كان حسين بن منصور الحلاَّج يسير راقصًا نحو المشنقة، حيث يواجه العقوبة عن قوله: "أنا الحق".
كان كل الواقفين هناك يرجمونه بالحجارة.
فأمسى غارقًا في دمائه، حتى بدا تجسيدًا لها.
غير أنَّ صوت "أنا الحق" وإيقاع رقص الحلاَّج ... كانا منجذبين إلى بعضهما، فيما تتناثر دماؤه بسرعة متناهية هنا وهناك مصاحبةً هذا الصوت: "أنا الحق .. أنا الحق"، وهو ما زال يسير ضاحكًا.
كان بين الواقفين الذين يرجمونه بالحجارة ثمة رجل يعرِف المنصور حقَّ المعرفة، ويَعِي أيضًا ما يقوله، ولِمَ يرقص وهو متَّجهٌ صوب المشنقة، كما يعرِف أيضاً لِمَ تتجاوبُ أصداء صوت "أنا الحق". لقد كان يعلم أنَّ المنصور بريء؛ فأَنَّى لحسين بن منصور الحلاَّج أن يكون هناك، ما هنالِك سوى صوت الله. وما رقصُ الحلاج إلا حركةً مترنِّمة لهذا الصوت، وما ينبثق عنه من وَجد إنما هو أثره الفعَّال.
تقدَّم هذا الرجل - الذي كان واقفًا بين الرَّاجمين بالحجارة- إلى الأمام،
ورجم المنصور مترَفِّقًا بوردة جميلة.
ثم تاه بين الناس ... إذ كان يتوجَّسُ أن يلحظ أحدهم هذا الذي رجم الحلاَّج بوردةٍ جميلة وسْط وابل الأحجار.
أما حسين بن منصور الحلاَّج - الذي كان مغمورًا بدمائه وسْط معمعة الرَّجم المتلاحق.
هذا الذي كان يحتفل راقصًا بأبهج فرحةٍ في حياته.
هذا الذي كان يضحك بلا انقطاع، و ما زال يسير كما هو ضاحكًا.
إذا به يصمت على نحو مفاجئ.
ثم راحت الدموع تتقاطر من عينيه.
ولما استخبره أحد الواقفين إلى جواره قائلًا: "لقد كنت تضحك لتوِّك، و على الرَّغم من انغماسك في الدماء كان رقصك متواصلًا، وصوتك صَدَّاحًا. فما الذي أصابك بغتةً حتي تبكي؟"
ولِمَ أجهشت بالبكاء فجأةً بعد أن رجمك أحدهم بوردة؟
ردَّ عليه المنصور بقوله:
"إنَّ الرجل الذي رجمني بالوردة يعلم أنني بريء، لكنه لم يجرؤ على أن يقول - أمام كل هؤلاء الناس الذين يرجمونني بالحجارة-: إن المنصور بريء، إنهم يرجمونني لأنهم لا يعلمون، وأنا أدعو الله لهم قائلًا: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. إن هؤلاء الذين يرجمونني بالحجارة تباعاً ويدمون جسدى هكذا دون أن يعرفوا الحقيقة كلهم أبرياء، أخبرني أنت! بماذا أناجي الله فى شأن هذا الرجل الذي يوقن ببراءتي، ولكنه لم يجرؤ على المجاهرة بها، ماذا أسأل الله له؟ إنما تتقاطر الدموع من عيني؛ لأنه إن كان قد رجمني بوردة فهذا لعلمه ببراءتي، غير أنه لم يستطع أن يستبسل ليصارح الناس بأن المنصور بريء!"
قال مولانا الرومي: يرقص البواسل في دمائهم, وينقر مطربوهم الدفوف داخلهم، فتصفق البحور مع تصاعد نشوتهم، إنك لم تر الأوراق على الأغصان، يصفقن راقصات بهفهفات الصَّبَا، لا ترآها أنت لكن من أجل سماعهم تصْطَكّ الأوراق مصفقات على الأغصان، لا تبصر عيناك رقص الأوراق، ولا يتناهى إلى سمعك تصفيقها.
