واشرقت الأرض بنورِ ربها ، واقبل ضياء الصّبح الفضي ، منبثقا من الأفقِ الرّحب، تتلألأ حباته في وهجٍ دافئ ، بدت الشمس تطوي برودةِ الليل في جوفها اللافح.
وبعد اشتياقٍ ؛ انسابت الحركة في البيوتِ مدفوعة بمشاعرِ ، تغمر أصحابها الجُدد ، وهم يستقبلون يومهم الجديد، وعلى دفعاتٍ تتقادم أصوات الدّواب ؛ تستعجل الخروج من ربقةِ الجدران الرّطبة التي ارهقتهم ساعات الليلِ الخانق .
كانت أشعة الشمس قد بقّعت الجدران ، وشرعت تزحف كأفاعي الجروفِ ، في فحيحها فوق الحقولِ ، التي لبست منذ شهرٍ ثيابها الصُّفر اللامعة ، تتأهب لاحتضانِ ألسنةٍ المناجل باشتياقٍ ، كاشتياقِ أبناء الطّينِ ، الذين هرعوا عندَ أولِ نفيرٍ ؛ يطلبون من المنعمِ سبحانه ؛ أن يجبر خواطرهم ، تتوزع نظراتهم وهم سامدون ، ما بين السّنابل الشّهبِ وصفحة السّماء الزّرقاء، وأياديهم مشرعة ، وألسنتهم تلهج في وجلٍ ورجاء ، تستجدي السّماء من فضلها العميمِ.
استخفّ الطّرب بعضهم ، فاندفع يترنّم بصوتٍ فيهِ صلابة، وكلّما ارتعش النّهارُ ، وارتبكت الشّمس وتطوحت خيوطها المنشورة ناحية الغربِ ، كلّما اشرقت الوجوهُ المتعبة ؛ تغبُّ من أنوارِ الفضاء المتسع، وامتلأت الحقول بالصمتِ ، وبدأ الخلاءُ يطنُّ في سكونه الموحش، فلا تسمع إلا صرخات عيدان القمح ، تحت أسنانِ المناجلِ تلوكها ، وأهراء القشّ تتعالى من خلفِ الأنفارِ، كتلالِ الرِّمالِ الشواهق ، وخيوط التراب الأصفر تتلوى فوق جريدِ النّخيل ، تتراقص في نشوةِ السّكرى ؛ يُباركُ كغيرهِ من أبناءِ الطبيعة ، بواكير الخير الذي انتظر لعامٍ كامل .
دقائق واكتظّ الجو بضيوف الحصيد ، يشاطرون أهل الحقولِ احتفالهم السنوي ، الغربان السّود تنعق بلا هوادة، والشواهين بسطت أجنحتها قادمة من الصّحراءِ في تعالٍ ، علّها تظفر خِلسةً بطريدةٍ من طرائدِ القشِّ ، التي توارت عنها بينَ أحضانِ العيدان اليابسة.
ظلّت الحقول تغبُّ في سكونها المستفز ، وقمم النخلات الحُمر تلهث عطشا ، تتراءى من بعيدٍ كأشباحٍ وقت الهجيرِ ، والعيون تجري خلف المناجلِ المسعورة ، وبكاء القشّ يطرب الآذان ، والوجوه متسربلة في ابتسامةٍ مُتألقة ، والشمس تراقب ُ من علٍّ ، تتدفق خيوطها الحمئة تغسل وسن الحقول.
وقفَ عبدالصبور مُستطيلا بقامتهِ ، والأماني تتزاحمُ في صدرهِ اليابس ، يهرش شعرات صدره النافرات ، تنمى لو استطاعَ أن يفتلَ حِبال الماضي ، ويصنعَ منها حبلا يحزم بهِ مصاعب الحاضر ، جعل يئن تحت قسوةِ الأيام ، يستذكر كيف أضاعَ المرحوم أبيه فدانه الوحيد على موائد القمار وآنية الشراب ، فاسلم من خلفهِ عبيدا يلهثوا وراء الأجرةِ ، قبضَ كفه قشّا ، وعادَ في صمتٍ باك، والحزن يتحشرج بين ضلوعهِ ، ونار اللّوعة لا تبرحه ، وبينَ الفينة والأخرى ، يزيل بكمهِ قطرات العرق المُتراقصة فوقَ حاجبيهِ العراض.
وبينما قرص الشمس يتسرّبل من وراءِ أشجارِ الكافور العالية الملاصقة للجسرِ ، دوى صوت استغاثةٍ ، وألسنة النيران تتصاعد من جهةِ المصرفِ الشرقي ، وصيحة مبحوحة تهتفُ في حماسٍ : القط .. القط .. ذيل القط بيجر كرة اللهب.
