكفته ضاحكاً: لماذا لا تختتم بـ "سجّل أنا عربي" الجديدة؟، فابتسم ووافق على قراءة "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، ولكن ليس في الختام الذي خصّصه لـ "غيتارتان".
في أمسيته الأخيرة في فلسطين بدا متوهجاً، استقبله جمهور حاشد متحمس بالتصفيق وقوفاً لدقيقتين. وبعد الامسية بدا منتشياً وراضياً.
"انتصار" تفاوضي صغير
وعندما توجهت إلى عمان في 27 حزيران للالتحاق به والتوجه معاً إلى باريس ، كان لا بد لتفاصيل من سريالية الحالة الفلسطينية أن تقترح نفسها ، فعلى الجسر أبلغني الجنود الاسرائيليون أنني لا استطيع السفر لأن تاريخ ميلادي المسجل في بطاقة هويتي وجواز سفري يختلف عن التاريخ المحفوظ لديهم في جهاز الكمبيوتر. وعندما أكدت لهم أنني أعرف تاريخ ميلادي جيداً وأحتفل به كل عام وأنني سافرت ، بتاريخ الميلاد نفسه ، عشرات المرات خلال السنوات الماضية اصطدمت بردّْ واحد: غير ممكن. وبدأ مسؤولو الارتباط الفلسطيني اتصالاتهم دون بارقة أمل ، وكان محمود ، الذي ينتظرني للغداء مع الصديقين ياسر عبد ربه وصبيح المصري يتصل بين وقت وآخر ليطمئن ، أخذت الساعات تمر وبدأت أشعر بالقلق من احتمال عدم تمكني من الوصول إلى عمان لركوب الطائرة التي تغادر فجر اليوم التالي. وكان هناك خيار غرائبي آخر.. أن أستصدر بطاقة هوية من دائرة الداخلية في أريحا بتاريخ الميلاد المسجل لدى الإسرائيليين لأتمكن من العبور ثم أقوم بتصحيح الخطأ وتثبيت التاريخ الحقيقي بعد عودتي.
ولكن وبعد ثلاث ساعات ونصف ، وافق الاسرائيليون على أن أعبر هذه المرة «فقط» بتاريخ ميلادي المسجل في بطاقة الهوية وجواز السفر ، وكانت الساعة تجاوزت الثانية والنصف عندما كنت أعبر الجسر وأبلغ محمود عَبر الجوال: لقد حققت إنجازاً تفاوضياً ، وافق الإسرائيليون على الاعتراف بتاريخ ميلادي.
ولكن الوقت كان متأخراً لألحق بموعد الغداء.
في نهاية النهار الذي قضيناه في باريس ، التقينا صبحي حديدي الكاتب الناقد، والصديق المقرب لمحمود لتناول العشاء على رصيف مطعم قرب الفندق الصغير الذي اعتاد محمود النزول فيه في حي سان جيرمان، واحتل موضوع العملية حيزاً كبيراً من الحديث.
وإذ كان محمود معروفاً بدقته الشديدة في ترتيب الأمور وإنجازها ، فإن طبيعة رحلتنا هذه المرة جعلته يدقق بصورة أشد، فقد أصر، رغم نصائحي والإشارة لخبراتي، على أن نذهب إلى المطار في ساعة مبكرة جداً حتى لا تعيقنا أية إجراءات للتفتيش. فكان أن وصلنا إلى المطار في الساعة السابعة صباحاً، وكان أن وجدنا جميع الإجراءات تتم بسرعة قياسية ، فنظرت إليه شامتاً وحانقاً وهو يبتسم عندما كنا نجلس في إحدى الصالات، وقد أنجزنا كل ما هو مطلوب من إجراءات ، كي ننتظر إقلاع الطائرة بعد ثلاث ساعات كاملة.
وتأهّبنا في الطائرة الفرنسية المتجهة مباشرة إلى هيوستن لرحلة طويلة تستمر عشر ساعات في وقت غير مناسب للنوم. أخرجت رواية «واحة الغروب» لبهاء طاهر من حقيبتي وبدأت قراءتها. فتطلع محمود وأشاد بالرواية ثم انشغل بتقليب صفحات عدد من مجلة «وجهات نظر». ولكني لاحظت انه يتجنب قراءات عميقة فلم يخرج أياً من عدة روايات مترجمة كان يحملها في حقيبة يده واكتفى بقراءة صحيفة "الهيرالد تريبيون".
كان موعد المواجهة يقترب.
خلال ساعات الرحلة الطويلة، وفي الأوقات التي لم نتمكن فيها من النوم، تحادثنا حول أشياء كثيرة، عن مشاقّ السفر، عن تعثّر المفاوضات، عن أمسية رام الله، عن مغنّيه الأثير: محمد عبد الوهاب، عن حر ورطوبة هيوستن، عن شرائح اللحم ( الستيك) التي تشتهر بها ولاية تكساس، وقمنا بـ "النميمة" الضاحكة على أصدقاء مشتركين. كنت أريد تجنب أي حديث عن العملية واحتمالاتها، وكنت أصدّ الموضوع برفق كلما أثير. هناك شيئان مؤكدان .. ستكون في أفضل مستشفى في العالم، وفي رعاية أفضل أطباء في العالم.