إن صوفيًا مثل المنصور حين يرقص في دمائه المتدفقة أثناء سيره نحو المشنقة لا بد أن رقصه هذا ينطوي على رقص العناصر والأشياء كلها، ويكتنز بداخله ألحانها وإيقاعاتها، وما مثل هذا الرقص إلا رقص تجربة حياة مدهشة للغاية، وهو يرمز إلى الفرحة والبهجة والاحتفاء بالحياة؛ ففي هذا الرقص يتناثر بهاء الحياة في شتى الأرجاء، إنه رقص ينبع من أعماق الباطن حيث أولئك المنشدون الذين ينقرون الدفوف داخل الوجود فيتناهى صوتها إلى كل مكان في الخارج. وهذا بُعد رفيع وبالغ الوضوح لجماليَّات التصوُّف وسمو رومانسيته وسعتها وعمقها والتباسها.
والبُعد الثاني هو: أفش سر كل الأسرار!
يكمن جمال و جلال و رومانسية البعد الأول في أن المنصور قد صعد إلى المشنقة راقصًا وهو يحمل تجربته الحافلة بالأسرار والعامرة بالأنوار بكل ماهيتها، وظل سرُّها كما هو سرًا لم يُفش أو ينكشف، وظلت الأسرار المكنونة لكل ما استلهمه وجدانه كما هي أسرارًا؛ فهي محض همسات هُمست عن جمال وجلال خالق الأكوان، ظل سرُّها دفينًا كما هو في صدره.
أما جمال وجلال ورومانسية البعد الثاني فيتجلَّى لنا في قول مولانا الرومي:
أفش سر كل الأسرار!
ثم إنه يعرِّفنا شيئًا فشيئًا حقائقَ الحياة وخبراته الوجدانية. فهو راقص يعتريه الوجد، وهو أيضاً يدور ويدور. ويُسمى بالدرويش الراقص لابتكاره تقليد هذا الرقص. يشرح لنا وجود الإنسان وحقائق الحياة فيقول ما معناه أن: أول كل إنسان صورته ثم تليها روحه التي هي جوهر جمال سريرته، وأول كل فاكهة صورتها ثم تليها لذاذتها التي هي جوهر غايتها.
***
نبّه مولانا الرومي على قوة الباطن وعطر الوجود بأشكال شتى، يقول: مثلما يحتاج الرَّشَأُ إلى آثار خطوات أمه الغزالة لبعض الوقت ثم تغدو نافجة الغزالة ذاتها دليله، كذلك أيضًا يتعرَّف الإنسان على عطر وجوده شيئًا فشيئًا حتى يصير عطره دليله.
لا بد أن يثق المرء في وجدانه و"رؤيته" الخاصة، فقوة الباطن وعطر الوجود نعمتان لا مثيل لهما؛ إذ إن سير مرحلة واحدة على هدي مسك النافجة يفوق تجوال مئات المراحل.
إن عطر الوجود يقرب المرء من الله، فهي علاقة مفعمة بالأسرار بين العطر والعطر، فالعطر الذي محله القلب يصل المرء بالإله الحق، وتُفتَّح به أبواب المعارف، فقلب العارف يكون له بابًا وليس جدارًا، دُّرًّا وليس حجرًا. وما نراه نحن في المرآة يراه العارف قبل ذلك في قطعة من حديد. فقلبه هذا مطلع شموس عديدة.
نقول هذا نحن كاشفي الأسرار والرموز، مهمتنا هي استخراج الأسرار من خزائن الكتمان.
لقد أخبرنا أن العلم هو الثروة العظمى، فبالعلم والعرفان فقط يتمكن الإنسان من مشاهدة وقائع الأحداث في قطعة من حديد، كما يتسنى له تذوق عصير الثمار قبل زراعتها، وهو إذ يسير على هدي مسك نافجته يتلقى عرفان الإيقاع ووحدة الإيقاع. ولشدة إحساس مولانا الرومي بإيقاع الكون وتناغمه المترع بالأسرار فقد قال: إن آلات الطرب التي صنعها الإنسان تتمازج مع آلات الكون، فثمة علاقة حافلة بالأسرار بين الأصوات الحادة والإيقاعات المهدهدة "للبوق" أو "النفير"، و"للطبلة" أو "النقَّاريه"، وبين أصوات وإيقاعات الكون. لقد استلهمنا معازفنا من وحي التموجات العذبة والخلابة التي لمسناها في ألحان الكون، وسواء أكانت الأصوات حادة أم مرتفعة لدرجة تبدو فيها حالة من الصراخ. وسواء أكانت أصوات "بوق" و"نفير" أم أصوات "طبلة " و "نقَّاريه "، أم كانت أصواتًا مشوبةً بالنعومة والهدوء أم تُشيع مجرَّد حالة من الشجن - فإنها جميعًا تُصدِّر لنا إحساسًا ما بانسجامها مع الإيقاع الكوني. لقد أسبغ الإيقاع العظيم جمالًا ما على كل الأصوات، والذين يقفون على هذا السر هم بالضرورة عاشقون، "فالسماع" غذاء العاشقين؛ إذ لا تنبثق الحركة من الإيقاع العظيم والأعظم إلا في حالة السَّكينة التامَّة للعقل والقلب. فتتَّقد المُخَيِّلَةُ، وتنطلق طاقات العقل والقلب الخفية، وعندئذ تبدأ عملية الفانتازيا؛ إذ كل ما يُبتدع من صور جمالية هو هبة هذه الحركة؛ ذلك أن إيقاع الكون يُؤجِّج نار العشق إلى أقصى ما يكون.