هاجت الحقول وماجت ، حتى استطاع الناس الامساك بالقطِ بعد عناء ٍ ، ولكن قد فات الأوان، كانت ألسنة النار تجري في القشّ كالكلابِ المسعورة ، وشمس النّهار الفاترة تتراءى بعيدا في تكاسلٍ ، والناس يشيعونها وعقولهم تبحث عن إجابةٍ ، من اطلقَ القط المشتعل في الحقولِ..؟
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3542073562536264&id=100002009655632
وبعد اشتياقٍ ؛ انسابت الحركة في البيوتِ مدفوعة بمشاعرِ ، تغمر أصحابها الجُدد ، وهم يستقبلون يومهم الجديد، وعلى دفعاتٍ تتقادم أصوات الدّواب ؛ تستعجل الخروج من ربقةِ الجدران الرّطبة التي ارهقتهم ساعات الليلِ الخانق .
كانت أشعة الشمس قد بقّعت الجدران ، وشرعت تزحف كأفاعي الجروفِ ، في فحيحها فوق الحقولِ ، التي لبست منذ شهرٍ ثيابها الصُّفر اللامعة ، تتأهب لاحتضانِ ألسنةٍ المناجل باشتياقٍ ، كاشتياقِ أبناء الطّينِ ، الذين هرعوا عندَ أولِ نفيرٍ ؛ يطلبون من المنعمِ سبحانه ؛ أن يجبر خواطرهم ، تتوزع نظراتهم وهم سامدون ، ما بين السّنابل الشّهبِ وصفحة السّماء الزّرقاء، وأياديهم مشرعة ، وألسنتهم تلهج في وجلٍ ورجاء ، تستجدي السّماء من فضلها العميمِ.
استخفّ الطّرب بعضهم ، فاندفع يترنّم بصوتٍ فيهِ صلابة، وكلّما ارتعش النّهارُ ، وارتبكت الشّمس وتطوحت خيوطها المنشورة ناحية الغربِ ، كلّما اشرقت الوجوهُ المتعبة ؛ تغبُّ من أنوارِ الفضاء المتسع، وامتلأت الحقول بالصمتِ ، وبدأ الخلاءُ يطنُّ في سكونه الموحش، فلا تسمع إلا صرخات عيدان القمح ، تحت أسنانِ المناجلِ تلوكها ، وأهراء القشّ تتعالى من خلفِ الأنفارِ، كتلالِ الرِّمالِ الشواهق ، وخيوط التراب الأصفر تتلوى فوق جريدِ النّخيل ، تتراقص في نشوةِ السّكرى ؛ يُباركُ كغيرهِ من أبناءِ الطبيعة ، بواكير الخير الذي انتظر لعامٍ كامل .
دقائق واكتظّ الجو بضيوف الحصيد ، يشاطرون أهل الحقولِ احتفالهم السنوي ، الغربان السّود تنعق بلا هوادة، والشواهين بسطت أجنحتها قادمة من الصّحراءِ في تعالٍ ، علّها تظفر خِلسةً بطريدةٍ من طرائدِ القشِّ ، التي توارت عنها بينَ أحضانِ العيدان اليابسة.
ظلّت الحقول تغبُّ في سكونها المستفز ، وقمم النخلات الحُمر تلهث عطشا ، تتراءى من بعيدٍ كأشباحٍ وقت الهجيرِ ، والعيون تجري خلف المناجلِ المسعورة ، وبكاء القشّ يطرب الآذان ، والوجوه متسربلة في ابتسامةٍ مُتألقة ، والشمس تراقب ُ من علٍّ ، تتدفق خيوطها الحمئة تغسل وسن الحقول.
وقفَ عبدالصبور مُستطيلا بقامتهِ ، والأماني تتزاحمُ في صدرهِ اليابس ، يهرش شعرات صدره النافرات ، تنمى لو استطاعَ أن يفتلَ حِبال الماضي ، ويصنعَ منها حبلا يحزم بهِ مصاعب الحاضر ، جعل يئن تحت قسوةِ الأيام ، يستذكر كيف أضاعَ المرحوم أبيه فدانه الوحيد على موائد القمار وآنية الشراب ، فاسلم من خلفهِ عبيدا يلهثوا وراء الأجرةِ ، قبضَ كفه قشّا ، وعادَ في صمتٍ باك، والحزن يتحشرج بين ضلوعهِ ، ونار اللّوعة لا تبرحه ، وبينَ الفينة والأخرى ، يزيل بكمهِ قطرات العرق المُتراقصة فوقَ حاجبيهِ العراض.
وبينما قرص الشمس يتسرّبل من وراءِ أشجارِ الكافور العالية الملاصقة للجسرِ ، دوى صوت استغاثةٍ ، وألسنة النيران تتصاعد من جهةِ المصرفِ الشرقي ، وصيحة مبحوحة تهتفُ في حماسٍ : القط .. القط .. ذيل القط بيجر كرة اللهب.
هاجت الحقول وماجت ، حتى استطاع الناس الامساك بالقطِ بعد عناء ٍ ، ولكن قد فات الأوان، كانت ألسنة النار تجري في القشّ كالكلابِ المسعورة ، وشمس النّهار الفاترة تتراءى بعيدا في تكاسلٍ ، والناس يشيعونها وعقولهم تبحث عن إجابةٍ ، من اطلقَ القط المشتعل في الحقولِ..؟
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3542073562536264&id=100002009655632