الدخول إلى صحراء هيوستن
وقد أثمرت توصية السلطة الفلسطينية فتم تسهيل وتسريع إجراءات الدخول في مطار هيوستن التي كنا نحسب لها كثيراً، واستقبلتنا لفحات الهواء الساخن اللزج ونحن ننطلق وعلي حليلة الذي كان بانتظارنا إلى الفندق في هذه المدينة الصحراوية مترامية الأطراف.
نزلنا في فندق يقع في شارع فانين ، وبدأنا نكتشف أننا نقيم وسط منطقة واسعة تضم عدة شوارع تسمى المركز الطبي وتضم عشرات المستشفيات والعيادات ، وكان منظراً عادياً أن نجد خلال سيرنا في الشوارع المحيطة بالفندق أطباء وممرضين بأرديتهم المميزة يتنقلون من مبنى إلى آخر ومن شارع إلى آخر إن لم يستخدموا جسوراً علوية مغطاة تصل بين عديد المراكز الطبية ، وكنا نجد العديدين منهم وقد خرجوا إلى الشوارع لتدخين السجائر في مدينة ، كبقية المدن الأميركية، تحظر التدخين في المباني والفنادق والمقاهي والمطاعم.
وعلمنا أن "صناعة" الطب في هيوستن. وهي من أهم مدن ولاية تكساس وتمتد على مساحات شاسعة وتعد بملايينها الاربعة رابع أكبر المدن الأميركية ، تشغل 70 ألف شخص وتجذب لمستشفيات المدينة آلاف الباحثين عن العلاج من مختلف دول العالم. وكان الفندق الذي أقمنا فيه تابعاً لشبكة ماريوت الشهيرة ويحمل اسم «ماريوت المركز الطبي» وتؤدي إحدى طرقاته الداخلية إلى مستشفى مجاور ، في حين يقودك جسر مغطى كي يحميك من الحر والرطوبة إلى مركز طبي آخر.
وكنا نرى الكثيرين من المرضى العرب والأوروبيين والآسيويين في ردهات فندقنا الذي تؤدي إحدى طرقاته الداخلية إلى أحد المستشفيات.
وعلمنا أن الفضل الكبير في نمو وتطور «صناعة» الطب والعلاج في المدينة يعود إلى طبيب القلب الشهير مايكل دبغي اللبناني الاصل ، وأن حازم صافي هو أحد تلاميذ دبغي الذي توفي قبل ثلاثة شهور عن 99 عاماً.
وبما تتطلبه وتنميه الهندسة من ملكات ، كان علي قد استكشف المحيط وابلغنا أن المستشفى الذي ستجري المراجعات الطبية فيه يبعد عن الفندق مسيرة خمس دقائق على الأقدام. وإذ حلّ محمود في الغرفة رقم 1118 متوسطاً غرفتينا ، فقد توجهنا مساءً لتناول شرائح من ستيك تكساس الشهير.
وفي ظهيرة يوم الاربعاء قادنا علي سيراً على الأقدام إلى مستشفى ميموريال هيرمان ، وكان لقاؤنا الأول مع منسّقة الفريق الطبي للدكتور صافي. ووجدنا انفسنا أمام منى غزال وهي سيدة لبنانية درست الطب ولم تمارسه وتثير انطباعات قوية لدى محاوريها بدقتها وكفاءتها. ولم تضيع منى دقيقة واحدة فبدأت بالحديث بالتفصيل عن وضع الشاعر الصحي من خلال التقارير التي كان بعثها. وتحدثت عن العملية المرتقبة ، وأبلغت محمود بأن موعد إجرائها تحدد يوم الاثنين القادم. كان محمود يبتلع المفاجأة وهو يعلق: بهذه السرعة ، وعندما ذهب ومنى للقاء قصير مع الدكتور صافي كان موعد العملية قد ثبت .. يوم الاثنين القادم ( 4 - 8).
وعندما كانت منى تزودنا بالتفاصيل ، اكتشفنا ان طاقم الاطباء المشرف بجانب الدكتور صافي ، الذي اجرى نحو ثلاثة آلاف عملية ناجحة في الشرايين. يضم مازن غانم وهو طبيب فلسطيني لامع هاجر وهو في السادسة مع عائلته من رام الله إلى هيوستن قبل أكثر من اربعين عاما ، وأن مسؤول العناية المكثفة طبيب سوري ونائبه لبناني أما طبيب الاعصاب فعراقي.
وهتف محمود: ألا يوجد أميركيون في هذا المستشفى؟