يقول مولانا الرومي: إن القلب قدَّاحة فيها نار مستترة، وهي إذ تخرج راقصةً على أنغام الموسيقى تخلق فضاءات مفعمةً بالوَجد، ما هذا؟ إنه حتمًا صدى إيقاع تجلِّيات مركز النور، والرقص المتواصل للألحان في هذه الأجواء هو الذي يُستمد منه عرفان العلائق بين الإنسان والإنسان ومفردات الكون، ندرك مثل هذا العمق المذهل لعاطفة العشق؛ لأنه ما من أحد يستطيع تحليلها أو توضيحها؛ ذلك أنه لا يمكن بحال حصر أبعاد الرقص الذي يتبدَّى لمرآنا، وما يقوم عليه من إيقاع، كما تصعب معرفة أحواله البليغة، حيث تختلف صورته وحالته بالتأكيد في أعماق الوجود؛ إذ تقوم العلاقة بين الرقص والإيقاع كليهما وبين القلب ونار القلب، فتمثُل في الداخل بانوراما "رقص النار" ، وسواء أكان الرقص والإيقاع ماديين أم حدسيين، رومانسيين أم كونيين، فليس من الصعب إدراك أساليب وأحوال "رقص النار". وقد بيّن مولانا الرومي نفسه ماهية مثل هذه التجارب، فقال: إذا لم ننظر إلى "الشكل" و"التجربة الخارجية" فقط بل وفَّقنا بين الحالة الباطنية والتجربة الداخلية للموضوع وبين خيالنا ووجداننا فستتبدى لنا الحقيقة.
****************************
(*) الفصل الأول والتمهيدي من كتاب أُردي بعنوان "جماليَّات مولانا الرُّومي" لمؤلفه الهندي: شكيل الرحمن، والصادر في مدينة گُرگَاون بولاية هَريانه في الهند، سنة 2002م.
(**) شكيل الرحمن:
- باحث وناقد وأكاديمي وكاتب درامي هندي كبير.
- وُلد في 18 فبراير سنة 1931م في مدينة موتيهاري (التي وُلد فيها جورج أورويل) بولاية بِهار في الهند.
- توفى في مساء يوم الإثنين الموافق 9 مايو سنة 2016م بمستشفى فورتس بمدينة گُرگَاون في الهند.
- حصل بتفوق كبير على شهادات الدي. لِتّ (أو الدكتوراه العليا في الآداب)، والماجستير، والليسانس في اللغة الأُردية وآدابها من جامعة پَتنه بولاية بِهار في الهند.
- شغل عدة مناصب أكاديمية مهمة في جامعتي كشمير وبِهار،
كما اشتغل بالسياسة لفترة ما من حياته حيث فاز بعضوية البرلمان الهندي، ثم عُين بعدها وزيرًا للصحة والرعاية الأسرية بالهند.
- كتب ما يزيد عن أربعين كتابًا أغلبها عن الجمال وتجلياته الأدبية والفنية والحضارية.
- كما كتب أكثر من خمسين عملًا دراميًا بين مسرحي، وإذاعي، وتليفزيوني.
- كُتبت عنه وعن أعماله العديد من المقالات، وخُصصت له عدة كتب وأعداد خاصة من المجلات الأدبية والثقافية الجادة.
- حصل على جائزة الدولة، وجائزة غالب، وجائزة مجمع اللغة الأردية في دلهي، وجائزة أحمد نديم قاسمي.
كان كل الواقفين هناك يرجمونه بالحجارة.
فأمسى غارقًا في دمائه، حتى بدا تجسيدًا لها.
غير أنَّ صوت "أنا الحق" وإيقاع رقص الحلاَّج ... كانا منجذبين إلى بعضهما، فيما تتناثر دماؤه بسرعة متناهية هنا وهناك مصاحبةً هذا الصوت: "أنا الحق .. أنا الحق"، وهو ما زال يسير ضاحكًا.
كان بين الواقفين الذين يرجمونه بالحجارة ثمة رجل يعرِف المنصور حقَّ المعرفة، ويَعِي أيضًا ما يقوله، ولِمَ يرقص وهو متَّجهٌ صوب المشنقة، كما يعرِف أيضاً لِمَ تتجاوبُ أصداء صوت "أنا الحق". لقد كان يعلم أنَّ المنصور بريء؛ فأَنَّى لحسين بن منصور الحلاَّج أن يكون هناك، ما هنالِك سوى صوت الله. وما رقصُ الحلاج إلا حركةً مترنِّمة لهذا الصوت، وما ينبثق عنه من وَجد إنما هو أثره الفعَّال.
تقدَّم هذا الرجل - الذي كان واقفًا بين الرَّاجمين بالحجارة- إلى الأمام،
ورجم المنصور مترَفِّقًا بوردة جميلة.
ثم تاه بين الناس ... إذ كان يتوجَّسُ أن يلحظ أحدهم هذا الذي رجم الحلاَّج بوردةٍ جميلة وسْط وابل الأحجار.
أما حسين بن منصور الحلاَّج - الذي كان مغمورًا بدمائه وسْط معمعة الرَّجم المتلاحق.
هذا الذي كان يحتفل راقصًا بأبهج فرحةٍ في حياته.
هذا الذي كان يضحك بلا انقطاع، و ما زال يسير كما هو ضاحكًا.
إذا به يصمت على نحو مفاجئ.
ثم راحت الدموع تتقاطر من عينيه.
ولما استخبره أحد الواقفين إلى جواره قائلًا: "لقد كنت تضحك لتوِّك، و على الرَّغم من انغماسك في الدماء كان رقصك متواصلًا، وصوتك صَدَّاحًا. فما الذي أصابك بغتةً حتي تبكي؟"
ولِمَ أجهشت بالبكاء فجأةً بعد أن رجمك أحدهم بوردة؟
ردَّ عليه المنصور بقوله:
"إنَّ الرجل الذي رجمني بالوردة يعلم أنني بريء، لكنه لم يجرؤ على أن يقول - أمام كل هؤلاء الناس الذين يرجمونني بالحجارة-: إن المنصور بريء، إنهم يرجمونني لأنهم لا يعلمون، وأنا أدعو الله لهم قائلًا: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون. إن هؤلاء الذين يرجمونني بالحجارة تباعاً ويدمون جسدى هكذا دون أن يعرفوا الحقيقة كلهم أبرياء، أخبرني أنت! بماذا أناجي الله فى شأن هذا الرجل الذي يوقن ببراءتي، ولكنه لم يجرؤ على المجاهرة بها، ماذا أسأل الله له؟ إنما تتقاطر الدموع من عيني؛ لأنه إن كان قد رجمني بوردة فهذا لعلمه ببراءتي، غير أنه لم يستطع أن يستبسل ليصارح الناس بأن المنصور بريء!"
قال مولانا الرومي: يرقص البواسل في دمائهم, وينقر مطربوهم الدفوف داخلهم، فتصفق البحور مع تصاعد نشوتهم، إنك لم تر الأوراق على الأغصان، يصفقن راقصات بهفهفات الصَّبَا، لا ترآها أنت لكن من أجل سماعهم تصْطَكّ الأوراق مصفقات على الأغصان، لا تبصر عيناك رقص الأوراق، ولا يتناهى إلى سمعك تصفيقها.
إن صوفيًا مثل المنصور حين يرقص في دمائه المتدفقة أثناء سيره نحو المشنقة لا بد أن رقصه هذا ينطوي على رقص العناصر والأشياء كلها، ويكتنز بداخله ألحانها وإيقاعاتها، وما مثل هذا الرقص إلا رقص تجربة حياة مدهشة للغاية، وهو يرمز إلى الفرحة والبهجة والاحتفاء بالحياة؛ ففي هذا الرقص يتناثر بهاء الحياة في شتى الأرجاء، إنه رقص ينبع من أعماق الباطن حيث أولئك المنشدون الذين ينقرون الدفوف داخل الوجود فيتناهى صوتها إلى كل مكان في الخارج. وهذا بُعد رفيع وبالغ الوضوح لجماليَّات التصوُّف وسمو رومانسيته وسعتها وعمقها والتباسها.
والبُعد الثاني هو: أفش سر كل الأسرار!
يكمن جمال و جلال و رومانسية البعد الأول في أن المنصور قد صعد إلى المشنقة راقصًا وهو يحمل تجربته الحافلة بالأسرار والعامرة بالأنوار بكل ماهيتها، وظل سرُّها كما هو سرًا لم يُفش أو ينكشف، وظلت الأسرار المكنونة لكل ما استلهمه وجدانه كما هي أسرارًا؛ فهي محض همسات هُمست عن جمال وجلال خالق الأكوان، ظل سرُّها دفينًا كما هو في صدره.
أما جمال وجلال ورومانسية البعد الثاني فيتجلَّى لنا في قول مولانا الرومي:
أفش سر كل الأسرار!
ثم إنه يعرِّفنا شيئًا فشيئًا حقائقَ الحياة وخبراته الوجدانية. فهو راقص يعتريه الوجد، وهو أيضاً يدور ويدور. ويُسمى بالدرويش الراقص لابتكاره تقليد هذا الرقص. يشرح لنا وجود الإنسان وحقائق الحياة فيقول ما معناه أن: أول كل إنسان صورته ثم تليها روحه التي هي جوهر جمال سريرته، وأول كل فاكهة صورتها ثم تليها لذاذتها التي هي جوهر غايتها.
***
نبّه مولانا الرومي على قوة الباطن وعطر الوجود بأشكال شتى، يقول: مثلما يحتاج الرَّشَأُ إلى آثار خطوات أمه الغزالة لبعض الوقت ثم تغدو نافجة الغزالة ذاتها دليله، كذلك أيضًا يتعرَّف الإنسان على عطر وجوده شيئًا فشيئًا حتى يصير عطره دليله.
لا بد أن يثق المرء في وجدانه و"رؤيته" الخاصة، فقوة الباطن وعطر الوجود نعمتان لا مثيل لهما؛ إذ إن سير مرحلة واحدة على هدي مسك النافجة يفوق تجوال مئات المراحل.
إن عطر الوجود يقرب المرء من الله، فهي علاقة مفعمة بالأسرار بين العطر والعطر، فالعطر الذي محله القلب يصل المرء بالإله الحق، وتُفتَّح به أبواب المعارف، فقلب العارف يكون له بابًا وليس جدارًا، دُّرًّا وليس حجرًا. وما نراه نحن في المرآة يراه العارف قبل ذلك في قطعة من حديد. فقلبه هذا مطلع شموس عديدة.
نقول هذا نحن كاشفي الأسرار والرموز، مهمتنا هي استخراج الأسرار من خزائن الكتمان.
لقد أخبرنا أن العلم هو الثروة العظمى، فبالعلم والعرفان فقط يتمكن الإنسان من مشاهدة وقائع الأحداث في قطعة من حديد، كما يتسنى له تذوق عصير الثمار قبل زراعتها، وهو إذ يسير على هدي مسك نافجته يتلقى عرفان الإيقاع ووحدة الإيقاع. ولشدة إحساس مولانا الرومي بإيقاع الكون وتناغمه المترع بالأسرار فقد قال: إن آلات الطرب التي صنعها الإنسان تتمازج مع آلات الكون، فثمة علاقة حافلة بالأسرار بين الأصوات الحادة والإيقاعات المهدهدة "للبوق" أو "النفير"، و"للطبلة" أو "النقَّاريه"، وبين أصوات وإيقاعات الكون. لقد استلهمنا معازفنا من وحي التموجات العذبة والخلابة التي لمسناها في ألحان الكون، وسواء أكانت الأصوات حادة أم مرتفعة لدرجة تبدو فيها حالة من الصراخ. وسواء أكانت أصوات "بوق" و"نفير" أم أصوات "طبلة " و "نقَّاريه "، أم كانت أصواتًا مشوبةً بالنعومة والهدوء أم تُشيع مجرَّد حالة من الشجن - فإنها جميعًا تُصدِّر لنا إحساسًا ما بانسجامها مع الإيقاع الكوني. لقد أسبغ الإيقاع العظيم جمالًا ما على كل الأصوات، والذين يقفون على هذا السر هم بالضرورة عاشقون، "فالسماع" غذاء العاشقين؛ إذ لا تنبثق الحركة من الإيقاع العظيم والأعظم إلا في حالة السَّكينة التامَّة للعقل والقلب. فتتَّقد المُخَيِّلَةُ، وتنطلق طاقات العقل والقلب الخفية، وعندئذ تبدأ عملية الفانتازيا؛ إذ كل ما يُبتدع من صور جمالية هو هبة هذه الحركة؛ ذلك أن إيقاع الكون يُؤجِّج نار العشق إلى أقصى ما يكون.
يقول مولانا الرومي: إن القلب قدَّاحة فيها نار مستترة، وهي إذ تخرج راقصةً على أنغام الموسيقى تخلق فضاءات مفعمةً بالوَجد، ما هذا؟ إنه حتمًا صدى إيقاع تجلِّيات مركز النور، والرقص المتواصل للألحان في هذه الأجواء هو الذي يُستمد منه عرفان العلائق بين الإنسان والإنسان ومفردات الكون، ندرك مثل هذا العمق المذهل لعاطفة العشق؛ لأنه ما من أحد يستطيع تحليلها أو توضيحها؛ ذلك أنه لا يمكن بحال حصر أبعاد الرقص الذي يتبدَّى لمرآنا، وما يقوم عليه من إيقاع، كما تصعب معرفة أحواله البليغة، حيث تختلف صورته وحالته بالتأكيد في أعماق الوجود؛ إذ تقوم العلاقة بين الرقص والإيقاع كليهما وبين القلب ونار القلب، فتمثُل في الداخل بانوراما "رقص النار" ، وسواء أكان الرقص والإيقاع ماديين أم حدسيين، رومانسيين أم كونيين، فليس من الصعب إدراك أساليب وأحوال "رقص النار". وقد بيّن مولانا الرومي نفسه ماهية مثل هذه التجارب، فقال: إذا لم ننظر إلى "الشكل" و"التجربة الخارجية" فقط بل وفَّقنا بين الحالة الباطنية والتجربة الداخلية للموضوع وبين خيالنا ووجداننا فستتبدى لنا الحقيقة.
****************************
(*) الفصل الأول والتمهيدي من كتاب أُردي بعنوان "جماليَّات مولانا الرُّومي" لمؤلفه الهندي: شكيل الرحمن، والصادر في مدينة گُرگَاون بولاية هَريانه في الهند، سنة 2002م.
(**) شكيل الرحمن:
- باحث وناقد وأكاديمي وكاتب درامي هندي كبير.
- وُلد في 18 فبراير سنة 1931م في مدينة موتيهاري (التي وُلد فيها جورج أورويل) بولاية بِهار في الهند.
- توفى في مساء يوم الإثنين الموافق 9 مايو سنة 2016م بمستشفى فورتس بمدينة گُرگَاون في الهند.
- حصل بتفوق كبير على شهادات الدي. لِتّ (أو الدكتوراه العليا في الآداب)، والماجستير، والليسانس في اللغة الأُردية وآدابها من جامعة پَتنه بولاية بِهار في الهند.
- شغل عدة مناصب أكاديمية مهمة في جامعتي كشمير وبِهار،
كما اشتغل بالسياسة لفترة ما من حياته حيث فاز بعضوية البرلمان الهندي، ثم عُين بعدها وزيرًا للصحة والرعاية الأسرية بالهند.
- كتب ما يزيد عن أربعين كتابًا أغلبها عن الجمال وتجلياته الأدبية والفنية والحضارية.
- كما كتب أكثر من خمسين عملًا دراميًا بين مسرحي، وإذاعي، وتليفزيوني.
- كُتبت عنه وعن أعماله العديد من المقالات، وخُصصت له عدة كتب وأعداد خاصة من المجلات الأدبية والثقافية الجادة.
- حصل على جائزة الدولة، وجائزة غالب، وجائزة مجمع اللغة الأردية في دلهي، وجائزة أحمد نديم قاسمي.